الـهـجـــرة الـنـبــــويــة
وهوية الأمة الإسلاميـة
عبــد الحميــد المحيمــد
=============
بسم الله الرحمن الرحيم
عندما نعود بالذاكرة سريعاً إلى ما قبل أربعة عشر قرناً مضت، سنجد حقبة مباركة أرست أركان الدولة الإسلامية وخطت ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها.
فأمة الإسلام بدأت بانبثاق فجر النبوة في مكة حيث قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ أمته شرع الله.
ودعاهم إلى عبادة الله وحده ونبذ ما سواه من شركاء.
وكعادة أهل الضلال والعناد فقد اعترض مشركو العرب طريق الدعوة، وخططوا وتآمروا للقضاء على شعلة الإيمان التي اتقدت في قلوب المسلمين، وبدأ نورها يشع شيئاً فشيئاً ليبدد ظلام الشرك والضلال.
ولم يكن زعماء قريش ليقارعوا الحجة بمثلها إذ إن حججهم لو عرضوها لا تقوى على الصمود أمام آيات القرآن وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لذا فقد تآمروا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم؛ قبل أن يخرج من مكة ويعظم أمره وتنتشر دعوته؛ ظناً منهم أن الدعوة ستتوقف بموته، واختاروا لهذه المهمة خيرة فرسانهم ومن عدة قبائل.
وفي ذلك يقول الله تعالى: { وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (الأنفال: 30).
ولقد تولى الله سبحانه وتعالى حماية نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونجَّاه من القوم الظالمين، ليتم الله سبحانه نوره ولو كره الكافرون.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق صفوف أولئك المتآمرين وينفض على رؤوسهم التراب، لينطلق مهاجراً إلى المدينة "يثرب" تصحبه معية الله وتوفيقه: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} (التوبة: 40).
لم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم رحلة عادية لكنها كانت رحلة إيمانية، فقد كانت مكة آنذاك أرض كفر يُحارب فيها شرع الله ويُضطهد فيها المؤمنون، بينما أصبحت المدينة أرض إسلام.
وكانت الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الدعوة الإسلامية فقد أصبح للمسلمين قاعدة دعوية ينطلقون منها إلى بقاع الأرض يبلغون الناس مبادئ الإسلام. وكانت الهجرة النبوية بداية تشكيل الدولة الإسلامية التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة على مدى عشرة أعوام.
وأصبح للمسلمين فيها قوة عسكرية يتولى تنظيمها النبي صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى تنظيم كافة مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
ولقد كانت هذه الحقائق حاضرة في أذهان بعض الصحابة عندما أرادوا الكتابة بالتاريخ الإسلامي، فقد كتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ.
فجمع عمر رضي الله عنه الصحابة فاستشارهم، وكان ذلك في السنة السابعة عشرة «وقيل السادسة عشرة» من الهجرة.
فقال بعضهم:
أرِّخوا كما تؤرِّخ الفرس بملوكها كلما هلك ملك، أرِّخوا بولاية من بعده، فكره الصحابة ذلك.
فقال بعضهم:
أرَّخوا بتاريخ الروم فكرهوا ذلك.
فقال بعضهم:
أرِّخوا من مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقال آخرون:
من مبعثه -صلى الله عليه وسلم-.
وقال آخرون:
من مهاجره -صلى الله عليه وسلم-.
فقال عمر رضي الله عنه:
«الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل فأرِّخوا بها».
فأرّخوا من الهجرة واتفقوا على ذلك.
ولقد أحسن الفاروق والصحابة رضوان الله عنهم الاختيار فتاريخ الأمة لا يرتبط بملوكها ولا بتبعيتها لدول أقوى منها، وإنما يرتبط بأحداثٍ جسامٍ غيَّرت تاريخ الأمة ورسمت ماضيها ومستقبلها.
وقد تم الاتفاق على اختيار شهر محرم بداية العام الهجري، وذلك أنه يأتي بعد شهر ذي الحجة حيث يكمل المسلمون أحد أركان الإسلام وهو الحج.
كما أن محرم هو أحد الأشهر الحرم التي قال الله عنها:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (التوبة: 36).
واستمرت الكتابة بالتاريخ الهجري خلال عصور المسلمين بعد ذلك، جيلاً بعد جيل، ليرمز ذلك إلى هويتهم الإسلامية وارتباطهم بتاريخهم العظيم.
وفي حقبة متأخرة ابتُليَت البلاد الإسلامية بالتبعية للمستعمر الذي سعى جاهداً لفصل المسلمين عن تاريخهم الإسلامي وترويج التاريخ الميلادي النصراني.
واليوم -وبعد انقضاء تلك الحقبة واستقلال البلاد العربية والإسلامية- فحريٌ بنا العودة لتاريخنا الهجري وأن نعتَّز بذلك التاريخ ونفخر به.
اللهم أصلح حالنا وحال المسلمين وردنا إليك رداً جميلاً.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.