بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي منَّ علينا بنعمه التي لا تحصى، وأسبغ علينا آلاءه التي لا تُجزَى، وجعل لنا دينًا قويمًا، وشرع لنا صراطًا مستقيمًا، وبعث فينا نبيا فكان بنا رحيما، وصلى الله على خير خلقه، صفيه وخليله محمد بن عبد الله وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فقد كنت كتبتُ كتابًا في حكم الرطوبة، تفضلت بطباعته ونشره دار الوطن مشكورة، وقد لقي إقبالاً كبيرًا لأنه لامس حاجة ملحة، فطبعت الطبعة الأولى ونفدت في شهرين، ثم طبع ضعف العدد طبعة ثانية فنفدت، وأمسكت عن إعادة الطباعة إلى حين الانتهاء من إجراء التعديلات التي كنت أود تعديلها سواءً بما استفدت من ملاحظات بعض طلبة العلم، أو مما ظهر لي من أسئلة القراء أو مما تبين لي أثناء القراءة والاطلاع والبحث، فرأيتُ تغيير الكتاب كلية فحذفتُ منه وأضفتُ إليه بما أظنُّ أنه أنسب وأفضل، وأضفتُ مباحث رأيت مسألة النساء تكثرُ عنها، ومع تأخري في إعداد بهذه الصورة ظل يتابعني هاجس الخطأ، ولكن كثرة إلحاح النساء علي وعلى دار الوطن جعلني أقدم على نشره مرة أخرى، ومع أني تحريت وجه الحق قدر استطاعتي إلا أنه لا يزال النقص والعور يعتري أعمال البشر، فالله أسأل أن يجزي خيرًا كل من أفادني، وعلى رأسهم شيخنا الفاضل العلامة الذي أعطانا الكثير محمد بن صالح العثيمين رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه وجعله من الأبرار.
ثم أشكر تلميذه الشيخ الكريم علي بن محمد نور الذي أمدني بملحوظاته فاستفدت منها وعدلتُ ما اقتنعت به ووافقته عليه.
وأسأل الله الكريم أن يتغمد بواسع رحمته أخانا الدكتور عبد الرحمن الجمهور على ترجمته للكتاب باللغة الإنكليزية، وأثني على مؤسسة سليمان الراجحي التي تولت طباعة الكتاب باللغة الإنكليزية ونشره وتوزيعه.
بارك الله في جهود الجميع وتقبلها منهم أجمعين.
مقدمة كتاب حكم الرطوبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن مما يشكل على النساء مسائل الطهارة، ويحترن فيها ويقعن كثيرًا في الوساوس أو الأخطاء، إما بسبب الجهل أو بسبب عدم الاهتمام.
وإن كانت مسائل الحيض والاستحاضة والنفاس جل استفتاء النساء ومدار اهتمامهن الفقهي، فهو بلا ريب مدعاة للبحث والاستقصاء، بيد أن أكثر هذه المسائل مبسوطٌ في الكتب القديمة والحديثة، وفي المسائل من الأدلة ما يجليها فلا يجعل في النفس شكًّا ما دامت مستندة إلى دليل شرعي صحيح.
والذي تجدر الإشارة إليه أن أكثر أسئلة النساء في هذا العصر عن الرطوبة التي تخرج من القُبُل فالسؤال عن نجاستها، وعن نقضها للوضوء، وهي مسألة قد بحثتُ فيها منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، وكنت قد اكتفيتُ بما توصلت إليه لنفسي رجاء أن يكفيني أحدُ العلماء أو طلبة العلم تجلية هذه المسألة بما يشفي، استقصاء للأدلة ولآراء أهل اعلم، ولكن لم أطلع إلى هذه الساعة في هذه المسألة على شيء عدا فتاوى لبعض العلماء - حفظهم الله ( )، وهم:
سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز.
وفضيلة الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين.
وفضيلة الشيخ/ صالح الفوزان.
والفتاوى المذكورة لم يستند فيها على دليل من الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة أو التابعين.
وبعد ترددٍ طال، ألحَّ علي بعض الأخوات بنشر هذا البحث، وكنت أتوانى وأستحيي من التقدم في مسألة كهذه لم تُطرق من قبل إلا لمامًا، وطال التواني سنوات حتى شرح الله صدري للكتابة في الموضوع، سيما وقد كنت عرضت المسألة على فضيلة الشيخ / محمد ناصر الدين الألباني قبل أكثر من عشر سنوات، فوافقني وأيد ما اخترتُه من رأي.
على أي حال: رأيت أن أنشر هذا الموضوع بعد عرضه على عدد من العلماء، لئلا أستأثر به بنفسي وأتحمل تبعته وحدي، وإن كنتُ مؤمنةً بما سلكتُه من منهج، وهو منهج أئمتنا وفقهائنا الأقدمين والمحدثين من السلف والصالحين.
فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي والشيطان، والله المستعان وأستغفر الله عما كان ( ).
أهمية الموضوع:
لا تخلو مسلمةٌ من الحاجة لمعرفة هذه المسالة؛ لأنه أمر يصيب الجميع من النساء، وهو خلقة فطر الله النساء عليها، وليست مرضًا ولا عيبًا ولا نادرًا، يقول ماكسين ديفز: «والإفراز إذا كانت كميتُه معينة فإنه يُعتبر طبيعيًّا، لأن سطح المهبل كأي سطح مخاطي آخر بالجسم، يجب أن يظل رطبًا، وتختلف كمية الإفراز باختلاف أفراد النساء، ولكل امرأة نظرتها الخاصة بالنسبة له، فالبعض يشتد فزعهن عندما يلاحظن إفرازًا خفيفًا يؤكد الطبيبُ لهن أنه طبيعي، بينما تتجاهلُ نساءٌ أخريات إفرازًا ينظر الطبيب إليه بعين الارتياب على أنه شاذ».
فقول: إن بعض النساء يصيبهن وبعضهن لا يصيبهن غير صحيح، فالذي يصيب بعضًا دون بعض هو السيلان المرضي المسمى بالسيلان الأبيض، وهذا النوع من السيلان يصحبه حكة ورائحة كريهة، وأحيانًا يختلط بصديد أو يكون داميًا أو مصفر اللون.
ولأن المرأة يجب أن تكون طاهرة لتؤدي الصلاة فلا بد من معرفة حكم هذا السائل، فهي إذا كانت تجهل حكمه ربما أعادت وضوءها مرارًا، وربما أصابها الوسواس، وربما أعادت الصلاة، فلذا ينبغي أن يعلم حكم هذه الرطوبة بالدليل الشرعي على أصول سلفنا الصالح.
ولعدم وجود بحث خاص بهذه الرطوبة ( )، بل ولا فتاوى واضحة من أئمة الفقه الأربعة، ولا من سبقهم من أهل العلم، ولا من تبعهم ممن عرف ببحثه عن الدليل إثباتًا للفتوى به كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، لزم البحث في هذا الموضوع بحثًا جادًّا.
السبب الباعث على البحث:
بالإضافة إلى أهميته فإن بعض النساء أصابهن وسواس عظيم، وأخريات ألزمن بما يشق وكلفن عسيرًا، والله تعالى يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]
حتى اتصلت بي إحدى الشابات وهي تسأل:
ماذا على من لم تطهر من الحيض منذ سنتين ونصف؟
فعجبت من هذا السؤال، وقلت: وهي في هذه البلاد، وتدرس، ولها والدة مسلمة ! هذا الأمر الجهل به عجيب ومستبعد ! وأدركت هذا ثم قالت: هي تتطهر من الحيض ولكنها لا تتطهر من شيء آخر، فقلت من الجنابة؟
قالت: مثل ذلك، ثم علمتُ أنها غيرُ متزوجة، فعزمت عليها بالإيضاح، فقالت: من تحتلم ولم تغتسل؟ فعجبت كيف تحتلم ولم تغتسل منذ سنتين ونصف باستمرار، ففطنت إلى أن الشابة لم تكن تعرف الاحتلام، فوضحته لها، وقلتُ: هل ترين هذا؟ قالت: لا ! قلت: إذن تعنين الرطوبة التي ترين، قالت: نعم! فاسترجعتُ وعزمت على تبييض هذا البحث؛ لأن السائلة هذه نموذج من نماذج كثيرة ربما تدع الصلاة بهذا السبب، ولست مبالغةً في هذا، فقد صارحتني به غير واحدةٍ، ولا حول ولا قوة إلا الله.
تمهيد في السوائل الخارجة من المرأة:
لأجل أن نقف على ماهية هذه الرطوبة ينبغي أن نذكر السوائل التي تخرج من المرأة، ونبين حكمها باختصار، لأن الأشياء تتميز بضدها وتلحق في الأحكام بما اتصف بصفتها.
يخرج من المرأة سوائل من غير السبيلين، كالمخاط واللعاب والدمع والعرق والرطوبة، ويخرج منها سوائل من السبيلين، وهي نجسة، ناقضة للوضوء.
أنواع السوائل:
1- البول: وهو ما يخرج من المثانة، وحكمه نجسن ناقض للوضوء بالنص والإجماع، قال تعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء: 43].
والغائط هو المكان المطمئن من الأرض، كني بذلك عن التغوط، وهو الحدث الأصغر.
قال ابن المنذر: «وحكي لي عن بعض أهل العلم أنه قال: البول والغائط داخلان في قوله: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ لأن ذهاب القوم إلى تلك المذاهب كان ذهابًا واحدًا».
قال أبو بكر: وجوب الوضوء من البول مأخوذٌ من أخبار الرسول قولاً وفعلاً، وذكر حديث ذر بن حبيش قال: لقيت صفوان بن عسال أسأله عن المسح، فقال: «كان رسول الله يأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول أو نوم»( )
وكل ما خرج من مخرج البول من المرأة أو الرجل فهو ناقض للوضوء لما ذكرنا، وإن كان طاهرًا.
2- المني: وهو سائل غليظ أبيض يخرج من ذكر الرجل أو قُبل المرأة، من طريق الرحم من مخرج الولد، حال الجماع أو الاحتلام، وهو من المرأة رقيقٌ أصفر.
وهو موجب للغسل، لقوله تعالى: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43]، ولقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6]، وسيأتي ذكر حكم المني من حيث الطهارة في فصل مستقل، لمساسه بالموضوع.
3- الودي: وهو سائل يخرج من مخرج البول بعد انتهائه، قال ابن حجر: «الودي بالمهملة وهو ماء أبيض ثخين يخرج عقيب البول أو عند حمل شيء ثقيل»( ).
3- الحيض: وهو دم أحمر ضاربٌ للسواد، له ريحٌ، يخرج من رحم المرأة في وقت مخصوص، وهو موجب للغسل عند انقطاعه وبرء الرحم منه، لقوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222].
ويلحق بالحيض النفاس، وهو دم يخرج مع الولادة ويستمر مدة طويلة، هي عند أكثر النساء أربعون يومًا، وقد تقصر عن ذلك.
والمرأة تدع الصلاة والصوم ومس المصحف لهذين الحدثين حتى تطهر.
5- الاستحاضة: وهو دم أحمر يخرج من المرأة في وقت غير معتاد من مخرج الحيض، ويختلف في كثرته وهو نجس موجب للوضوء عند كل صلاة على الراجح، وفيه خلاف مفصل في كتاب الأوسط لابن المنذر فلينظر هناك( ).
6- السوائل الخارجة من سائر الجسد: كاللبن من الثدي والبزاق والمخاط والدمع وغيره، وهذه طاهرة لا توجب شيئًا.
قال ابن المنذر: «أجمع أهل العلم على أن خروج اللبن من ثدي المرأة لا ينقض الوضوء، وكذلك المخاط والبزاق والدمع الذي يسيل من العين والعرق الذي يخرج من سائر الجسد، والجشاء المتغير الذي يخرج من الفم، والنفس الخارج من الأنف، والدود الساقط من القرح، كل هذا لا ينقض طهارة، ولا يوجب وضوءًا»( ).
7- رطوبة فرج المرأة: وهي إفرازٌ طبيعي عديم اللون عادةً، ولزج بدرجة خفيفة، ويشبه بياض البيض غير المطبوخ عندما يزداد نشاط غدد عنق الرحم ( ).
وقد سألت عددًا من الطبيبات المتخصصات في أمراض النساء والولادة عن هذه الإفرازات، وهل هي طبيعية أم لا؟ فأفدنني، بالإجماع بأنها طبيعية في كل امرأة.
وكتبت لي دكتورة صفاء عثمان أخصائية النساء والولادة في مستشفى الرياض المركزي: «الإفرازات الطبيعية موجودة عند كل الإناث، ولكن الشكوى منها تعتمد على علم المرأة بطبيعتها أو تخوفها من تلك الإفرازات، وغالبًا ما تكون الإفرازات الطبيعية لها قوام مخاطي وذات لون أبيض أو أصفر داكنٍ أو شفاف، وقد تتغير رائحته بسبب تفاعله مع البكتريا الطبيعية، أما الإفرازات غير الطبيعية فهي مصاحبة بأعراض أخرى فتكون ذات لونٍ أخضر أو متغير بألوان الدم القاتمة، وقد تسبب حكة أو حرقة، أو تكون ذات رائحة كريهة بفعل بعض أنواع الجراثيم »( ).
وسأذكر هنا مسائل تحتاج إليها المرأة وتسأل عنها باستمرار وتبالغ في السؤال وهي:
* حكم الصفرة والكدرة في زمن الحيض وفي غيره.
* بم تطهر المرأة؟
* حكم الرطوبة في غير أيام الحيض.
* الشك في الطهارة، وكيف تفرق المرأة بين الحيض والاستحاضة، وتتخلص من الوسوسة.
وسأورد كل مسألة منها بالتفصيل.
حكم الصفرة والكدرة في زمن الحيض:
اتفق العلماء على أن الصفرة في أيام الحيض حيض ( ).
وخالف في ذلك ابن حزم، فذهب إلى أن الحيض هو الأسود، قال: «فإذا رأت أحمر أو كغسالة اللحم أو صفرة أو كدرة أو بياضًا أو جفوفًا فقد طهرت»( ).
ونقل الكاساني في بدائع الصنائع الإجماع خلافًا لأبي منصور حيث قال: «إذا رأت في أول أيام الحيض ابتداء كان حيضًا أما إذا رأت في آخر أيام الطهر، واتصل به أيام الحيض لا يكون حيضًا، والعامة على أنها حيض كيفما كانت»( ).
أما الكدرة في أيام الحيض فالجمهور على أنها من الحيض منهم أبو حنيفة ( )، ومالك ( )، والشافعي ( )، وأحمد ( )، وإسحاق ( )، وبه قال يحيى الأنصاري( )، وربيعة( )، والثوري( )، والأوزاعي( )، وعبد الرحمن بن مهدي ( )، وخالفهم أبو يوسف( )، وأبو ثور( ) فقالا: لا لا يكون حيضًا إلا أن يتقدمه دم أسود ( ).
واستدل الجمهور بحديث أم عطية المتقدم، ومقتضاه أن الكدرة والصفرة بعد الطهر لا تعد من الحيض، وهو يقتضي أن الصفرة والكدرة قبل الطهر تعد من الحيض، وروي معنى حديث أم عطية عن علي بن أبي طالب( )، وثوبان( )، وإبراهيم ( )، وابن سيرين( ).
واستدل المخالفون بحديث عائشة رضي الله عنها: وكن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة فتقول: «لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء» تريد بذلك الطهر من الحيضة.
وبلغ ابنة زيد بن ثابت( ) أن نساءً يدعون بالمصابيح من جوف الليل ينظرن إلى الطهر، فقالت: «ما كان النساء يصنعن هذا» وعابت عليهن( ).
وروى عبد الرزاق ( )، وابن أبي شيبة عنها مثله ( ).
ومقتضاه: أن الصفرة والكدرة داخلة في الحيض ولو رأت الجفاف واغتسلت، بل روي ذلك عن غير واحد من الصحابيات والصحابة والتابعين، مهم: أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ( )، وعمرة ( )، وعطاء ( )، ومكحول ( )، والزهري ( ).
وهذا سبب الاختلاف في هذه المسألة، فظاهر حديث أم عطية يخالف حديث عائشة رضي الله عنهما.
ومن رأى الجمع بين الأحاديث قال: إن حديث أم عطية هو بعد انقطاع الدم، وحديث عائشة في أثر انقطاعه، أو إن حديث عائشة هو في أيام الحيض، وحديث أم عطية في غير أيام الحيض ( ).
والذي أراه: أن الحائض تكون في حدثٍ متيقن فلا تنتقل منه إلى الطهر إلا بيقين، والصفرة والكدرة ليست يقينًا بالطهر، لأن المرأة تراها ثم ترى الدم بعدها أحيانًا، مما يدل على عدم براءة الرحم منه، لذا كانت عائشة رضي الله عنها تنهى عن الاستعجال بالغسل قبل التأكد من الطهر، أما إذا رأت الطهر وتيقنت منه ثم اغتسلت وصلت فإن عاودها الدمُ أو الكدرةُ لم تدع الصلاة لذلك؛ لأنه حينها صار حدثًا غير متيقن فلا تترك الصلاة الواجبة للظن، ولهذا قالت أم عطية رضي الله عنها: «كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئًا».
فإذا كان الدم بعد الطهر من الحيض لا يعد حيضًا فلئلا تعد الكدرة والصفرة بعد الطهر حيضًا من باب أولى على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال في المرأة التي ترى ما يريبها بعد الطهر: «إنما هو عرق أو قال عروق»( ).
وإلى الجمع ذهب البخاري رحمه الله، لذا ترجم لحديث أم عطية بقوله: «باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض»، قال ابن حجر: « يشير بذلك إلى الجمع بين حديث عائشة المتقدم في قولها: (حتى ترين القصة البيضاء)، وبين حديث أم عطية المذكور في هذا الباب، بأن ذلك محمولٌ على ما إذا رأت الصفرة أو الكدرة في أيام الحيض، وأما في غيرها فعلى ما قالته أم عطية »( ).
ورجح شيخُ الإسلام مذهب الجمهور، قال: وهو الصحيح، إنها إن كانت في العادة مع الدم الأسود والأحمر فهي حيضٌ، وإلا فلا، لأن النساء كن يرسلن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فتقول لهن: «لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء» وكذلك غيرها، فكن يجعلن ما قبل القصة البيضاء حيضًا، وقالت أم عطية: «كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئًا»( ).
بم تطهر الحائض؟
حدثت أم عطية في ذلك حديثًا قالت: «كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئًا»( )، وروي بزيادة «بعد الطهر»، وهي زيادة صحيحة.
واختلف الفقهاء في علامة الطهر، فرأى قوم أن علامة الطهر رؤية القصة البيضاء ( )، وقال آخرون: علامة الطهر الجفاف.
قال ابن رشد: «وسبب اختلافهم أن منهم من راعى العادة، ومنهم من راعى انقطاع الدم فقط، وقد قيل: إن التي عادتها الجفوف تطهر بالقصة البيضاء ولا تطهر التي عادتها القصة البيضاء بالجفوف، وقد يقيل بعكس هذا وكله لأصحاب مالك »( ).
واحتج من ذهب إلى أن الطهر لا يثبت حتى ترى الحائض القصة البيضاء بما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة، فتقول: «لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء» تريد بذلك الطهر من الحيضة، وبلغ ابنة زيد بن ثابت أن نساءً يدعون بالمصابيح من جوف الليل ينظرن إلى الطهر فقالت: «ما كان النساء يصنعن هذا» وعابت عليهن( ).
وممن رأى أن الطهر لا يكون إلا بالبياض: أسماء بنت أبي بكر، وعمرة ( )، وعطاء ( )، ومكحول ( )، والزهري ( ). وعبد الرحمن بن مهدي ( ). وبه قال أبو حنيفة ( ) ومالك ( )، والشافعي( )، وأحمد ( ).
وممن قال تطهر بالجفاف: ابن حبيب من المالكية حكى عنه ابن عبد البر قال: «تطهر بالجفوف وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء».
قال: والجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء، فمن كان طهرها القصة البيضاء فرأت الجفوف فقد طهرت، قال: ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء حتى ترى الجفوف.
قال: وذلك أن أول الحيض دم، ثم صفرة، ثم كدرة، ثم يكون نقاء كالقصة، ثم ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض.
قال: والجفوف أبرأ وأوعب، وليس بعد الجفوف انتظار شيء( ).
وهذا خلاف الصواب، فإن المرأة تجف أحيانًا قرب انقطاع الحيض الفرض والفرضين والثلاثة، ثم يعاودها الدم والكدرة والصفرة وهي ما تزال في مدة الحيض، أما إذا رأت القصة البيضاء فقط طهرت وأصبح الرحم نقيًّا، ومن النادر أن تعاود الحيضةُ المرأةَ بعد رؤيتها، والقصة البيضاء معروفة عند النساء، وهي الرطوبة السائلة اللزجة عديمة اللون، التي تراها المرأة سائر الشهر.
قال ابن حجر: «وفيه أن القصة البيضاء علامة لانتهاء الحيض، ويتبين بها ابتداء الطهر، واعترض على من ذهب إلى أنه يعرف بالجفوف بأن القطنة قد تخرج جافة في أثناء الأمر فلا يدل ذلك على انقطاع الحيض، بخلاف القصة وهي ماء أبيض يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض.
قال مالك: سألت النساء عنه فإذا هو أمر معلوم عندهن يعرفنه عند الطهر» ( ).
فجعل الإمام مالك معرفة النساء حدًّا يرجع إليه، ونحن النساء نعرف ذلك، ولا عبرة بالمعتلة بمرض، كالتي ترى الصفرة والكدرة سائر شهرها، ولا المصابة بوسوسة، فإنها تقلق إذا دخل وقت الصلاة وهي جافة خشية أن يكون عليها صلاة، فتبادر بالغسل والصلاة ثم يعاودها الكدرة والصفرة فتحتار، والسبب أنها استعجلت وتطهرت قبل أن تطهر طهرًا صحيحًا بينًا، والذي يمكن أن يزيل القلق سؤال المرأة نفسها: هل استيقنتُ من الطهر؟ فإن كان الجواب: نعم، اغتسلتْ، وإن كان الجواب، لا، لم يكن لها أن تصلي إذا رأت الكدرة؛ لأنها حينئذٍ انتقلت من حكم الحيض المستيقن إلى حكم الطهر بغير يقين، فلا بد أن تكون مستيقنة من الطهر حتى تنتقل إلى حاله ولوازمه، والله أعلم.
حكم الرطوبة في غير أيام الحيض
الرطوبة: هي إفراز طبيعي عديم اللون عادة ولزج بدرجة خفيفة، ويشبه بياض البيض غير المطبوخ عندما يزداد نشاط غدد الرحم ( ).
والكلام على الرطوبة ينقسم إلى قسمين:
من حيث الطهارة.
ومن حيث نقض الوضوء.
ولأهمية هاتين المسألتين للنساء خاصة، فإني أفصل في كل منهما.
1- طهارة الرطوبة:
اختلف العلماء في الرطوبة في غير أيام الحيض، فذهب المالكية، وأبو إسحاق بن شاقلا، وابن رزين من الحنابلة، إلى نجاسة الرطوبة مطلقًا، قالوا: لأنها رطوبة متولدة من الباطن.
وذهب محمد بن الحسن وأبو يوسف من الأحناف، والشافعية إلى نجاسة الرطوبة الباطنة، واتفقوا على طهارة الرطوبة الظاهرة.
والمشهور من مذهب الإمام أحمد طهارتها دون تفصيل وزاد الشافعية قسمًا ثالثًا وهو الرطوبة المتولدة في الداخل وليست من الرحم، وهي المتكونة في قناة المهبل، وهي عندهم طاهرةٌ على الصحيح، وهذا القسم هو الذي تسأل عنه النساء، وهو ما نبحثه هنا، إذ الرطوبة الباطنة التي تخرج مع الولد ليست متكررة ولا تعاني منها النساء.
ولما كانت هذه المسألة مهمةً جدًّا لنا أردت أن أذكر أقوال الفقهاء بالتفصيل، وبالله التوفيق.
القائلون بنجاسة الرطوبة مطلقًا:
قال خليل بن إسحاق المالكي: «والنجس ما استثني وميت غير ما ذكر ولو قملة أو آدميًّا... ومني ومذي وودي وقيح وصديد ورطوبة فرج »( )، وعلق الشراح من المالكية على هذا القول بقول عياض: «ماء الفرج ورطوبته عندنا نجسان»، قالوا: وهو المعتمد من المذهب ( ).
وقال ابن قدامة من الحنابلة: «وفي رطوبةِ فرج المرأةِ احتمالان: أحدهما، أنه نجسٌ لأنه في الفرج لا يخلق منهُ الولدُ، أشبه المذيَ»( ).
قال المرداوي في الإنصاف: «الرواية الثانية هي نجسة، اختارها أبو إسحاق بن شاقلا وجزم به في الإفادات، وقدمه ابن رزين في شرحه»( ).
ورجحه شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله ( )، وشيخنا الشيخ صالح بن فوزان حفظه الله ( ).
القائلون بنجاسة الرطوبة الباطنة:
ذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن للقول بنجاسة الرطوبة الباطنة خلافًا لأبي حنيفة، قال أبو بكر الحدادي العبادي: «وأما رطوبة الفرج فهي طاهرة عند أبي حنيفة كسائر رطوبات البدن، وعندهما نجسة؛ لأنها متولدة في محل النجاسة»( ).
قال ابن عابدين: «مطلب في رطوبة الفرج (قوله: الفرج) أي الداخل، أما الخارج فرطوبته طاهرة باتفاق، بدليل جعلهم غسله سنة في الوضوء، ولو كانت نجسة عندهما لفرض غسله»( ).
وذهب الشافعية للقول بنجاسة الرطوبة الباطنة باتفاق.
قال الهيتمي: «ورطوبةُ الفرجِ، أي القُبل وهو ماءٌ أبيضُ متردد بين المذي والعرق يخرجُ من باطنِ الفرج الذي لا يجب غسله بخلاف ما يخرج مما يجب غسله فإنه طاهر قطعًا، ومن وراء باطن الفرج فإنه نجس قطعا ككل خارج من الباطن، كالماء الخارج مع الولد أو قبيله»( ).
قال البجيرمي: «والحاصلُ أن رطوبة الفرج ثلاثة أقسام:
* طاهرة قطعًا، وهي ما تكون في المحل الذي لا يظهر عند جلوسها، وهو الذي يجب غسله في الغسل والاستنجاء.
* ونجسة قطعًا، وهي ما وراء ذكر المجامع ( ).
• وطاهرة على الأصح، وهي ما يصله ذكر المجامعِ، وقيل إنها نجسة معفو عنها ( )».
واستدلوا للنجاسة أيضًا بحديث زيد بن خالد رضي الله عنه أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: «أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاةِ ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله »، رواه البخاري ومسلم، زاد البخاري فسأل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب، فأمروه بذلك.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال: «يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويُصلي» رواه البخاري ومسلم، وهذان الحديثان في جواز الصلاة بالوضوء بلا غسل منسوخان كما سبق في باب ما يُوجب الغسل ( ).
وأما الأمر بغسل الذكر وما أصابه منها فثابتٌ غيرُ منسوخٍ، وهو ظاهرٌ في الحكم بنجاسة رطوبة الفرج، والقائلُ الآخرُ بحملهِ على الاستحباب لكن مطلقُ الأمر للوجوب عند جمهور الفقهاء»( ).
وقال في شرح مسلم: «وأجاب القائلون بنجاسة رطوبة فرج المرأة بجوابين:
* أحدهما: جواب بعضهم أنه يمتنع استحالة الاحتلام منه ، وكونها من تلاعب الشيطان بل الاحتلام منه جائز ، وليس هو من تلاعب الشيطان، بل هو فيض زيادة المني يخرج في وقت.
• والثاني: أنه يجوز أن يكون ذلك المني حصل بمقدمات جماع فسقط منه شيء على الثوب، وأما المتلطخ بالرطوبة فلم يكن على الثوب»( ).