وثَمَّ أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعه لم تكن بدعة لأنها تصير من باب الأفعال العادية.
وأيضاً فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليُضاهي بها السنة حتى يكون مُلَبِّسَاً بها على الغير أو تكون هي مما تلتبس عليه بالسُّنَّة إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعاً ولا يدفع به ضرراً ولا يجيبه غيره إليه.
ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في اهل الخير.
فانت ترى العرب الجاهليه في تغيير ملة إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما احدثوه احتجاجاً منهم كقولهم في أصل الاشراك (ما نعبدهم إلا ليُقربُونا إلى اللهِ زُلفى) وكترك الخمس الوقوف بعرفة لقولهم لا نخرج من الحرم اعتداداً بحرمته وطواف مَنْ طاف منهم بالبيت عُرياناً قائلين لا نطوف بثياب عَصَيْنَا اللهَ فيها وما أشبه ذلك مما وجهوه ليصيروه بالتوجيه كالمشروع فما ظنك بمن عَدَّ أو عَدَّ نفسه من خواص أهل الملة فهم أحرى بذلك وهم المخطئون وظنهم الإصابة وإذا تبين هذا ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ في أجزاء الحد.
وقوله يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.
وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العباده والترغيب في ذلك لان الله تعالى يقول:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ فرأى من نفسه أنه لابد لما أطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة وأحوال مرتبطة مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة.
وأيضاً فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المترتبة فإذا جَدَّ لها أمر لا تعهده حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول ولذلك قالوا لكل جديد لذة بحكم هذا المعنى كمن قال كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور.
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه فيوشك قائل أن يقول ما هم بمتبعي فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتتبعني حتى ابتدع لهم غيره. فاياكم وما ابتدع فان ما ابتدع ضلالة.
وقد تبيَّن بهذا القيد ان البدع لا تدخل في العادات.
فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسميه كالمغارم المُلزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصومة وقدر مخصوص مما يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة.
وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبل فإنها لا تُسمَّى بِدَعَاً على إحدى الطريقتين.
وأما الحد على الطريقة الأخرى فقد تبيَّن معناه إلا قوله يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية.
ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته.
لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات فإن تعلّقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخره في ظنه وإن تعلّقت بالعادات فكذلك لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحه فيها.
فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول أتم منه بغير المنخول.
وكذلك البناءات المشيدة المحتفلة التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب.
ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر وقد أباحت الشريعه التوسع في التصرفات فيعد المبتدع هذا من ذلك.
وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله.
فصل
وفي الحد أيضاً معنى آخر مما ينظر فيه وهو ان البدعة من حيث قيل فيها أنها طريقة في الدين مخترعة إلى آخره يدخل في عموم لفظها البدعة التَّركيَّة كما يدخل فيه البدعة غير التَّركيَّة فقد يقع الابتداع بنفس التَّرك تحريماً للمتروك أو غير تحريم فإن الفعل مثلاً قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه أو يقصد تركه قصداً.
فبهذا التَّرك إما أن يكون لأمر يعتبر مثله شرعاً أو لا فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب بتركه كالذي يحرم على نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك فلا مانع هنا من الترك بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فان الترك هنا مطلوب وإن قلنا بإباحة التداوي فالترك مباح.
فهذا راجع إلى العزم على الحمية من المضرَّات وأصله قوله عليه الصلاة والسلام:
يا معشر الشباب مَنْ استطاع منكم البَاءَةَ فليتزوج إلى أن قال ومَن لم يستطع فعليه بالصوم الذي يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت.
وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذراً مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين وكتارك المتشابه حذراً من الوقوع في الحرام واستبراء للدين والعرض.
وإن كان الترك لغير ذلك فإما أن يكون تديناً أو لا فإن لم يكن تديناً فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك.
ولا يسمى هذا الترك بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة أن البدعة تدخل في العادات
وأما على الطريقة الأولى فلا يدخل.
لكن هذا التارك يصير عاصياً بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحَلَّ الله.
وأما إن كان الترك تديناً فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين إذ قد فرضنا الفعل جائزاً شرعاً فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل وفي مثله نزل قول الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تُحَرِّمُوا طيبات ما أحَلَّ اللهُ لكم ولا تعتدوا إن اللهَ لا يُحِبُ المُعتدين) فنهى أولاً عن تحريم الحلال.
ثم جاءت الآيه تُشعر أن ذلك اعتداءٌ لا يحبه الله، وسيأتي للآيه تقرير إن شاء الله.
لأن بعض الصحابه هَمَّ ان يُحَرِّمَ على نفسه النوم بالليل وآخر الأكل بالنهار وآخر إتيان النساء وبعضهم هم بالاختصاء مبالغةً في ترك شأن النساء.
وفي أمثال ذلك قال النبي (صلى الله عليه وسلم):
مَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مِنِّي.
فإذاً كل مَنْ منع نفسه من تناول ما أحَلَّ اللهُ من غير عُذر شرعي فهو خارج عن سُنَّةِ النبي (صلى الله عليه وسلم) والعامل بغير السُّنَّةِ تديناً هو المبتدع بعينه.
فإن قيل:
فتارك المطلوبات الشرعية ندباً أو وجوباً هل يُسَمَّى مُبتدعاً أم لا؟
فالجواب:
أن التَّارك للمطلوبات على ضربين: أحدهما أن يتركها لغير التدين إما كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسيه فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر فإن كان في واجب فمعصية وإن كان في ندبٍ فليس بمعصية إذا كان التَّرك جزئياً وإن كان كلياً فمعصية حسبما تبين في الأصول.
والثاني أن يتركها تديناً فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع الله ومثاله أهل الإباحه القائلين بإسقاط التكاليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذى الذه حدوه.
فإذا قوله في الحد طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يشمل البدعة التركية كما يشمل غيرها لأن الطريقة الشرعية أيضاً تنقسم إلى ترك وغيره.
وسواءٌ علينا قلنا أن الترك فعل أم قلنا أنه نفى الفعل.
الطريقتين المذكورتين في أصول الفقه.
وكما يشمل الحد الترك يشمل أيضاً ضد ذلك.
وهو ثلاثة اقسام:
قسم الاعتقاد وقسم القول وقسم الفعل فالجميع أربعة أقسام وبالجمله فكل ما يتعلق به الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع.