فصل
عدد أزواج أهل الجنة:
والأحاديث الصحيحة إنما فيها أن لكل منهم زوجتَين، وليس في الصحيح زيادةٌ على ذلك، فإن كانت هذه الأحاديث محفوظةً فإما أن يُراد بها ما لكلِّ واحدٍ من السَّرَاريِّ زيادةً على الزوجتَين ويكونون في ذلك على حسَب منازلهم في القلة والكثرة كالخدم والولدان، وإما أن يُراد أنه يُعطَى قوةَ من يجامع هذا العدد، ويكون هذا هو المحفوظَ، فرواه بعض هؤلاء بالمعنى فقال: له كذا وكذا زوجةً.
وقد روى الترمذيّ في جامعه من حديث أنس عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "يُعطَى المؤمنُ في الجنة قوةَ كذا وكذا من الجماع" قيل: يا رسول الله أوَ يُطيق ذلك؟ قال: "يُعطَى قوةَ مائة" رواه الترمذيّ [2536].
وقال: هذا حديث صحيح غريب. وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [2059] هذا حديث صحيح، فلعل مَن رواه: "يُفضي إلى مائةِ عذراءَ" رواه بالمعنى، أو يكون تَفاوُتُهم في عدد النساء بحسب تفاوُتِهم في الدرجات والله أعلم.
ولا ريب أن للمؤمن في الجنة أكثرَ من اثنتَين، لما في الصحيحين من حديث أبي بكر بن عبد الله ابن قيس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للعبد المؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤة مجوَّفة طولُها ستون ميلًا، للعبد المؤمن فيها أهلُون، فيَطُوف عليهم لا يَرَى بعضُهم بعضًا" أخرجه البخاريّ [3243] ومسلم [2838/ 23] ولفظه: "إن للمؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤة مجوَّفة طولُها ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلُون، يَطُوف عليهم المؤمن فلا يَرَى بعضُهم بعضًا".
فصل
في ذكر المادة التي خُلق منها الحور العين وما ذُكر فيها من الآثار وذِكرِ صفاتهنَّ ومعرفتهنَّ اليوم بأزواجهنَّ:
فأما المادة التي خلق منها الحور العين، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن لوليّ الله في الجنة عروسًا لم يَلِدْها آدم ولا حواء ولكن خُلقَت من زعفران.
وهذا مرويّ عن صحابيَّين وهما ابن عباس وأنس، وعن تابعيَّين وهما أبو سلمة ومجاهد.
وبكل حال فهي من المنشآت في الجنة، ليست مولوداتٍ بين الآباء والأمهات. والله أعلم.
وإذا كانت هذه الخِلقة الآدمية التي هي من أحسنِ الصور وأجملِها مادَّتُها من تراب وجاءت الصور من أحسن الصور، فما الظن بصورة مخلوقة من مادة الزعفران الذي هناك! فالله المستعان.
وقد رُوي في مادة خَلقهنَّ صفة أخرى، عن الزهريّ أن ابن عباس قال: إن في الجنة نهرًا يقال له "البَيذَخ" عليه قِبَاب من ياقوت، تحته حُورٌ ناشئات، يقول أهل الجنة: انطلِقوا بنا إلى البَيذَخ. فيجيئون فيتصفَّحون تلك الجواريَ، فإذا أعجَبَ رجلًا منهم جاريةٌ مَسَّ مِعصَمَها فتَتبَعُه رواه أبو نُعيم في الحلية [2/173].
والبَيذَخ في اللغة تعني العظيم أو البادن السمين وعن ابن عباس قال: كنا جلوسًا مع كعب يومًا فقال: لو أن يدًا من الحور دُلِّيَت من السماء لأضاءت لها الأرضُ كما تُضيء الشمسُ لأهل الدنيا.
ثم قال: إنما قلتُ "يدها" فكيف بالوجه وبياضه وحسنه وجماله! رواه نُعيم بن حماد في زياداته على "الزهد" لابن المبارك [256] وفي مسند الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تؤذي امرأةٌ زوجَها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتَلَكِ اللهُ؛ فإنما هو عندك دَخيل الدَّخيل هو من دخَل في القوم وليس منهم. والمقصود هنا الغريب يوشك أن يفارقَكِ إلينا" رواه أحمد في المسند [5/242] وابن ماجه [2014] وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [1637] وانظر الصحيحة [173].
وقال ربيعة بن كلثوم:
نظر إلينا الحسن ونحن حوله شباب فقال: يا معشر الشباب أما تشتاقون إلى الحور العين؟ وقال لي أي لربيعة بن كلثوم: ابن أبي الحواريّ حدثني الحضرميّ قال: نمت أنا وأبو حمزة على سطح، فجعلت أنظر إليه يتقلب على فرشه إلى الصباح، فقلت: يا أبا حمزة ما رَقَدْتَ الليلة؟ فقال: إني لما اضطَّجَعتُ تمَثَّلَتْ لي حَوراء، حتى كأني أحسست بجلدها وقد مَسَّ جلدي. فحدثتُ به أبا سليمان فقال: هذا رجل كان مشتاقًا.
وعن يحيى بن أبي كثير:
إن الحور العين يَتلَقَّينَ أزواجَهنَّ عند أبواب الجنة فيَقُلنَ: طالما انتظرناكم، فنحن الرَّاضيات فلا نَسخط، والمقيمات فلا نَظعَنُ، والخالدات فلا نموت، بأحسن أصوات سَمِعتَ، وتقول: أنت حِبّي وأنا حِبُّك، ليس دونك تقصيرٌ ولا وراءك مَعدِلٌ في الزهد "مَعدًى" والمقصود: ليس بعدك غاية تُطلَب. رواه ابن المبارك في "الزهد" من رواية نعيم [435].
فصل
في ذكر نكاح أهل الجنة ووَطْئِهنَّ والتذاذِهم بذلك أكملَ لذّةٍ ونزاهةِ ذلك عن المَذي والمنيِّ والضعف وأنه لا يوجب غسلًا:
قد تقدم حديث أبي هريرة: قيل: يا رسول الله أنُفضي إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: "إن الرجل لَيَصلُ في اليوم إلى مائة عذراء".
وأن إسناده صحيح قال الهيثميّ في مجمع الزوائد [10/417]: رواه البزار في رواية عنده، وعند الطبرانيّ في الأوسط بنحوه، ورجال هذه الرواية الثانية رجال الصحيح غير محمد بن ثواب، وهو ثقة وتقدم حديث أبي موسى المتفق على صحته: "إن للمؤمن في الجنة خيمةً من لؤلؤة واحدة مجوَّفة طولها ستون ميلًا، له فيها أهلُون يطُوف عليهم" سبق تخريجه وحديث أنس: "يُعطَى المؤمنُ في الجنة قوةَ كذا وكذا من النساء" وصححه الترمذيّ سبق تخريجه وروى الطبرانيّ وعبد الله بن أحمد وغيرهما من حديث لَقيط بن عامر أنه قال: يا رسول الله علامَ يَطَّلِعُ من الجنة؟ قال: "على أنهار من عسل مُصفًّى، وأنهار من كأس ما بها صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغيَّر طعمه، وماءٍ غيرِ آسِنٍ، وفاكهةٍ لَعَمْرُ إلهِك ما تَعلَمون، وخيرٍ من مثله، وأزواجٍ مطهَّرة" قلت: يا رسول الله أوَ لَنَا فيها أزواج مصلَحات؟ قال: "الصالحات للصالحين، تَلَذُّون بهنَّ مثل لذَّاتكم في الدنيا ويَلْذَذْنَ بكم، غير أنْ لا تَوَالُدَ" رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند [4/13] والحاكم في المستدرك [4/560].
وعن عبد الله بن مسعود في قوله:
"إن أصحاب الجنة اليوم في شُغُلٍ فاكهون" قال: شُغلُهم افتضاضُ العَذَارَى رواه الطبريّ [23/17،18] وأبو نعيم في الحلية [3/215، 216] وعن الأوزاعيّ في قوله تعالى: "إن أصحاب الجنة اليوم في شُغُلٍ فاكهون" قال: شُغلُهم افتضاضُ الأبكار.
قال مقاتل:
شُغلوا بافتضاض العذارَى عن أهل النار، فلا يذكرونهم ولا يهتمون لهم. وقال أبو الأحوص: شُغلوا بافتضاض الأبكار على السرر في الحِجال. وعن أبي مِجلَزٍ: قلت لابن عباس عن قول الله تعالى: "إن أصحاب الجنة اليوم في شُغُلٍ فاكهون" ما شُغلُهم؟ قال: افتضاضُ الأبكار.
وعن سعيد بن جبير: إن شهوته لَتجري في جسده سبعين عامًا يجد اللذة عزاه الزَّبيديّ في تخريج الإحياء [4217] لابن أبي شيبة من كلام سعيد بن جبير إلا أن لفظه: وإن شهوته لَتجري في جسدها سبعين عامًا تجد اللذة ولا يَلحَقهم بذلك جَنابةٌ فيحتاجوا إلى التطهيرِ، ولا ضعفٌ ولا انحلالُ قوة، بل وَطْؤُهم وَطْءُ التذاذٍ ونعيمٍ لا آفةَ فيه بوجه من الوجوه.
وأكملُ الناس فيه أصوَنُهم لنفسه في هذه الدار عن الحرام، فكما أن من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يَلبَسه في الآخرة، ومن أكل من صِحَاف الذهب والفضة في الدنيا لم يأكل فيها في الآخرة، كما قال النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" أخرجه البخاريّ [5425] ومسلم [2067/ 4].
فمن استوفى طيباته ولذَّاته وأذهَبَها في هذه الدار حُرِمَها هناك، كما نَعَى سبحانه على من أذهَب طيباته في الدنيا واستمتَعَ بها، ولهذا كان الصحابة ومَن تَبِعَهم يَخافون من ذلك أشد الخوف، ذكَر الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أنه رآه عمر ومعه لحم قد اشتراه لأهله بدرهم فقال: ما هذا؟ قال: لحمٌ اشتريته لأهلي بدرهم. فقال: أوَ كلما اشتَهَى أحدُكم شيئًا اشتراه! أما سمعتَ الله تعالى يقول: (أَذْهَبْتُم طيباتِكم في حياتِكم الدنيا واستَمتَعتُم بها) [الأحقاف: 20] رواه أحمد في الزهد [ 153].
وقال الحسن:
قدم وفد أهل البصرة مع أبي موسى على عمر، فكنا ندخل عليه كل يوم وله خبز ثلاثة، وربما وافقناها مأدومة بالسمن، وربما وافقناها مأدومة بالزيت، وربما وافقناها مأدومة باللبن، وربما وافقناها القدائد اليابسة القدائد: قطع لحم يابسة قد دُقَّت ثم أُغليَ بها، وربما وافقناها اللحم الغَريض الغَريض: الطازج وهو قليل، فقال ذات يوم: إني والله قد أرى تَعذيرَكم تَعذيرَكم: تَقصيرَكم في الأكل وكراهيتَكم لطعامي، إني والله لو شئتُ لكنتُ أطيَبَكم طعامًا وأرَقَّكم عيشًا، ولكني سمعتُ اللهَ عيَّر قومًا بأمر فعَلوه فقال: "أذْهَبْتُم طيباتِكم في حياتِكم الدنيا واستمتعتم بها" رواه ابن المبارك [204، 205] رقم [579] بنحوه، ورواه عبد الله بن أحمد في زوائده على "الزهد" لأحمد بن حنبل من طريق الحسن عن الأحنف باختصار شديد [142] وعزاه الحافظ ابن حجر في "الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف" [398] لابن المبارك في الزهد وأبي عبيدة في الغريب وابن سعد وأحمد في "الزهد" وأبي نُعيم في الحلية.
وعزاه الآلوسيّ في تفسيره [26/ 23] لابن المبارك وابن سعد وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وأبي نعيم في الحلية فمن ترك اللذَّة المحرَّمة لله استوفاها يوم القيامة أكمَلَ ما تكون، ومن استوفاها هنا حُرِمَها هناك أو نُقِصَ كمالَها، فلا يجعلُ اللهُ لذةَ من أوضَعَ في معاصيه ومحارمه كَلَذَّة من ترَكَ شهوتَه لله أبدًا. والله أعلم.
فصل
في ذكر اختلاف الناس؛ هل في الجنة حمل وولادة أم لا؟
قال الترمذيّ في جامعه... عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن إذا اشتهَى الولد في الجنة كان حملُه ووضعُه وسنُّه سنُّه: شبابُه وكِبَرُه في ساعة كما يَشتهي" قال: هذا حديث حسن غريب رواه الترمذيّ [2563] وأحمد في المسند [3/9] وابن ماجه في الزهد [4838] وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [2077] وفي صحيح ابن ماجه [3500] وقد صحّح ابن القيم إسناد الحديث على شرط الصحيح، ونقل ابن كثير في نهاية البداية والنهاية [2/344] قول المقدسيّ: هذا عندي على شرط مسلم.
وقد اختلف أهل العلم في هذا، فقال بعضهم: في الجنة جماع ولا يكون ولد. هكذا رُوي عن طاووس ومجاهد وإبراهيم النخعيّ. وقال محمد يعني البخاريّ: قال إسحاق بن إبراهيم في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان في ساعة كما يشتهي" ولكن لا يَشتهي جملة "ولكن لا يَشتهي" هي قول إسحاق، وقال الألبانيّ في تخريج المشكاة [5648]: وقول إسحاق ليس من الحديث، ثم هو مما لا دليل عليه في السنة الصحيحة وظاهر الحديث يرده. وقال ابن كثير في نهاية البداية والنهاية [2/344]: ونُقل عن جماعة من التابعين كطاووس ومجاهد وإبراهيم النخعيّ وغيرهم أن الجنة لا يولد فيها.
ثم قال: وهذا صحيح؛ وذلك أن جماعهم لا يَقتضي ولدًا كما هو الواقع في الدنيا، فإن الدنيا دار يُراد منها النسل لتَعمُرَ، أما الجنة فالمراد بقاء الملك، ولهذا لا يكون في جماعهم مَنِيٌّ يَقطع لذة الجماع، ولكن إذا أحب أحدهم الولد يقع كما يريد، قال الله تعالى: "لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين" [الزمر: 34] قال محمد: وقد رُوي عن أبي رَزين العُقيليّ عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد".
وتأويل إسحاق فيه نظر؛ فإنه قال: "إذا اشتهى المؤمن الولد" و"إذا" للمتحقِّق الوقوع، ولو أريد ما ذكره من المعنى لقال: لو اشتهى المؤمن الولد لكان حملُه في ساعة. فإن ما لا يكون أحقُّ بأداة "لو" كما أن المتحقِّق الوقوع أحقُّ بأداة "إذا".
وأما حديث أبي رَزين الذي أشار إليه البخاريّ فهو حديثه الطويل، ونحن نسوقه بطوله نجمِّل به كتابنا، فعليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته:
عن دَلهَم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتَفِق العُقيليّ عن أبيه عن عمه لَقيط ابن عامر. قال دَلهَم: وحدثنيه أبو الأسود عن عاصم بن لَقيط أن لَقيطًا خرج وافدًا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ومعه صاحب له يقال له: نَهيك بن عاصم بن مالك ابن المنتَفِق.
قال لَقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبًا فقال: "ألا أيها الناس إني قد خبّأت لكم صوتي منذ أربعة أيام، ألَا لَأُسمِعنَّكم، ألَا فهل من امرئ بعَثه قومُه فقالوا له: اعلَم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ ألَا ثم لعله أن يُلهيَه حديثُ نفسه أو حديثُ صاحبه أو يُلهيَه الضُّلَّالُ، ألَا إني مسؤول، ألَا هل بلّغتُ، ألَا اسمعوا تعيشوا، ألَا اجلسوا، ألَا اجلسوا" قال: فجلس الناس وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرَغ لنا فؤادُه وبصرُه قلت: يا رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لَعَمرُ الله وهَزّ رأسه وعَلم أني أبتغي سَقَطَه، فقال: "ضَنَّ ربُّك بمفاتيحِ خمسٍ من الغيب لا يَعلمهنَّ إلا الله" وأشار بيده، قلت: وما هي؟ قال: "علمُ المَنيَّة المنية: الموت قد عَلِمَ متى مَنيَّة أحدكم ولا تعلمونه، وعَلِمَ المَنيَّ حين يكون في الرحم قد عَلِمَه ولا تعلمون، وعَلِمَ ما في غدٍ ما أنت طاعمٌ غدًا ولا تعلمونه، وعَلِمَ يوم البعث يوم يُشرِف عليكم أَزِلِين آزِلِين: أصابكم الأَزْلُ وهو الشدة مُشفِقِين فيظلّ يضحك، قد عَلِمَ أن غَيْرَكم إلى قريب غيركم: تحوُّلُكم. والمقصود تحوُّلُكم من الشدة إلى الرخاء قال لَقيط: قلت: لن نَعدَم من رب يضحك خيرًا "وعَلِمَ يوم الساعة" قلت: يا رسول الله علِّمنا مما تُعلِّم الناس وما تَعلَم، فإنّا من قَبيل لا يصدّقون تصديقَنا أحد، من مَذحِج التي تَربو علينا تربو: تزيد وخَثعَم التي تُوالينا مَذحِج وخَثعَم: قبيلتان من العرب اليمانية وعشيرتنا التي نحن منها. قال: "تَلبَثون ما لَبِثتم ثم يُتوفَّى نبيُّكم، ثم تَلبَثون ما لَبثتم، ثم تُبعث الصائحة الصائحة: نفخة الصور التي يموت معها أهل الأرض جميعًا لَعَمرُ إلهِك لَعَمرُ إلهِك: قسمٌ ببقاء الله وحياته، وفيه دليل على جواز الإقسام بصفات الله عز وجل لا تَدَعُ على ظهرها شيئًا إلا مات، والملائكة الذين مع ربك عز وجل، فأصبح ربك يطوف في الأرَضين وخلَت عليه البلاد، فأرسل ربك السماءَ تَهضِب تَهضِب: تُمطر من عند العرش، فلَعَمرُ إلهِك ما تَدَعُ على ظهرها من مصرع قتيل ولا مَدفِن ميت إلا شقّت القبر عنه حتى يخلقه من عند رأسه، فيستوي جالسًا، فيقول ربك: مَهْيَمْ؟ مَهْيَمْ: ما شأنك وما أمرُك وفيم كنت لِمَا كان فيه، يقول: يا ربِّ أمسِ اليومَ أمسِ اليومَ: يتردد ويستقلّ فترة مُكثه في الأرض ويظنّ أنه فارق أهله حديثًا ولِعهدِه بالحياة عشيةً تَحسَبه حديثًا بأهله" فقلت: يا رسول الله، كيف يجمعنا بعد ما تُمزقنا الرياح والبِلَى والسباع؟ فقال: "أنبّئك بمثل ذلك في آلاء الله، الأرضُ أشرَفتَ عليها وهي مَدَرَة بالية مَدَرَة: قطعة من الطين اليابس.
وهو حال الأرض بدون الماء فقلتَ: لا تَحيَا أبدًا. ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تَلبَث عليك إلا أيامًا حتى أشرَفتَ عليها وهي شَرْيَة واحدة الشَرْيَة: الحَنظَلة، وهي ذات لون أخضر.
فالمعنى أن الأرض بعد يُبْسها قد اخضرَّت ولَعَمرُ إلهِك لهو أقدَرُ على أن يجمعهم من الماء على أن يجمع نبات المطر، فيخرجون من الأَصْواء الأَصْواء: القبور ومن مصارعهم، فتنظرون إليه وينظر إليكم" قال: قلت: يا رسول الله فكيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه؟ قال: "أنبّئك بمثل ذلك في آلاء الله، الشمسُ والقمرُ آية منه صغيرة تَرَونَهما ويَرَيَانِكم ساعةً واحدة لا تُضارُّون في رؤيتهما، ولَعَمرُ إلهِك لهو أقدَرُ على أن يَرَاكم وتَرَوه من أن تَرَوهما ويَرَيَاكم لا تُضارُّون في رؤيتهما" قلت: يا رسول الله، فما يفعل بنا ربنا إذا لَقيناه؟ قال: "تُعرَضون عليه باديةً له صفحاتُكم لا تَخفَى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عز وجل بيده غَرفة من الماء فيَنضَح قَبيلَكم بها، فلَعَمرُ إلهِك ما يخطئ وجهَ أحد منكم منها قطرةٌ، فأما المسلم فتدعُ وجهه مثل الرَّيطة البيضاء الرَّيطة: المُلَاءة وأما الكافر فتَخطِم وجهَه بمثل الحُمَم الأسود الحُمَم: جمع حُمَمَة وهو الفحم ألَا ثم ينصرف نبيُّكم رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ويَفرَق يَفرَق: يَفزَع ويُسرع على أثَرِه الصالحون، فيَسلُكون جسرًا من النار فيَطأ أحدُكم الجمرةَ فيقول: حَسّ. فيقول: ربك: أوَ أنّه قال ابن قتيبة: فيه قولان؛ أحدهما أن يكون "أنه" بمعنى "نعم" والآخر أن يكون الخبر محذوفًا كأنه قال: أنتم كذلك أو أنّه على ما يقول فيطَّلِعون على حوض الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أظمَأِ واللهِ ناهلةٍ عليها قطّ ما رأيتُها أظمأ ناهلة: الناهلة هم العطاش الذي يأتون الماء ليشربوا، والمعنى أنهم يأتون لحوض النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهم أعطَشُ ما يكون وأشدُّ حاجةً للماء فلَعَمرُ ربِّك ما يبسُط واحد منكم يده إلا وقع عليها قدح تُطهّره من الطَّوْف الطوف: الغائط والبول والأذى، وتُحبس الشمس والقمر فلا تَرَونَ منهما واحدًا" قال: قلت: يا رسول الله، فبم نُبصر؟ قال: "بمثل بصرك ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرَقَته الأرض ثم واجَهَته الجبال" قال: قلت: يا رسول الله فبِمَ نُجزَى من حسناتنا وسيئاتنا؟ قال: "الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يعفو" قال: قلت: يا رسول الله إما الجنة إما النار؟ قال: "لَعَمرُ إلهِك إن للنار سبعةَ أبوابٍ ما منهنَّ بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عامًا، وإن للجنة ثمانيةَ أبواب ما منهنَّ بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عامًا" قال: قلت: يا رسول الله فعلام نطَّلع من الجنة؟ قال: "على أنهار من عسل مصفًّى، وأنهار من كأس كأس: خمر ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسِنٍ، وبفاكهة لَعَمرُ إلهِك ما تعلَمون، وخيرٍ من مثله معه، وأزواج مطهَّرة" قلت: يا رسول الله، ولنا فيها أزواج؟ أوَ منهنَّ صالحات؟ قال: "الصالحات للصالحين تَلَذُّون بهنَّ مثل لذَّاتكم في الدنيا ويَلْذَذْنَ بكم، غير أنْ لا توالد" قال: لَقيط فقلت: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه؟ [أقصى ما نحن بالغون ومنتَهون إليه] يَحتمل مَعنَيَين؛ الأول: أقصى مدة الدنيا ونهايتها. الثاني: ماذا بعد دخول الجنة أو النار.
وفي كلٍّ لا توجد إجابة، ولذلك لم يُجِبْه النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فهذا من الغيب فلم يُجِبْه النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت: يا رسول الله علام أبايعك؟ فبسط النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يده وقال: "على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وزِيَال المشرك جملة "زِيَال المشرك" كانت ساقطة من حادي الأرواح، والإصلاح من المسند وزاد المعاد وغيرها، ومعناها: مفارقة المشرك ومعاداته فلا يجاوره ولا يواليه.
ولاحِظْ أن هذا الأمر كان في بيعة النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لأعراب يدخلون الإسلام حديثًا مما يدل أبلغ الدلالة على أهميته وألّا تشرك بالله إلهًا غيره" قال: قلت: وإن لنا ما بين المشرق والمغرب؟ فقبض النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبسط أصابعه وظنَّ أني مشترط شيئًا لا يُعطينيه.
قال: قلت: نَحُلُّ منها حيث شئنا نَحُلُّ: نقيم وننزل ولا يَجني على امرئٍ إلا نفسُه؟ لا يَجني على امرئ إلا نفسُه: لا يُعاقَب الإنسانُ إلا بعمله فبسط يده وقال: "ذلك لك، تَحُلُّ حيث شئت ولا يَجني عليك إلا نفسُك" قال: فانصرفنا وقال: "ها إنّ ذَينِ ها إنّ ذَينِ، لَعَمرُ إلهِك، إن حدَّثتُ إلا أنهما من أتقى الناس في الأولى والآخرة" فقال له كعب بن الخُدْريّة أخو بني بكر بن كلاب: من هم يا رسول الله؟ قال: "بنو المنتَفِق أهل ذلك" قال: فانصرفنا وأقبلتُ عليه فقلت: يا رسول الله، هل لأحد مما مضى من خير في جاهليتهم؟ قال: قال: "رجل من عُرْضِ قريش عُرْض قريش: عامة قريش وليس من أشرافهم واللهِ إن أباك المنتَفِق لفي النار" قال: فكأنه قد وقع حرٌّ بين جلدي ووجهي ولحمي مما قاله لأبي على رءوس الناس وقع حرٌّ بين جلدي ووجهي ولحمي: تشبيه يراد به بيان الغيظ والغضب والحرج فهَمَمت أن أقول: وأبوك يا رسول الله؟ ثم إذَا الأخرى أجمَل فقلت: يا رسول الله وأهلُك؟ قال: "وأهلي لَعَمرُ اللهِ، ما أتَيتَ عليه من قبر عامريّ أو قرشيّ من مشرك فقل: أرسلَني إليك محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأبشِّرك بما يَسُوءُك، تُجَرُّ على وجهك وبطنك في النار" قال: قلت: يا رسول الله ما فعل الله بهم ذلك وقد كانوا على عمل لا يُحسنون إلا إياه وكانوا يَحسَبون أنهم مصلِحون؟ قال: "ذلك بأن الله عز وجل بعث في آخر كل سبع أممٍ نبيًّا، فمن عصى نبيَّه كان من الضالِّين ومن أطاع نبيَّه كان من المهتدين" رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند [4/13] وفي كتاب "السنة" له [2/485 رقم 1120] ورواه ابن أبي عاصم في "السنة" [1/ 231 رقم 636] وابن خزيمة في "التوحيد" [ 186 ـ 190] والحاكم في المستدرك [4/560 ـ 564] وقال: صحيح الإسناد كلهم مدنيون، ولم يخرجاه.
وأخرج أبو داود منه جملة واحدة في الأيمان والنذور [3/577، 578 رقم 3266] وقال الهيثميّ في مجمع الزوائد [10/340]: رواه عبد الله والطبرانيّ بنحوه، وأحدُ طريقَي عبد الله إسنادها متصل ورجالها ثقات، والإسناد الآخر وإسناد الطبرانيّ مرسل عن عاصم بن لَقيط. وعزاه ابن كثير في البداية والنهاية [5/72 ـ 74] للبيهقيّ في البعث والنشور وعبد الحق الأشبيليّ في العاقبة والقرطبيّ في التذكرة.
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد [3/677، 678] وفي حادي الأرواح [ 241] ما ملخصه: رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل وابن أبي عاصم والطبرانيّ وأبو الشيخ وابن مَندَهْ وابن مَرْدَوَيْهِ والعسال وأبو نُعيم الأصبهانيّ وغيرهم. ونقل عن ابن مَنْدَهْ قوله: رواه بالعراق بمجمع العلماء وأهل الدين جماعةٌ من الأئمة، منهم أبو زُرعة الرازيّ وأبو حاتم وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريّ، ولم ينكره أحد ولم يتكلم في إسناده، بل رَوَوه على سبيل القبول والتسليم، ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة.
وقال أبو الخير بن حمدان: هذا حديث كبير ثابت مشهور. وقال المِزّيّ عنه: عليه جلال النبوة اهـ. وقد ترجم ابن حبان في الثقات لجميع رجال عبد الله بن أحمد بن حنبل، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة [3/295] في ترجمة نَهيك بن عاصم: وسند الحديث حسن.
وقال نُفاةُ الإيلاد:
فهذا حديث صريح في انتفاء الولادة.
وقوله: "إذا اشتهى" معلَّق بالشرط، ولا يلزم من التعليق وقوعُ المعلق ولا المعلق به.
و"إذا" وإن كانت ظاهرة في المحقّق فقد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقّق وغيره.
قالوا: وفي هذا الموضع يتعين ذلك لوجوه:
أحدها: حديث أبي رَزين.
الثاني: قوله تعالى: "ولهم فيها أزواج مطهَّرة" [البقرة: 25] وهنَّ اللاتي طَهُرْنَ من الحيض والنفاس والأذى.
عن مجاهد: مطهَّرة من الحيض والغائط والبول والنُّخام والبصاق والمَنِيِّ والولد.
وعن عطاء "أزواج مطهَّرة" قال: من الولد والحيض والغائط والبول.
الثالث: قوله: "غير أنه لا مَنِيَّ ولا منيَّة" وقد تقدم، والولد إنما يُخلق من ماء الرجل، فإذا لم يكن هناك منيٌّ ولا مذيٌ ولا نفخ في الفرج لم يكن هناك إيلاد.
الرابع: أنه قد ثبت في الصحيح عن النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنه قال: "يَبقَى في الجنة فضل، فيُنشئ الله لها خلقًا يُسكنُهم إياها" أخرجه مسلم [2848/ 39] ولفظه عن أنس رضي الله تعالى عنه: قال صلى الله عليه وسلم: "يَبقَى من الجنة ما شاء الله أن يَبقَى، ثم يُنشئ الله تعالى لها خلقًا مما يشاء" ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم وكانوا أحقَّ به من غيرهم.
الخامس: أن الله سبحانه جعل الحمل والولادة مع الحيض والمنيّ، فلو كانت النساء يَحبَلنَ في الجنة لم يَنقطع عنهنَّ الحيض والإنزال.
السادس: أن الله سبحانه قدّر التناسل في الدنيا لأنه قدّر الموت، وأخرَجَهم إلى هذه الدنيا قرنًا بعد قرن وجعل لهم أمَدًا يَنتهون إليه، فلولا التناسل لبَطَلَ النوع الإنسانيّ، ولهذا الملائكة لا تتناسل، فإنهم لا يموتون كما تموت الإنس والجن، فإذا كان يوم القيامة أخرج الله سبحانه الناسَ كلهم من الأرض وأنشأهم للبقاء لا للموت، فلا يحتاجون إلى تناسل النوع الإنسانيّ، إذ هو مُنشَأٌ للبقاء والدوام، فلا أهل الجنة يتناسلون ولا أهل النار.
السابع: أنه سبحانه وتعالى قال: "والذين آمَنوا واتَّبَعَتهم ذُرِّيَّتُهم بإيمانٍ ألْحَقْنَا بهم ذُرِّيتَهم" [الطور: 21] فأخبر سبحانه أنه يُكرمهم بإلحاق ذرياتهم الذين كانوا لهم في الدنيا، ولو كان يَنشأ لهم في الجنة ذرية أخرى لَذَكَرهم كما ذَكَر ذرياتهم الذين كانوا في الدنيا، لأن قرة أعينهم كانت تكون بهم كما هي بذرياتهم من أهل الدنيا.
الثامن: أنه إما أن يقال باستمرار التناسل فيها لا إلى غاية، أو إلى غاية ثم ينقطع، وكلاهما مما لا سبيل إلى القول به؛ لاستلزام الأول اجتماعَ أشخاص لا تَتناهَى، واستلزام الثاني انقطاعَ نوع من لذة أهل الجنة وسرورهم، وهو محال، ولا يمكن أن يقال بتناسلٍ يموت معه نسلٌ ويَخلُفه نسل؛ إذ لا موت هناك.
التاسع: أن الجنة لا ينمو فيها الإنسان كما ينمو في الدنيا، فلا ولدان أهلها يَنمُون ويَكبَرون ولا الرجال يَنمُون كما تقدم، بل هؤلاء ولدان صغار لا يتغيرون وهؤلاء أبناء ثلاث وثلاثين لا يتغيرون، فلو كان في الجنة ولادة لكان المولود ينمو ضرورة حتى يصير رجلًا، ومعلوم أن من مات من الأطفال يُرَدُّون أبناءَ ثلاث وثلاثين من غير نموّ.
الوجه العاشر: أن الله سبحانه وتعالى ينشئ أهل الجنة نشأة الملائكة أو أكمل من نشأتهم، بحيث لا يبولون ولا يتغوطون ولا ينامون، ويُلهَمُون التسبيحَ، ولا يَهرَمُون على تطاول الأحقاب ولا تنمو أبدانهم، بل القَدْرُ الذي جُعلوا عليه لازم لهم أبدًا. والله أعلم، فهذا ما في المسألة.
فأما قول بعضهم: إن القدرة صالحة والكل ممكن.
وقول آخرين: إن الجنة دار المكلَّفين التي يستحقونها بالعمل.
وأمثال هذه المباحث فرخيصة، وهي في كتب الناس، وبالله التوفيق.
قال الحاكم: قال الأستاذ أبو سهل: أهل الزيغ يُنكرون هذا الحديث ـ يعني حديث الولادة في الجنة ـ وقد رُوي فيه غير إسناد، وسئل النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن ذلك فقال يكون ذلك، على نحو مما روينا، والله سبحانه وتعالى يقول: "وفيها ما تَشتَهيه الأنفسُ وتَلَذُّ الأعيُنُ" وليس بالمستحيل أن يشتهيَ المؤمنُ الممكَّنُ من شهواته المصفَّى المقرَّبُ المسلَّطُ على لذاته قرةَ عينٍ وثمرةَ فؤادٍ من الذين أنعم الله عليهم بأزواج مطهرة.
فإن قيل:
ففي الحديث أنهنَّ لا يَحِضْنَ ولا يَنفَسْنَ، فأين يكون الولد؟
قلت:
الحيض سبب الولادة الممتد مدة بالحمل على الكثرة والوضع عليه، كما أن جميع تِلَاد الدنيا معنى التلاد: المال أو الأنعام الأصلية القديمة عند الإنسان من المشارب والمطاعم والملابس على ما عُرف من التعب والنصب وما يَعقُبُه كل منهما مما يُحذر منه ويُخاف من عواقبه، وهذه خمرة الدنيا المحرمة المستولية على كل بلية قد أعدَّها الله تعالى لأهل الجنة منزوعة البليَّة موفَّرة اللذة، فلم لا يجوز أن يكون على مثله الولد! انتهى كلامه.
قلت:
النافون للولادة في الجنة لم يَنفَوها لِزَيغ قلوبهم ولكن لحديث أبي رَزين "غير أنْ لا توالد" وقد حكينا من قول عطاء وغيره أنهنَّ مطهَّرات من الحيض والولد.
وقد حكى الترمذيّ عن أهل العلم من السلف والخلف في ذلك قولين، وحكى قولَ إسحاق بإنكاره، وقال أبو أمامة في حديثه: "غير أن لا منيَّ ولا منية" والجنة ليست دار تناسُل بل دار بقاء وخُلد لا يموت مَنْ فيها فيقوم نسلُه مقامه.
وحديث أبي سعيد هذا أجود أسانيده إسناد الترمذيّ، وقد حكم بغرابته وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق الناجيّ، وقد اضطرب لفظه، فتارةً يَروِي عنه "إذا اشتهى الولد" وتارة "إنه ليشتهي الولد" وتارة "إن الرجل من أهل الجنة ليولد له" فالله أعلم.
فإن كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قاله فهو الحق الذي لا شك فيه، وهذه الألفاظ لا تَنَافيَ بينها ولا تناقض، وحديث أبي رَزين "غير أن لا توالد" إذ ذاك نفيٌ للتوالد المعهود في الدنيا، ولا ينفي ولادة حمل الولد فيها ووضعه وسنه وشبابه في ساعة واحدة.
فهذا ما انتهى إليه علمنا القاصر في هذه المسألة وقد أتينا فيها بما لا تجده في غير هذا الكتاب. والله أعلم.
فصل
في ذكر سماع الجنة وغناء الحور العين وما فيه من الطرب واللذة:
قال تعالى: "ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يُحبَرُون" [الروم: 14 ـ 15] قال يحيى بن أبي كثير عن قوله عز وجل "فهم في روضة يُحبَرُون" قال: الحبرة اللذة والسماع.
عن يحيى بن أبي كثير في قوله "يُحبَرُون" قال: السماع في الجنة.
ولا يخالف هذا قول ابن عباس: يكرّمون. وقال مجاهد وقتادة: يَنعَمون. فَلَذّةُ الأذن بالسماع من الحبرة والنعيم.
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن الحور العين يغنِّين في الجنة، يَقُلنَ: نحن الحُورُ الحسانُ، خُلِقنَ لأزواج كرام" رواه أبو نُعيم في "صفة الجنة" [3/280] وعزاه ابن القيم لابن أبي الدنيا، وقال المنذريّ في الترغيب والترهيب [4/997]: رواه ابن أبي الدنيا والطبرانيّ واللفظ له، وإسناده مقارب. وصححه الألبانيّ في صحيح الجامع الصغير [1602] ولكن من طريق سَمّوَيْهِ فقط وعن أبي أمامة أن رسول الله قال: "ما من عبد يدخُل الجنة إلا ويَجلس عند رأسه وعند رجلَيه اثنتان من الحور العين، يُغنِّيانِه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن، وليس بمزامير الشيطان مزامير الشيطان: أصوات الشياطين.
والمقصود ما يزيِّنونه لبني آدم من الملاهي والمعازف وآلات الطرب، ويُطلق على صوت الغناء وعلى الآلة نفسها التي يُعزف بها، وإضافتها للشيطان من ناحية أنها تلهي الإنسان عن ذكر ربه، وهو المقصود الأعظم للشيطان في هذه الدنيا.
قال المنذريّ في الترغيب والترهيب [4/997]: رواه الطبرانيّ في الكبير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح.
وقال العراقيّ في تخريج الإحياء [4222]: رواه الطبرانيّ بإسناد حسن وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أزواج أهل الجنة لَيُغنِّينَ أزواجَهنَّ بأحسن أصوات ما سمعها أحد قطّ، إن مما يُغنِّينَ به: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرون بقُرّة أعيُن.
وإن مما يُغنِّينَ به: نحن الخالدات فلا نَمُتنَهْ، نحن الآمنات فلا نَخَفنَهْ، نحن المقيمات فلا نَظْعَنّهْ" قال الهيثميّ في مجمع الزوائد [10/419]: رواه الطبرانيّ في الصغير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح. وصححه الألبانيّ في صحيح الجامع الصغير [1561] من طريق الأوسط فقط وقال يحيى بن أبي كثير: إن الحور العين يَتلَقَّينَ أزواجَهنَّ عند أبواب الجنة فيَقُلنَ: طالما انتظرناكم، فنحن الراضيات فلا نسخط، والمقيمات فلا نَظعَنُ، والخالدات فلا نموت. بأحسن أصوات سُمِعَت، وتقول: أنت حِبِّي وأنا حِبُّك، ليس دونك مَقصِر ولا وراءك مَعدِل رواه ابن المبارك في الزهد [ص31 رقم 435].
فصل
ولهم سماع أعلى من هذا
وعن محمد بن المنكدر قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الذين كانوا ينزِّهون أسماعهم وأنفسَهم عن مجالس اللهو ومزامير الشيطان؟ أسكِنُوهم رياض المسك. ثم يقول للملائكة: أسمعوهم تمجيدي وتحميدي رواه نُعيم بن حماد في زياداته على "الزهد" لابن المبارك [43/12].
وعن ابن عباس قال: في الجنة شجرة على ساقٍ، قَدْرُ ما يسير الراكب في ظلها مائة عام، فيتحدثون في ظلها، فيشتهي بعضهم فيذكر لهو الدنيا، فيرسل الله ريحًا من الجنة فتحرِّك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا قال المنذريّ في الترغيب والترهيب [4/966]: رواه ابن أبي الدنيا موقوفًا من طريق زَمعة بن صالح عن سلمة وَهرام. وقد صحّحها الحاكم وابن خزيمة وحسّنها الترمذيّ.
فصل
سماع أهل الجنة لكلام الله وخطابه لهم:
ولهم سماع أعلى من هذا يَضمحلّ دونه كلُّ سماع، وذلك حين يسمعون كلام الرب جل جلاله وخطابَه وسلامَه عليهم ومحاضرتَه لهم ويقرأ عليه كلامه، فإذا سمعوه منه فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك.
وسيمُرُّ بك أيها السُّنّيُّ من الأحاديث الصحاح والحسان في ذلك ما هو من أحبِّ سماعٍ لك في الدنيا وألَذّ لأُذنك وأقَرّ لعينك، إذ ليس في الجنة لذة أعظم من النظر إلى وجه الرب تعالى وسماع كلامه منه، ولا يُعطَى أهلُ الجنة شيئًا أحبَّ إليهم من ذلك. صحيح حادي الأرواح 204 ـ 236).