العنصر الثاني: أثر الجانب الإنساني في حياة الناس:
لقد استطاع النبي صلي الله عليه وسلم بفضل ربه عز وجل أن يؤسس لأعظم دولة عرفها التاريخ، حيث أخرج للوجود أمة ومكن لعبادة الله تعالي في الأرض، ووضع أسس العدالة الإجتماعية، وحول جيل كامل من رعاة البقر إلي قادة للأمم، استطاع بفضل الله تعالي أن يخرج للعالم كله المواهب والعبقريات العظيمة من أمثال عمر ابن الخطاب وخالد ابن الوليد وعمرو ابن العاص وعكرمة ابن أبي جهل…. وحوَّلهم من جيل لا يعرف إلا الفوضي إلا جيل يعرف النظام والعدل.
وحينما نستعرض حوار المحبة والقيم الإنسانية لرسول الله صلي الله عليه وسلم مع الانصار حين خَصَّ المهاجرين ببعض العطايا ولم يعط الانصار منها شيئاً وفي هذه الاثناء دخل عليه سعد بن عباده، فقال يارسول الله: إن هذا الحَيَّ من الانصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لِمَا صنعت في هذا الفِيءَ الذي أصبت، يقصد العطايا التي خَصَّ بها الرسول المهاجرين، ثم اضاف سعد: قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يكن منها شيءٌ للانصار، فسأله رسول الله: أين أنت من هذا يا سعد؟ فَرَدَّ سعد: ما أنا إلا من قومي، وهنا قال له رسول الله صلي الله عليه وسلم: اجمع لي قومك في مكان أشار إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم: امتثل سعد لأمر رسول الله صلي الله عليه وسلم وجمع الانصار في المكان الذي أشار إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي هذا الاجتماع خرج رسول الله وهو في منتهي الثقة والمودة مع هؤلاء الرجال الذين كانت لهم مواقف تتسم بالإيثار والتضحية والشهامة.
وبعد أن حمد الله وأثني عليه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: يا معشر الانصار: مقالة بلغتني عنكم تشير إلي العتاب لمشاعر وجدتموها في أنفسكم عليَّ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله وعالة فاغناكم؟ الا تجيبوني يا معشر الانصار، فقالوا: بماذا نجيبك يارسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم بكل الشفافية: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: اتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم مشاعر تجذبكم نحو زهرة الدنيا ومتاعها، لقد تألّفت قلوبكم أيها القوم فأسلمتم ووكلتم إلي إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلي رحالكم، فوالذي نفس محمدٍ بيده لولا الهجرة لكنت من الأنصار، ولو سلك الأنصار شِعْبَاً "طريقاً" وسلك الناس شِعْبَاً، لسَلَكْتُ شِعْبَ الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
حديث من القلب الرحيم يقطر صفاء ومودة ومحبة وقيَماً انسانية تؤكد مدي أثر هذه القيم في النفوس.
وبعد أن استمع الأنصار لهذا الحديث من سيد الخلق صلي الله عليه وسلم انتابهم البُكاء تأثراً بتلك المشاعر الطيبة التي فاض بها الحب والتقدير لمواقف هؤلاء الرجال، وقالوا في نفسٍ واحدٍ: رضينا برسول الله قسماً وحظاً، ثم انصرفوا وتفرَّقوا ومشاعرهم تزداد حباً وتقديراً لرسول الله صلي الله عليه وسلم.
قواعد راسخة أرسي دعائمها رسول الله صلي الله عليه وسلم وتركها لنا جميعاً، فهل نتذكر هذه القيم التي ربطت بين رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه، فنحييها في حياتنا حتي يعم الخير بلادنا.
العنصر الثالث: حاجتنا إلي إشاعة الجوانب الإنسانية:
أيّها المسلمون:
ألا ما أحْوَجَ البشريَّةَ إلى هذهِ المعاني الإسلاميَّةِ السَّامية، وما أشَدَّ افتقارَ الناسِ إلى التخلُّق بالرَّحمة التي تُضمِّدُ جِرَاحَ المَنكوبين، وتحثُّ على القيامِ بحقوقِ الوالدَين والأقربين، والتي تواسِي المستضعَفين، وتحنو على اليتامَى والعاجِزين، وتحافِظ على حقوقِ الآخرين، وتحجز صاحبَها عن دِماء المعصومين من المسلمين وغير المسلمين، وتصون أموالَهم مِن الدّمار والهلاك، وتحثّ على فِعل الخيراتِ ومجانبَة المحرّمات.
العنصر الرابع:
كيف نحيي المشاعر الإنسانية:
1 ـ قراءة كتاب الله عز وجل:
فمن أعظم الأسباب التي تعين على إحياء المشاعر الإنسانية وتيسر للإنسان طريقها: قراءة كتاب الله جل جلاله، قال العلماء: إن الرحمة لا تدخل إلى قلبٍ قاسٍ، والقلوب لا تلين إلا بكلام الله، ولا تنكسر إلا بوعد الله ووعيده وتخويفه وتهديده، فمن أكثر تلاوة القرآن، وأكثر من تدبر القرآن كسر الله قلبه ودخلت فيه الرحمة.
2 ـ تذكر مشاهد الآخرة:
كذلك من الأسباب التي تعين على إحياء المشاعر الإنسانية : تذكر الآخرة، فإن العبد إذا تذكر مشاهد الآخرة، وصور نفسه كأنه قائمٌ بين يدي الله تجادل عنه حسنته، ويقف بين يدي الله عز وجل وقد نشر له ديوانه، وبدت له أقواله وأفعاله، إذا تصور مثل هذه المواقف قادته إلى الله وحببت إلى قلبه الخير وجعلت أشجانه وأحزانه كلها في طاعة الله ومرضاته.
3 ـ معرفة سيرة السَّلف الصَّالح:
ومن أعظم الأسباب التي إحياء المشاعر الإنسانية: قراءة سيرة السلف الصالح، الأئمة المهديين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، والوقوف على ما كانوا عليه من الأخلاق الجميلة والآداب الكريمة، كل ذلك يحرك القلوب إلى المشاعر العظيمة الجياشة نحو الآخرين ويجعل فيها شوقاً إلى الإحسان إلى الناس، وتفريج كرباتهم، وقل أن تجلس في مجلس فيذكر فيه كريمٌ بكرمه، أو يذكر المحسن فيه بإحسانه إلا خشع قلبك.
فهذه أمُّنَا عائشة رضي الله عنها وأرضاها يأتيها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عن الجميع وهي صائمة ثلاثون ألف درهم وهي في أشد الحاجة، فتوزعها على الفقراء إلى فلان وآل فلان، ولم تبق منها شيئاً حتى غابت عليها الشمس، فالتمست طعاماً تفطر عليه فلم تجد . فسير الرجال وسير الصالحين وسير الأخيار تحرك القلوب إلى الخير، والله تعالى يقول في كتابه: "وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ" [هود:120].
فالله يثبت قلوب الصالحين على الصلاح والبر ما سمعوا بأمرٍ صالح وما سمعوا بسيرة عبدٍ صالح، نسأل الله العظيم أن يجعل لنا ولكم في ذلك أوفر العظة والعبرة.
4 ـ معاشرة الرحماء:
كذلك أيضاً مما يحرك القلوب إلى الرحمة والإحسان إلى الناس: معاشرة الرحماء، فانظر في إخوانك وخلانك، فمن وجدت فيه الرحمة ورقة القلب وسرعة الاستجابة لله، فاجعله أقرب الناس منك، فإن الأخلاق تعدي، فإذا عاشر العبد الصالحين أحس أنه في شوق للرحمة، وأحس أنه في شوق للإحسان إلى الناس، ودعاه ذلك إلى التشبه بالأخيار، فكم من قرينٍ اقترن بقرينه، كان من أقسى الناس قلباً، فأصبح ليناً لان قلبه بصحبة الصالحين.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أشد الناس قلباً وأعظمهم صلابة، فلما كسر الله قلبه بالإسلام، كان من أرحم الناس بالمسلمين رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه عاشر رسول الأمَّة وإمام الرُّحماء فتأثر به، حتى قال العلماء رحمهم الله: كان أرحم الناس بالناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- الاختلاط بالضعفاء، والمساكين، وذوي الحاجة:
فإنَّه ممَّا يرقِّق القلب، ويدعو إلى الرَّحْمَة والشفقة بهؤلاء وغيرهم.
أسأل الله العظيم أن يُلين قلوبنا وأن يُصلح ذات بيننا وأن يُوَحِّدَ صفوفنا وأن ينصرنا علي أنفسنا وعدونا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
آمين يارب العالمين.