إفعل ولا حرج
لفضيلة الشيخ
سلمان بن فهد العودة
مقدمة سماحة الشيخ
عبـدالله بـن عبـدالرحمــن بـن جــبريــن
عضو الإفتاء سابقًا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد سمعت هذه الرسالة الموسومة بـ«افعل ولا حرج»، بقراءة كاتبها فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة وفقه الله( )، وسرني ما تتضمنه من التسهيل والتوسعة على الحجاج؛ بحيث إن الكثير يتعرضون للزحام الشديد والمضايقات، والتي قد تؤدي إلى الوفيات، وإلى الأضرار، وإلى الصعوبة التي تشغل الحاج عن أهمية العبادة، وعن الحكمة والمصلحة التي شرعت لأجلها تلك العبادة، كما فصله الكاتب وفقه الله.
وهذا ما تطمئن إليه النفس في هذه الأزمنة التي تحدث فيها الوفيات، وزهوق الأرواح المحترمة، فنوصي بالتمشي مع هذه التسهيلات، فـ«إن الدين يسر - كما قال رسول الله ^ - ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا»( ). وعلى ما ذكر الله تعالى:
[الشرح:5].
وقد أضفت خمسة تعليقات هي:
(1) الوقوف بعرفة يجزئ أية ساعة ليلًا أو نهارًا، من طلوع الشمس إلى طلوع الفجر يوم النحر، كما يدل عليه حديث عروة بن مُضَرِّس ا مرفوعًا: «من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه وقضى تفثه»( ).
(2) نمرة داخلة في حدود عرفة، وعرفة واسعة جدًّا، وكذلك عُرنة (بالنون)، كما قال ^: «عرفة كلها موقف، إلا بطن عرنة»( ). وقال ^: «وارفعوا عن بطن عرنة»( ).
والوادي هو المنخفض الذي نهى النبي ^ عن الوقوف فيه.
وتمتد عرفة شمالًا نحو خمسة كيلومترات، وكانت حدودها قديمًا إلى نخل يسمى نخل بني عامر، ولكنه زال الآن.
وتمتد شرقًا إلى الجبال الشاهقة الرفيعة، وغربًا إلى الجبال أيضًا، وجنوبًا إلى الجبال المنخفضة الممتدة.
(3) الاحتياط في التحلل الأول أن يكون باثنين من ثلاثة، كما ذكره الفقهاء، ومنهم الشيخ ابن باز / في «التحقيق والإيضاح»( )، وهو الذي يترجح لي.
(4) السعي قبل الطواف جاء فيه حديث: سعيت قبل أن أطوف، قال: «لا حرج»( ). وقد اختلف العلماء في صحته.
والأقرب جواز تقديم السعي على الطواف إذا كانا في يوم واحد، حيث إن ظاهر الحديث يدل على أن السائل طاف وسعى في يوم واحد، وهو يوم النحر.
(5) أرى توسعة وقت الرمي للجمرات، وأنه ضروري في هذه الأزمنة، وفي الأزمنة السابقة كان الرمي يسيرًا، ولا مشقة فيه، أما الوقت الآن فقد تغير.
وأسأل الله التوفيق والهداية والقبول للمسلمين جميعًا، إنه جواد كريم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم..
أملاه:
عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين
27 / 8 / 1427هـ
مقدمة معالي الشيخ
عبـــدالله بــن سليمـــان بـــن منيـــــع
عضو هيئة كبار العلماء
الحمد لله القائل: *[الحج:78]، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد الموصوف باليسر والتيسير، فـ«ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا»( )، والقائل: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»( ). والقائل: «افعل ولا حرج». وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فلقد سعدت بقراءة رسالة مختصرة جليلة مفيدة بعنوان: «افعل ولا حرج» في بعض مسائل وأحكام الحج، لفضيلة الشيخ الجليل الدكتور سلمان العودة، ذكر فيها مجموعة من مسائل الحج، التي هي في عصورنا الحاضرة في حاجة مُلحّة إلى الأخذ بالتيسير والسير على منهج رسول الله ^: «افعل ولا حرج».. «يسروا ولا تعسروا».
من هذه المسائل: مسألة إفاضة الحجاج من عرفة قبل غروب الشمس جوازًا، والبقاء في عرفة إلى غروب الشمس استحبابًا، وجواز عدم المبيت بمنى ليالي أيام التشريق لمن كان له عذر أو لم يجد مكانًا في منى يبيت فيه. وجواز الرمي -رمي الجمار أيام التشريق- قبل زوال الشمس، استنادًا إلى قواعد التيسير ورفع الحرج، واتباعًا لمن كان أهلًا للاقتداء، كالإمامين: أبي حنيفة وأحمد، وقبلهما التابعيان: طاوس وعكرمة، وغيرهم من علماء سلفنا الصالح رحمهم الله.
إلى غير ذلك من المسائل التي ذكرها فضيلة الدكتور سلمان، ورأى أن التوسع والتيسير على حجاج بيت الله في أحكامها أمر تقتضيه قواعد التيسير ورفع الحرج، لا سيما في عصرنا الحاضر، الذي تكاثر فيه الحجاج، حتى أنهم بلغوا بضع العشرة من ملايين الحجاج، وعوامل تزايدهم تتوافر وتكثر، ومواقع المناسك محدودة زمانًا ومكانًا، ووسائل ترفه القادرين على الترفه والباذلين في سبيل الحصول عليه مهيأة وعلى حساب ضعفاء الحجاج.
كل ذلك يسوّغ الأخذ بمبدأ التيسير والتخفيف ورفع الحرج، ما لم يشتمل ذلك على مخالفة صريحة لنص من كتاب الله أو سنة رسوله ^، وقد أخذ فضيلة الشيخ سلمان جزاه الله خيرًا بهذا المبدأ، فجاءت رسالته القيمة إسهامًا في التيسير على حجاج بيت الله الحرام، ورفع المشقة عنهم.
وأتمنى أن فضيلته أشار إلى الازدحام الشديد في المطاف وفي المسعى، وأعطى رأيه المبارك في علاج هذا الازدحام الشديد الذي هو مقارب للمشقة البالغة في رمي الجمار.
وإسهامًا مني مع فضيلته في المناداة بالتيسير ورفع المشقة والحرج، فيمكننا توسيع المسعى، ببناء دور بين أرضه وسقفه، حيث إن ارتفاع سقفه عن أرضه قرابة اثني عشر مترًا، وكذلك بناء دور بين سقف أرضه وسقف السقف وهو السطح، ليكون لدينا للسعي خمسة مواقع عرض كل موقع قرابة عشرين مترًا، هذه المواقع الخمسة هي: الأرض، وما بين الأرض والسقف، والسقف، وما بين السقف والسطح، والسطح. ولا شك أن هذه توسعة مفيدة لا يترتب عليها مخالفة في زيادة عرض المسعى عما هو عليه الآن.
وكذلك الأمر بالنسبة للمطاف، فلئن كانت الظروف السياسية تؤثر على هدم مبنى الأتراك في الحرم الذي سطحه القباب، فيمكن أن يجعل فوق هذا المبنى جسر معلق، ليكون مطافًا مساندًا للمطاف، وليس في هذا إشكال من الناحية الشرعية؛ فالحجاج والمعتمرون يطوفون في الأروقة وفي السطح، وطوافهم فيها جائز، وطوافهم في الأروقة وسطح الحرم أبعد عن الكعبة من الطواف فوق هذا الجسر المقترح. وهذا علاج للإشكال في الازدحام في الطواف.
وقد تقدمت لخادم الحرمين -حفظه الله- بهذا الاقتراح، ووجَّه بدراسته والأخذ به، ولعل أمر ذلك لا يطول؛ فالحاجة تزداد إلى حد الاضطرار، وعلى أية حال فلا أظن أن أحدًا من أهل العلم
-سواء كان في محيط المسؤولية أم كان في مستواها خارجًا عنها- لا أظن أحدًا من هؤلاء ينكر أن الفتوى تتغير بتغير الأحوال والظروف إذا كانت محققة المقصد الشرعي غير مخالفة لنص صريح.
وابن القيم / يؤكد في كتابه القيم «إعلام الموقعين عن رب العالمين» أن الفتوى المحققة للمصلحة شرع الله.
وأختم هذا التقديم لهذه الرسالة الجليلة بهذا الدعاء: اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وجنبناه. واجز اللهم أبا معاذ سلمان العودة خير جزاء وأتمه، واجعل هذه الرسالة في موازين حسناته، والله المستعان.
أعد هذا التقديم:
عبدالله بن سليمان المنيع
مقدمـة معالي الشيخ
عبـــدالله بــن الشيـــخ المحفــوظ بــن بيـــه
وزير العدل بجمهورية موريتانيا سابقًا
وعضو مجمع الفقه الإسلامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، وبعد:
فلقد اطلعت على كتاب «افعل ولا حرج» لأخينا العلامة المستبصر الدكتور سلمان بن فهد العودة حفظه الله تعالى، وهو كتاب صغير الحجم، إلا أنه مشتمل على جمل مفيدة من العلم، وبخاصة مسائل الحج والعمرة، جاء في وقته وأوانه، متسمًا بالفهم والتدبر في مشكلات الحج في زمانه ومكانه.
ولعمري إنه لموضوع جدير بالاهتمام، بلغ سيله الزبى وحزامه الطبيين، بعد تكرار حوادث الازدحام التي تؤدي إلى هلاك الأنفس وتشويه صورة الإسلام، حيث يظهر معتنقوه بمظهر الفوضى وعدم الانضباط والانتظام، ويجد أعداء الدين -وهم كثر- فرصة للقدح والتجريح، وكلتا الحالتين منافية لمقاصد الشرع، ومنابذة لمقتضيات العقل والطبع.
وقد طلب مني التقديم لهذا العمل الذي أعتبره إنارة وإثارة؛ أما كونه إنارة، فإنه ينير طريق التيسير لمريد سلوكه، موضحًا بأدلته، وأما كونه إثارة، فإنه يثير لفيفًا من المسائل ينبغي أن تبحث بين الفقهاء لتحرير الفتوى فيها على ضوء الواقع، طبقًا لجدلية الدليل الكلي «المقصد» والدليل الجزئي «النص» وما في معناه من ظاهر أو اقتضاء أو مفهوم، حيث يتجلى فقه الفقهاء وفهم العلماء في مراعاة زوايا هذا المثلث الذي هو: الواقع المستجد من كل جوانبه؛ وهو هنا تزايد أعداد الحجاج، وضيق الرقعة الجغرافية، وذهاب الأنفس شبه المطرد، وتطبيق الحكم الشرعي الذي ينشأ عن نظرة متوازنة للكلي مع الجزئي، تضع نصب عينيها المقاصد الشرعية الأكيدة، دون أن تغيب عن بصرها وبصيرتها النصوص الجزئية، لما يؤدي إلى إيجاد نسبية لاطراد المقصد وشموله.. إن ذلك بعينه هو الوسطية التي لا يسع المتعاطي للفتوى إلا مراعاتها دون تقصير ولا شطط.
فأجبت الطلب، واختصرت هذه المقدمة في ثلاثة مطالب:
الأول: عن مقصد التيسير في الشريعة الغراء.
والثاني: توظيف اختلاف العلماء لرفع الحرج والمشقة عن الأمة، وذلك معنى كون الاختلاف رحمة.
والثالث: مقصد التيسير في الحج بخصوصه، وفتاوى بعض العلماء.
المطلب الأول: مقصد التيسير في الشريعة الغراء
اعلم وفقنا الله وإياك أن التيسير من خصائص هذه الرسالة الخاتمة، فقد قال ـ: [الأعراف:157].
إنها آية كريمة ترسم ملامح الرسالة من خلال صفات نبيها ^، وتعرج على ما يجب له من الحقوق، وتبشر أتباعه بالصلاح والفلاح؛ فهو جامع لوصفي الرسالة والنبوة، وهو أمي لم يتعلم من أحد، فلم يتعلم من نبي ولا عالم، وإنما علمه العليم الحكيم، وهو مكتوب موصوف في توراة موسى وإنجيل عيسى.
فهو النبي الخاتم الذي بشر به الأنبياء، وأخذ العهد عليهم بالإيمان به ونصره، ووصف بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث، ويضع عنهم الإصر والأغلال، أي: التكاليف الغليظة التي كانت تكبلهم الشرائع السابقة بها.
إنه تصوير لحالة الضيق والمشقة التي أماطتها هذه الشريعة بالسماحة واليسر.
فالإصر: يقول عنه النضر بن شميل /: هو العهد الثقيل( ). وكل ثقيل فهو إصر؛ لأنه يأصر صاحبه، أي: يحبسه عن الحركة.
أما الأغلال: فجمع غُل بالضم، وهو جامعة الحديد تكون في العنق واليدين. قال مرتضى في «التاج» عن الأغلال: «وقد تكرر ذكرها في القرآن والسنة، ويراد بها التكاليف الشاقة والأعمال المتعبة»( ).
قلتُ: إنه تصوير ناطق يُقدم إلى السامع صورة شخص مكبل بأغلال حديدية، وهو يحمل على كاهله حملًا ثقيلًا ينوء به! فكيف يقوم بوظيفة الاستخلاف؟ إلى أن امتن ـ عليه برسالة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، فكانت كلمة «يضع» هي المفتاح لفك كبله وإماطة الحمل عن ظهره، فلا غل في الشريعة ولا إصر في الحنيفية السمحة.
وليس التيسير ورفع الحرج قاعدة فقهية فقط عبر عنها الفقهاء بقولهم: «المشقة تجلب التيسير». وقول الشافعي /: «الأمر إذا ضاق اتسع»( ). إلى غير ذلك من العبارات التي تصب في هذا الجدول، بل رفع الحرج والتيسير مقصد أعلى من مقاصد الشريعة.
وهذه فقرات لأبي المقاصد أبي إسحاق الشاطبي / تبين ذلك، حيث يقول: «المسألة السادسة: فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: النصوص الدالة على ذلك، كقوله تعالى: * [الأعراف:157]، وقوله: * [البقرة:286]. وفي الحديث: «قال الله تعالى: قد فعلت»( ). وقد جاء:
* [البقرة:286]، و* [البقرة:185]، و*[الحج:78]، و[النساء:28]، و[المائدة:6]. وفي الحديث: «بعثت بالحنيفية السمحة»( ). وحديث: «ما خير رسول الله ^ بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه»( ). وإنما قال: «ما لم يكن إثمًا» لأن ترك الإثم لا مشقّة فيه من حيث كان مجرد ترك. إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى.
ولو كان قاصدًا للمشقة لما كان مريدًا لليسر ولا التخفيف ولكان مريدًا للحرج والعسر وذلك باطل.
والثاني: ما ثبت أيضًا من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة ضرورة، كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعًا على مطلق رفع الحرج والمشقّة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.
ولو كان الشارع قاصدًا للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف»( ).
وقال الشاطبي أيضًا: «فالنصوص سالفة الذكر عامة في المشقّة بنوعيها الشديد والمتوسط، وإذا فرضنا أن رفع الحرج مفقود فيه صيغة عموم، فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء، والصلاة قاعدًا عند مشقة طلب القيام، والقصر والفطر في السفر، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل...».
وأطال النفس قائلًا: «إلى جزئيات كثيرة جدًّا يحصل من مجموعها قصد لرفع الحرج، فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملًا بالاستقراء»( ).
وعلى هذه الشاكلة القول بالأخف:
يقول الزركشي: «إن القول بالأخف قد يكون بين المذاهب، وقد يكون بين الاحتمالات المتعارضة أماراتها، وقد صار إليه بعضهم؛ لقوله تعالى: [البقرة:185]. وقوله: [الحج:78]. وقوله ^: «بعثت بالحنيفية السمحة»( ).
وهذا يخالف الأخذ بالأقلِّ، فإن هناك يُشترط الاتفاق على الأقل ولا يشترط ذلك هاهنا، وحاصله يرجع إلى أن الأصل في المضار المنع، إذ الأخف منهما هو ذلك.
وقيل: يجب الأخذ بالأشق كما قيل هناك يجب الأخذ بالأكثر»( ).
قال الطوفي في الترجيح عند تعارض الدليلين:
«الثاني: يأخذ بأشد القولين؛ لأن «الحق ثقيل مَرِيءٌ والباطل خفيف وَبيِءٌ». كما يروى في الأثر( ). وفي الحكمة: «إذا ترددت بين أمرين فاجتنب أقربهما من هواك»( ).
وروى الترمذي من حديث عائشة قالت: قال رسول الله : «ما خُيِّر عمار بين أمرين إلا اختار أشدَّهما». وفي لفظ: «أَرْشَدَهُما». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه أيضا النسائي وابن ماجه( ).
فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد.
الثالث: يأخذ بأخف القولين؛ لعموم النصوص الدالة على التخفيف في الشريعة، كقوله[البقرة:185].وقوله: [الحج:78]. وقوله ^:«لا ضرر ولا ضرار»( ). وقوله ^: «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة»( ).
قال شيخنا المزني: من قواعد الشريعة أن يستدل بخفة أحد الأمرين المتعارضين على أن الصواب فيه، أو كما قال.
قلتُ: وثبت عن النبي ^ أنه «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا»( ).
قلتُ: والفرق بينه وبين عمار فيما حكينا عنه من الأخذ بأشد الأمور: أن عمارًا كان مكلفًا محتاطًا لنفسه ودينه، والنبي ^ كان مُشرِّعًا موسِّعًا على الناس لئلا يحرج أمته. وقال: «يَسِّروا ولا تُعَسروا»( ). وقال لبعض أصحابه في سياق الإنكار عليه: «إن فيكم منفرين»( )( ).
قلت: وقد روي حديث عمار: «أسدهما» بالسين المهملة، من السداد، وعليه فلا دليل فيه للشدة.
وبناء على هذا المقصد رجح العلماء في قضايا الخلاف التيسير على مر الزمان، إذا ظهر أن القول الراجح يؤدي إلى إعنات ومشقة، وعدلوا عن القياس وخصصوا عموم النصوص، فالقاعدة أن «غلبة المشقة مسقطة للأمر»، قال عليه الصلاة والسلام: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»( ).