الهجرة وعزة الأمة
عبد الحميد المحيمد
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
تأتي ذكرى الهجرة عاماً بعد عام لتجدد في نفوس المسلمين مشاعر العزة وتبدد مظاهر الذل والهوان.
تأتي الهجرة لتلقي على المسامع والقلوب دروساً في الصبر والثقة بوعد الله.
فالهجرة ليست حدثاً تاريخياً يبلى بتقادم الأزمنة والدهور، ولكنها منهج للحياة ودستور للأمة الإسلامية بما تحمله في طياتها من دروس وعبر وبذل وعطاء في سبيل نصرة الدين.
ففيها تجلت معاني الدعوة ونشر الدين ببذل الغالي والنفيس.
فلقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يودع أرض مولده ومربع طفولته وشبابه وكهولته؛ فهنا كانت دار ولادته وذاك منزل زوجته خديجة و ذاك موضع نزول الوحي؛ وتلك أرض مكة حيث تهفو النفوس وتنشرح الصدور.
ورغم هذا وذاك فإن نصرة الدين مقدمة على نصرة العواطف و الذكريات.
لذلك هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهاجر قبله المسلمون -تاركين الأهل والديار- إلى أرض جديدة حيث ستقام دولة الإسلام ويعلو الإيمان.
وفي الهجرة تجلى معنى تأييد الله لأنبيائه وأحبابه؛ فقد خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أعزل يشق الصفوف ويخترق نصال السيوف ثم نثر فوق رؤوس الكافرين التراب تالياً قول الله تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)).
وهكذا ينبغي أن يثق المسلمون بوعد ربهم وتأييده وألا يجبنوا أو يتقاعسوا عن نصرة دينهم.
لقد تجلى معنى الصداقة الحقيقية في مسارعة أبي بكر رضي الله عنه بطلب رفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقديمه كل ما بوسعه من مال وجهد.
ثم هو ذَا ينزل به الهم وتدمع عيناه خوفاً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: «يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا»، فَيُجِيبُهُ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بكل ثقة وطمأنينة: «يَا أَبَا بَكْرٍ: مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!» [أخرجَهُ الشَّيْخَانِ].
وفي الهجرة ظهرت أهمية التخطيط والأخذ بالأسباب وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله؛ بل إن حقيقة التوكل أن تأخذ بالأسباب ولا تعتمد عليها ولكن تتعلق بتدبير الخالق سبحانه وتعالى.
لقد سلك النبي وصاحبه طريقاً لا تتوقعه قريش ومع ذلك عندما أدركهم سراقة بن مالك كان التوكل يغمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كان منشغلاً بمناجاة ربه وقراءة القرآن غير آبه بذلك الفارس المجندل، الذي يتوعدهم بالقتل أو الأسر.
وما هي إلا لحظات حتى انقلب العدو صديقاً يذود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ويثني عزيمة كل من يفكر باللحاق بهما.
وفي الهجرة تجلى معنى الحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث استقبل الأنصار ومعهم المهاجرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهللين مكبرين وقد طال اشتياقهم للقاء رسول الله.
وهكذا يؤيد الله أنبياءه بالصالحين من عباده:
((فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ() [التحريم: 4].
قال عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-:
لَمَّا قَدِمَ رَسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم- المَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ [أَيْ: ذَهَبُوا مُسْرِعِينَ نَحْوَهُ]، فَجِئْتُ في النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وكانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بهِ أَنْ قالَ: «يا أَيُّها النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وصَلُوا والنَّاسُ نِيَامٌ - تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلَامٍ» [وواه الترمذي وصححه الألباني].
واليوم بعد مضي أكثر من ألف وأربعمئة عام نستذكر أحداث الهجرة النبوية وكيف نصر الله الحق على الباطل.
فليكن لنا في ذلك اتعاظ وعبرة وليكن لنا في رسول الله أسوة حسنة.
فنحن أمة أعزها الله بالإسلام ولا عزة لنا بغيره فلنرجع إلى كتاب ربنا وسنة نبينا ولنتخلق بأخلاق سلفنا قولاً وعملاً.. وصلى الله على نبينا محمد.