عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم
للشيخ: عطية محمد سالم
اصطفاء الله عز وجل لبعض مخلوقاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح: 29].
فأجمل منك لم تر قط عين وأفضل منك لم تلد النساء
ولدت مبرأً من كـــل عيب كأنك قد خلقـت كما تشاء
لقد اختص الله سيد الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم بالمحامد الوفيرة والمآثر الأثيرة، وأثنى عليه في كتابه في آيات كثيرة، وأبقى معجزاته ما تعاقب الجديدان، وخلّد ذكره ما توالى النّيران، حفظه بعينه التي لا تنام، وحماه بركنه الذي لا يضام، رعاه وأكرمه وسواه فأحسن خلقه وعدّله، أيده ببراعة اللسان بعد أن ركّب فيه كل خلق حسن، أوحى إليه وناجاه وبكريم الخصال حباه، فتح به أعيناً عمياً وآذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً.
قرن سبحانه وتعالى طاعته بطاعته، وأغلق طريق الجنة إلا باتباع أثره، ونفى الإيمان عمن خالفه، وحرم الجنة على من لم يطعه في هداه، فقال عز من قائل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
والحديث عن عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه قد يكون من جهته صلى الله عليه وسلم من باب تحصيل الحاصل؛ لأنه لا يستطيع أحد على الإطلاق أن يأتي بجديد أو يحصي الموجود أو يزيد، ولكنه تنبيه للعقول وإيقاظ للقلوب وتجديد للشعور بالمعقول والمنقول، وهذا جهد المقل وحصيلة المشغول.
فأقول وبالله التوفيق:
إن رفعة شأن كل شيء وعظم قدره إما في اصطفاء الله إياه، وهو إما في ذاته، أو صفاته، أو أفعاله، وقد اختص الله من الناس ومن الملائكة أفراداً على بني أجناسهم، فاختص من الملائكة جبريل عليه السلام وجعله أميناً على وحيه مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 21]، وكذلك حملة العرش، واختص من الناس الرسل صلوات الله عليهم، واختص منهم أولي العزم، واصطفى من الجميع محمداً صلى الله عليه وسلم.
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75]، ولما اعترض بنو إسرائيل على بعث طالوت عليهم ملكاً قالوا بمقياس البشر: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة: 247]، كان الجواب: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 247].
فأصل اختياره اصطفاء الله إياه، ثم آتاه مقومات الملك ومؤهلات السلطة: (بسطة في العلم والجسم) وقدم في العلم؛ لأنه الأساس للتخطيط والسياسة، والجسم للتنفيذ والتطبيق.
وكذلك نبي الله موسى حين فر فزعاً من انقلاب العصا حيةً تسعى، ناداه ربه: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف: 144]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران: 33]، وكذلك مريم: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 42].
وهذا الاصطفاء البشري لإبلاغ رسالة الخالق إلى خلقه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر: 32] وفي هذا الاصطفاء رفعة لشأن من اصطفاهم وعلو لقدرهم.
وقد شمل منهج هذا الاختصاص والاصطفاء بعض المخلوقات من الأمكنة والأزمنة، فقد اختص الله من عموم الأماكن مكة وبيت المقدس والمدينة المنورة؛ لما فيها من المقدسات والآيات البينات، وخص الأعمال فيها بمضاعفة الأجر، ومن الأزمان اختص من الشهور رمضان والأشهر الحرم، ومن الأيام يوم الجمعة، ومن الليالي ليلة الجمعة، ومن الساعات ساعة في يوم الجمعة، وبيّن تعالى موجب اختصاصها عن جنسها، وهذا الاختصاص قد أعلى شأنها وعظّم قدرها.
وإذا جئنا إلى موجب اصطفائه سبحانه لرسله ابتداءً من آدم عليه السلام إلى عيسى إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، نجد أن آدم كان أول الخلق من البشر، وأنه خلقه تعالى بيده ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، ويكفيه أولية الخلق، وخلقه سبحانه بيديه، وفي الأثر: ثلاث خلقهن الله بيده: خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده، وكتب الألواح لموسى بيده، وبقية المخلوقات من كن فيكون، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82].
ونوح عليه السلام خصه الله بالعمر الطويل، حتى لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يساير الليل والنهار، ويصابر قومه ويصبر عليهم، حتى أعلن يأسه منهم ودعا عليهم: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 26-27]، وقال تعالى في سورة القمر: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [القمر: 11-14]، وإبراهيم عليه السلام يتحدى قومه ويتلطف إلى أبيه: يا أبت! يا أبت! ويواجه الملك الطاغي النمرود ولا يبالي بهم جميعاً، ويحطم آلهتهم ويسخر منهم، ثم يواجهونه: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء: 62-63]، فأوقدوا نيرانهم فلم يبال بهم، وابتلاه الله بكلمات التكليف فأتمهن فجعله الله بإتمامها إماماً، وكان بإمامته أمة.
أما موسى عليه السلام فقد نشأ في رعاية الله من حين مولده، فحفظه من تذبيح فرعون لأبناء بني إسرائيل، ورعاه حين ألقته أمه في التابوت في اليم، ورعاه في رضاعته، فحرم عليه المراضع؛ كي يُرد إلى أمه وهم لا يشعرون، ورعاه في بيت عدوه حين صار رجلاً، ورعاه في خروجه إلى مدين، ورعاه عند شعيب، ورعاه عائداً بأهله إلى مصر، ثم هاهو يُبعث إلى فرعون وقومه فيبدأ التحدي بين الحق والباطل، ورعاه حين سلك في البحر طريقاً يبساً، ورعاه حين أهلك عدوه وهو ينظر إهلاكه بعينيه.
وعيسى عليه السلام: اصطفى الله مريم لتكون أماً له، واصطفاها حينما نذرت أمها ما في بطنها، واصطفاها حينما ألقوا أقلامهم أيهم يكفل مريم؟ واصطفاها: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: 37]، واصطفاها حينما انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا [مريم: 16-17]، واصطفاها في قوله: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم: 17-18]، واصطفاها حينما قال لها: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم: 19] إلى أن جاءت به قومها تحمله، وجابهوها بتلك الفرية، فجعل الله مصدر تهمتها هو بعينه دلالة براءتها، حين قال لهم: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم: 30] إلى قوله: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ [مريم: 34]، وجاء الوحي فكشف ما التبس عليهم بقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59].
عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وموجباته:
وبعد هذا التمهيد وهذه المقدمة نأتي إلى بيان موجب رفعة شأنه وعظيم قدره صلى الله عليه وسلم.
عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي تقدم نبوته على الأنبياء:
لقد ذهب بعض المختصين في البحث عن ذلك إلى أول نقطة وجوده صلى الله عليه وسلم، وفي نظري أن وجوده صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أمرين: وجود قدري في عالم الملكوت، ووجود في عالم الإنسان.
أما وجوده القدري:
فقد ذهب البعض فيه إلى مسافات بعيدة، إلى ما قبل آدم عليه السلام؛ لأن بعد تلك المسافة لم تكن طريقها ممهدة فأجهدتهم، كما أن سلطان العاطفة قد دفعهم إلى أخذ كل ما وجدوه مما فيه تعظيم لقدره صلى الله عليه وسلم.
وهنا مبحث تعارض العقل مع العاطفة، ولكل منهما مقامه، فمن ذلك على سبيل المثال: لما كانوا في غزوة تبوك، وقاموا يتهيئون لصلاة الصبح، وذهب صلى الله عليه وسلم للخلاء فأبعد وتأخر عليهم، فانتظروه ليصلي بهم حتى أسفروا، فتحيروا هل يصلون قبل خروج الوقت، أم ينتظرون قدومه؟ والعاطفة مع الانتظار ليصلي بهم، والعقل مع الإسراع وإدراك الوقت، فقدموا العقل وصلى بهم ابن عوف رضي الله تعالى عنه، وجاء صلى الله عليه وسلم وهم في الركعة الثانية، فأراد المغيرة أن ينبه الإمام ليتأخر ويتقدم صلى الله عليه وسلم للإمامة، فمنعه النبي ودخل في الصف، ولما سلم الإمام قام صلى الله عليه وسلم فأتم الركعة التي فاتت، ولما رآهم أسفوا لذلك قال: (ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف أحد من أمته) أي: أنهم أصبحوا أهلاً للإمامة.
وكذلك موقف الصديق لما قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ولما أقيمت الصلاة وجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج فنبهوا أبا بكر، فأخذ يتراجع، فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم أن مكانك، وكان أبو بكر بين العاطفة والعقل، فالعاطفة: ألا يتقدم على رسول الله، والعقل: أن يمتثل أمره ويبقى مكانه، لكنه قدم العاطفة فتأخر وصلى بهم رسول الله، ولما فرغ قال له: (ما الذي منعك أن تبقى إذ أمرتك؟ قال: ما كان لـابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله).
وفي كل مَن تقدم ابن عوف وتأخر أبي بكر وجهته، وقد أقر صلى الله عليه وسلم كلاً منهما على فعله، وهكذا لكل مقام مقال.
وجميع كتّاب السيرة قد ذهبوا في بدايته وبداية وجوده القدري إلى ما قبل وجوده الفعلي، إلا أن منهم من أبعد الغاية وطوّل الطريق، فنقلوا آثاراً تنتهي إلى ما قبل آدم وربما إلى ما قبل خلق السماوات والأرض، وحصروا أولية الوجود في ثلاثة: العقل، والقلم، ونور محمد صلى الله عليه وسلم، وأن اسمه مكتوب على ساق العرش وعلى ورق الجنة وثمارها.
ومنهم من وقف عند خلق آدم، وهو بين الروح والجسد، أو وهو مجندل في طينته، وأثبت له النبوة هناك وقالوا: لقد أخذ نوره يتنقل في أصلاب آبائه حتى درج للوجود الفعلي مستأنسين بقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 217 - 219]، ذهبوا إلى أن (تقلبه) أي: تقلب نوره في أصلاب آبائه من النبيين قبله، ولكن تعقبهم النقّاد وقالوا: إن أباه إبراهيم لم يكن أبوه آزر من النبيين ولا حتى من المؤمنين، ونحن نقول: إن أباه صلى الله عليه وسلم عبد الله لم يكن من النبيين، بل كان من أهل الفترة على التحقيق.
وقد ذكر السيوطي رحمه الله في كتابه الخصائص الذي قال عنه في مقدمته: كتاب فاق الكتب في نوعه جمعاً وإتقاناً، يشرح صدور المهتدين إيقاناً، ويزداد به الذين آمنوا إيماناً.. إلى قوله: مستوعباً لما تناقله أئمة الحديث بأسانيدها المعتبرة.. إلى أن قال: أوردت فيه كل ما ورد، ونزهته عن الأخبار الموضوعة وما يرد، وتتبعت الطرق والشواهد لما ضعف من حيث السند. انتهى، وتعقبه الشيخ الهراس رحمه الله: بأنه لم يلتزم كل ذلك، وقال في هذا الكتاب -أي: السيوطي- باب خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بكونه أول النبيين في الخلق، وتقدم نبوته وأخذ الميثاق عليه، وساق تحت هذا العنوان ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، وأبو نعيم في الدلائل من طرق عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب: 7] الآية. قال: (كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث) فبدأ به قبلهم.
ونقل السيوطي أيضاً: أن أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين سئل: كيف صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث؟ قال: لما أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] كان محمد أول من قال: (بلى).
ومن ذلك ما عزاه لـأحمد والبخاري في تاريخه وغيرهما عن ميسرة قال: قلت: (يا رسول الله! متى كتبت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد).
وكذلك ما عزاه لـأحمد والحاكم والبيهقي عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته).
وساق أيضاً: أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أي شيء كان أول نبوتك؟ قال: أخذ الله مني الميثاق لما أخذ من النبيين ميثاقهم، ودعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام) انتهى.
وهذه كلها بدون شك آثار وأخبار تدل على علو شأنه وعظيم قدره، إلا أن بعضها لم يسلم من النقّاد في التفتيش عن السند، وهذا صاحب (سبل الهدى والرشاد في هدي خير العباد) قال: هذا كتاب اقتضبته من أكثر من ثلاثمائة كتاب.. إلى أن قال: ولم أذكر فيه شيئاً من الأحاديث الموضوعة.. إلخ.
قال فيه: الباب الأول في تشريف الله تعالى له صلى الله عليه وسلم لكونه أول الأنبياء خلقاً، ذكر في هذا الباب أثر ابن أبي حاتم الذي ذكره السيوطي: (كنت أول الأنبياء خلقاً).
وذكر المحشي عليه عدد من خرّجه: ابن عدي وأبو نعيم وابن كثير في التاريخ والثعالبي.. إلى آخره.
ثم قال: وروى أبو سعد النيسابوري في الشرف وابن الجوزي في الوفاء عن كعب الأحبار قال: لما أراد الله سبحانه أن يخلق محمداً صلى الله عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها، فهبط جبريل في ملائكة الفردوس وملائكة الرفيق الأعلى، فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف وهي بيضاء نيرة وعجنت بماء التسنيم في معين أنهار الجنة، حتى صارت كالدرة البيضاء لها شعاع عظيم، ثم طافت بها الملائكة بين العرش والكرسي والسماوات والأرض، فعرفت الملائكة محمداً قبل أن تعرف آدم أبا البشر، ثم كان نور محمد يرى في غرة جبهة آدم، وقيل له: يا آدم! هذا سيد ولدك من المرسلين.. إلى قوله: ثم لم يزل النور يتنقل من طاهر إلى طاهر إلى أن ولد صلى الله عليه وسلم.
وأقول: هذا من الإسرائيليات التي تنقل في غير تشريع.
نور النبوة المحمدية يتقلب في الأصلاب:
ثم قال صاحب سبل الهدى: وفي كتاب الأحكام للحافظ الناقد أبي الحسن بن القطان، روى علي بن الحسين عن أبيه مرفوعاً: (كنت نوراً بين يدي ربي عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام)، ولم يعلق المحشي على ذلك بشيء.
ونقل في باب آخر قول ابن رجب في اللطائف على حديث: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين) قال: المقصود من هذا الحديث: أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مذكورةً معروفةً قبل أن يخلقه الله تعالى ويخرجه إلى دار الدنيا، وأن ذلك كان مكتوباً في أم الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام.
ثم قال المؤلف: أداء لأمانة العلم كتعليق على ذلك: هناك تنبيهان:
الأول: ما اشتهر على ألسنة الناس بلفظ: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)، قال ابن تيمية والزركشي وغيرهما من الحفاظ: لا أصل له.
وكذلك قوله: (كنت ولا آدم ولا ماء ولا طين).
الثاني نقل عن السبكي قوله: لم يصب من فسّر: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) بأنه سيصير نبياً؛ لأن علم الله تعالى محيط بجميع الأشياء.. إلى آخر كلامه الملخص في أنه لو كان المراد ما كان في علم الله لما كان للنبي صلى الله عليه وسلم زيادة فضل على غيره، سواء من الأنبياء أم عامة الخلق.
وهنا يمكن أن يقال تعليقاً على هذين التنبيهين: أما الأول فإننا لم نجد اللفظ الذي قال عنه الإمام ابن تيمية: إنه لا أصل له، ثم إنه لم ينقل لنا عن هذا الإمام الجليل رحمه الله -وهو الناقد البصير- عن قضية النور شيئاً، ولا عن تقلبه في الأصلاب حتى ولد.
ولعل مما يناسب ذكره هنا ما ذكره ابن هشام وغيره: أن أخت ورقة بن نوفل لقيت عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم يوم مفاداته بمائة من الإبل فقالت له: هل لك أن تذهب معي إلى بيتي ساعة ولك مائة من الإبل مثل التي فوديت بها اليوم؟ فاستمهلها حتى يصل مع أبيه إلى بيته، ولكن أباه لم يذهب إلى البيت وذهب إلى بني زهرة، وخطب له آمنة بنت وهب فتزوجها ودخل عليها في ليلته، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الغد لقيته تلك المرأة فأعرضت عنه فقال لها: مالك لا تعرضين عليَّ اليوم ما عرضته عليَّ بالأمس؟ فقالت: أما الآن فلا حاجة لي بك، كنت بالأمس أرى بين عينيك وبيص نور طمعت أن أظفر به، ولكن فازت به آمنة بنت وهب.
ويمكن أن يقال: إن هذا الخبر مع أحاديث تقلب النور في الأصلاب ولو ضعفت الأسانيد فإنه يشد بعضها بعضاً، ولا سيما أنها ليست تشريعاً.
وقد ساق صاحب سبل الرشاد قصة هذا النور بين عيني عبد الله بطرق متعددة، منها ما عزاه لـفاطمة الخثعمية، وذكر من هذا الطريق جواباً لـعبد الله لهذه المرأة يدل على رفضه ما عرضته عليه فقال:
أما الحرام فالممات دونه والحــــــل فلا حل أستدينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه ودينه
ثم روى عن البيهقي وأبي نعيم عن ابن شهاب: أن عبد الله كان أحسن رجل رئي، فمر على نساء من قريش فقالت امرأة منهن: أيتكن تتزوج هذا الفتى فتصطب النور الذي بين عينيه، فإني أرى بين عينيه نوراً.. إلخ.
فرؤية النور بين عيني والده الوارد بطرق متعددة سالمة أسانيدها من الوضع -كما قال عنها أصحابها- ولا شك أنها تترك أثراً بالغاً في الدلالة على عظيم قدره وعلو شأنه وطهارة نسبه من نكاح لا سفاح فيه.
كما قال القائل في ذلك:
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً
كيف لا، والله تعالى يقول في حق إحدى زوجاته ما يعم أهل البيت جميعاً: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33]، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأحق بذلك.
وكما قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كيف وقد قال تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 4-5] وطهارة نسبه أولى وأحق.
وبعد هذا التمهيد الطويل نقول:
إن بيان عظيم قدره وعلو شأنه قد يكون بالنسبة إليه -كما أسلفنا- بمثابة تحصيل الحاصل، وأنه في غنىً عن ذلك؛ لأنه في ذاته معجزة تشهد بعلو قدره ورفعة شأنه، كما قال ابن رواحة رضي الله تعالى عنه:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
ولدينا من النصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة ما يغني، ولن نبعد كما أبعد الآخرون، وإن كان المبدأ عند البعض قول البوصيري في البردة:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكــــم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
عظم قدر المصطفى صلى الله عليه وسلم في وجوده القدري والفعلي:
وقد نبهنا على أنه صلى الله عليه وسلم له وجود قدري ووجود فعلي، وكلا الوجودين ثابت في الكتاب والسنة.
وقبل المجيء إلى الكتاب والسنة وهما الأساسان العظيمان مع ما صح وثبت من أخبار التاريخ نجدد التنبيه على أن النصوص والآثار وصحيح الأخبار في هذا الموضوع أكثر من أن تحصى وأوفر من أن تذكر، وقد جمع جلها علماء السيرة والتاريخ والخصائص، ونحن هنا نكتفي بالبعض، وفي البعض ما يغني عن الكل.
يتبع إن شاء الله...