"بطل معركة الأرك الخالدة"
(أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي)
"فلما وصل كتاب ألفونسو إلى الأمير يعقوب مزَّقه وكتب على ظهر قطعة منه: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)} الجواب ما ترى لا ما تسمع!".
(أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي)
لم أشأ أن أنهي الحديث عن تاريخ الأندلس بدون ذكر هذا القائد الإِسلامي العظيم، فلقد أبحرنا سويًا في هذا الكتاب في تاريخ الأندلس منذ موسى بن نصير وطارق بن زياد، وحتى سقوط الأندلس وانتفاضة محمد بن أمية، مرورًا بيوسف بن تاشفين وعبد الرحمن الناصر والمتوكل بن الأفطس رحمهم اللَّه جميعًا.
والحقيقة أنني تعمَّدت أن أفَصِّلَ في تاريخ الأندلس بالذات، ليس من أجل البُكاء على اللبن المسكوب كما قلنا، بل لأن تاريخ الأندلس بما يحمله من انتصارات وأمجاد وحتى هزائم يمثل منهاجًا واضح المعالم لشباب هذه الأمة.
فلقد رأينا كيف كان المسلمون ينتصرون بأقل الأعداد وأضعف الأسلحة عندما تمسَّكوا بتعاليم هذا الدين، ورأينا في نفس الوقت كيف أنهم كانوا ينهزمون شر هزيمة ويدفعون الجزية للنصارى عندما دخل في قلبهم حب الدُّنيا وكراهية الموت.
ورأينا أيضاً كيف استطاع رجالٌ قليلون أن يُغَيّرُوا من وضع المسلمين من حالة الهزيمة النَّكراء إلى حالة النصر المؤزر، وكيف استطاع رجلٌ بمُفرده مثل الشيخ عبد اللَّه بن ياسين أن يحوّل مجموعة صغيرة من رُعَاةِ الإبل على حُدود السنغال إلى ملوك أعظم إمبراطورية عرفتها أفريقيا.
ورأينا في نفس الوقت رجلًا مثل محمد الفقيه الذي ضيع الأندلس بحبه للدُّنيا، رأينا كيف كان رجال المغرب العظماء ينقذون الأندلس بين الحين والآخر، ورأينا خيانات الشيعة العبيديين (الفاطميين) الذين كانوا يمدُّون الصليبيين في الأندلس بالسلاح.
فقصة الأندلس هي بالفعل مختصر قصة الإسلام بما فيه من انتصارات وخيانات، فلو قرأها شباب الأمَّة لعرفوا كيفية النُّهوض بحالة هذه الأمَّة التي تشبه إلى حد بعيد حالة المسلمين إبان عهد ملوك الطوائف.
فسيتنبط منها المسلمون أسباب النصر، التي نحن بأمس الحاجة إليها في هذه الفترة الزمنية الحرجة.
وبطلنا الآن هو أبو يوسف يعقوب المنصور المُوحدي، والمُوحدون هم الذين حكموا بلاد المغرب الإِسلامي والأندلس بعد انهيار دولة المرابطين.
وأقف هنا قليلًا عند بلاد المغرب، فالمغرب الآن يواجه حملة شرسة من الصليبيين وأذنابهم من العملاء لتلطيخ سمعة هذا البلد الإِسلامي العظيم، بل إننا بِتنا نسمع في الآونة الأخيرة أبواقًا قذرةً تنال من سُمعة نساء المغرب الشريفات.
وليس عندي أدنى شك، بأن الذي يطلق مثل هذه الشائعات على نساء المغرب العفيفات يعلم علم اليقين أن تلك النساء هن نفس النساء اللواتي أنجبن رجالًا مثل يوسف بن تاشفين وأبو يوسف يعقوب المنصور المُوحدي، أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، فاللَّه اللَّه في سمعة نساء المسلمين، واللَّه اللَّه في الدفاع عن أعراض هذه الأمة.
وقد يتعجَّب البعض إذا علم أن دولة المُوحدين التي خرج منها بطلنا كانت في الأساس دولةً خبيثة، فلقد تَأسَّسَتْ هذه الدولة على يد رجل اسمه محمد بن تومرت، وابن تومرت هذا رجلٌ منحرف العقيدة والفكر.
تَعَلَّمَ في مدارس العراق الشيعية التي كانت خليطاً من فلسفات المَجُوس وفلسفات الإغريق، فأخذ منها ما أخذ، وأخذ من المعتزلة ما أخذ، حتى بات يعتبر نفسه بأنه هو المهدي المنتظر، فذهب إلى المغرب، وأسس دولة الموحدين على أنقاض دولة المرابطين، وأشاع فيها ذلك الفكر المنحرف.
حتى جاء البطل أبو يوسف يعقوب المنصور المُوحدي، فأعلن فساد أفكار ابن تومرت، وبهذه الحركة التصحيصية، ضمن أبو يوسف يعقوب بن منصور المُوحدي النصر حتى قبل أن يخوض أي معركة.
فليس عيبًا أن يصحح الإنسان أفكاره إذا ما اكتشف أنها خاطئة، ولكن العيب كل العيب أن يستمر عليها الإنسان.
وفي هذا الوقت ظهر في في مملكة قشتالة ملك مجرمٌ اسمه ألفونسو الثامن، وألفونسو هذا ليس ألفونسو الذي هزمه ابن تاشفين في معركة الزَّلاقة الخالدة، فالنصارى كانوا يكثرون من تسمية ألفونسو.
المهم أن ألفونسو هذا عاث فسادًا في بلاد الأندلس الإِسلامية، فقتل الشيوخ واغتصب النساء، وقد تعوَّدنا أن تستورد الأندلس النصر من بلاد المغرب في السنوات الأخيرة، فتحرك أبو يوسف بجيشٍ قوامه 200 ألف مجاهد من مسلمي الشمال الأفريقي إلى نصرة إخوانهم في الأندلس، يرد به على رسالة مهينة بعث بها ألفونسو إليه.
أما النصارى فقد أعلنوا حالة الطوارئ القصوى بعد أن أعلن بابا الفاتيكان حالة النفير العام، فتجمعت للصليبيين قوات هولندية وألمانية وفرنسية وإسبانية لِتُكَوّنَ جيشًا جرارًا تعداده ربع مليون مقاتل نصراني، ورفعوا الصُّلبَان بين جنودهم عاليًا لعلمهم بأنهم أمام المعركة الفاصلة التي ستحدد مصير المسلمين في الأندلس.
أما المسلمون فرفعو نداء:
"اللَّه أكبر"
تحت قيادة أبي يوسف يعقوب المنصور المُوحدي، والتقى الجمعان في التاسع من شهر شعبان لسنة 591هـ، في معركة الأرك الخالدة، لينتصر المسلمون أعظم انتصارٍ في تاريخ الأندلس كله، فقد فاق نصر الأرك نصرَ الزَّلاقة.
وطارت أخبار النصر في كل مكان، ودوت أخبار ذلك الانتصار العظيم على منابر المسلمين في أطراف دولة المُوحدين الشَّاسعة، بل وصلت هذه الأخبار إلى المشرق الإِسلامي، فصلّى المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها صلاة الشُّكر ابتهاجًا بهذا النصر العظيم.
وإذا كان كثيرٌ مِنَّا لم يسمع في حياته عن المنصور المُوحدي ولا عن معركة الأرك الخالدة، فليس عندي أدنى شك بأن جميعنا من دون أي استثناء سمع بقصة عظيم من عظماء أمَّة الإِسلام انتصر على الصليبيين قبل معركة الأرك الخالدة بثماني سنوات فقط بمعركة حرَّر بها القدس.
ليتزامن انتصاره في الشرق الإِسلامي مع انتصار المسلمين في الأرك في الغرب الإِسلامي!
البطل المغوار: صلاح الدين الأيوبي
فَمَنْ هو بطل أشهر شخصية إسلامية على وجه الأرض بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟
ولماذا ذاع صيته في الغرب والشرق على حدٍ سواء؟
وما حكاية معركة حطين الخالدة؟
وكيف أمكنه صنع هذا النصر العظيم؟
يتبع...
يتبع إن شاء الله...