توظيف اختلاف العلماء لرفع الحرج والمشقة
عن الأمة، وذلك معنى كون الاختلاف رحمة
فقد فسر الشاطبي رحمة الخلاف بقوله: «إن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربًا من ضروب الرحمة، وإذا كان من جملة الرحمة، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجًا من قسم أهل الرحمة.
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة: ما رُوي عن القاسم بن محمد قال: «لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله ^ في العمل، لا يعمل العامل بعلم رجل منهم إلا رأى أنه في سَعة»( ).
وعن ضمرة عن رجاء قال: «اجتمع عمر بن عبدالعزيز والقاسم بن محمد، فجعلا يتذاكران الحديث، قال: فجعل عمر يجيءُ بالشيء يخالف فيه القاسم، قال: وجعل القاسم يشق ذلك عليه، حتى تبين فيه، فقال له عمر: لا تفعل، فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم»( ).
وروى ابن وهب عن القاسم أيضًا، قال: «لقد أعجبني قول عمر بن عبدالعزيز: ما أحب أن أصحاب محمد ^ لا يختلفون؛ لأنه لو كان قولًا واحدًا لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة»( ).
ومعنى هذا: أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق؛ لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة -كما تقدم- فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم، وهو نوع من تكليف مالا يطاق، وذلك من أعظم الضيق. فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة، فكيف لا يدخلون في قسم[هود:119]، فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها، والحمد لله»( ).
قال ابن عابدين في تعليقه على قول صاحب «الدّر المختار»: «وعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة، فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر»-: «وهذا يشير إلى الحديث المشهور على ألسنة الناس، وهو: «اختلاف أمتي رحمة». قال في «المقاصد الحسنة»: رواه البيهقي بسند منقطع عن ابن عباس ب، بلفظ: قال رسول الله ^: «مهما أوتيتم من كتاب الله؛ فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإنْ لم يكن في كتاب الله فسنة مني، فإنْ لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة». وأورده ابن الحاجب في «المختصر» بلفظ: «اختلاف أمتي رحمة للناس».
وقال ملا علي القاري: إن السيوطي قال: أخرجه نصر المقدسيّ في «الحجة» والبيهقي في «الرسالة الأشعرية» بغير سند، ورواه الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعله خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا.
ونقل السيوطي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يقول: «ما سرني أن أصحاب محمد ^ لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة».
وأخرج الخطيب أن هارون الرشيد قال لمالك بن أنس: يا أبا عبدالله! نكتب هذه الكتب -يعني: مؤلفات الإمام مالك- ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة. قال: «يا أمير المؤمنين! إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكلهم على هدى، وكل يريد الله تعالى». وتمامه في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس»( ).
وللاختلاف أسبابه المشروعة في الفقه، ولهذا اعتبر العلماء معرفة الاختلاف ضرورية للفقيه حتى يتسع صدره وينفسح فقهه.
فقد قال قتادة /: «من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه»( ).
وعن هشام بن عبيد الله الرازي /: «من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه»( ).
وعن عطاء /: «لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس، حتى يكون عالمًا باختلاف الناس»( ).
وقال يحيى بن سلام /: «لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب إليّ»( ).
إلى غير ذلك من الأقوال، ويراجع الشاطبي في «الموافقات»، فقد عدَّ معرفة الاختلاف من المزايا التي على المجتهد أن يتصف بها( ).
إذا تقرر ما تقدم من جواز الاختلاف بين أهل الحق، فاعلم أن هذا الاختلاف قد يكون سببًا للتيسير والتسهيل، والتيسير مقصد من مقاصد الشريعة بنص الكتاب والسنة، كما مر عن الشاطبي وغيره.
وبناءً عليه: يوجد في المذاهب كلها العدول عن القول الراجح إلى قول مرجوح، لجلب مصلحة ترجحت، أو درء مفسدة، أو دفع مشقة عرضت.
ولهذا تقرر عند المالكية تقديم القول الضعيف الذي جرى به العمل على القول الراجح في زمن من الأزمنة أو مكان من الأمكنة لتبدل عرف أو عروض جلب مصلحة أو درء مفسدة، فيرتبط العمل بالموجب وجودًا أو عدمًا، كما يقول شارح التحفة. وبنوا على ذلك مئات المسائل.
وقال ابن عابدين كذلك بجواز الإفتاء بالضعيف للضرورة، وذكر أبياتًا في ذلك:
ولا يجوز بالضعيف العمل
ولا به يجاب من جا يسأل
إلا لعامل له ضروره
أو من له معرفة مشهوره
ومعنى ذلك: أن مقصد التيسير يرجح القول الضعيف فيتعين العمل به لعروض المشقة، فمعادلة المقصد الكلي بالنص الجزئي مؤثرة في الفتوى على مدار الأزمنة.
يقول ابن القيم / في تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال: «هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالّة عليه وعلى صدق رسوله ^»( ).
وتغير الزمان المشار إليه هو تغير أحوال الناس، فالحجيج الذين كانوا يعدون بالآلاف أصبحوا يعدون بالملايين، والأنفس القليلة التي كانت تموت في موسم الحج أصبحت تعد بالمئات.
ومحل الشاهد منه أن الإبقاء على أحكام الجزئيات التي تخالف مقاصد الشريعة وتؤدي إلى مشقة وإعنات، مخالف لروح الشريعة وغلط.
وأي مشقة أعظم من ذهاب الأنفس في الزحام والإثخان بالجروح والآلام، ألا يستحق الأمر اجتهادًا؟
قال ابن عابدين في نفس المعنى: «فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام، ولهذا ترى مشايخ المذاهب خالفوا ما نصَّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمانهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه»( ).
وقال أيضًا: «ثم اعلم أن كثيرًا من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه، قد تغيرت بتغير الأزمان؛ بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة كما قدمناه».
مقصد التيسير في الحج بخصوصه
وفتاوى بعض العلماء
1- إن التصريح برفع الحرج من الشارع فيمن خالف أفعاله في الحج بقوله: «افعل ولا حرج». دليل لملاحظة مقصد التيسير في الحج، بالإضافة إلى كونه مقصدًا عامًّا في كل مناحي التشريع الإسلامي بالنصوص التي ذكرناها سلفًا، إلا أنه تجدر الإشارة إلى قوله تعالى:[الحج:78]، أورد في سورة الحج، وأن الحج من أهم موروث من ملة أبينا إبراهيم ×.
2- إن الحج عبادة قرنت بالاستطاعة نصًّا، مع أن كل العبادات يشترط لوجوبها الاستطاعة، قال تعالى:[آل عمران:97]، وجاء في الحديث: «وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا»( ).
وهذه نصوص تشير إلى إرادة التيسير وعدم الإعنات.
3- إن الحج في كثيرٍ من أحكامه مبني على التخيير، والتخيير أساس التيسير.
فالحج وقته متسع، فهو واجب على التراخي عند بعض العلماء كالشافعية والمغاربة من المالكية، ويشرع فيه بإحرام بواحد من ثلاثة أنساك على سبيل التخيير، وهي: التمتع والقران والإفراد.
وكذلك التخيير في الفدية:[البقرة:196].
4- إن بعض أفعال الحج المختلف فيها بالتقديم والتأخير، كالرمي، لا يوجد بخصوصها دليل قولي من الشارع، وإنما تدخل تحت دلالة الفعل، ودلالة الفعل دلالة ضعيفة، وإن كان مستندًا إلى قوله ^: «خذوا عني مناسككم»( ). فمعلوم أن أفعاله ^ في الحج منها الواجب والمسنون والجائز، فيبقى الاحتمال قائمًا في تعيين أي منها، فقد حج راكبًا، وهو أمر جائز، وقد حصَّب( )، وهو أمر مختلف في دلالته بين الجواز والاستحباب.
وقد رتب الرمي والحلق والإفاضة، وقد ثبت عنه رفع الحرج عمن خالف الترتيب.
وقد سمح لذوي أعذار خفيفة بترك المبيت بمنى، وبجمع الرمي في يوم واحد.
إلى غير ذلك من الرخص التي يشتمل عليها كتاب أخينا العلامة الدكتور سلمان العودة.
وعدمُ وجود بيان قولي مما يقرب المسألة من منطقة العفو لاحتمال أن يكون فعله ^ محمولًا على الأفضلية، ويرجح مذهب من أجاز الرمي في أي وقت من أيام منى للحاجة والمشقة.
ولهذا ترخص العلماء في مواطن ورد فيها بيان قولي، كمسألة طواف الحائض عندما أدت إلى شدة ومشقة في القرن الثامن الهجري.
وهذه فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية /، كما نقلها اللبدي، ننقلها بكاملها مع تعليقات اللبدي، لما تضمنته من معانٍ توضح منحى التعامل مع المشقات في الحج، حيث يقول:
«مسألة مهمة جدًّا: نبه عليها الشيخ الإمام والحبر الهمام قدوة الأنام شيخ الإسلام بحر العلوم أبو العباس تقي الدين أحمد ابن تيمية، طيب الله ثراه وجعل الجنة مأواه؛ قال /:
وقد يقع في الحج في كل عام ما يبتلى به كثير من نساء العلماء والعوام؛ وذلك أن المحرمة تحيض قبل طواف الإفاضة، ويرحل الركب قبل طهرها، ولا يمكن المقام للطواف.
قال: وفي سنة سبع وسبعمائة جرى ذلك لكثير من نساء الأعيان وغيرهم، فمنهن من انقطع دمها يومًا أو أكثر باستعمال دواء، ومنهن من انقطع دمها يومًا أو أكثر بغير دواء، فظنت أن الدم لا يعود، ففعلت كالأولى، ثم عاد الدم في أيام عدتها، ومنهن من طافت قبل انقطاعه وقبل غسلها، ومنهن من سافرت مع الركب قبل الطواف، وكانت قد طافت طواف القدوم وسعت بعده؛ فهؤلاء أربعة أصناف.
فلما اشتد الأمر بهن، وخفن أن يحرم تزويجهن، ووطء المتزوجة منهن، ويرجعن بلا حج، وقد أتين من بلاد بعيدة، وقاسين المشاق الشديدة، وأنفقن الأموال، كثر منهن السؤال، وقد قاربت عقولهن للزوال: هل من مخرج عن هذا الحرج، وهل مع الشدة من فرج؟
فسألت الله التوفيق والإرشاد، إلى ما فيه التيسير على العباد من مذاهب العلماء الأئمة، الذين جعل اختلافهم رحمة للأمة، فظهر لي في الجواب، والله أعلم بالصواب: أنه يجوز تقليد كل واحد من الأئمة الأربعة، وأن يُقَلّدَ واحد منهم في مسألة وآخر في أخرى؛ فعلى هذا يصح حج كل منهن:
أما الأولى والثانية: فعلى أحد قولين في مذهب الشافعي، بناء على أن يوم النقاء طهر.
قلت: وهو الصحيح من مذهبنا أيضًا، فقد جزم به في «المنتهى» و«الإقناع» وغيرهما.
قال: وأما الثالثة: فعلى مذهب أبي حنيفة، فعنده لا يشترط للطواف طهارة حدث ولا نجس، وهو أحد الروايتين عن أحمد.
قلت: والصحيح المشهور خلافها.
قال: وأما الرابعة: فقد تتخرج صحة حجها على أحد الروايتين عن مالك، وهي أن من طاف طواف القدوم وسعى بعده ورجع إلى بلده قبل طواف الإفاضة، ناسيًا أو جاهلًا، أجزأه عن طواف الإفاضة، فإنَّ عذر الحيض أظهر من عذر الجاهل والناسي.
قال: وإن لم يعمل بهذه الرواية أو لم يصح التخريج، فعلى قياس أصول مذهب الشافعي، أنها إذا جاوزت مكة بيوم أو أكثر، بحيث لا يمكنها الرجوع إلى مكة، خوفًا على نفسها أو مالها، تصير كالمحصر، فتتحلل كهو وتذبح شاة وتقصر من شعرها، وتصير حلالًا. انتهى باختصار من نحو ورقتين.
وقال / في مواضع أخر: غاية ما في الطهارة أنها شرط في الطواف، ومعلوم أن كونها شرطًا في الصلاة آكد، ومع ذلك تصح الصلاة بدونها مع العذر عند الأكثر... وذكر كلامًا كثيرًا لا يحتمله هذا المختصر.
والحاصل: أنه انتصر لصحة طواف الحائض انتصارًا لا مزيد عليه، وأقام على ذلك أدلة واضحة، وذكر أنه لا دم عليها.
وآخر ما قال: هذا الذي يتوجه عندي في هذه المسألة، ولضرورة الناس واحتياجهم إليها علمًا وعملًا تجمشت الكلام فيها، فإني لم أجد فيها كلامًا لغيري، والاجتهاد عند الضرورة مما أمر الله به، فإن يكن ما قلته صوابًا فهو من الله ورسوله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه. انتهى ملخصًا من «شرح عمدة الأحكام»( ).
وعلق الزرقاني في «شرحه» عند قول خليل: «وحُبِسَ الكَرِيُّ والوَلِيُّ لحيضٍ أو نِفَاس قَدْرَهُ، وقُيِّدَ إنْ أَمنَ». بقوله - بعد نقله لأقوال مذهب مالك في اعتبار الحائض محصرة وأنها تظل على إحرامها-: «وفيه من المشقة -خصوصًا على من بلادها بعيدة- ما لا يخفى، ومقتضى يسر الدين أن لها أن تقلد: إما ما رواه البصريون المالكية عن الإمام مالك، من أن من طاف للقدوم وسعى ورجع لبلده قبل طواف الإفاضة جاهلًا أو ناسيًا أجزأه عن طواف الإفاضة، خلاف ما نقل البغداديون عنه من عدم الإجزاء وإن كان هو المذهب.
ولاشك أن عذر الحائض والنفساء أبلغ من عذر الجاهل والناسي.
وإما أبا حنيفة، أن للحائض أن تطوف؛ لأنه لا يشترط عنده في الطواف طهارة حدث وخبث، وكذا هو إحدى الروايتين عن أحمد، ويلزمها ذبح بدنة ويتم حجها لصحة طوافها، وإن كانت تأثم عندهما أو عند أحمد فقط بدخول المسجد حائضًا. والله أعلم بالصواب»( ).
قلت: وأحوال الناس اليوم أشق وأشد من حال الحائض، لذهاب الأنفس، أفلا تستحق منا اجتهادًا لاختيار الأقوال الميسرة!
بلى؛ لقد أصبح ذلك من الواجب، وهو ما نحسب أن كتاب العلامة الشيخ سلمان ينحو نحوه، فجزاه الله خيرًا ونفع بعلمه، ووفقنا وإياه للسداد في القول، والرشاد في العمل.
وهو سبحانه وتعالى ولي التوفيق
والهادي بمنه وكرمه إلى سواء الطريق
وكتب:
عبدالله بن بيـّـه
مقـــدمــــة
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا، والصلوات والتسليمات الطيبات على النبي محمد وآله، ورضوان الله على الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان... ثم أما بعد:
فهذه ورقة مختصرة في مسائل الحج وتيسيراته، انتزعتها من مادة أطول هي شرح كتاب الحج من«عمدة الفقه».
وعالجت فيها بعض القضايا التي تمس الحاجة إليها، ويكثر السؤال عنها، وتعم البلوى بها، ويحتاج الخلق فيها إلى التوسعة.
وقد نشرت هذه المادة على حلقات في موقع «الإسلام اليوم»، وفي بعض الصحف السيارة، ولقيت قبولًا عند القراء وثناء من بعض الشيوخ والفضلاء، وتحفيزًا على طبعها ليعم نفعها.
ورحم الله امرًأ أضاف أو دعا أو صحَّح أو نقَّح..
والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.
ليشهــدوا منـافـــع لـهــــم
حفلت الآيات الكريمة التي وردت في سياق تشريع العبادات بإبراز المقاصد الشرعية منها، وذلك لما علمه الله تعالى في جبلة الناس من النسيان والغفلة.
وحين يطول الأمد وتقسو القلوب تتحول العبادات عند بعض المؤمنين إلى رسوم وعادات، يؤدونها بمظاهرها وصورها، ولا يتحسسون قلوبَهم إثْرها، بل يغرقون في دقائقها وتفصيلاتها، ثم تأتي مرحلة أخرى جرت على أهل الكتب كلهم بسبب الغفلة عن المقاصد الشرعية، وهي أن يضاف إلى العبادة ما ليس منها، مما أوحاه إليهم الانهماك في ظاهرها والانقطاع عن روحها ولبها ومقصدها.
ومن تأمل هذا ووعاه أدرك طرفًا من الحكمة البالغة في تكرار القصد من تشريع العبادة؛ ففي شأن الصلاة -وهي أم العبادات- يأتي السياق القرآني مؤكدًا على أثرها في صياغة سلوك المسلم؛ بأنها[العنكبوت:45].
وفي شأن الزكاة، كان التأكيد على أمر النبي ^ بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها، وتكون سببًا في صلاته عليهم، ولهذا كان ^ إذا جاءه قوم بزكاتهم قال: «اللهم صلِّ على آل فلان»( ).
وفي شأن الصوم وضمن سياق مفصل مؤثر قال الله تعالى: [البقرة:183].
وفي شأن النسائك، وهي الذبائح والنحائر المرتبطة بمشعر الحج، يقول تعالى:[الحج:37].
بل في الحج ذاته يبين تعالى أن المقصد من النسك كله هو[الحج:34]. ولهذا قالت عائشة ل: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله»( ).
فهل يستشعر المؤمن وهو يطوف بالبيت هذا المعنى! أو تغلب عليه روح المنافسة والانتصار، فهو يزاحم بمنكبيه، ويصارع بيديه، ويجادل بصوته، وكأنه في حلبة عراك!
أو هل يدرك هذا وهو يدفع من المشاعر وقد احتدم الزحام واصطك الحاج، وصارت رغبة النفس أن تسبق إلى غايتها الجديدة، وتفاخر الناس بذلك، فما يقطعونه في ساعات قد تحقق لي في دقائق! وقد كان من سنته عليه السلام في الدفع من عرفة: «السكينة السكينة.. فإن البر ليس بالإيضاع».
إن البر هو مقصود الحج، وهو لا يتحقق بالإسراع والعجلة والحطم، وإنما بالسكينة والإخبات.
أو هل يستشعر الحاج هذا المعنى وهو يرمي الجمرات، وقد استجمع في نفسه ذكريات ما رأى أو سمع من شدة الموقف، والموت تحت الأقدام، والحديث المسترسل بعدُ مع الصحبة عن الرمي وما جرى فيه، والحيلة والقوة والشدة.
إن هذه العبادات الجماعية تربية ربانية على أداء الواجب بإتقان وإخلاص، وعلى رعاية حقوق الآخرين ومنازلهم، وإكرام كبارهم، والرحمة بصغارهم، والشفقة على غريبهم وضعيفهم وجاهلهم؛ ولهذا قال سبحانه:[البقرة:197].
فهو تخففٌ من الدنيا وحظوظها ينأى به المحرم عن الرفث، وهو الجماع ودواعيه، وهو من محظورات الإحرام باتفاق، ويلتحق بهذا ترك فضول الحديث عن النساء مما يثير الغرائز ويحرك الشهوات.
كما ينأى به عن الفسوق، وهو المعاصي كلها، والفسوق للحاج انتهاك لحرمة النسك، وجراءة على الحرم المقدس، فضلًا عن كونه مُحرمًا أصلًا.
أما الجدال: فهو المخاصمة بالباطل، والاسترسال وراء نوازع النفس وأنانياتها التي تأبى إلا أن تكون الغلبة والكلمة الأخيرة لها، دون أن تلتفت إلى حق وباطل، أو خطأ وصواب، أو على أدنى الأحوال أن تلتفت إلى الاحتمال، ولقد رُوي عن الإمام الشافعي / قوله: «قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب».
ويقول بعض الظرفاء: حري بأمثالنا أن نقول: قولنا خطأ يحتمل الصواب!
وجرعة يبتلعها المرء من غيظ عابر، خير من معركة يخوضها مع جليسه أو صاحبه، لا تقرب من جنة، ولا تباعد من نار، ولا تدل على هدى، ولا تصد عن ردى، ولكن أين المعتبر؟
وكل ما شرع الله في الحج وفي غيره فهو لمصلحة عباده العاجلة والآجلة، ولهذا قال الله تعالى في أمر النسك:[الحج:28].
والمنافع تشمل الأجر في الآخرة، كما ذكره قوم من المفسرين، والتجارة في الدنيا، كما ذكره آخرون، والمصالح وراء ذلك، كما ذكره الطبري عن مجاهد / قال: «التجارة وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة».
قال الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بذلك: ليشهدوا منافع لهم مِن العمل الذي يرضي اللهَ، والتجارة، وذلك أن الله عمَّ [الحج:28] جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم، من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئًا من منافعهم بخبر ولا عقل»( ).
إن الله تعالى غني عن عباده، وحينما رأى رسول الله ^ شيخًا يهادى قد نذر الحج ماشيًا، قال: «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني»( ).
وحينما ذكر الله تعالى النحائر، قال:[الحج:37].
ولقد يطول عجب المرء من غفلة كثير من المسلمين الصلحاء عن قيم الحج ومراميه وآثاره في النفس والسلوك والحياة، ولو سألوا عن هذا المعنى كما يسألون عن تفصيلات ما يعرض لهم من الأحكام لكان هذا خيرًا لهم وأقوم.