أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: 37- اسم الله: "المحصي" السبت 04 نوفمبر 2017, 12:34 am | |
| 37- اسم الله: "المحصي" ============== بسم الله الرحمن الرحيم مع الاسم السابع والثلاثين من أسماء الله الحسنى، والاسم هو المحصي قال الله عز وجل في القرآن الكريم: "لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94)" [مريم: الآية 94].
أذكر القارئ الكريم بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وطالما ذكرته في أبحاثي: ((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ )) [رواه البخاري ومسلم].
يتوهَّم المتوهِّمون أن الإحصاء هو العد؛ فمن عدَّها دخل الجنة، وهذا خطأ في فهم كلمة أحصاها، وهناك قاعدة وهي أن الشيء العظيم لا يصح أن يتوقف على شيء ضعيف، فهذه الأحاديث ليست صحيحة، فدخول الجنة التي خُلق الإنسان من أجلها والتي كُلِّف أن يعرف اللهَ وأن يستقيم على أمره لا تكون فقط بِعَدِّ هذه الأسماء، فليس معنى الإحصاء هو العد، وهناك قاعدة في اللغة وهي: الاختلاف في المبنى دليل على الاختلاف في المعنى، قال الله: "لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94)".
فالعد شيء والإحصاء شيء آخر، فالعد معروف تقول: عندي ثلاثون كتاباً، أما الإحصاء أن تقول: قرأت كل هذه الكتب وفهمتها صفحة صفحة قيَّمتها، وعرفت أخطاءها وصوابها وفوائدها؛ فالإحصاء يعني العِلم الدقيق، ولو سألت عن عدد الموظفين في مؤسسة وقيل لك: مئة وثمانون فهذا عدٌ، أما إن ذُكِرتْ لك أوصافُهم؛ قدراتهم وكفاءاتهم أوضاعهم المعاشية، والاقتصادية والفكرية صار إحصاءً، فالإحصاء هو الذي يفيد العلم، فالمحصي هو اسم متعلق بعِلم الله عز وجل، لكن هناك مع الإحصاء جزئيات و تفاصيل ومعلومات دقيقة جداً، فالذي يملك معلومات كلية وإجمالية شمولية شيء، والذي يملك أدق المعلومات مع فروعها شيء آخر، فهذا الأخير هو الإحصاء، لذلك قالوا الإحصاء هو الإحاطة بتفاصيل كثيرة للأشياء وليس هو التعداد، وإذا قلت هذا أمر لا أحصيه أي لا أطيق ضبطه، والله سبحانه وتعالى هو المحصي الذي يحصي الأعمال و يعدها يوم اللقاء، فالإنسان لا يستطيع أن يعد كم يوماً عاشه وكم نزهة قام بها وكم كلمة لفظها لكن الله سبحانه وتعالى يعلم كل أعمالك بدقائقها وتفاصيلها ومناسباتها ودوافعها وأهدافها، كل هذا تراه يوم القيامة رأي العَيْن وهذا هو معنى المُحصي.
الله هو المُحصي أي هو الذي يحصي الأعمال ويهيئها بتفاصيلها ليوم القيامة أو ليوم الحساب أو ليوم الجزاء أو ليوم الثواب والعقاب، وقيل المحصي هو العليم بدقائق الأمور وبأسرار المقدور، هو بالمظاهر بصير وبالبواطن خبير، وهو المحصي للطاعات والمحصي لجميع الحالات والمحصي لأنفاس الخلائق والخبير بخفي الوساوس وهو العليم بجميع الموجودات وعدد حركاتها وسكناتها وشؤونها، قال تعالى: "وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)" [الأنعام: الآية 59].
فالإنسان إذا أيقن أن الله عز وجل يحصي عليه كل حركاته وكل أنفاسه وكل أفعاله وكل وساوسه وكل ما تنطوي عليه نفسه من نوايا وبواعث وأهداف وصراعات كان شأنه مع الله شأناً آخر، الإمام الغزالي يرى أن المُحصي هو العالم -فأدق المعلومات وجزئياتها إذا أضيفت لعِلم الله عز وجل صار الاسم هو المُحصي، والمُحصي هو المطلق الذي ينكشف في علمه حدُّ كل معلوم.
أحيانا تسأل شخصاً سؤالاً فيقول لك: لا أعرف، وآخر تسأله عن تقدير عدد الطلاب مثلا فيقول لك: لابد من أن أراجع السِّجلات، فأكثر الناس لا يستطيعون طبعاً إذا كانوا صادقين الإدلاء بمعلومات دقيقة، لأنهم يفتقرون إلى سجلات ومحاسبين، لكن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء بدقة.
العبد إذا أمكنه أن يُحصي بعلمه بعض المعلومات فهو يعجز عن أكثرها، قال الله تعالى: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا".
ولم يقل اللهُ تعالى وإن تعدوا نِعَمَ الله وإنما جاءت بالمفرد، والسؤال هل النعمة الواحدة تُعد؟
استنبط العلماء أن النعمة الواحدة لو أمضيت كل حياتك تَعُدُّ خيراتها وبركاتها ومنافعها تنقضي حياتك ولا تنقضي منافعها، فهذا من إعجاز القرآن الكريم: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ".
فأنتم عاجزون عن إحصائها فلأَنْ تكونوا عاجزين عن شكرها من باب أولى، كلكم يعلم أن الإنسان إذا رُزِق مولوداً تتابعت الهدايا الكثيرة يتمكن بسهرة واحدة أن يُحصي مجموع هذه الهدايا، أما مكافأة أصحاب هذه الهدايا يحتاج إلى مال كثير، وإلى جهد كبير، وإلى أمد طويل، ففرق كبير بين إحصاء هذه الهدايا وبين المكافأة عليها، فربنا عز وجل أثبت لنا عجزنا عن عد النعم فما بالُكم عن شكر النعم!
فأنتم عاجزون عن إحصائها فلأَنْ تكونوا عاجزين عن شكرها من باب أولى، لذلك فالإنسان في موضوع الإحصاء يبدو ضعيفا جداً، فأيُّ مدير مثلاً أراد أن يتخذ قراراً دقيقاً في مؤسسة يحتاج إلى طاقم من المحاسبين والمستشارين، فمعنى الإحصاء في حديث رسول الله هو العِلم، ((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ)) [رواه البخاري ومسلم].
وقيل المُحصي هو المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً لا تخفى عليه خافية لا في الأرض ولا في السماء، وقال بعض العلماء المحصي هو الذي بالظاهر راقب أنفاسك وبالباطن راقب حواسك، وقيل المحصي هو الحافظ لأعداد طاعتك العالم بجميع حالتك، فأنت أمام الله مكشوف ولا تخفى عليه من خلقه خافية أبداً.
"وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا".
فمن باب أولى كل حركاتك وسكناتك بعلم الله عز وجل، فلما أمر الله عز وجل أم موسى رضي الله عنها أن تلقي ابنها في اليَمِّ، كانت حركات الموجات وحركة الصندوق بعلم الله عز وجل وسَوْقه للشاطىء كان بعلم الله عز وجل، ونزول امرأة فرعون بالذّات في هذه اللحظة بعلم الله عز وجل، فهذا هو الإحصاء؛ علمٌ بالدقائق والتفاصيل، فأكثر الناس علمهم بالكليات والإجمال أما التفاصيل فيقول لك لا أعرف، فتركيب الدواء مثلا يمكن أن يقال عنه هو نافع لكذا، أما عن تفاصيله فعليك الرجوع إلى التعليمات الموجودة بالوصفة، إذاً العالم بالدقائق هو الذي يستلزم اسم المحصي.
الإمام الرازي يقول: إن هذا الإحصاء راجع إلى علم الله سبحانه وتعالى بعدد أجزاء الموجودات وعدد حركاتها وسكناتها: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)" [هود: الآية 6]، فالدَّابة وردت نكرة في الآية، والتنكيرهنا تنكير شمول، أيُّ دابة على وجه الأرض؛ نملة، حشرة جرثومة، فيروس، الذي لا يُرى حتى بالمجهر الإلكتروني، فأي شيء يدب على وجه الأرض فهو دابة، فكلمة: مِن تفيد استغراق أفراد النوع، دابةً دابةً استقصاءً، رزقها على الله ويعلم مستقرها ومستودعها، هذه الدابة أين مستقرها ومستودع رزقها؟ إذا كان رزقها قمحاً فأين هو؟ بالجزيرة مثلا أو ببلد ما أو مستورد؟ يعلم مستقرها ومستودعها هذا هو المحصي.
ومن المعاني المهمة لكلمة المحصي هي: أن الله عز وجل يحصي لك أعمالك؛ الصالحة والطالحة فكل شيء مسجل خيراً وشراً، أعمالك الجليلة مسجلة والصغيرة مسجلة، وهذا المعنى يجعلك إذا أحسست أنك مراقب وكل حركاتك مسجلة فهذا يستدعي أن تكون منضبطا، ونقف عند بعض الآيات التي ورد فيها لفظ المحصي، علما أن كلمة المحصي لم ترد في القرآن الكريم ولكن وردت مادة الإحصاء وفي مواضع كثيرة.
ففي سورة مريم: "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94)" [مريم: الآية 93-94].
في سورة يس: "إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)" [يس: الآية 12].
وفي سورة النبأ: "وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29)" [النبأ: الآية 29]، فكل هذه الآيات ورد فيها فعل الإحصاء.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأربعاء 28 أبريل 2021, 3:10 pm عدل 1 مرات |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: 37- اسم الله: "المحصي" السبت 04 نوفمبر 2017, 12:37 am | |
| لذلك حظ العبد من هذا الاسم هو: أنه متى علم أن الله يحصي عليه كل حركاته وسكناته وخواطره وأنفاسه ونواياه شعر أن الله عز وجل بالمرصاد، وعليه أن يكون في وضع يستحي فيه من الله عز وجل، فيجب أن تراقب قلبك، ولتعلم أن الله عز وجل يراقبك، لذلك سيدنا عمر يقول: " فتعاهَدْ قلبك"، فنحن دائما نتعاهد أجسامنا، بحيث نسرع لوقاية أيّ عضو أُصيب، أما المؤمن فإنه يتعاهد قلبه كذلك ويخشى أن يرى الله عز وجل في قلبه شيئاً لا يُرضيه، ولذلك قالوا القلب منظر الرب، وفي الحديث القدسي: ((عبدي طهرت منظر الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة)).
ومن الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمن أن يحصي هو أيضاً أخطاءه ويحصي أفعاله ويحصي أيامه، ويحصي نِعَمَ الله عليه، فهناك شخص أعرفه يسجِّل أخطاءهُ ليستغفر الله عز وجل عند تذكرها ويُقابل كلّ خطيئة بِعَمل صالح، مع أنّ الإحصاء بين العبد والربّ فيه فرق وبَون شاسع، ولكن يجب أن تُعلِّمَ نفْسك أن تُحصي أيَّامك، يقول: مضى من عمري كذا، فهل بقي لي بِقَدر ما مضى؟!
واللهِ هذا سؤال دقيق ونافع جدا، وهو سؤال محرِج؛ كيف مضَتْ هذه السنوات الأربعون، أو الثلاثون، إذًا مضى من عمري أكثر ممَّا بقي، وهذا الذي مضى كلمْح البصر، فالذي بقي أقلّ، فكيف أشغل هذه الأيام والليالي؟ كيف سأُنظِّم برنامجي؟، وكيف سأطلب العلم؟ وما العمل الذي سألقى به الله تعالى؟ فالعبد إذا أحصى أخطاءه واستغفر الله منها كان هذا حافزاً لطاعة ربه وابتعاده من الغفلة، بعضهم دعا ربه سبحانه وتعالى فقال: إلهي أنت المحصي لحركات العباد والمحيط بعمل أهل الجفاء وأهل الوداد أحصيت جميع الأسرار في الإنسان وجمعت فيه سائر الأكوان، اكشف عن قلوبنا الحجاب حتى نشهد في أنفسنا أنوار المعطي الوهاب وامنحنا نور المراقبة حتى نراقب جميع أعمالنا ونحصي سائر أحوالنا إنك على كل شيء قدير.
الحقيقة أن أسماء الله الحسنى مهما تحدثنا عنها فلن نفيها حقّها لأن الله عز وجل لا نهاية لكماله، فمن أسماء الله الحسنى الأخرى: الحفيظ ربنا عز وجل قال: "وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)" [سبأ: الآية 21].
اخترت هذا الاسم مع الاسم الأول لشدة العلاقة بينهما، فالله سبحانه وتعالى حفيظ؛ حفظ لنا القرآن الكريم قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)" [الحجر: الآية 9].
وهذا من النعم العظمى، تقرأ القرآن وأنت واثق أنه كلام الله حقاً، فالله هو الذي تولّى حفظه حتى إنه قيل: لو أن الإنسان أخطأ في القرآن لصاح به الصبية في كل مكان، فهو المنقول بالتواتر، وحِفْظ الله له جعله مصونا عن تحريف المبطلين مهما كانت قوتهم، سمعت مرة أن الأجانب طبعوا خمسين ألف نسخة في تركيا وحذفوا كلمة واحدة وهي قوله تعالى: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)" [آل عمران: الآية 85].
حذفوا كلمة [غير] فجُمعت كل تلك النسخ وحرِّقت وهذا من تولِّي حفظ الله للقرآن الكريم، وحفظ الله هذا القرآن بأن سخر له علماء أجلاء، قوله تعالى: "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: الآية 11].
"يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ". فهذا حفظ الله للإنسان كذلك بالإضافة لحفظ القرآن بأن سخَّر له ملائكة يحفظونه وربنا عز وجل يقول: "إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)" [هود: الآية 57].
والنبي عليه الصلاة والسلام علّمنا أن نقرأ قبل النوم آية الكرسي وقال: ((لا يزال عليك من الله حافظ ))، فقد تصيبك أخطار بالليل فالله هو الحافظ.
ومعنى حفيظ كذلك: يحفظ الأعمال قال تعالى: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ".
وهذا المعنى الثالث وهناك معانٍ أخرى في قوله تعالى: "وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ".
وقوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)" [فاطر: الآية 41].
فهو سبحانه الذي يحفظ الوجود من الاضطراب ثم العدم،خلق الكون ويحفظ بقاءه وهذا هو معنى قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ أَنْ تَزولا"، ومَن يحفظ للأرض توقيتها ومسارها؟ هو الله جل جلاله.
وهو الذي يحفظ لك دينك ولو تخلى عنه لزلت به شبهة أو شهوة، فسلامة دين المرء دليل على حفظ الله له من كل سوء، ومن معنى الحفيظ: الوكيل، قال تعالى: "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) [هود: الآية 57].
فمعنى الحفيظ ومعنى المحصي تجمعهما قواسم مشتركة، فالحفيظ حفظ لك القرآن الكريم، والحفيظ حفظك من شر ما خلق، ألا تقرأ قوله تعالى: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)" [سورة الفلق].
فعلى المؤمن أن يُعوِّد نفسه قراءة المعوذات كل يوم، لكن هل هناك فرق بين الاستعاذة بالله واللياذ بالله؟
فالاستعاذة: من الشر. واللياذ: في الخير، لاذ بالله ليرزقه طفلاً، لاذ بالله ليرزقه رزقاً حسناً واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، فالعياذ من الشر واللياذ في الخير، الإنسان يستعيذ أحياناً من الشيطان الرجيم ولا يرى نتيجة لهذه الاستعاذة فكيف نُجيبه؟ فالاستعاذة ليست مجدية إلا إذا كان القلب حاضراً، فإذا كانت الاستعاذة لفظية فهذه لا تقدم ولا تؤخر، وربنا عز وجل يقول: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)".
فهناك مخلوقات شريرة، يحمل الإيدز بأمريكا مئتان وأربعون ألف شخص مات منهم مئة وأربعون ألفاً، ومليون إنسان يحملون هذا المرض في مختلف أصقاع الأرض فهذا من شر ما خلق، ويقدرون أنه بعد خمس سنوات أو عشر سيصبح الرقم فلكياً، ولا يشغل العالم الغربي اليوم إلا هذا المرض، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا...)) [رواه ابن ماجه].
"فما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يُعلنوا بها إلا أصابتهم الأسقام التي لم تكن في أسلافهم"، النمو العشوائي للخلايا هو كذلك من الأمراض المزمنة التي تُحيِّر العلماء، فهذا مَنْ يحفظك منه؟ فاللهُ خيرٌ حافظًا.
الإمام الغزالي يقول: المؤمن يجتهد أن يحفظ نفسه من اتباع الشبهات والبدع، فحظك من هذا الاسم أن تحفظ نفسك من الشبهات والبدع، والبدع جدُّ خطيرة، وأخطر من هذا أن تحمل عقائد ليست صحيحة، فخطأٌ في العقيدة يَنسحب على جميع أعمالك، فالمؤمن دائماً مع مراجعة نفسه، فالحفظ هنا هو حفظ نفسك من العقائد الزائغة، وكذلك أن تحفظ جوارحك من المعاصي والآثام، ومما يدفع المرء للمعصيةِ الشهوةُ والغضب، فهما سبباً الطغيان.
فالزنا معصية كبيرة جداً، ذكره الله تعالى بين موتين، قال تعالى: "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68)" [الفرقان: الآية 68].
فجاء نفي الزنا عن المؤمنين بين النفي عن قتيلين فالزنا كالقتل تماماً، وكيفية التخلص من هذا هو البعد عن أسباب الزنى وليسَ الزنى؛ وأسباب الزنى الخلوة والمصافحة والاختلاط والنظر هذه كلها تجعل بينك وبين الزنا هامشاً أمامياً، إذاً قوام الأمر حفظ النفس من عقائد مضلة والجوارح من أسباب الشهوات.
ذكر الله في القرآن عبداً من عباده اتصف باسم الحفيظ؟ قوله تعالى: "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)" [يوسف: الآية 55].
فحينما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((تخلّقُوا بأخلاق الله))، فهذا من التخلّق بأخلاق الله، فالمؤمن من علاماته الحفظ ألا يضيع ما تحت وغير المؤمن من علاماته التَّيْه قال الله تعالى: "وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) [الكهف: الآية 28].
فالمؤمن فطِن وكيِّس قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ" [النساء: الآية 71].
إن الحفيظ هو الذي هداك إلى التوحيد وخصك في الخدمة بأنواع الحفظ والتسديد، إذا هداك الله إلى التوحيد وجعلك ممن تخدم الخلق فهذا من كرم الله عز وجل وتحقيقاً لاسم الحفيظ.
وقيل أيضاً: الحفيظ هو الذي صانك في حال المحنة عن الشكوى، وفي حال النعمة عن البلوى، فإذا راجت تجارتك فاحفظ دينك، وإذا كسرت فاحفظ مالك، ويحفظ الله المرء من الشياطين إذا استعاذ به المستعيذ، سيدنا موسى حينما رأى هذا القبطي وقد اعتدى عليه المعتدون قال: إن: "هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ".
في بعض الأحيان يقوم بعضهم بارتكاب جريمة من أجل شيء زهيد، وعلى هذا يجب على الإنسان أن يستعيذ من ساعة الغفلة عن الله عز وجل، فالحفيظ يحفظ لك عقيدتك وجسمك وأهلك ومالك.
وهذا معنى آخر من معاني الحفيظ: أن الله سبحانه وتعالى لا ينسى قال تعالى: "لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى"، فالإنسان قد ينسى ولكن الله تعالى مُنزَّهٌ عن ذلك.
الحفيظ أيضاً هو الذي يقوم بالرعاية والعناية.
بعضهم قال: يا حافظاً لـــــــــوجود العالمينــا فما يحيد عن غاية نقضها خسرانا وحافـــــــظ الخلق أن يلقوا بأنفسهم إلى الهلاك زُرافات ووحــــدانا خلقت فيـــــــهـم عيونا يبصرون بها وقد خلقت بهم للسمـــــع آذانا لو لم تكن أنت يا رباه حافظهم لم تشهد الأرض فوق الأرض إنسانا *** العين حفظها الله لنا، موضوعة في مكان محفوظ وآمن، افرض لو أنها وضعت على الجبين لفُقِئت منذ أول سقطة يسقطها الإنسان فسبحان الله الذي وضعها في مكان حصين مكين، كذلك الجمجمة بمفاصلها المتداخلة،الشرايين مكانها داخلي والأوردة مكانها خارجي فلو عُكس الأمر لصار الضغط عالياً فكل هذا من حفظ الله.
إذا جاع الإنسان؛ السبب الوحيد لجوعه هو: افتقاد كمية من السكر في الكبد وليس في الدم بديل، فلو جاء خبرٌ مفزعٌ لهذا الجائع لزال عنه الجوع، فمن حفظ الله لنا أنه جعل لنا الإحساس بالجوع يبدأ عندما تنقص كميات السكر في الكبد.
ومن حفظ الله لنا أنه جعل لنا في العظام أعصاباً حسية، فلو انعدمت لمشى الإنسان بعد انكسار رجله الكثير دون أن يشعر حتى تقطع رجله، وهذا من نعمة الله أن جعل لنا أعصاباً حتى إذا أُصبنا تُرسل تنبيهات أَلَم كي نبقى على حالنا ولا نتحرك وكي يسهل العلاج بعد الكسر.
ومِن حفظِه أن جعل كل الأطعمة السامة مُرَّةً، فجسمنا يحمل مناعةً تحارب الجراثيم، فلو أمعن المرء النظر إلى جسمه لكفاه أن يدرك حقيقة حفظ الله لنا. والحمد لله رب العالمين. |
|