س: ما هي الأسباب المنجية من عذاب القبر؟
جـ: قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
فجوابها أيضاً من وجهين: مُجمل ومُفصَّل.
أما المجمل:
فهو تجنب تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، ومن أنفعها أن يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحاً بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلاً للعمل مسروراً بتأخير أجله، حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولاسيما إذا عقب ذلك بذكر الله واستعمال السُنن التي وردت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك، ولا قوة إلا بالله.
أما الجواب المفصل:
فنذكر أحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ينجي من عذاب القبر.
(1) التوحيد:
ففي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن البراء بن عازب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما تكلَّم عن العبد المؤمن وسؤال الملكين له وفي الحديث:
"... ويُجلسـانِه فيقولان له: من ربك؟ فيقـول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسـلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسـول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقولان له: وما عملك؟، فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقتُ، وهي أخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حين يقول الله -عز وجل-: { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (إبراهيم: 27)".
(2) تقوى الله:
قال تعالى: {... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً{2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ... } (الطلاق: 3،2).
ففي هذه الآية وَعَدَ اللهُ أهل التقوى بأن يجعل لهم مخرجاً من كل ضيق، وليس هناك شدة ولا ضيق أعظم من شدة السكرات وخروج الروح ودخول القبر.
فمن كان في الدنيا تقيَّاً فإن الفرج والمخرج يكون له ثواباً في قبره.
لكن ما هي التقوى؟
اختلفت تعبيرات العلماء في تعريف التقوى، مع أن الجميع يدور حول مفهوم واحد، وهو أن يأخذ العبد وقايته من سخط الله -عز وجل- وعذابه، وذلك بامتثال المأمور واجتناب المحظور.
وقال طلق بن حبيب ـ رحمه الله ـ:
إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى.
قالوا:
وما التقوى؟
قال:
أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ:
التقوى هي ترك ما تهوى لما تخشى.
وقيل في تعريف التقوى:
هي الخوف من الجليل، والرضا بالقليل، والعمل بالتنزيل: والاستعداد ليوم الرحيل.
وقيل في تعريفها:
هي أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.
(3) طاعة الله وفعل الصالحات:
فقد أخرج ابن حبان والحاكم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"إن الميت إذا وُضع في قبره إنهُ ليسمعُ خفقَ نعالِهم حين يولوا عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخلٌ، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخلٌ، ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة: ما قبلي مدخلٌ، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف إلى الناس: ما قبلي مدخلٌ".
فطاعة الله -عز وجل- هي خير ما يقدمه المسلم لنفسه في قبره.
فقد أخرج الطبري في تفسـيره (21/52) والبيهقي وأبو نعيم في "الحلية" عن مجـاهد في قوله تعالى:
{ فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (الروم: 44). قال: في القبر".
وفي حديث البراء الطويل في سؤال الملكين وفيه أن العبد المؤمن يقول:
وأنت فبشرك الله بخير من أنت؟ فوجهك الوجه يجئُ بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في إطاعة الله، بطيئاً في معصية الله فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب من الجنة".
(4) الاستقامة على طاعة الله -عز وجل-:
قال الله تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ{30} نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ{31} نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} (فصلت: 30ـ32).
وقال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{13} أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأحقاف: 13ـ14).
فلقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه.... فمن عاش على الطاعة مخلصاً لله ومتبعاً هدي رسول الله فإنه يموت على الطاعة وينور له قبره بتلك الطاعة، بل ويصبح قبره روضة من رياض الجنة جزاء لكل لحظة عاشها في طاعة الله (جل وعلا).
(5) الرباط في سبيل الله:
والرباط ملازمه ثغر من ثغور المسلمين فارساً كان أو راجلاً، والربـاط مأخوذ من ربط الخيل، ومن مات مرابطاً نجَّاه الله من عذاب القبر.
ويدل على ذلك أحاديث منها:
أ. ما أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"مَنْ مات مرابطاً في سبيل الله أجرى اللهُ عليه عمله الصالح الذي كان يعمل عليه، وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتَّان، وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع".
ب. أخرج الإمام مسلم عن سلمان الفارسي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"رباطُ يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان".
وفي لفظ آخر عند الترمذي وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3481) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"رباطُ يوم في سبيل الله أفضل من صيام شهر وقيامه، ومَن مات فيه وُقِيَ فتنة القبر، ونما له عمله إلى يوم القيامة".
جـ. وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4562) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"كلُّ ميتٍ يُختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتَّان القبر".
د. وفي رواية الطبراني:
"مَنْ مات مرابطاً في سبيل الله أمَّنه الله من فتنة القبر".
(6) الشهادة في سبيل الله تعالى:
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5182) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"للشهيد عند الله سبعُ خصالٍ: يُغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويُحلَّى حُلَّةَ الإيمان، ويُزوجُ اثنين وسبعين زوجةً من الحور العين، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويُشفَّع في سبعين إنساناً من أهل بيته".
وأخرجه الترمذي من حديث عبادة بن الصامت بلفظ:
"للشهيد عند الله ست خصالٍ: يُغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُحلَّى حُلَّةَ الإيمان، ويُزوجُ من الحور العين، ويُشفَّع في سبعين إنساناً من أقاربه".
وأخرج النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إن رجلاً قال: يا رسول الله. ما بال المؤمنين يُفتَنون في قبورهم إلا الشهيد؟
قال -صلى الله عليه وسلم-:
كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة". (صحيح الجامع: 4359).
قال الشيخ الألباني كما في أحكام الجنائز صـ 51: (تنبيه):
تُرجى هذه الشهادة لِمَنْ سألها مخلصاً من قلبه ولو لم يتيسر له الاستشهاد في المعركة بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سأل الله الشهادة بصدق، بلَّغهُ الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه" (أخرجه مسلم).
قال ابن القيم كما في كتاب الروح صـ 109:
إن قول النبي-صلى الله عليه وسلم-:" كفى ببراقة السيوف على رأسه فتنة" معناه والله أعلم: قد امتحن نفاقه من إيمانه ببارقة السيف على رأسه فلم يفر، فلو كان منافقاً لما صبر لبارقة السيف على رأسه، فدل على أن إيمانه هو الذي حمله على بذل نفسه لله وتسليمها له، وهاج من قلبه حمية الغضب لله ولرسوله، وإظهار دينه وإعزاز كلمته، فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره حيث برز للقتل فاستغنى بذلك عن الامتحان في قبره.