عدة الحامل
لكن إذا كانت المرأة غير المتوفَّى عنها زوجُها حاملًا فعدتُها بعد وضع المولود ولو بلحظة، لماذا؟ لأن العدة في هذه الحالة مرتبطة باستبراء الرحم فقط.
أما المرأة الحامل المتوفَّى عنها زوجُها فعدتُها أبعدُ الأجلَين؛ فإن كان الأجلُ الأبعدُ هو أربعةَ أشهر وعشرًا فتلك عدتُها، وإن كان الأجلُ الأبعدُ هو الحملَ فعدتُها أن ينتهيَ الحمل (وقوله تعالى: "وأُولاتُ الأحمالِ أجلُهنَّ أن يَضَعنَ حَملَهنَّ" يقول تعالى: ومن كانت حاملًا فعدتها بوضعه ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفَوَاق ناقة.
في قول جمهور العلماء من السلف والخلف، كما هو نص هذه الآية الكريمة وكما وردت به السنة النبوية، وقد رُوي عن عليّ وابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنهما ذهَبَا في المتوفَّى عنها زوجها أنها تَعتدُّ بأبعد الأجلَين من الوضع أو الأشهر عملًا بهذه الآية والتي في سورة البقرة.
وروى البخاريّ [4909] عن يحيى قال: أخبرني أبو سلمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس، وأبو هريرة جالس، فقال: أَفتِني في امرأة وَلَدَت بعد موت زوجها بأربعين ليلة. فقال ابن عباس: آخرُ الأجلَين. قلت أنا: "وأُولاتُ الأحمالِ أجلُهنَّ أن يَضَعنَ حَملَهنَّ" قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي. يعني أبا سلمة، فأرسل ابن عباس غلامه كُرَيبًا إلى أم سلمة يسألها فقالت: قُتل زوجُ سُبَيعة الأسلمية وهي حُبلَى، فوَضَعَت بعد موته بأربعين ليلة، فخُطِبَت، فأنكَحَها الرسولُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان أبو السنابل فيمن خَطَبها.
هكذا أورد البخاريّ هذا الحديث ههنا مختصرًا، وقد رواه هو ومسلم وأصحاب الكتب مطولًا من وجوه أُخَرَ.
وروى الإمام أحمد في المسند [4/327] وقال الأرناؤوط [18918]: إسناده صحيح على شرط الشيخين عن المِسْوَر بن مَخرَمة أن سُبيعة الأسلمية تُوفِّيَ عنها زوجُها وهي حامل، فلم يمكُث إلا لياليَ حتى وضَعَت، فلما تَعَلَّت من نِفاسها خُطِبَت فاستأذنَت الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النكاح فأَذِنَ لها أن تَنكِحَ فنَكَحَت.
ورواه البخاريّ في صحيحه ومسلم وأبو داود والنسائيّ وابن ماجه من طرق عنها.
وروى مسلم عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهريّ يأمره أن يدخل على سُبيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها وعما قال لها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين استَفْتَتْهُ، فكتب عمر بن عبد الله يخبره أن سُبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خَولة، وكان ممن شهد بدرًا، فتُوفِّيَ عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تَنشَبْ أن وَضَعَت حَملَها بعد وفاته، فلما تَعَلَّت من نِفاسها تجَمَّلَت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك فقال لها: ما لي أراكِ متجمِّلةً؟ لعلك تَرجِينَ النكاح؟ إنك والله ما أنتِ بناكح حتى تمرّ عليك أربعةُ أشهر وعشر. قالت سُبيعة: فلما قال لي ذلك جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيتُ فأتيتُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حَلَلْتُ حين وضعتُ حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي. هذا لفظ مسلم أخرجه البخاريّ [5319] ومسلم [1484/ 56] والنسائيّ في المجتبَى [6/195] وأبو داود [2306] وابن ماجه [2028].
ورواه البخاريّ مختصرًا ثم قال البخاريّ [4910] بعد روايته الحديث الأول عند هذه الآية أن محمد بن سيرين قال: كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان أصحابه يعظمونه، فذكَر آخرَ الأجلَين، فحدثتُ بحديث سُبيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة، قال: فضَمَرَ لي بعضُ أصحابه. قال محمد: ففَطِنتُ له فقلت: إني لَجَريءٌ أن أكذبَ على عبد الله وهو في ناحية الكوفة. قال: فاستحيا وقال: لكنَّ عمَّه لم يقُل ذلك. فلقيتُ أبا عطية مالكَ بن عامر فسألته فذهب يحدثني حديث سُبيعة، فقلت: هل سمعت عن عبد الله فيها شيئًا؟ فقال: كنا عند عبد الله فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة؟ نزلت سورة النساء القُصرَى بعد الطُّولَى "وأُولاتُ الأحمالِ أجلُهنَّ أن يَضَعنَ حَملَهنَّ". تفسير ابن كثير 4/381 ـ 382).