52- اسم الله: "القيوم"
=============
بسم الله الرحمن الرحيم
مع الاسم الثاني والخمسين من أسماء الله الحُسنى، والاسم هو: القيوم، والقيوم كما تعلمون وارد في الحديث الصحيح اسمٌ من أسماء الله الحُسنى.
لنستعرض أوّلاً معاني القيوم في اللغة:
فاللغة لها أصول، لها أصل ثلاثي مجرد "قوم" "وقيم" فالقيّم هو السيد المدبر للأمور، سائس الأمور، القيم تقول قيم المكتبة، أمينها، سيدها، من بيده أمرها.
دين القيّمة؛ الملة الحنيفية التي تتوافق مع الفطرة، والتي تميل النفس إليها، وعلامة أن هذا الدين دين الله أن النفس تميل إليه، وترتاح له، ويتوافق مع فطرتها، ومع خصائصها.
وفي النفس حاجة لا يرويها المال، ولا ترويها رفعة المكانة، ولا ترويها المتع، ولا ترويها الشهرة، لا يرويها إلا الإيمان بالله عز وجل والاطمئنان إليه، ومصداق ذلك يشير إليه قول الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) (سورة الرعد 28).
وإذا كان بالإمكان، أن ترتاح النفوس والقلوب، وأن تطمئن، وأن تسعد، وأن تستقر بغير الله، فهذا قد يكون حتى حينٍ قريب، لأن القلوب لا ترتاح إلا لدين الله سبحانه وتعالى، ولا تسعد النفوس إلا به، ولا تركن إلا إليه، ولا تشعر بالأمن إلا في ظله ولا تشعر بالفوز إلا بطاعة الله عز وجل.
توافق النفس مع الدين شيء عجيب، الإنسان قد يحوز الدنيا بأكملها، لكنه قلق، ضائع، مشتت، مبعثر، أما إذا عرف الله عز وجل اطمأنت نفسه وسكنت وارتاحت، وأمنت، وتفاءلت، واستبشرت واستشرفت، وارتفعت وكبرت.
دين القيّمة؛ دين الحنيفية، الذي تميل النفوس إليه، وتركن إليه، ولابدّ أنها قائلة: أنا بعد أن عرفت الله عز وجل سعدت بقربه، شعرت بالأمن شعرت بالطمأنينة، شعرت بالتوازن، وعلامة إيمانك أن تقول هذا الكلام وتردّده في أعماقك، ويوم القيامة مشتق من قيم، ومن قوم، وهو يوم البعث الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، قال تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) (سورة الصافات).
هل رأيتم مذنباً يُستجوب وهو جالس؟.. أبداً، يريد أن يقف: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾.
فيوم القيامة لشدة هول هذا اليوم يقف فيه الناس لرب العالمين، ليسألوا ليحاسبوا عن كل صغيرة وكبيرة.
والقيوم:
مبالغة من القائم بالأمر، إنسان مدير مستشفى مدير مؤسسة مدير معمل مثلاً، دوامه من الساعة الثامنة إلى الثانية ظهراً، ولكن هناك مدير امتزج حبّ هذا العمل مع دمه، يقتني سريراً بمكتبه وينام في مكتبه يسأل عن كل صغيرة وكبيرة، ويتابع كل أمر، ويضبط كل تصرف نقول هذا قيوم؛ مبالغة من قائم، وذو المبالغة في تدبير الأمور وفي تسييرها وفي تنظيمها؛ نصفه بأنّه قيوم.
فالقيوم، والقائم والقيم، هذه كلها من فعل ثلاثي، إما أن نقول قوِّم أو قيِّم، كلاهما صحيح، تقول قوَّم الأمر وقيَّم.
هذه اللغة، فما علاقة هذا الاسم بحقيقته؟
القيوم، هو القائم بنفسه مطلقاً لا بغيره، ما منا واحد على الإطلاق قائم بذاته، لا يدري ماذا يحدث بعد ساعة، ولا بعد دقيقة، لكن الله سبحانه وتعالى قائم بذاته وجودنا مفتقر إلى إمداد الله، إلى أن يسمح الله لنا أن نعيش ساعة أخرى، يوماً آخر، أسبوعاً آخر.
وجودنا ليس ذاتياً، لذلك من عدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت، الله جل جلاله، هو القيوم، أي قائم بنفسه مطلقاً لا بغيره هذا شطر المعنى.
الشطر الثاني يقوم به كل موجود، كل شيء موجود في الكون قائم بالله، "كن فيكون" "زل فيزول"، إن رأيت الشمس طالعة فالله سمح لها بذلك، وأن تبقى فهي طالعة، وهي باقية بأمر الله.
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) (سورة التكوير).
إن رأيت إنساناً أمامك، وهو واقف يحدثك، فلأن الله سمح له أن يبقى حياً، فالله قائم بذاته، وكل موجود قائم به إطلاقاً.
لذلك يرتكب الإنسان خطئاً فاحشاً إذا قال أنا، أنت لا شيء، أنت شبح، إذا سمح الله لك أن تعيش يوماً عشته، وإن لم يسمح لك فلن تعيش، هذه الحقيقة مهمة جداً.
كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ من نومه يقول:
((الحمد لله الذي ردَّ إليَّ روحي وعافاني في بدني وأذن لي بذكره)).
لذلك المؤمن دائماً يرى هذه الحقيقة:
أن قيامه بالله، وجوده بالله، استمرار وجوده بالله، دقق وتأمَّل فأنت تتمتّع بعينيك، لأن الله سمح لك بذلك، تمتعك بأذنيك، تمتعك بلسانك، تمتعك بفمك، تمتعك بعقلك، بجهاز هضمك، بجهاز دورانك بدسامات قلبك، بشرايين قلبك، تمتعك بكليتيك، تمتعك بكل خلية في جسمك، بإذن الله وإمداده وموافقته.
لذلك أجمل كلمة في تعريف القيوم:
القائم بنفسه مطلقاً لا بغيره وهو مع ذلك يقوم به كل موجود.
قال العلماء:
لا يُتصور وجود شيء ولا دوام شيء إلا به أجل لا وجود ولا دوام إلا بالله تعالى فبربكم إذا كان كل شيء موجوداً بقيوميته، وإذا كان كل شيء مستمراً بقيوميته، فهل علاقتك مع القائم به كل شيء أم مع الذي لا يملك من أمره شيئاً؟ هنا يكون التوحيد.
إذا أنت أرضيت إنساناً "وقيامه بالله" وعصيت الخالق وهو القيوم، عصيت الذي إن أراد له الفناء فني فوراً، وأرضيت الضعيف الفاني فأنت في ضياع لذلك فالحي القيوم، به حياة كل شيء وقيامه.
حتى لا يتُصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به، وقيل: القيوم هو الباقي الذي لا يزول، قيل: هو المقيم للعدل القائم بالقسط، قيل القائم بنفسه الغني عن غيره الذي لا ينام.. هذا معنى الله لا إله إلا هو الحي القيوم.
الإنسان المثقف المؤمن، لا يليق به أن يقرأ القرآن هكذا دون تدبّر، يقول قائل: اقرأ آية الكرسي فهي مفيدة.
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾
ألا ينبغي أن تعرف مَنْ هو القيوم.. يقوم به كل شيء، وكل شيء مفتقر في وجوده واستمراره إليه، يحتاجه كل شيء في كل شيء، فإذا أيقنت بهذه الحقيقة، هل تلتفت إلى القيوم أم إلى الذي يقوم وجوده بالقيوم؟ قطعًا.. إلى القيوم..
القيوم هو القائم بتدبير أمر خلقه، فبالإضافة إلى أن وجودك قائم بالله، وإلى أن استمرار وجودك قائم بالله، هناك معنى ثالث.. هو القائم برزق العباد، وأنت نائم، الأمطار تهطل، الرشيم يتحرك، المعادن تنحل والجذر ينمو، والقلنسوة تحفر الصخر، والماء أُذيبت به المعادن، صعد إلى عروق الشجر، انعقد الزهر، نمت الأوراق، انعقد الثمر وأصبح ثمراً يانعاً.
المؤمن إذا أكل تفاحة أكل عنباً أكل تيناً، أية فاكهة يأكلها يجب أن يرى يد الله التي صنعتها، أنت ماذا فعلت، زرعت البذرة، وسقيت التربة وسمدت، فمن جعل الرشيم ينمو، ولابد من أن نعرف، ضع حبة فاصولياء في قطن مبلل وراقبها، بعد يوم أو يومين ينبت الرشيم ثم ينمو الساق ثم ينمو الجذير، اضغط على هذه الحبة.. تراها فارغة، هذا الغذاء كافٍ لنمو الرشيم والجذيع والجذير، ثم تأخذ الغذاء من التربة، هذا خلق الله ظاهرة النبات وحدها أكبر آية دالة على عظمة الله.
القطن نبات، السواك نبات، الخلة نبات، الليف في الحمام نبات الأصبغة نباتات، الأدوية نباتات، الأثاث نباتات، الأشجار المثمرة نباتات، وكذلك الخضار والفواكه، فكلمة "نبات" كلمة تلفت النظر.
إذاً:
القيوم فضلاً عن أنه قائم بذاته، يقوم به كل موجود، يعني ما كل كائن حي فقط بل كل موجود، الشمس موجودة، القمر الجبال البحار.. يقوم به كل موجود ويستمر به كل موجود.
والمعنى الإضافي أن الله قائم بتدبير أرزاق العباد.
تأمّل في استهلاك العالم في اليوم الواحد من اللحم كم دابة؟.. هذه الدواب تتوالد، إستهلاك العالم من الماء كم في اليوم؟ هذا الماء أساسه أمطار وأنهار وينابيع، إستهلاك العالم من الخضار والفواكه؟ يا ترى كم ألف طن من الحمضيات ينتج في العالم، نحن بلد متواضع لدينا ساحل ضيق، عندنا تسعون ألف طن من الحمضيات تم تصديرها خارج القطر من الحمضيات، فإنتاج العالم كله من الحمضيات سنويا كم؟.. إنتاج العالم كله من الموز كم؟.. معدّل نهر الأمازون ثلاثمائة ألف متر مكعب في الثانية، هذه المياه من أين جاءت؟ الغابات، الأخشاب التي يستهلكها النجارون في العالم من أين؟ من الغابات، مَنْ أمَدَّ الغابات بهذه الأخشاب؟ الله جل جلاله.
الحديد، أطنان الحديد في العالم من أين جاءت؟ من الفلزات، مَنْ أودع في الأرض هذا المعدن النافع؟
قال تعالى:
﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) (سورة الحديد).
فكل إنسان مدْعو إلى أن يفهم أنّ الله سبحانه وتعالى هو القيوم، ولابدّ من فهم واسع وشامل لصفة القيوميّة فهو الذي يدبر أمر الخلق كلّهم بشرًا وحيوانًا ونباتًا بتأمين أرزاقهم، وحاجاتهم، وزروعهم، ومياههم.
وقال مجاهد:
القيوم هو القائم على كل شيء، قال تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) (سورة الزمر).
الخلق كلّهم في قبضته، وليس من مخلوق جامع، فقد تتصور أن الأمور متفلّتة ويبدو لك أنّ فلانًا قلبه قاس، وأنّ يده طولى، وهو سيّد نفسه فالله مالكه، وقياده بيد خالقه، وأوضح آية في هذا.
قال تعالى:
﴿مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) (سورة هود).
حيوان شرس، حيوان مخيف، عقرب، أفعى، هذه الحيوانات المؤذية تتحرك بأمر الله، وكل مخلوق يتحرك بإرادة الله سبحانه وتعالى وليس له إرادة مستقلّة.
لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، القائم على كل شيء هو الله القيوم.
وقال بعض العلماء:
"القيوم هو القائم على خلقه، بآجالهم وأعمالهم وأرزاقهم"، "إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، واستجملوا مهنكم"، "كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرب أجلاً."
وقيل:
"القيوم هو المُدَبِّرُ المتولي لجميع الأمور التي تجري في الكون" فإذا سمعت خبر فيضان، خبر زلزال، خبر إعصار، خبر انهدام تفشّي مرض، تفشي وباء، حرباً أهلية قامت بين فئتين، أليس لله علاقة بهذا الشيء؟، قنبلة ألقيت على هيروشيما، أليس لله علاقة بهذه القنبلة؟ بلى، وألف بلى!
والقيوم لا شيء يقع في الكون إلا بأمره، ومشيئته، وإرادته وحكمته وقدرته، وعلمه وتدبيره.
يقول الله في القرآن الكريم:
﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) (سورة الأنعام).
قد تتجوّل بالخريف في بستان فترى ورقة زيتون سقطت، فاعلم أيّها القارىء أنّ الله تعالى في القرآن الكريم يقول: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
فما قولك فيما فوق الورقة، سقوط ورقة يعلمها، سقوط قنبلة، طبعاً هذه أهم، يعلمها، الإنسان متى يرتاح؟.. إذا شعر أن الأمر كله بيد الله، وأن الله قادر وعادل ورحيم وحكيم، وأنت في ظله، وأنت في رعايته، منحك الأمن، والأمن نعمة لا تُقدر بثمن.
وقيل: القائم على كل نفس بما كسبت، يحاسب كل إنسان حساباً دقيقاً، قيوم.. الغشاش له معاملة، والصادق له معاملة، والخائن له معاملة، والمتقن عمله له معاملة، وغير المتقن له معاملة.
سمعت عن أخ عمل مهندساً في بعض دول الخليج، أخلص إخلاصاً منقطع النظير، أعطاه مَنْ يعمل عنده راتباً فلكياً، ثم شعر أنه ينبغي أن يستقر في بلده إلى جوار أمه وأبيه، فترك وعاد إلى بلده، ذهب زيارة طارئة لذلك البلد الخليجي لإجراء بعض المعاملات، فعرض عليه من كان يعمل عنده أن يقيم شهراً في الخليج وشهراً في موطنه، وعشرة آلاف درهم في الشهر يقدر بمائة وخمسين ألف ليرة تقريباً، وبيت مفروش، السبب في كل هذه المغريات والتنازلات استقامته، وإخلاصه وتفانيه في خدمة عمله، سبحان الله "البر لا يبلى، والذنب لا يُنسى والديان لا يموت".
والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
((الأمانة غنى)).
طبعاً من معانيها الضيقة ألاّ يأكل الإنسان مالاً حراماً.. ومن معانيها الواسعة، أن تكون أميناً في عملك، أميناً في اختصاصك وأماينًا في كلّ شيء... فمثلاً إنسان لا يحتاج إلى عملية إطلاقاً، يقول له طبيب غير أمين وغير مستقيم: إذا لم تجر العملية بعد يومين تموت، ويأخذ منه مبلغ أربعمائة وخمسين ألف ليرة، وهو لا يحتاج إليها إطلاقاً، هذا ليس أميناً على اختصاصه.