61- اسم الله: "الصَّمَد"
==============
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهمَّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحقَّ حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة المؤمنون:
مع الدرس الحادي والستين من دروس أسماء الله الحسنى، والاسم اليوم هو اسم الصَّمَد، وكلُّكم يقرأ سورة الإخلاص: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) (سورة الإخلاص).
فالصَّمَد:
اسمٌ من أسماء الله الحُسنى، ورد في الأحاديث الشريفة ومعنى الصَّمَد: القصدُ.
وفي حديث معاذ بن عمرو بن الجموح في قتل أبي جهل قال:
فصمدّتُ له.. أي قصدّته حتّى أمكنتني منه غِرّة.
هذا المعنى الأول في اللغة..
الصَّمَد: القصدُّ.. صمدّتُ له: قصدّتُه.. والصمدُ: السيِّدُ المطاع الذي لا يقضى من دونه أمر، سيِّد متمكِّن، مطاع، أمره نافذ.. وأصمد إليه الأمر: أسنده إليه.
ويقول بعض علماء اللغة:
"إنَّ الصَّمَد في اللغة له وجهان: أنّه فعلٌ بمعنى مفعول"..
أي مقصود، صمدّتُ إليه أي قصدّته، أو هو المقصود، أي السيِّدُ المقصودُ.
المصمود في الحوائج:
أي المقصود في الحوائج.
ونقول ضمن قوسين:
"إذا أحبَّ الله عبداً جعل حوائج الناس إليه".
هناك شخص أنا أسمِّيه، وقد سمَّاه الأوَّلون العفريت النفريت.. يتملَّص من كلِّ عمل، يتملَّص من كلِّ عبء، يتملَّص من كلِّ موعد، يتملَّص من كلِّ بذل، ومن كلِّ عطاء، يأخذ ولا يُعطي، وإذا أردت أن تعرف ما إذا كنت من أهل الدنيا، أو من أهل الآخرة، فاسأل نفسك السؤال الدقيق: ما الذي يفرحك؟ أن تعطي أم أن تأخذ.
أهل الدنيا يفرحهم أن يأخذوا، وأهل الآخرة يفرحهم أن يُعطوا.
وهذا مقياسٌ دقيق، حتّى إنَّ العرب في لغتهم يسمّون الذين أَعْطَوا: ارتاحوا، يسمّى هذا الإنسان أريَحيّ. هو أشدُّ كرماً من الكريم؛ يرتاح في العطاء.
يعطي ليستريح، فإذا كنت من أهل الإيمان -ودقّقوا في هذه الكلمة- المؤمن حياته مبنيَّةٌ على العطاء، وغير المؤمن حياته مبنيّةٌ على الأخذ.
والذي يعطي فإن الله جلَّ جلاله يعطيه، أنفق بلالُ ولا تخشىَ من ذي العرش إقلالاً، عبدي أنفق، أُنفق عليك.
وهناك في القرآن كريم آيات عديدة -تزيدُ عن ثمانية آيات- تؤَكِّد أنَّ كلَّ نفقةٍ يعوِّضها الله أضعافاً مضاعفة فقد قال تعالى:
(وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) (سورة سبأ الآية: 39)، هذا كلام خالق الكون.
فالصَّمَد؛ بمعنى المصمود:
أي المقصود في الحوائج كلِّها.
وإذا أحبَّ الله عبداً جعل حوائج الناس إليه
والمؤمن لا يتأثَّر لو طرق بابه في اليوم مئات مرَّة، لو اتصلوا به عشرات المرّات، لو تزاحم الناس على بابه لا يتأثّر؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعلك تأخذ، على أن يجعلك تقف ذليلاً أمام باب إنسان، فإذا مكَّنك الله؛ أعطاك صحَّةً، أعطاك مالاً، أعطاك مكانةً، أعطاك شيئاً يمكن أن تنفقه لا تبخل به، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقرِّك على النعم ما بذلتها، فإذا منعتها منعها عنك.
والعرب تقول:
بيتٌ مصمود: إذا قصده الناس في حوائجهم.
تجد في الأسر رجلاً يُسمُّونه الآن عميدَ الأسرة، يقصده كلُّ أطراف الأسرة في زواجهم، في أعمالهم، في وظائفهم، في حلِّ مشكلاتهم، في كلّ ما من شأنه أن يتدخَّل من أجله، هذا الإنسان محترم.
وقال بعض اللغويون الصَّمَد هو:
الذي لا جوف له، أي الشيء الأصم.
حجر لو نقرته لا يعطيك صوتاً، فهو صَمَدٌ أي أصمّ.
أما العلبة الفارغة لو ضربتها تحدث صوتاً، فالصَّمَد هو الذي لا جوف له.
وقال بعض متأخِّري اللغة:
الصَّمَد هو الأملس من الحجر الذي لا يقبل الغبار، بمعنى ثقيل، ولا يدخله شيءٌ ولا يخرج من شيء، لا دخول ولا خروج ولا استقرار.. هو الصَّمَد.. هذا كلُّه معنى كلمة الصَّمَد في اللغة.
أما الصَّمَد إذا كان وصفاً لله عزَّ وجلَّ، أو كان اسماً من أسمائه، فقال: الله سبحانه وتعالى صمدٌ؛ لأنَّ الأمور أُسندت إليه، يعني الأمور رجعت إليه وهذا المعنى ورد في القرآن الكريم فقد قال تعالى: (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) (سورة هود).
أحياناً تجد في دائرة أو مؤسسة أو معمل أو مدرسة، تبقى على حالها رجلاً قوياً لا يستطيع أي موظَّف أن يبتَّ في قرار، أو يتّخذ أي قرار، ما لم يرجع إليه فالأمر كلُّه بيده، خيوط كلِّ الموضوع مجموعةٌ بيده، فالله سبحانه وتعالى إذا قلنا أنّه صمد؛ أي أنَّ الأمور كلَّها أصمدت إليه، أي أسندت إليه.
فما قولك أيّها الأخ الكريم إذا كان الأمر كلُّه بيد الله، أتسأل غير الله؟ أو هل تتوجّه إلى غير الله؟ أتعلِّق الأمل على غير الله؟ أتخاف من غير الله؟.. أبداً.
فقد سألني أحدهم مرّة:
ما الذي يقوّي سيري إلى الله؟
قلت له: التوحيد.
ما الذي يقوّي إخلاصي؟
التوحيد.
ما الذي يقوي عزيمتي؟
التوحيد.
ما الذي يبعدني عن الشرك؟
التوحيد.
وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد.
وكلُّكم يعلم أنّ القرآن كلّه من دفته إلى دفته، من فاتحته إلى سورة الناس؛ كلّه حول التوحيد والدليل قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (سورة الكهف).
هذا هو الدين.. بل إنَّ فحوى دعوة الأنبياء جميعاً من دون استثناء هو التوحيد.
والدليل قوله تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) (سورة الأنبياء).
الدين كلّه عقيدة التوحيد والعبادة؛ وحِّد.. واعبدْ، فزت بالدنيا والآخرة، وجمعت المجد من كلِّ أطرافه.
قال:
الصَّمَد في وصف الله تعالى؛ هو الذي أسندت الأمور إليه، فلم يقضِ فيها غيره.
وهو الذي يصمد إليه في الحوائج أي يُقصد.
فانظروا إلى هذه الفكرة الدقيقة:
الأمور راجعةٌ إليه.. إذاً هو المقصود كنتيجة طبيعيّة.
فأنت بشكل طبيعي وعفوي، إذا دخلت إلى دائرة بحاجة إلى موافقة على طلب تسأل بيد مَنْ هذه الموافقة؟ فإذا قيل أنّها بيد المدير العام؟ فلا يمكن أن تبذل ماء وجهك لغيره، ولا يمكن أن تسأل غيره؛ لأنَّك أيقنت أنَّ الأمر بيد فلان، ما دام الأمر بيده أنت قصدّته.
من أين يأتي القصد؟
من التوحيد.. إن وحَّدت، تتجه إلى الله.
لكن كفكرة إخواننا الكرام … بعض الآيات والأحاديث.. كفكرة سهلة، وإدراكها سهل، وشرحها سهل، لكن أن تعيشها هنا المشكلة.. أن تعيشها.. فيا ترى هناك مشكلة مزلزلة عشتها؛ فأن ترى فلاناً هو الذي أوقعك بها، أو فلاناً من الناس هو الذي خلَّصك منها، فهذا هو الشرك، فأفكار التوحيد أفكار سهلة وليست معقَّدةً، أما ممارسات، فهذه تحتاج إلى جهد كبير.
إخواننا الكرام:
التوحيد محصِّلة جهودك الكبيرة في طريق الإيمان.
فأحياناً يقول لك عن سعر العملة..؛ محصِّلة الإنتاج الزراعي، والصناعي، والتجاري، وترشيد الاستهلاك، والقدرة على جلب رأسمالات من بلاد أُخرى، ورواج المبيعات، والثروات الباطنيّة، أي ألف عامل وعامل يدخل في تحديد سعر العملة.
كذلك كلُّ عوامل الإيمان محصِّلتها التوحيد.
وقال العلماء:
"الصَّمَد؛ هو الدائم الباقي بعد فناء خلقه"، فقد قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) (سورة الرحمن).
وقال بعض العلماء:
"هو الذي خلق الأشياء كلَّها، ولا يستغني عنه شيء".
بحسب تركيب الجسم المعقَّد جداً؛ فالقلب وما به من -دسّامات، وأذنين، وبطينين، ومراكز توليد الكهرباء- والأوعية، والشرايين، والأوردة.. والكبد، والبنكرياس، والغدد الصمّاء ومفرزاتها -بنسب دقيقة جداً- وبلازما الدم... قلت: والله، المعجزة أن يستيقظ أحدنا لا يشعر بشيء.. فهذه هي المعجزة، من شدّة تعقيد الجسم ودقّته، فالإنسان يسلم جسمه من المرض هو المعجزة.
أيّ نسبة تتغيَّر الحياة لا تطاق، لو أنَّ الكُليّة قصَّرت في وظيفتها تزداد نسب -الأوريه- في الدم، ومن مضاعفاتها ضيق، وتوتُّر عصبي، وردود فعل عنيفةٌ جداً.
الملح إذا زاد، يؤثِّر على الدم، وإذا أصبح الدم لزجاً، يتجمَّد فوراً.
والتجمُّد يعني الشلل، أو فقد البصر، أو فقد الذاكرة، فالإنسان شديد، الله هو الذي خلق الأشياء كلَّها لا يستغني عنه شيء.
الإنسان يُرَبِّي ابنه وعندما يكبر يستقل عن أبيه، وقد يغدو أقوى من أبيه وقد يغدو أغنى من أبيه، وقد يُصبح أبوه بحاجةٍ إليه.
الله الذي خلق كلُّ شيء، وكلُّ هذه الأشياء لا تستغني عنه.
الإمام الرازي له تعريفات أُخرى لاسم الصَّمَد يقول:
"الصَّمَد؛ هو العالم بجميع المعلومات".. هذه إشارة دقيقة.. فالإنسان إذا نقصته المعلومات ضعف وضعفت قوَّته، فأحد أسباب القوَّة؛ المعلومات الدقيقة.
فالإنسان إن كان يحتلَّ موقعاً قيادياً؛ إذا كانت معلوماته غير دقيقة، أو ناقصة، أو غير كاملة، يضعف مركزة، فأحد أسباب القوّة؛ أن لا يغيب عنك شيء.
وهذه صفةٌ لله عزَّ وجلَّ، فالإنسان قد يعلم شيئاً وقد تغيب عنه أشياء.
قل لمن يدَّعي في العلم فلسفةً حفظت شيئاً وغابت عنك أشياءُ
***
فالله سبحانه وتعالى من معاني اسم الصَّمَد:
أنَّه يعلم كلَّ شيء، ولا يخفى عليه شيء.
وقيل:
الصَّمَد؛ هو الحكيم..
أولاً:
يعلم كلَّ شيء، لكن مع هذا العلم أفعاله فيها حكمة، فالحكمة هي أحد الأدلَّة الكبيرة على وجود الله.. فقد يكون هناك أشياء متراجحة.. فإذا أنت خاطبت إنساناً فهل من الممكن أن ترفع الصوت إلى درجة ليسمع من مئتي متراً؟ فلا يكون هناك حكمة.
أو أن تهمس همساً من على بعد خمسة أمتار بحيث لا يسمعك، فلابدَّ من أن ترفع الصوت إلى درجة ليصله.
فتغيير الصوت بحيث يصل إلى السامع دون أن يتجاوزه كثيراً، ودون أن يقصِّر عنه؛ هذه هي الحكمة.
فالحكمة؛ وضع الأشياء في أماكنها.
والحكمة؛ أن تفعل الشيء المناسب، في الوقت المناسب، في القدر المناسب، للشخص المناسب على الشكل المناسب، فالله سبحانه صمد هو حكيم..
وقال:
الصَّمَد؛ "هو السيِّد الذي عظم سؤدُده"، أي مجدُه.
وقيل:
الصَّمَد.."هو الخالق للأشياء، فإنَّ كونه سيِّداً يقتضي ذلك".
تعريفات أُخرى للصَّمَد، فعندما يقرأ الإنسان في صلاته:
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)، هذه المعاني كلُّها ينبغي أن ترد إليه.
فالإنسان يتدبَّر في كلام الله عزَّ وجلَّ، ويتأمّل في المعاني الدقيقة التي يقرأها فيخشع قلبه، ويرقى إلى الله عزَّ وجلَّ بهذه المعاني.
قيل:
الصَّمَد؛ "هو المقصود إليه في الرغائب، المستغاث به عند المصائب".
وقيل:
الصَّمَد؛ "الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد".
الإنسان يشاء ولا يفعل، لا يستطيع، الله عزَّ وجلَّ وصف ذاته بقوله تعالى، فالإنسان يريد تحقيق قضيّة ما لا يستطيعها.
ما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يدركه *** تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ.
***
أما الله عزَّ وجل:
(فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) (سورة البروج).
فقد تجد إنساناً يحبَّك ولك عنده مكانة كبيرة، وتلجأُ إليه فيقول لك: والله لا أستطيع كان بإمكاني قبل هذا الوقت.
كان هناك شاغراً وظيفيّاً وقد سُدّ هذا الشاغر، كان هناك شخصاً أعرفه نقل من منصبه، على أنَّك أثيرٌ عنده يعجز عن مساعدتك.
الدين أساساً صلة بالله.
التجاء إلى الله.
وغير المؤمن يلتجئ إلى إنسان، يعني إمّا أن تكون عبداً لله، أو إمّا أن تكون عبداً لعبد الله.
فالله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وما دام يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه إذاً؛ هو المقصود، هو القوي، هو الغني، هو القهّار.