الإفادة من مال اليتيم في عقود المعاوضات
الدكتور خالد بن علي المشيقح
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
===========
بسم اللـه الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فإن من محاسن هذه الشريعة الأمر بالإحسان إلى اليتامى والسعي في رعايتهم، والقيام على أموالهم، وبيان ما يترتب على ذلك من أجر عظيم، قال تعالى: "وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى".
وقال تعالى:
"ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، وقال تعالى: "وأن تقوموا لليتامى بالقسط".
وروى أنس -رضي الله عنه- أن النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: " كافل اليتيم لـه أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة " وأشار أنس بالسبابة والوسطى.
ولما كان ولي اليتيم قد يطمع في ماله أو شيء منه ؛ إذ هو المستولي عليه المتصرف به، ولا رقيب عليه سوى اللَّه عز وجل جاءت الشريعة بالتحذير من الاعتداء على أموالهم، وظلمهم فيها.
قال تعالى:
"إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً".
وروى أبو هريرة رضي اللَّه عنه أن النَّبِيّ ? قال: "اجتنبوا السبع الموبقات ... وذكر منها أكل مال اليتيم".
وقد أباحت الشريعة للولي وغيره شيئاً من مال اليتيم ، فأردت أن أجلي في هذه الكتابة ما يباح من ماله.
وقد اشتمل البحث على:
مقدمة.
وتمهيد، وثلاثة مباحث.
التمهيد:
في إيضاح المراد من العنوان ، والأصل في تصرفات الولي في مال اليتيم ، وأقسام الولاية على اليتيم.
ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: إيضاح المراد من العنوان.
المطلب الثاني: الأصل في تصرفات الولي في مال اليتيم.
المطلب الثالث: أقسام الولاية على اليتيم.
المبحث الأول:
الإفادة من مال اليتيم في عقود المعاوضات، وفيه مطالب:
المطلب الأول: بيع الولي وشراؤه من نفسه.
المطلب الثاني: أخذ جزء من الربح مقابل المضاربة به.
المطلب الثالث: بيعه بأقل من ثمن المثل، والشراء بأكثر من ثمن المثل.
المطلب الرابع: بيعه نسيئة.
المطلب الخامس: بيعه بالعرض.
المطلب السادس: رهن ماله.
المطلب السابع: الصلح عن الدين المدعى به لليتيم.
المطلب الثامن : تأجير مال اليتيم.
المطلب التاسع: المساقاة والمزارعة لمال اليتيم.
المبحث الثاني:
الإفادة من مال اليتيم في عقود التبرعات، وفيه مطالب:
المطلب الأول: إقراض ماله.
المطلب الثاني: إعارة ماله.
المطلب الثالث: هبته، والصدقة به، ووقفه ونحو ذلك.
المطلب الرابع: أكل الولي من ماله.
المطلب الخامس: خلط الولي ماله بمال اليتيم.
المبحث الثالث:
الإفادة بإخراج ما وجب في ماله.
منهج البحث:
سلكت في كتابة هذا البحث المنهج العلمي في كتابة البحوث ، كما يلي:
أولاً:
اقتصرت في بحثي هذا على المذاهب الأربعة، والمذهب الظاهري، كما أذكر رأي مشاهير فقهاء السلف أحياناً.
ثانياً:
أقوم بعرض المسألة الخلافية بذكر القول أولاً، فالقائل به، ثم أتبعه بالاستدلال، وما ورد عليه من مناقشة، وما أجيب به عنها، وهذا في جملة البحث، وقد يختلف المنهج تبعاً لاختلاف المسألة، وحيث كانت المناقشة من عندي صدرتها بعبارة "لعله يناقش بـ".
ثالثاً:
اعتمدت في نسبة كل قول لكل مذهب على أمهات كتب المذهب.
رابعاً:
اجتهدت في التوفيق بين الأقوال، فإن تعذر ذلك رجحت ما ظهر لي رجحانه، بناء على قوة الأدلة، وبما يتمشى مع قواعد الشريعة، ومقاصدها العامة.
خامساً:
عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها في كتاب اللَّه ، بذكر السورة ورقم الآية.
سادساً:
خرجت جميع الأحاديث الواردة في البحث، وما كان منها في صحيح البخاري، أو مسلم: اكتفيت به، وما لم يخرجه أحدهما ، أو كلاهما خرجته من الصحاح، والسنن، والمسانيد المتبقية، مع بيان درجة الحديث.
سابعاً:
خرجت الآثار الواردة في البحث من مصادرها، مع بيان درجة الأثر، بالنظر في إسناده والحكم عليه.
ثامناً:
وضحت معنى ما يرد في هذا البحث من كلمات وألفاظ غريبة.
تاسعاً: عملت فهرساً لهذا البحث اشتمل ما يلي:
1 – فهرساً لمصادر البحث ومراجعه.
2 – فهرساً لموضوعات البحث.
خالد بن علي المشيقـح.
=============
التمهيـــد
في إيضاح المراد من العنوان ، وبيان الأصل في تصرفات الولي في مال اليتيم، وأقسام الولاية على اليتيم
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: إيضاح المراد من العنوان
الفائدة:
الزيادة تحصل للإنسان، وجمعها فوائد وهي اسم فاعل من قولك: فادت لـه فائدة فيداً، وأفدته مالاً أعطيته، وأفدت منه مالاً: أخذت...
فالإفادة من مال اليتيم:
أي ما يُستفاد أي يؤخذ.
وأما اليتيم:
فاليتم: الانفراد، واليتم في الناس: فقدان الأب، وفي البهائم من قبل الأم.
فاليتيم:
الذي مات أبوه، فهو يتيم حتى يبلغ، والجمع أيتام، ويتامى، ويتمة.
وروي في حديث علي مرفوعاً: "لا يتم بعد احتلام".
وورد موقوفاً على ابن عباس رضي اللَّه عنهما.
والمعاوضات:
جمع معاوضة.
والعوض:
هو البدل، والجمع أعواض، مثل: عنب وأعناب، واعتاض وتعوض: أخذ العوض، واستعاض: سأل العوض.
والمراد بها:
العقود التي يقصد بها الكسب والربح، كعقد البيع، ونحوه.
والتبرعات:
جمع تبرع.
وبرع الرجل يَبْرَع، وبَرُعَ براعة: إذا فضل في علم، أو شجاعة، أو غير ذلك.
وتبرع بالأمر:
فعله غير طالب عوضاً.
والمراد بها:
العقود التي يقصد بها الإرفاق والإحسان، كالقرض، والهبة، ونحو ذلك.
والمراد بالبحث:
ما يباح للولي وغيره استفادته من مال اليتيم، سواء من خلال عقود المعاوضات، أو عقود التبرعات.
المطلب الثاني: الأصل في تصرفات الولي في مال اليتيم
الأصل أن مَنْ تصرّف لغيره سواءً كان وكيلاً، أو ولياً، أو ناظر وقف أو غير ذلك أن تصرفه تصرف نظر ومصلحة، لا تشهٍ واختيار، لاسيما فيما يتعلق بمال اليتيم.
قال اللَّه تعالى:
"ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير".
وقال تعالى: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً"، وقال تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده"، وقال تعالى: "وأن تقوموا لليتامى بالقسط".
فهذه الآيات وغيرها تدل على أن تصرفات الولي في مال اليتيم مبنية على المصلحة ، وأنه لا يجوز قربانها إلا بالتي هي أحسن لهم ، وأصلح لمالهم.
الولاية لغة:
بفتح الواو وكسرها مأخوذة من الفعل "ولي".
وتطل على معنيين:
1 – النصرة، ومنه قوله تعالى: "مالكم من ولايتهم من شيء" أي من نصرتهم.
2 – السلطة وتولي الأمر، يُقال فلان لـه ولاية على البلدة أي هو أميرها وسلطانها.
وفي الاصطلاح:
نفاذ التصرف على الغير شاء أو أبى.
وقيل: قيام شخص كبير راشد على شخص قاصر في تدبير شؤونه الشخصية والمالية.
وقيل: إنها سلطة شرعية في النفس أو المال يترتب عليها نفاذ التصرف فيهما شرعاً.
تنقسم الولاية على اليتيم إلى:
القسم الأول:
ولاية على النفس، والسلطة الشرعية المتعلقة بنفس اليتيم كالتزويج، والحفظ، والتربية، والحضانة.
القسم الثاني:
ولاية على المال، وهي السلطة الشرعية المتعلقة بماله من معاوضات وتبرعات وغير ذلك.
وتنقسم الولاية أيضاً من حيث الإجبار وعدمه إلى قسمين:
القسم الأول:
ولاية إجبار، هي السلطة الشرعية التي لا يكون لليتيم فيها اختيار كولاية المال.
القسم الثاني:
ولاية اختيار، وهي السلطة الشرعية التي يكون لـه فيها اختيار كولاية التزويج.
المبحث الأول:
الإفادة من مال اليتيم في عقود المعاوضات.
وفيه مطالب:
المطلب الأول: بيع الولي وشراؤه من نفسه.
اختلف العلماء رحمهم اللَّه في بيع وشراء الولي من مال اليتيم لنفسه على قولين:
القول الأول:
أنه يجوز للولي أن يبيع وأن يشتري مال اليتيم لنفسه. إذا زالت التهمة، بأن يزيد على ثمن المثل في الشراء ، وينقص عنه في البيع.
وهو مذهب الحنفية، لكن استثنى أبو حنيفة: القاضي ووصيه فلا يملك ذلك، والمالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
فقد ورد عن الإمام أحمد الجواز بشرطين:
أ – أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء.
ب – أن يتولى النداء غيره.
وبه قال ابن حزم إلا أنه لم يشترط الزيادة ، بل يشترط عنده عدم المحاباة.
وحجة هذا القول:
1 – قوله تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن".
وجه الدلالة:
أن الآية أفادت جواز قربان مال اليتيم بالبيع والشراء إذا كان ذلك بالتي هي أحسن، وهذا عام يشمل الولي،, غيره.
2 – ما ورد أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما "أنه اقترض مال اليتيم".
وجه الدلالة:
أن في القرض نوعاً من التبرع ، فإذا جاز ذلك في القرض، فجوازه في عقود المعاوضات من باب أولى.
ونوقش:
بقول الإمام أحمد: "إنما استقرض نظراً لليتيم ، واحتياطاً إن أصابه شيء غرمه".
3 – أن تصرف الولي بولاية مستقلة فأشبه الأب والجد.
4 – أنه متى باع من نفسه بزيادة على ما يباع به علم، أنه أراد نفع اليتيم، فنفذ تصرفه فيه كما لو باعه من أجنبي.
5 – أنه يجوز لـه بيعه من الأجنبي بما لا زيادة فيه متيقنة ، فبيعه من نفسه -أي الولي- بالزيادة المتيقنة أولى.
6 – أن الغرض من البيع حصول الثمن لا أعيان المشترين بدليل أن الوكيل إذا ابتاع لموكله ولم يسمه جاز، فإذا ثبت ذلك فمتى حصل الثمن مستوفى فيجب أن يصح الشراء ، كما لو حصل من أجنبي.
واحتج ابن حزم:
أن الولي مأمور بالقيام بالقسط ، والتعاون على البر، فإذا فعل ما أمر به فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل ، ولم يأت قط نص قرآن ولا سنة بالمنع.
القول الثاني:
أنه ليس للولي أن يبيع أو يشتري من نفسه.
وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، لكن استثنى الشافعية الجد، فقالوا: لـه أن يشتري ويبيع من نفسه.
وحجته:
1 – ما يُروى عن النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم): "لا يشتري الوصي من مال اليتيم".
ولعله يناقش:
بأنه لا يثبت عن النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم).
2 – ما ورد أن رجلاً من همدان جاء إلى ابن مسعود على فرس أبلق، فقال: "إن رجلاً أوصى إليَّ وترك يتيماً فأشتري هذا الفارس، أو فرساً آخر من ماله، فقال عبد اللَّه: لا تشتر شيئاً من ماله، وفي الكتاب: لا تشتر شيئاً من ماله، ولا تستقرض شيئاً من ماله".
ولعله يناقش:
بأنه محمول على الاحتياط لليتيم.
3 – أنه متهم في طلب الحفظ لـه في بيع ماله من نفسه فلم يجعل ذلك إليه.
ولعله يناقش:
بأن الجواز مشروط بعدم التهمة.
4 – أن من لا يجوز لـه أن يشتري بثمن المثل لا يجوز لـه أن يشتري بأكثر كالوكيل.
ولعله يناقش:
بأن الأصل المقيس عليه موضع خلاف بين أهل العلم.
المطلب الثاني
أخذ جزء من ربح ماله مقابل المضاربة به وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: مشروعية المضاربة بمال اليتيم
للولي أن يبيع ويشتري في مال اليتيم ، وأن يدفعه لغيره مضاربة. بل صرح جمع من أهل العلم على استحباب ذلك. وهذا قول جمهور أهل العلم.
لكن اشترط الحنابلة شرطين:
أن لا يتجر به إلا المواضع الآمنة، وأن لا يدفعه إلا إلى الأمناء. ولعله مراد غيرهم.
وحجة هذا القول:
1 – ما تقدم من الأدلة على قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن ، والإصلاح في ماله، ومما يدخل في ذلك المضاربة به.
2 – ما روي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: "ألا مَنْ وَلِيَ يتيماً لـه مال، فليتّجر لـه، ولا يتركه حتى تأكله الصّدقة".
وجه الدلالة:
أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر بالاتجار في أموال اليتامى، فدل ذلك على مشروعية المضاربة في أموالهم. (لكنه ضعيف لا يُحتج به).
وورد أن عثمان بن أبي العاص قدم على عمر، فقال لـه عمر: كيف متجر أرضك فإن عندي مال يتيم قد كادت الزكاة أن تفنيه؟ قال: فدفعه إليه".
3 – ما ورد عن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تستغرقها الصدقة".
وجه الدلالة:
من هذين الأثرين فعل عمر -رضي الله عنه- وأمره بالعمل بأموال اليتامى في التجارة كيلا تأكلها الزكاة، فدل ذلك على مشروعية المضاربة في أموال اليتامى.
4 – ما رواه القاسم بن محمد قال: "كنا يتامى في حجر عائشة، فكانت تزكي أموالنا، ثم تدفعه مقارضةً فبورك لنا فيه".
وجه الدلالة:
أن عائشة رضي الله عنها كانت تدفع أموال اليتامى الذين في حجرها مضاربة فدل ذلك على مشروعية المضاربة في أموال اليتامى.
5 – ولأن ذلك أحظ للمولى عليه ؛ لتكون نفقته من فاضله وربحه كما يفعله البالغون في أموالهم.
القول الثاني: عدم جواز المضاربة بماله.
هو رواية عن الإمام أحمد.
وحجته:
اجتناب المخاطرة به، وأن خزنه أحفظ له.
ونوقش هذا الاستدلال:
بأن المضاربة بمال اليتيم مشروطة بانتفاء الخطر، ولا يسلم بأن خزنه أحفظ لـه، بل المضاربة به أحفظ لماله لينفق من فاضل ربحه، وخزنه سبب لاستهلاك الصدقة لـه.
الترجيح:
الراجح –والله أعلم– هو القول الأول، إذ هو الوارد عن الصحابة رضي اللَّه عنهم.