والجواب على ذلك:
1/ أن هذا اللفظ إضافة لرواية البخاري له فقد رواه مسلم أيضاً في بعض نسخه قال البيهقي بعد ذكره لرواية البخاري: (رواه البخاري في "الصحيح"، عن ابن بكير، ورواه عن آدم بن أبي إياس، عن الليث مختصرا، وقال في الحديث يكشف ربنا عن ساقه.
ورواه مسلم؛ عن عيسى بن حماد، عن الليث كما رواه ابن بكير) (109).
2/ قال الألباني: (وإن كنت أرى من حيث الرواية أن لفظ " ساق " أصح من لفظ " ساقه "، فإنه لا فرق بينهما عندي من حيث الدراية، لأن سياق الحديث يدل على أن المعنى هو ساق الله تبارك وتعالى، وأصرح الروايات في ذلك رواية هشام عند الحاكم بلفظ: " هل بينكم وبين الله من آية تعرفونها؟ فيقولون: نعم الساق، فيكشف عن ساق... ".
قلت:
فهذا صريح أو كالصريح بأن المعنى إنما هو ساق ذي الجلالة تبارك وتعالى، فالظاهر أن سعيد بن أبي هلال كان يرويه تارة بالمعنى حين كان يقول: "عن ساقه".
ولا بأس عليه من ذلك ما دام أنه أصاب الحق.
وأن مما يؤكد صحة الحديث في الجملة ذلك الشاهد عن ابن مسعود الذي ذكره البيهقي مرفوعا، وإن لم أكن وقفت عليه الآن مرفوعا، وقد أخرجه ابن خزيمة في " التوحيد " (ص 115) من طريق أبي الزعراء قال: " ذكروا الدجال عند عبد الله، قال: تفترقون أيها الناس عند خروجه ثلاث فرق... فذكر الحديث بطوله: وقال: ثم يتمثل الله للخلق، فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: سبحانه إذا اعترف لنا عرفناه فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا خر لله ساجدا ".
قلت: ورجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي الزعراء، واسمه عبد الله ابن هانىء الأزدي، وقد وثقه ابن سعد، وابن حبان، والعجلي، ولم يرو عنه غير ابن أخته سلمة ابن كهيل.
ووجدت للحديث شاهدا آخر مرفوعا وهو نص في الخلاف السابق في "الساق" وإسناده قوي، فأحببت أن أسوقه إلى القراء لعزته وصراحته وهو: "إذا جمع الله العباد بصعيد واحد نادى منادٍ: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم ههنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرَّف إلينا عرفناه، فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سُجَّداً وذلك قول الله تعالى: (يوم يُكشف عن ساق ويُدعون إلى السُّجود فلا يستطيعون) ويبقى كل منافق، فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة") (110).
القول الثاني:
أن هذه الآية لا تعتبر من نصوص الصفات، وبناء على ذلك فإنه لا تثبت صفة الساق لله من هذه الآية، ومما يحسن التنبيه عليه هنا أنه عند نسبة القول لأحد بنفي صفة الساق من هذه الآية فإنه لابد من التصريح بنفي صفة الساق من هذه الآية، ولا يكفي تفسيره الآية بالشدة أو النور، ونحو ذلك، وأكثر الذين نُسب لهم هذا القول لم أقف على كلام صريح لهم في نفي صفة الساق من هذه الآية، وإنما الذي وقفت عليه – على تقدير ثبوته - هو تفسيرهم لهذه الآية بالكرب والشدة، أو النور العظيم، وهذا التفسير لا يلزم منه نفي دلالة الآية على صفة الساق بل يمكن حمل الآية على المعنيين جميعاً.
وممن يُنسب له هذا القول:
ابن عباس (111)، ومجاهد (112)، وسعيد ابن جبير (113)، وقتادة (114)، وعكرمة (115)، والحسن البصري (116)، والاسماعيلي (117)، وابن تيمية، والقول الثاني المتأخر لابن القيم (118).
قال ابن تيمية رحمه الله:
(لا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: "يوم يُكشف عن ساق" ولم يضفها الله تعالى إلى نفسه، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنها من الصفات إلا بدليل آخر ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف) (119).
ومما استدلوا به:
1/ ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: "يوم يُكشف عن ساق" قال: (عن نور عظيم فيخرون له سجداً) (120).
2/ (أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: "يوم يُكشف عن ساق" ولم يضفها الله تعالى إلى نفسه، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنها من الصفات إلا بدليل آخر ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف) (121).
المطلب الثاني: الترجيح.
بعد بيان الأقوال في المطلب السابق يظهر -والله أعلم- أن الأقرب للصواب هو القول بأن هذه الآية تعتبر من نصوص الصفات، وأنه يثبت منها صفة الساق لله سبحانه وتعالى.
وذلك لما يلي:
1/ ثبوت التفسير النبوي للآية كما سبق في أدلة القول الأول.
2/ مطابقة حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين للآية، مما يؤيد أن معنى الآية محمول على معنى الحديث كما سبق في أدلة القول الأول.
3/ أن تفسير الكشف عن الساق في الآية بالكشف عن الشدة لا يصح، وذلك أن للكشف معنيين:
يُقال: كَشَفَ البلاء: أي أزاله ورفعه.
ويقال: كَشَفَ عنه: أي أظهره وبينه.
فمن الأول قوله تعالى:
{ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون}، وقوله تعالى: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون}، وقوله تعالى {فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون}.
ومن الثاني قوله تعالى:
{يوم يكشف عن ساق}، لم يقل: يوم يكشف الساق، وهذا يبين خطأ من قال المراد بهذه كشف الشدة، وأن الشدة تسمى ساقا، وأنه لو أريد ذلك لقيل يوم يكشف عن الشدة، أو يكشف الشدة) (122).
فتفسير الساق بـ (الشِّدَّة لا يصح، لأن المستعمل في الشِّدَّة أن يقال: كشف الله الشِّدَّة، أي: أزالها، كما قال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}، وقال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العَذَابَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ}، وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أن يقال: كشف الشِّدَّة؛ أي: أزالها؛ فلفظ الآية: {يكشف عن ساق}، وهذا يراد به الإظهار والإبانة؛ كما قال: {كشفنا عنهم}) (123).
ولغة العرب لا تساعد على تفسير الساق بالشدة (فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال كَشَفْتُ الشدةَ عن القوم، لا كَشَفْتُ عنها، كما قال الله تعالى: "فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون"، وقال: "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر"، فالعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه) (124).
4/ أن تفسير الكشف عن الساق بالشدة غير صحيح، وذلك أنه لو كان المراد كذلك لكان كشف الشدة يشمل المؤمنين والكفار، و(يوم القيامة لا يكشف الشدة عن الكفار) (125).
5/ أن تفسير الكشف عن الساق بإزالة الشدة غير صحيح وذلك لأن ذلك الموقف هو وقت حدوث الشدة، وليس زوال الشدة (126).
6/ أن تركيب الكلام وسياقه وتدبر المعنى يدل على أن ظاهر الآية فيه دلالة على صفة الساق لله (127)، ووجه هذا أن (ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه) (128).
7/ أنه لم يصح تفسير ابن عباس للآية بالشدة (والرواية في ذلك عن ابن عباس ساقطة الإسناد) (129).
وحتى لو ثبتت هذه الرواية عن ابن عباس فلا يصح الاستدلال بها على هذه المسألة، وذلك أن بن عباس كان يقرأ هذه الآية بلفظ (يوم تكشف عن ساق) فهو يقصد يوم القيامة ولا يقصد الله عز وجل، فقد أخرج الفراء بإسناده (عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه قرا (يوم تكشف عن ساق) يريد: القيامة والساعة لشدتها) (130)، قال أبو حاتم السجستاني: (من قرأ بالتاء: أي تكشف الآخرة عن ساق، يستبين منها ما هو غائب عنه) (131).
وممن ذكر قراءة ابن عباس هذه النحاس (132) وقال: (هذا اسناد مستقيم)، والقرطبي (133)، وقال السيوطي: (وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن منده من طريق: عمرو ابن دينار، قال: كان ابن عباس يقرأ: {يوم تَكْشِف عن ساق} - بفتح التاء -، قال أبو حاتم السجستاني: أي تكشف الآخرة عن ساقها) (134).
8/ أنه وإن كانت الآية لا يقصد منها إثبات صفة الساق أصالة (135)، فإن هذا لا يمنع صحة إثبات صفة الساق من الآية استنباطاً.
الخاتمة
الحمد لله على ما يسر من إتمام هذا البحث، وقد توصلت الدراسة إلى ما يلي:
- أهمية البحث في الموضوعات المشتركة بين العلوم، حيث يتجلى أثر كل علم على الآخر.
- أهمية دراسة القراءات القرآنية ومدى تأثيرها على المسائل العقدية، حيث يتجلى بسببها كثير من الإشكالات.
- أهمية تحريرثبوتكثيرمنالقراءاتالقرآنيةنظراًلمايترتبعليهامنأثرفيدلالةالآية.
- أن القراءة الواردة في سورة النساء في قوله تعالى (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ) لها توجيهات صحيحة عند أهل العلم، منها أن المراد السؤال بالرحم وليس الإقسام بالرحم.
- أن القراءة الواردة في سورة المائدة في قوله تعالى على لسان الحواريين (هل يستطيع ربك) لها توجيهات صحيحة عند أهل العلم، منها أن هذا جار على أسلوب العرب في الطلب من المستطيع وليس إنكار الاستطاعة.
- أن القول المنسوب لابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى (يوم يكشف عن ساق) ليس نفياً منه لدلاله الآية على هذه الصفة لأنه كان يقرأ الآية بقراءة أخرى (يوم تكشف عن ساق) ويريد بذلك القيامة.
ومن التوصيات الناتجة عن هذا البحث:
- جمع القراءات القرآنية في كامل القرآن والنظر في مدى تأثيرها على المسائل العقدية، سواء كان في رسالة ماجستير أو دكتوراه.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.