منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه.

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48337
العمر : 71

الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه. Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه.   الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه. Emptyالأحد 17 يناير 2016, 1:33 am

الوجه السادس:
أن تعلق العبد بما سوى الله تعالى مضرة عليه، إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته، غير مستعين به على طاعته، فإذا نال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك، ولو أحب سوى الله ما أحب، فلا بد أن يسلبه ويفارقه، فإن أحبه لغير الله فلا بد أن تضره محبته ويعذب بمحبوبه، إما فى الدنيا وإما فى الآخرة، والغالب أنه يعذب به فى الدارين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفقُونَهَا فى سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34- 35].

وقال تعالى:
{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُم كَافِرُونَ} [التوبة: 55].

ولم يصب من قال:
إن الآية على التقديم والتأخير، كالجرجانى، حيث قال: ينتظم قوله: {فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بعد فصل آخر ليس بموضعه، على تأويل: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 55] وهذا القول يروى عن ابن عباس رضى الله عنهما، وهو منقطع، واختاره قتادة وجماعة، وكأنهم لما أشكل عليهم وجه تعذيبهم بالأموال والأولاد فى الدنيا، وأن سرورهم ولذتهم ونعيمهم بذلك، فروا إلى التقديم والتأخير، وأما الذين رأوا أن الآية على وجهها ونظمها فاختلفوا فى هذا التعذيب، فقال الحسن البصرى: يعذبهم بأخذ الزكاة منها والإنفاق فى الجهاد، واختاره ابن جرير، وأوضحه.

فقال:
العذاب بها إلزامهم بما أوجب الله عليهم فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يؤخذ منه ذلك، وهو غير طيب النفس، ولا راج من الله جزاء، ولا من الآخذ منه حمدا ولا شكرا، بل على صغار منه وكره، وهذا أيضاً عدول عن المراد بتعذيبهم فى الدنيا بها، وذهاب عن مقصود الآية.

وقالت طائفة:
تعذيبهم بها أنهم يتعرضون بكفرهم لغنيمة أموالهم، وسبى أولادهم فإن هذا حكم الكافر، وهم فى الباطن كذلك، وهذا أيضاً من جنس ما قبله فإن الله سبحانه أقر المنافقين، وعصم أموالهم وأولادهم بالإسلام الظاهر وتولى سرائرهم، فلو كان المراد ما ذكره هؤلاء لوقع مراده سبحانه من غنيمة أموالهم وسبى أولادهم، فإن الإرادة هاهنا كونية بمعنى المشيئة، وما شاء الله كان ولابد، وما لم يشأ لم يكن.

والصواب، والله أعلم، أن يقال:
تعذيبهم بها هو الأمر المشاهد من تعذيب طلاب الدنيا ومحبيها ومؤثريها على الآخرة: بالحرص على تحصيلها، والتعب العظيم فى جمعها ومقاساة أنواع المشاق فى ذلك، فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه، وهو حريص بجهده على تحصيلها، والعذاب هنا هو الألم والمشقة والتعب، كقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ" وقوله: "إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ".

أى يتألم ويتوجع، لا أنه يعاقب بأعمالهم، وهكذا من كانت الدنيا كل همه أو أكبر همه كما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث الذى رواه الترمذى وغيره من حديث أنس رضى الله عنه: "مَنْ كانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فى قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يأْتِهِ مِنَ الدُّنْيا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ".

ومن أبلغ العذاب فى الدنيا:
تشتيت الشمل وتفرق القلوب، وكون الفقر نصب عينى العبد لا يفارقه، ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب، على أن أكثرهم لا يزال يشكو أو يصرخ منه، وفى الترمذى أيضاً عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "يَقُولُ اللهُ تَبَاركَ وَتَعَالَى: ابْنَ آدَم، تَفَرَّغْ لِعبَادَتِى أَمْلأ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لا تَفْعَلْ مَلأتُ يَدَيْكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ"، وهذا أيضاً من أنواع العذاب، وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومحاربة أهلها إياه، ومقاساة معاداتهم، كما قال بعض السلف: من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب.

ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث:
همّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضى، وذلك أن محبها لا ينال منها شيئاً إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، كما فى الحديث الصحيح عن النبى عليه الصلاة والسلام: "لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى لهَما ثَالِثا"، وقد مَثَّلَ عيسى ابن مريم عليه السلام محب الدنيا بشارب الخمر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، وذكر ابن أبى الدنيا أن الحسن البصرى كتب إلى عمر بن عبد العزيز "أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن، ليست بدار إقامة، إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها فى كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها.

هى كالسم يأكله من لا يعرفه، وهو حتفه فكن فيها كالمداوى جراحه، يحتمى قليلاً، مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة، الخداعة الختَّالة، التى قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى، ونسى المعاد فشَغل بها لُبَّه، حتى زّلت عنها قدمه، فعظمت عليه ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه، وحسرات الفوت.

وعاشق لم ينل منها بغيته، فعاش بغُصته، وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، وُصِل الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا، لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل.

فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر؟ فما لها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا تُنقِصُه عند الله جناح بعوضة، فأَبَى أن يقبلها، كره أن يحب ما أبغض خالقُه، أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أُكْرِم بها، ونسى ما صنع الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم حين شد الحجر على بطنه".

وقال الحسن أيضاً:
إن قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخُشب، فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها.

وهذا باب واسع.
وأهل الدنيا وعشاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم فى طلبها، ولما كانت هى أكبر هَمّ من لا يؤمن بالآخرة، ولا يرجو لقاء ربه، كان عذابه بها بحسب حرصه عليها، وشدة اجتهاده فى طلبها، وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأمل حال عاشق فانٍ فى حب معشوقه، وكلما رام قربا من معشوقه نأى عنه، ولا يفى له ويهجره ويصل عدوه.

فهو مع معشوقه فى أنكد عيش، يختار الموت دونه، فمعشوقه قليل الوفاء، كثير الجفاء، كثير الشركاء، سريع الاستحالة، عظيم الخيانة، كثير التلون، لا يأمن عاشقه معه على نفسه ولا على ماله، مع أنه لا صبر له عنه ولا يجد عنه سبيلا إلى سلوة تريحه، ولا وصال يدوم له، فلو لم يكن لهذا العاشق عذاب إلا هذا العاجل لكفى به، فكيف إذا حيل بينه وبين لذاته كلها، وصار معذبا بنفس ما كان ملتذا به على قدر لذته به، التى شغلته عن سعيه فى طلب زاده، ومصالح معاده؟، وسنعود إلى تمام الكلام فى هذا الباب فى باب ذكر علاج مرض القلب بحب الدنيا إن شاء الله تعالى، إذ المقصود بيان أن من أحب شيئا سوى الله تعالى، ولم تكن محبته له لله تعالى، ولا لكونه معينا له على طاعة الله تعالى: عذب به فى الدنيا قبل يوم القيامة.

كما قيل:
أَنْتَ الْقَتِيلُ بِكلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ فى الْهَوى مَنْ تَصْطَفِى
فإذا كان يوم المعاد ولّى الحكَم العدل سبحانه كل محب ما كان يحبه فى الدنيا.

فكان معه:
إما منعماً أو معذباً.

ولهذا:
"يُمَثَّلُ لِصاحِبِ المَالِ مَالُهُ شُجَاعاً أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهزمَتَيه، يعنى شدقيه، يقُولُ: أنَا مَالُكَ، أَنَا كَنزُكَ، وَيُصَفّحُ لَهُ صَفَائحَ مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنبهُ وَظَهْرُهُ"، وكذلك عاشق الصور إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله تعالى جمع الله بينهما فى النار، وعذب كلٌ منهما بصاحبه.

قال تعالى:
{الأخِلاءُ يَوْمَئذٍ بَعْضهُمْ لِبَعْضٍ عَدُو إلا المُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وأخبر سبحانه أن الذين توادوا فى الدنيا على الشرك يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار وما لهم من ناصرين، فالمحب مع محبوبه دنيا وأخرى. ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة للخلق: "أَلَيْسَ عَدْلا مِنِّى أَنْ أُوَلّى كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا كَانَ يَتَوَلَّى فى دَارِ الدُّنْيا؟".

وقال صلى الله تعالى عليه وسلم:
"المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبّ".

وقال تعالى:
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهَ يَقُولُ يَا لَيْتَنى اتّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبيلاً يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتّخِذْ فُلاناً خَلِيلا لَقَدْ أَضَلّنِى عَنِ الذكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءنى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27 - 29]، وقال تعالى: {اُحْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجحِيمِ وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَالَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 22 - 25]، قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه "أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم" وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]، فقرن كل شكل إلى شكله، وجعل معه قرينا وزوجا: البر مع البر، والفاجر مع الفاجر.

والمقصود:
أن من أحب شيئا سوى الله عز وجل فالضرر حاصل له بمحبوبه: إن وجد وإن فقد، فإنه إن فقده عذب بفراقه وتألم على قدر تعلق قلبه به، وإن وجده كان ما يحصل له من الألم قبل حصوله، ومن النكد فى حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد فوته، أضعاف أضعاف ما فى حصوله له من اللذة:

فَمَا فى الأرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ
وَإِنْ وَجَدَ الهَوَى حُلْوَ المذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا فى كلِّ حَالٍ
مَخَافَةَ فُرْقةٍ، أَوْ لاشْتِياقِ
فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا، شَوْقاً إلَيْهِمْ
وَيَبْكِى إِنْ دَنَوْا، حَذرَ الْفِرَاقِ
فَتَسْخنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلاقى
وَتَسْخنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ


وهذا أمر معلوم بالاستقراء والاعتبار والتجارب، ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث الذى رواه الترمذى وغيره: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه" فذِكْره: جميع أنواع طاعته، فكل من كان فى طاعته فهو ذاكره، وإن لم يتحرك لسانه بالذكر، وكل من والاه الله فقد أحبه وقربه؛ فاللعنة لا تنال ذلك إلا بوجهه، وهى نائلة كل ما عداه.

الوجه السابع:
أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولا بد، عكس ما أمله منه، فلا بد أن يخذل من الجهة التى قدر أن ينصر منها، ويذم من حيث قدر أن يحمد، وهذا أيضاً كما أنه ثابت بالقرآن والسنة فهو معلوم بالاستقراء والتجارب.

قال تعالى:
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزا كَلا سيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدا} [مريم: 81- 82].

وقال تعالى:
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74- 75]، أى يغضبون لهم ويحاربون، كما يغضب الجند ويحارب عن أصحابه، وهم لا يستطيعون نصرهم، بل هم كَل عليهم.

وقال تعالى:
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلِكنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتِى يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَىْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]، أى غير تخسير.

وقال تعالى:
{فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إلهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213]

وقال تعالى:
{لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [الإسراء: 22]، فإن المشرك يرجو بشركه النصر تارة، والحمد والثناء تارة، فأخبر سبحانه أن مقصوده ينعكس عليه، ويحصل له الخذلان والذم.

والمقصود:
أن هذين الوجهين فى المخلوق وضدهما فى الخالق سبحانه، فصلاح القلب وسعادته وفلاحه فى عبادة الله تعالى والاستعانة به، وهلاكه وشقاؤه وضرره العاجل والآجل فى عبادة المخلوق والاستعانة به.

الوجه الثامن:
أن الله سبحانه غنى كريم، عزيز رحيم. فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعه إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمةً منه وإحساناً، فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليرزقوه قوة، ولا لينفعوه، ولا ليدفعوا عنه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ منْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58].

وقال تعالى:
{وَقُلِ الحمْدُ لِلَّهِ الّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فى اُلملْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِى مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111]، فهو سبحانه لا يوالى من يواليه من الذل، كما يوالى المخلوق المخلوق، وإنما يوالى أولياءه إحسانا ورحمة ومحبة لهم.

وأما العباد فإنهم كما قال عز وجل:
{وَاللهُ الْغَنِىُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]، فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانتفاعه به عاجلاً أو آجلاً، ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه، فهو فى الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه.

فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه فى العاجل، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء، أو معاوضة بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره، وهو أيضاً إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير، وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى فى الآخرة، فهو أيضاً محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير ملوم فى هذا القصد، فإنه فقير محتاج، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه.

وقال تعالى:
{إِنْ أحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] وقال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272].

وقال تعالى، فيما رواه عنه رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"يَا عِبَادِى: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِى، يا عِبَادِى: إِنّمَا هِىَ أَعْماَلكُم أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ"، فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد انتفاعه بك، والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه به، وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة، بخلاف إرادة المخلوق نفعك، فإنه قد يكون فيه مضرة عليك، ولو بتحمل منته.

فتدبر هذا فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تعامله دون الله عز وجل، أو تطلب منه نفعا، أو دفعا أو تعلق قلبك به، فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك، وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض، وهو حال الولد مع والده، والزوج مع زوجه، والمملوك مع سيده، والشريك مع شريكه. فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم، وأحسن إليهم لله تعالى، وخاف الله تعالى فيهم، ولم يخفهم مع الله تعالى، ورجا الله تعالى بالإحسان إليهم، ولم يرجهم مع الله، وأحبهم بِحُبِّ الله، ولم يحبهم مع الله تعالى، كما قال أولياء الله عز وجل: {إِنمَا نُطعمكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكورًا} [الإنسان: 9].

الوجه التاسع:
أن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك، حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة، فعاد الأمر كله لمَنْ ابتدأ منه، وهو الذى بيده الخير كله، وإليه يُرجع الأمر كله، فتعلق القلب بغيره رجاءً وخوفاً وتوكلاً وعبوديةً: ضررٌ محضٌ، لا منفعة فيه، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذى قدَّرها ويسَّرها وأوصلها إليك.

الوجه العاشر:
أن غالب الخلق إنما يريدون قضاء حوائجهم منك، وإن أضر ذلك بدينك ودنياك، فهم إنما غرضهم قضاء حوائجهم ولو بمضرتك، والرب تبارك وتعالى إنما يريدك لك، ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته، ويريد دفع الضرر عنك، فكيف تعلق أملك ورجاءك، وخوفك بغيره؟

وجماع هذا أن تعلم:
"أَنَّ الَخلْقَ كُلّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى لَكَ، ولَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْكَ" قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَولانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

خاتمة لهذا الباب:
لما كان الإنسان؛ بل وكل حى متحرك بالإرادة، لا ينفك عن علم وإرادة وعمل بتلك الإرادة، وله مراد مطلوب، وطريق وسبب يوصل إليه، معين عليه، وتارة يكون السبب منه، وتارة من خارج منفصل عنه، وتارة منه ومن الخارج، فصار الحى مجبولا على أن يقصد شيئا ويريده، ويستعين بشىء ويعتمد عليه فى حصول مراده.

والمراد قسمان:
أحدهما:
ما هو مراد لنفسه.
والثانى:
ما هو مراد لغيره.

والمستعان قسمان:
أحدهما:
ما هو مستعان بنفسه.
والثانى:
ما هو تبع له وآلة.

فهذه أربعة أمور:
مراد لنفسه، ومراد لغيره، ومستعان بنفسه، ومستعان بكونه آلة وتبعا للمستعان بنفسه، فلابد للقلب من مطلوب يطمئن إليه، وينتهى إليه محبته، ولابد له من شىء يتوصل به؛ ويستعين به فى حصول مطلوبه، والمستعان مدعو ومسئول، والعبادة والاستعانة كثيراً ما يتلازمان، فمن اعتمد القلب عليه فى رزقه ونصره ومتفعته ونفعه خضع له، وذل له، وانقاد له وأحبه من هذه الجهة، وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه حكم الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، وأما من أحبه القلب وأراده وقصده فقد لا يستعين به، ويستعين بغيره عليه كمن أحب مالا أو منصبا أو امرأة، فإن علم أن محبوبه قادر على تحصيل غرضه استعان به، فاجتمع له محبته والاستعانة به.

فالأقسام أربعة:
الأول:
محبوب لنفسه وذاته، مستعان بنفسه، فهذا أعلى الأقسام، وليس ذلك إلا لله وحده، وكل ما سواه فإنما ينبغى أن يحب تبعاً لمحبته، ويستعان به لكونه آلة وسبباً.
الثانى:
محبوب لغيره ومستعان به أيضاً، كالمحبوب الذى هو قادر على تحصيل غرض محبه.
الثالث:
محبوب مستعان عليه بغيره.
الرابع:
مستعان به غير محبوب فى نفسه.

فإذا عرف ذلك تبين مَن أحق هذه الأقسام الأربعة بالعبودية والاستعانة، وأن محبة غيره واستعانته به إن لم تكن وسيلة إلى محبته واستعانته، وإلا كانت مضرة على العبد، ومفسدتها أعظم من مصلحتها، والله المستعان وعليه التكلان.


الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه. 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48337
العمر : 71

الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه. Empty
مُساهمةموضوع: الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه.   الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه. Emptyالأحد 17 يناير 2016, 1:19 am

الباب السادس:
فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه.

معلومٌ أن كل حَىٍّ سوى الله سبحانه:
من ملك أو إنس أو جن أو حيوان، فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتم ذلك له إلا بتصوره للنافع والضار، والمنفعة من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب.

فلابد له من أمرين:
أحدهما:
معرفة ما هو المحبوب المطلوب الذى ينتفع به ويلتذ بإدراكه.
والثانى:
معرفة المعين الموصل المحصل لذلك المقصود.

وبإزاء ذلك أمران آخران:
أحدهما:
مكروه بغيض ضار.
والثانى:
معين دافع له عنه.

فهذه أربعة أشياء:
أحدها:
أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
الثانى:
أمر مكروه مطلوب العدم.
الثالث:
الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
الرابع:
الوسيلة إلى دفع المكروه.

فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد، بل ولكل حيوان لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، فإذا تقرر ذلك، فالله تعالى هو الذى يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، الذى يراد وجهه، ويبتغى قربه، ويطلب رضاه، وهو المعين على حصول ذلك. وعبودية ما سواه والالتفات إليه، والتعلق به: هو المكروه الضار، والله هو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون ما سواه، فهو المعبود المحبوب المراد، وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له.

والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته وقدرته، وهو المعين لعبده على دفعه عنه، كما قال أعرف الخلق به صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَعُوذ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ"، وقال: "اللهُمَّ إِنِّى أَسْلَمْتُ نَفْسِى إلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إلَيْكَ، وَأَلْجأْتُ ظَهْرِى إلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إلا إلَيْكَ"، فمنه المنجى، وإليه الملجأ، وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته، فالإعاذة فعله، والمستعاذ منه فعله، أو مفعوله الذى خلقه بمشيئته.

فالأمر كله له، والحمد كله له، والملك كله له، والخير كله فى يديه، لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثنى عليه كل أحد من خلقه، ولهذا كان صلاح العبد وسعادته فى تحقيق معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذى يستعان به على المطلوب، فالأول: من معنى ألوهيته، والثانى: من معنى ربوبيته، فإن الإله هو الذى تألهه القلوب: محبة، وإنابة، وإجلالاً، وإكراماً، وتعظيماً، وذلاً، وخضوعاً، وخوفا ورجاءً، وتوكلاً
والرب تعالى هو الذى يربى عبده، فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى مصالحه فلا إله إلا هو ولا رب إلا هو، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل، فكذلك إلهية ما سواه.

وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين فى مواضع من كتابه كقوله:
{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقوله عن نبيه شعيب {وَمَا تَوْفِيقِى إلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وقوله {وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بحمدِهِ} [الفرقان: 58]، وقوله: {وَتَبَتّلْ إِلَيْهِ تَبْتيلاً رَبُّ المشْرِقِ والمغْرِبِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل: 8-9]، وقوله {قُلْ هُوَ رَبّى لاَ إِلهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، وقوله عن الحنفاءِ أتباع إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكّلْنَا وَإلَيْكَ أنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصِيُر} [الممتحنة: 4]، فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيى التوحيد اللذين لا سعادة للعبد بدونهما البتة.

الوجه الثانى:
أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته، والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته فى الآخرة تقر عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم فى الآخرة شيئا خيراً لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم، ولا أنعم لقلوبهم: من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة، ولم يعطهم فى الدنيا شيئاً خيراً لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من الإيمان به، ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، والتنعم بذكره.

وقد جمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين هذين الأمرين فى الدعاء الذى رواه النسائى والإمام أحمد، وابن حبان فى صحيحه وغيرهم، من حديث عمار ابن ياسر: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يدعو به: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينى ما علمت الحياة خيراً لى، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى، وأسألك خشيتك فى الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق فى الرضى والغضب، وأسألك القصد فى الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك فى غير ضراء مُضِرَّة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين".

فجمع فى هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شىء فى الدنيا، وهو الشوق إلى لقائه سبحانه، وأطيب شىء فى الآخرة، وهو النظر إلى وجهه سبحانه، ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفاً على عدم ما يضر فى الدنيا، ويفتن فى الدين قال: "فى غير ضرّاء مضرة ولا فتنة مضلة"، ولما كان كمال العبد فى أن يكون عالماً بالحق متبعاً له معلماً لغيره، مرشدا له قال: "وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مهتدينَ".

ولما كان الرضى النافع المحصل للمقصود هو الرضى بعد وقوع القضاء لا قبله، فإن ذلك عزم على الرضى، فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك العزم، سأل الرضى بعده، فإن المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه والرضى بعد وقوعه. فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما، كما فى المسند وغيره عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "إن من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضا بما قضى الله، وإن من شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله، وسخطه بما قضى الله تعالى".

ولما كانت خشية الله عز وجل رأس كل خير فى المشهد والمغيب، سأله خشيته فى الغيب والشهادة، ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق فى رضاه، فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل، وقد يدخله أيضاً رضاه فى الباطل، سأل الله عز وجل من توفيقه لكلمة الحق فى الغضب والرضى.
ولهذا قال بعض السلف:
لا تكن ممن إذا رضى أدخله رضاه فى الباطل، وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق، ولما كان الفقر والغنى محنتين وبليتين، يبتلى الله بهما عبده، ففى الغنى يبسط يده، وفى الفقر يقبضها، سأل الله عز وجل القصد فى الحالين، وهو التوسط الذى ليس معه إسراف ولا تقتير.

ولما كان النعيم نوعين:
نوعاً للبدن، ونوعاً للقلب، وهو قرة العين، وكماله بدوامه واستمراره، جمع بينهما فى قوله: "أسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع".

ولما كانت الزينة زينتين:
زينة البدن، وزينة القلب، وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا وأجلهما خطرا، وإذا حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه فى العقبى، سأل ربه الزينة الباطنة فقال: "زيِّنا بِزِينَةِ الإيمَانِ"، ولما كان العيش فى هذه الدار لا يبرد لأحد كائنا من كان، بل هو محشو بالغصص والنكد، ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة، سأل برد العيش بعد الموت.

والمقصود:
أنه جمع فى هذا الدعاء بين أطيب ما فى الدنيا، وأطيب ما فى الآخرة، فإن حاجة العباد إلى ربهم فى عبادتهم إياه وتألههم له، كحاجتهم إليه فى خلقه لهم، ورزقه إياهم، ومعافاة أبدانهم، وستر عوراتهم، وتأمين روعاتهم، بل حاجتهم إلى تألهه ومحبته وعبوديته أعظم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم.

ولا صلاح لهم ولا نعيم ولا فلاح ولا لذة ولا سعادة بدون ذلك بحال ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أحسن الحسنات، وكان توحيد الإلهية رأس الأمر، وأما توحيد الربوبية الذى أقر به المسلم والكافر، وقرره أهل الكلام فى كتبهم، فلا يكفى وحده، بل هو الحجة عليهم، كما بين ذلك سبحانه فى كتابه الكريم فى عدة مواضع، ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما فى الحديث الصحيح الذى رواه معاذ بن جبل رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "أتدرى ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار".

ولذلك يحب سبحانه عباده المؤمنين الموحدين ويفرح بتوبتهم، كما أن فى ذلك أعظم لذة العبد وسعادته ونعيمه، فليس فى الكائنات شىء غير الله سبحانه يسكن القلب إليه، ويطمئن به ويأنس به، ويتنعم بالتوجه إليه، ومن عبد غيره سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة، فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته، وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ، وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا، كما قال تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فساداً لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذى يحبه ويرجوه، ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه.

الوجه الثالث:
أن فقر العبد إلى أن يعبد الله سبحانه وحده لا يشرك به شيئا ليس له نظير فيقاس به، ولكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس، فيقاس بها، ولكن بينهما فروق كثيرة، فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذى لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، وهو كادح إليه كدحا فملاقيه، ولا بد له من لقائه، ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه، ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا فى حال، وبهذا فى حال، وكثيرا ما يكون ذلك الذى يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته.

وأما إلهه الحق فلا بد له منه فى كل وقت وفى كل حال، وأينما كان فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلت عليه السنة والقرآن، وشهدت به الفطرة والجنان، لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان، وبُخِس حظه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة، لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، كما فى مقالات من بُخِسَ حظه من معرفة الرحمن، وقل نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبَدَ الأفكار وزُبالة الأذهان، بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب والجنان، وأطيب نعيم ناله من كان أهلا لهذا الشان، والله المستعان، وعليه التكلان.

وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمنا وتبعا فى بعضها، لأسباب اقتضته لابد منها، هى من لوازم هذه النشأة، فأوامره سبحانه، وحقه الذى أوجبه على عباده، وشرائعه التى شرعها لهم هى قرة العيون ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها، وكمالها فى معاشها ومعادها، بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم فى الحقيقة إلا بذلك، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لمِا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحمةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفضْلِ اللهِ وَبِرحمتِه فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيٌر مِمَّا يجمعُونَ} [يونس: 57- 58].

قال أبو سعيد الخدرى "فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله" وقال هلال بن يساف "بالإسلام الذى هداكم إليه، وبالقرآن الذى علمكم إياه، هو خير مما تجمعون: من الذهب والفضة" وكذلك قال ابن عباس والحسن وقتادة "فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن" وقالت طائفة من السلف "فضله: القرآن، ورحمته: الإسلام".

والتحقيق:
أن كلا منهما فيه الوصفان، الفضل والرحمة، وهما الأمران اللذان امتن الله بهما على رسوله عليه الصلاة والسلام فقال: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52]، والله سبحانه إنما رفع من رفع بالكتاب والإيمان. ووضع من وضع بعدمهما.

فإن قيل:
فقد وقع تسمية ذلك تكليفا فى القرآن كقوله: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقوله: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].

قيل:
نعم، إنما جاء ذلك فى جانب النفى، ولم يسم سبحانه أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفا قط، بل سماها روحا ونورا، وشفاء وهدى ورحمة، وحياة، وعهدا، ووصية، ونحو ذلك.

الوجه الرابع:
أن أفضل نعيم الآخرة وأجله وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع خطابه، كما فى صحيح مسلم عن صهيب رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويُجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه" وفى حديث آخر: "فلا يلتفتون إلى شىء من النعيم ما داموا ينظرون إليه" فبين النبىّ عليه الصلاة والسلام أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم فى الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما كان ذلك أحب إليهم لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين، فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين البتة. ولهذا قال سبحانه وتعالى فى حق الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لمَحْجُوبُونَ ثُم إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجحِيمِ} [المطففين: 15-16].

فجمع عليهم نوعى العذاب:
عذاب النار، وعذاب الحجاب عنه سبحانه، كما جمع لأوليائه نوعى النعيم: نعيم التمتع بما فى الجنة، ونعيم التمتع برؤيته، وذكر سبحانه هذه الأنواع الأربعة فى هذه السورة فقال فى حق الأبرار: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22، 23].

ولقد هضم معنى الآية من قال:
ينظرون إلى أعدائهم يعذبون، أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض، وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره، وإنما المعنى ينظرون إلى وجه ربهم، ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم لمحجوبون، {ثُمَّ إنَّهُمْ لَصالُوا الجحِيمِ} [المطففين: 16]، وتأمل كيف قابل سبحانه ما قاله الكفار فى أعدائهم فى الدنيا وسخروا به منهم، بضده فى القيامة، فإن الكفار كانوا إذا مر بهم المؤمنون يتغامزون ويضحكون منهم: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 32].

فقال تعالى:
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] مقابلة لتغامزهم وضحكهم منهم، ثم قال: فأطلق النظر، ولم يقيده بمنظور دون منظور، وأعلى ما نظروا إليه وأجله وأعظمه هو الله سبحانه، والنظر إليه أجل أنواع النظر وأفضلها، وهو أعلى مراتب الهداية، فقابل بذلك قولهم: {إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ} [المطففين: 32]، فالنظر إلى الرب سبحانه مراد من هذين الموضعين ولا بد، إما بخصوصه، وإما بالعموم والإطلاق، ومن تأمل السياق لم يجد الآيتين تحتملان غير إرادة ذلك، خصوصا أو عموما.

فصل:
[فى أن لذة النظر إلى وجه الله يوم القيامة تابعة للتلذذ بمعرفته ومحبته فى الدنيا]
وكما أنه لا نسبة لنعيم ما فى الجنة إلى نعيم النظر إلى وجه الأعلى سبحانه، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة. فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب، وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم.

الوجه الخامس:
أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل الله وحده هو الذى يملك له ذلك كله، قال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الَحْكِيمُ} [فاطر: 2] وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُردْكَ بِخَيْر فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160].

وقال تعالى عن صاحب يس:
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِّ عَنى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس: 23] وقال تعالى: {يَا أيهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3] وقال تعالى: {أَمَّنْ هذَا الّذِى هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فى غُرُورٍ أَمَّنْ هذَا الّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20- 21]، فجمع سبحانه بين النصر والرزق، فإن العبد مضطر إلى من يدفع عنه عدوه بنصره، ويجلب له منافعه برزقه، فلا بد له من ناصر ورازق، والله وحده هو الذى ينصر ويرزق، فهو الرزاق ذو القوة المتين.

ومن كمال فطنة العبد ومعرفته:
أن يعلم أنه إذا مسه الله بسوء لم يرفعه عنه غيره وإذا ناله بنعمة لم يرزقه إياها سواه.

ويذكر أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه:
"أدْرِكْ لِى لَطِيفَ الْفِطْنَةِ، وَخَفِى اللُّطْفِ، فَإنِّى أُحِبُّ ذلِكَ. قَالَ: يَا رب وَمَا لَطِيفُ الْفِطْنَةِ؟ قَالَ: إنْ وَقَعَتْ عَلَيْكَ ذُبَابَةٌ فَاعْلَمْ أَنِّى أَنَا أَوْقَعْتُهَا فَاسْأَلْنِى أَرْفَعْهَا، قَالَ: وَمَا خَفِىُّ اللُّطْفِ؟ قَالَ: إذَا أَتَتْكَ حَبَّةٌ فَاعْلَمْ أَنِّى أَنَا ذَكَرْتُكَ بِهَا" وقد قال تعالى عن السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلا بإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102]، فهو سبحانه وحده الذى يكفى عبده وينصره ويرزقه ويكلؤه.

قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: سمعت وهبا يقول: قال الله تعالى فى بعض كتبه: "بِعِزَّتى، إنّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِى، فَإِنْ كادَتْهُ السَّموَاتُ بِمَنْ فِيهِنَّ، وَالأرَضُونَ بِمَنْ فِيهِنَّ، فَإنِّى أَجْعَلُ لَهُ مِنْ ذلِكَ مَخْرَجاً، وَمَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِى، فَإِنِّى أَقْطَعُ يَدَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ السَّمَاءِ وَأَخْسِفُ بِهِ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الأرْضَ، فَأَجْعَلُهُ فى الْهَوَاءِ، ثُمَّ أكِلُهُ إلَى نَفْسِهِ، كَفِّى لِعَبْدِى مَلأى، إذَا كانَ عَبْدِى فى طَاعَتِى أعْطِيِه قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَنى، وَأَسْتَجِيبُ لَهُ قَبْلَ أنْ يَدْعُوَنِى، فإنِّى أَعْلَمُ بِحَاجَتِهِ الَّتى تَرْفُقُ بِهِ مِنْهُ".

قال أحمد:
وحدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب، حدثنا من سمع عطاء الخراسانى قال: لقيت وهب بن منبه، وهو يطوف بالبيت، فقلت له: حدثنى حديثا أحفظه عنك فى مقامى هذا وأوجز، قال نعم: "أَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلى دَاوُدَ: يَا دَاوُدُ، أَمَا وَعِزَّتِى وَعَظَمَتِى لا يَعْتَصِمُ بِى عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِى دُونَ خَلْقِى - أَعْرِفُ ذلِكَ مِنْ نِيتهِ - فَتَكِيدُهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَالأرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ إِلا جَعَلْتُ لَهُ مِنْ بَيْنِهنَّ مَخْرَجا؛ أَمَا وَعِزَّتِى وَعَظَمَتِى لا يَعْتَصِمُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِى بِمَخْلُوقٍ دُونى - أَعْرِفُ ذلِكَ مِن نِيَّتِهَ- إِلا قَطَعْتُ أسبابَ السَّماءِ مِنْ يدِه، وَأَسَخْتُ الأرْضَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، ثُم لا أُبَالِى بِأَىِّ وَادٍ هَلَكَ".

وهذا الوجه أظهر للعامة من الذى قبله، ولهذا خوطبوا به فى القرآن أكثر من الأول ومنه دعت الرسل إلى الوجه الأول.

وإذا تدبر اللبيب القرآن وجد الله سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إلى الوجه الأول، وهذا الوجه يقتضى التوكل على الله تعالى والاستعانة به، ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضى أيضاً: محبته وعبادته، لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، فإذا أحبوه وعبدوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا منه إلى الوجه الأول.

ونظير ذلك:
من ينزل به بلاء عظيم، أو فاقة شديدة، أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله سبحانه ويتضرع إليه، حتى فتح له من لذيذ مناجاته وعظيم الإيمان به، والإنابة إليه ما هو أحب إليه من تلك الحاجة التى قصدها أولاً، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولاً حتى يطلبه، ويشتاق إليه.

وفى نحو ذلك قال القائل:
جَـــــــزَى اللهُ يَوْمَ الرَّوْعِ خَيْرًا، فَإِنَّه أَرَانَا عَلَى عِلاتِهِ أمَّ ثَابِتِ
أَرَانَا مَصُونَاتِ اْلحِجابِ، وَلَمْ نَكُنْ نَرَاهنَّ إِلا عِنْدَ نَعْتِ النَّوَاعِتِ

يتبع إن شاء الله...


الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه. 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه.
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» جامع الدعاء.. أحكام.. آداب.. ثمرات.
» الكتب التي صدرت للمؤلف بفضل الله وحده:
» الباب الخامس: فى أن حياة القلب وصحته, لا تحصل إلا بأن يكون مدركاً للحق مريداً له، مؤثراً له على غيره
» الباب الثالث والثلاثون: ما جاء في التنزيل قد حذف منه المضاف إليه
» الباب التاسع والأربعون: ما جاء في التنزيل منصوباً على المضاف إليه

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـرقـيــــة مـن الـكـتـــاب والسُّــنَّة :: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان-
انتقل الى: