أما في الاصطلاح ...
فقيل ... الشيء: الموجود الثابت المحقق في الخارج(3).
فاللفظة تطلق على كل موجود ، ملموس محسوس أو غيره ، يؤيده ما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنه- في حكم صرف النقود ، بقوله : [لا بأس فيما إذا افترقتما وليس بينكما شيء] ، أي: تصرف ، أو عمل ... فسماه شيئاً(4).
وفي مجلة الأحكام العدلية:
[الملك ما ملكه الإنسان ، سواء أكان أعيانا ، أو منافع ، أي هو الشيء الذي يكون مملوكاً بحيث يمكن التصرف به على وجه الاختصاص] (5).
فالشيء أعم ، والملك أخص ... وهو:
ما أختص به الإنسان من أشياء ، فكل موجود أو ممكن الوجود إذا عبِّر عنه فهو شيء ، سواءٌ أكان : منفعة ، أو حقاً ، أو غيره .
فالمنفعة يمكن ان تكون ملكاً ولا خلاف ، وهي شيء ولا خلاف .
فالمعنى اللغوي ملاحظ في الاصطلاح ، فما جاز التصرف به على وجه الاختصاص هو ملك ، وما عداه شيء لكنه ليس ملكاً ، ويمكن أن يملك .
__________
(1) فصلت / 54 .
(2) البقرة / 231 و المائدة / 54 .
(3) المُغْرِب شرح المُعرِب للمطرزي - 260 ، التعريفات - 214.
(4) المغرب - 260.
(5) المادة [ 125 ] .
__________
وعلى هذا فما ذهب إليه بعض الحنفية من:
اعتبار الشيء اسماً عاماً لكل موجود فقط ، دون المعدوم ، هو في واقِعِهِ: [حقيقة اصطلاحية] ، جرتهم إليه مسألة كلامية معروفة ، فإذا جردنا المسألة من ذلك الجانب الكلامي ، وجعلنا للمصطلح وجهين بحسب الاستعمال ، -وهذا ممكن- نكون قد جعلنا لمعنى [الشيء] في المعاملات معنىً ، وفي مجال الاعتقاد آخر ... ولا ضير في هذا قط (1) .
ثالثاً: [الملك]
هو في اللغة ، من: مَلكهُ يملِكُهُ ملكا -مثلثة الميم- ، وَملَكه -محركةً- ، ومُلكه -بضم اللام أو يثلث بأخذ الحركات الثلاث-: احتواه قادراً على الاستبداد به .
وماله ملكٌ -بالميم المثلثة الحركات- ويحرك ، وبضمتين -للميم واللام-: شيءٌ يملكُهُ . وأملكه الشيء وملكهُ إياه تمليكاً: بمعنىً .
ولي في الوادي ملك -بتثليث حركة الميم- ويحرَّك: أي مرعىً ومشربٌ ومالٌ .
أو هي: البئر يحفرها وينفرد بها .
وقولهم: الماء مَلِكُ أمرٍ -محرّكة-: لأنهم إذا كان معهم ماء فقد ملكوا أمر أنفسهم .
وليس لهم ملك -بتثليث الميم-: ليس لهم ماء .
وملكنا الماء: أروانا.
وهذا مُلك يميني -بتثليث الميم- ، ومَلْكَةُ يميني ، وأعطاني من ملكه - مثلثة - : مما يقدر عليه (2).
وفي القاموس الوسيط:
مَلَك الشيء مُلْكاً: حازه وانفرد بالتصرف فيه ، فهو مالك ، وجمعه ... مُلَّكٌ ومُلاّك .
وامتلاك الشيء: مُلْكُهُ .
والملك -بتثليث الميم-: ما يُملك ويتصرف فيه ، ويذكر ويؤنث (3).
وفي التنزيل العزيز: {ولله مُلك السماوات والأرض ...} (4).
__________
(1) راجع أصول البزدوي - 1 / 35 .
(2) القاموس للفيروز آبادي -3/330 ، مختار الصحاح -633.
(3) القاموس الوسيط -2/886 ، وراجع اللسان لأبن منظور -10/492.
(4) آل عمران / 189 . .
__________
وفي الاصطلاح:
1-عرفت مجلة الأحكام العدلية [الملك] بقولها:
[الملك ما ملكه الإنسان سواء كان أعيانا ، أو منافع ، أي انه هو الشيء الذي يكون مملوكا للإنسان بحيث يمكن التصرف فيه على وجه الاختصاص] (1).
وتظهر الركة على هذا التعريف ، فيلزم منه الدور (2) لوجود المعَّرف في التعريف ، وتكراره مراراً ، ومحصلته: إمكان التصرف بالشيء على وجه الاختصاص ، أعياناً أو منافع ، فإن: [الملك: ما من شأنه أن يُتصرف فيه بوصف الاختصاص] (3).
وقد عرفه الحاوي القدسي - كما نقله عنه ابن نجيم (4) وابن عابدين (5) بأنه: الاختصاص الحاجز (6).
2- وفي اتجاه آخر لفقهائنا نجد أكمل الدين البابرتي (7) يُعرفه بأنه:
القدرة على التصرف في المحل شرعاً (8).
__________
(1) المادة [ 125 ] .
(2) الدَوْر : توقف كلا الأمرين على الآخر ، وهو فاسدٌ في التعاريف ، وكذلك في الاستدلال [ راجع كتابنا : نثار العقول في علم الأصول - 20 ، ط1 ] .
(3) الدستور-1/188.
(4) ابن نُجيم : هو زين العابدين بن إبراهيم بن محمد الشهير بإبن نٌجيم ، من كبار فقهاء الحنفية ، له مصنفات أهمها : الأشباه والنظائر ت سنة 970 هـ [ كتابنا مشايخ بلخ - 2 / 871 ، نقلاً عن الأعلام للزِرِكلي - 3 / 104].
(5) إبن عابدين : هو محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي ، كان شافعياً فتحول إلى مذهب أبي حنيفة ، وهو صاحب المؤلفات الباهرة في المذهب ن أهمها : حاشية ردِّ المحتار على الدرِّ المختار ، ومجموع رسائله ، عاش وتوفي في مدينة دمشق - وتولى إفتاءها - سنة 1256 هـ . [ راجع الأعلام لالازِرِكلي - 6 / 267 ] .
(6) الأشباه - 346 ، حاشية ابن عابدين المعروفة ... برد المحتار على الدر المختار - 4 / 501 .
(7) أكمل الدين البابرتي الحنفي ... هو :
(8) العناية شرح الوقاية نقلاً عن فتح القدير - 5 / 73 .
__________
ومال إلى هذا الاتجاه الكمال بن الهمام (1) فيقول: "الملك: قدرة يثبتها الشارع ابتداءً على التصرف" (2).
وقد أضاف ابن نجيم صاحب الأشباه والنظائر -بعد نقله للتعريف- عبارة: إلا لمانع (3)، وكأنه احترز عمن يملك ولا يتصرف: كالمجنون ، والسفيه ، والمعتوه ، والصبي .
3- وفي تعريفات السيد الشريف:
الملك .. اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلِقاً لتصرفه فيه ، وحاجزاً عن تصرف غيره فيه(4).
وفي الوقاية لصدر الشريعة (5) مثل ما تقدم عن تعريفات السيِّد الشريف ، إذ يقول: الملك اتصال شرعي بين الإنسان والشيء ، يطلق تصرفه ويمنع غيره فيه .
فكأنما ما أجاز الشارع إمكان تملكه فهو [ملك] .. وإلا فلا ، وكونه علاقة أو اتصال بين الإنسان و[شيء] فهو يعم كل موجود أو ممكن الوجود -على ما علمنا من معنى الشيء- فكلها تكون ملكاً ، أعيانا أو منافع ، وهذا ما أيدته المجلة (6).
رابعاً: [معنى المنفعة] في اللغة
النفع: ضد الضرر .
نقول: نفعته نفعاً ، وانتفعت بكذا (7) .
ونفعه نفعاً: أفاده ، وأوصل إليه خيراً .
وهو: نافع ، ونفّاع .
والنفع: الخير ، وما يتوصل به الإنسان إلى مطلوبِهِ (8) .
والمنفعة: هي الاسم (1).
والمنفعة: كل ما ينتفع به ، وجمعها منافع (2).
__________
(1) الكمال بن الهمام الحنفي هو : محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسي الرومي ثم السكندري ، فقيه حنفي مشهور ، له مؤلفات عديدة ، ت سنة 861 هـ . [ راجع : الفوائد البهية في تراجم الحنفية - 280 ، الأعلام - 7 / 132 ] .
(2) فتح القدير- 5 / 74.
(3) الأشباه - 346.
(4) التعريفات - 155.
(5) صدر الشريعة : هو أحمد بن عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة ، وهو : [ صدر الشريعة الأكبر ] تمييزاً له عن : [ صدر الشريعة الأصغر ] وهو : عبيد الله بن مسعود بن محمود تاج الشريعة . [ راجع : النافع الكبير - 9 ].
(6) مجلة الأحكام العدلية.- الموضع السابق .
(7) العين للفراهيدي - 2 / 158 .
(8) الوسيط - 2 / 942 .
__________
قلت:
فكأنما المنفعة ذات الشيء النافع ، لا ذات النفع ، لكننا وجدنا في معنى النفع قبل قليل بأنه: الخير ، وما يتوصل به الإنسان إلى مطلوبِهِ ، فيكون النفع شاملاً لهما ، وكأن هناك رأيان في معناه ، هما: ذات النفع ، وثمرته وفائدته .
وفي الاصطلاح:
ما يترتب على الفعل ، إذا لم يكن تصور الفعل ذاته باعثاً للعامل على صدوره عنه .
فهو: المنفعة ، والفائدة ، والغاية (3) .
قلت:
وكأني بهذا القول ، إن ما يتأتى من الفعل أو غايته هو منفعته ، وإن كان فيه إضرار بالغير !! ، من غير توقف ذلك على حاجة الفاعل إلى ذات الفعل ، أو سعيه إليه لذاته ، بل سعيه إليه لمنفعته هو بالذات ، وإن سبب ضرراً للغير ، وقد يكون ذلك الضرر موجباً للضمان ، فأصبح النفع معتاضاً عنه .
كما إن أفعال الله -جلَّ جلاله- فيها: منافع ، ومصالح ، وغايات ، وليست هي غرضاً ، فهي غير مقصودة لذاتها لتكمَّل ذات الله (4).
أقول:
فإذن المنافع هي المقصودة ، لا الأفعال التي تقوم بها تلك المنافع ، وكذا الأشياء ، وعلى هذا قد يقيم الشارع الحكيم السبب مكان المسبب ، فيجعل العين محلاً ، والمقصود المنفعة ويصح القصد ، فإذا كان المحل متحولاً تحولت المنفعة باعتبارها مُسَببةً له ، فهي غير منضبطة ، أو غير محوزة فأقيم المنضبط المحوز مكانها ، وهذا مطرد في الشرع كالنية حين أقام مقامها اللفظ والآلة ، والسفر والمرض حين أقامه مقام المشقة ... وهكذا .
__________
(1) المختار - 173 ، قاموس الفيروز آبادي - 3 / 92 .
(2) الوسيط - 2 / 942 .
(3) دستور العلماء -3 / 2.
(4) دستور العلماء -3 / 2.
__________
ويؤيده ما ورد عن الكمال ابن الهمام في كتابه [التحرير والتحبير]: [إن العلة الحقيقية للحكم هي الأمر الخفي المسمى [حكمه] ، وإن الوصف الظاهر مظنة العلة لا نفس العلة ، لكنهم اصطلحوا على إطلاق العلة عليه] (1).
وصرح ابن الهمام نفسه من أن:
[أصحاب المذاهب عللوا الحكم بالوصف الظاهر دون العلة الحقيقة ، خوفا من نقض يرد على تلك العلة بفرع من فروع المذهب] (2).
وفي درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر أفندي (3):
[المنافع: جمع منفعة ، وهي الفائدة التي تحصل باستعمال العين ، فكما أن المنفعة تستحصل من الدار بسكناها ، تستحصل من الدواب بركوبها] .
وخلص إلى أن:
[المنفعة كالحركة من الأعراض الزائلة ، وهي معدومة فيجب قياساً ألا تكون محلاً لعقد ، لان الشارع لضرورة الحاجة قد أعطاها حكم الوجود ، وجوَّز بأن تكون محلاً للعقد فأقام العين مقام المنفعة في العقود] (4) .
قلت:
فالمنفعة عرض لا تقوم زمانيين متتاليين ، ويبدو أن الاقتصار على فائدة الشيء اقتصار للمنفعة على إحدى معنييها اللغويين ، فقد رأينا أنها قد تطلق على ذات الشيء النافع ، وتطلق على فائدته ومطلوبِهِ ، فليس على هذا الاقتصار دليل .
__________
(1) نقلاً عن أصول الفقه - لمحمد مصطفى شلبي/ 230.
(2) فتح القدير للكمال إبن الهمام - 5 / 278.
(3) علي حيدر أفندي : أمين دار الفتوى في [ الآستانة ] عاصمة الدولة العثمانية ، ورئيس محكمة التمييز فيها ، وناظر - وزير - العدلية في الدولة المذكورة ، وهو أحد أبرز لجنة تحرير مجلة الأحكام ، وشرحه أهم الشروح وأوفاها ، [ راجع مقدمة معرِّب المجلة المحامي فهمي الحسيني للنسخة المعربة - المطبعة العباسية في حيفا / سنة 1925 ] .
(4) درر الحكام - 1 /
__________
بل ... كون أنْ للمنفعة وجوداً ملموساً ، وجواز أن يكون لها بدلاً معلوماً ، مما أشار إليه القرآن الكريم ، في قوله تعالى: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيُّهم أقرب لكم نفعاً إن الله كان عليماً حكيماً} (1) .
ويقول الإمام الآلوسي رحمه الله في تفسيرها:
[فكأنه قال: إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم ، فلا تعلمون مَنْ أنفع لكم ، مَنْ يرثكم من أصولكم وفروعكم ، في عاجلكم وآجلكم ، فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنونها بعقولكم ، ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه ... ، والنفع على هذا -وما يزال الكلام للآلوسي- أعم من الدنيوي والأخروي .
وانتفاع بعضهم لبعض يكون بالإنفاق عليه، والتربية له ، والذبِّ عنه .. مثلاً ، وانتفاعهم في الآخرة يكون بالشفاعة ...] (2) .
قلت:
فالمنفعة في تعبير القرآن واستعماله ، شملت ما اعتيض عنها بمال .. وبغيره ، فما قُصدت الأشياء في يوم ما لذاتها .. بل لمنافعها ، ومنافعها اعتيض عنها بما يقوم به المحل الذي هو وسيلة لسبب الاعتياض ، فقوله تعالى عن الخمر والميسر: {... وإثمهما أكبر من نفعهما ...} ، فان النفع ليس في ذات تملِّك الخمرة ، بل في شربها وصولاً إلى منفعتها: كالحمرة ، وصفاء البشرة ، والتحلي بالشجاعة ، والكرم ، وقوة الباه ... الخ ، وكذا الحال في كل عينٍ تُطلب ، فلا تُطلب إلاَّ لمنفعتها ، وجعلت لتلك المنافع أثمان .
__________
(1) النساء / 11 .
(2) روح المعاني - 4 / 228 .
__________
ولكن -من وجهة نظري-:
لما كانت تلك المنافع متفاوتة في أهميتها من إنسان إلى إنسان ، فثمنيتها تكون غير منضبطة ، فلا تجعل [سبباً] ولا [علة] للتملك ، ولا محلاً للإعتياض لعدم الانضباط ، فأقيم المنضبط مكانها دفعاً للجهالة ، وهو من باب ... إقامة السبب مقام المسبب ، ولجعل الأحكام تجري في مضمار واحد ، وفي سياق متسق .
فكما أن الشارع الحكيم يعتدُّ بالنية ، بل عليها مدار أحكامه -وهذا أمر معلوم لا مراء فيه- فقد جعل الوصول إليها -وهي غير ظاهرة- وبالتالي يؤدي عدم ظهورها إلى عدم انضباط الحكم ، فأقام الظاهر المنضبط مقامها ، وهو بذلك لا يدعو إلى إلغائها ، بل ذلك هو عين اعتبارها .
وحينما يقيم الشارع الحكيم ألفاظ العقود للدلالة على اتِّجاه نية المتعاقدين إلى الارتباط التعاقدي ، ويقيم الآلة لمعرفة نية الفاعل ، والتفرقة بين: العمد والخطأ ، والمباشرة والتسبب ، فهو بذلك يقيم شيئاً مقام شيء .
وكذا فعله في اكتمال [أهلية الأداء] ، فأقام السن [العمر] لمنح الناقصة منها في سن السابعة ، وجعل البلوغ سبباً لمنح الكامل منها ، باعتباره أمارة اكتمال العقل ، وأناط البلوغ نفسه بالظواهر الجسمانية وهو [البلوغ] ، فإن تخلفت الظواهر الجسدية فإنه يقيم السن [العمر] مقامها ، انقلاباً من ظاهر منضبط إلى ما هو أظهر ، وقد قدَّر الفقهاء السن اللازم للبلوغ تبعاً لمناطقهم وبقاعهم ، فما اختلافهم في سن البلوغ إلاَّ بسبب المكان ، وهذا يدلل لنا جواز [اختلاف الأحكام تبعاً لتغيُّر المكان] (1) .
وهذا فيما كان مبنيَّاً على الواقع ، أو العرف ، أو على الملاحظة لواقعٍ معلوم .
__________
(1) يمكننا جعلها قاعدةً فقهيةً عامَّةً ، كما في صنوهاقاعدة : [ لا ينكر تغيُّر الأحكام بتغيُّر الأزمان ] - المادة [ 39 ] من مجلة الأحكام العدلية - .
__________
فالمنفعة مقوَّمة بنصوص الكتاب ، ومُموَّلة بتعامل الناس ، وعليها مقصودهم باعتبارها هي مطلوب الأشياء .
وإذا قلنا هي الشيء ذاته فلا إشكال ، ووضع اللغة يتسعه وقد تقدم .
وإذا كانت الدقة الفقهية قد ساقت علمائنا المتقدمين إلى عدم اعتبار المنفعة مالاً ، وبذلك لم يجعلوها مضمونة باعتبار أنها ما لا مثل لها لا صورة و معنى ، وعدم المماثلة صورة لا غبار عليه ، بل الجزم بعدم المماثلة معنى "أي تقدير بدل لها" فهذا غير مسلم وقد اعتبرها الإمام زفر -رضي الله عنه- مالاً وسنأتي لذكر هذا (1) .
إن الإلتزام بالدقة الفقهية المتناهية .. قد يؤدي إلى خلاف المقصود ، والمقاصد معتبرة قبل الوسائل ، فـ [خرق القاعدة -أحياناً- هو عين القاعدة] (2)، فقد أحل الشارع الحكيم: أكل الميتة ، وأحل الدم ، وأحل لحم الخنزير ، وأباح الرسول -صلى الله عليه وسلم- الاغتيال ، وأهدر بعض الدماء للضرورة ، وحفاظاً على ما هو أهم .
ولأجل ما تقدم قالوا عن مخالفة صاحب المذهب لأسبابٍ تظهر للفقيه المتأخر: [وهو عين التقليد في صورة عدم التقليد] (3) .
وأقول:
فإذن حفظ حقوق الناس ، يوجب الخروج عن الدقة الفقهية ، لأن حفظ حقوقهم ، وتحقيق مصالحهم ... هو مقصود الشارع .
__________
(1) تبيين الحقائق - 5 / 121 ، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني المعروف بملك العلماء - 6 / 2663 ، حاشية النانوتوي على الكنز-363 ، شرح الكنز للعيني- 1962 ، درر الحكام شرح مجلة الأحكام - 1 / 440 ، وحاشية الشلبي على شرح الكنز .
(2) يمكن جعل هذه قاعدةً من القواعد الفقهية الكليَّة ، وهي من إضافاتنا .
(3) النافع الكبير للكنوي [ مرجع سابق ] - 9 .
__________
ومراعاة: المصلحة ، والعرف ، والحاجة .. [والحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة أو خاصة"] (1)، كل هذا يملي على صاحب الذوق الفقهي العالي الخروج عما قرَّره وقعَّده الأسبقون -وسنأتي إلى هذا لاحقاً إن شاء الله-.
يتبع إن شاء الله...