الباب السادس:
فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه, وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبَّ إليه من كل ما سواه.
معلومٌ أن كل حَىٍّ سوى الله سبحانه:
من ملك أو إنس أو جن أو حيوان، فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتم ذلك له إلا بتصوره للنافع والضار، والمنفعة من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب.
فلابد له من أمرين:
أحدهما:
معرفة ما هو المحبوب المطلوب الذى ينتفع به ويلتذ بإدراكه.
والثانى:
معرفة المعين الموصل المحصل لذلك المقصود.
وبإزاء ذلك أمران آخران:
أحدهما:
مكروه بغيض ضار.
والثانى:
معين دافع له عنه.
فهذه أربعة أشياء:
أحدها:
أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
الثانى:
أمر مكروه مطلوب العدم.
الثالث:
الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
الرابع:
الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد، بل ولكل حيوان لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، فإذا تقرر ذلك، فالله تعالى هو الذى يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، الذى يراد وجهه، ويبتغى قربه، ويطلب رضاه، وهو المعين على حصول ذلك. وعبودية ما سواه والالتفات إليه، والتعلق به: هو المكروه الضار، والله هو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون ما سواه، فهو المعبود المحبوب المراد، وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له.
والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته وقدرته، وهو المعين لعبده على دفعه عنه، كما قال أعرف الخلق به صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَعُوذ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ"، وقال: "اللهُمَّ إِنِّى أَسْلَمْتُ نَفْسِى إلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إلَيْكَ، وَأَلْجأْتُ ظَهْرِى إلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إلا إلَيْكَ"، فمنه المنجى، وإليه الملجأ، وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته، فالإعاذة فعله، والمستعاذ منه فعله، أو مفعوله الذى خلقه بمشيئته.
فالأمر كله له، والحمد كله له، والملك كله له، والخير كله فى يديه، لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثنى عليه كل أحد من خلقه، ولهذا كان صلاح العبد وسعادته فى تحقيق معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذى يستعان به على المطلوب، فالأول: من معنى ألوهيته، والثانى: من معنى ربوبيته، فإن الإله هو الذى تألهه القلوب: محبة، وإنابة، وإجلالاً، وإكراماً، وتعظيماً، وذلاً، وخضوعاً، وخوفا ورجاءً، وتوكلاً
والرب تعالى هو الذى يربى عبده، فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى مصالحه فلا إله إلا هو ولا رب إلا هو، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل، فكذلك إلهية ما سواه.
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين فى مواضع من كتابه كقوله:
{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقوله عن نبيه شعيب {وَمَا تَوْفِيقِى إلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وقوله {وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بحمدِهِ} [الفرقان: 58]، وقوله: {وَتَبَتّلْ إِلَيْهِ تَبْتيلاً رَبُّ المشْرِقِ والمغْرِبِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل: 8-9]، وقوله {قُلْ هُوَ رَبّى لاَ إِلهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، وقوله عن الحنفاءِ أتباع إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكّلْنَا وَإلَيْكَ أنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصِيُر} [الممتحنة: 4]، فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيى التوحيد اللذين لا سعادة للعبد بدونهما البتة.
الوجه الثانى:
أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته، والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته فى الآخرة تقر عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم فى الآخرة شيئا خيراً لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم، ولا أنعم لقلوبهم: من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة، ولم يعطهم فى الدنيا شيئاً خيراً لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من الإيمان به، ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، والتنعم بذكره.
وقد جمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين هذين الأمرين فى الدعاء الذى رواه النسائى والإمام أحمد، وابن حبان فى صحيحه وغيرهم، من حديث عمار ابن ياسر: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يدعو به: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينى ما علمت الحياة خيراً لى، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى، وأسألك خشيتك فى الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق فى الرضى والغضب، وأسألك القصد فى الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك فى غير ضراء مُضِرَّة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين".
فجمع فى هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شىء فى الدنيا، وهو الشوق إلى لقائه سبحانه، وأطيب شىء فى الآخرة، وهو النظر إلى وجهه سبحانه، ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفاً على عدم ما يضر فى الدنيا، ويفتن فى الدين قال: "فى غير ضرّاء مضرة ولا فتنة مضلة"، ولما كان كمال العبد فى أن يكون عالماً بالحق متبعاً له معلماً لغيره، مرشدا له قال: "وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مهتدينَ".
ولما كان الرضى النافع المحصل للمقصود هو الرضى بعد وقوع القضاء لا قبله، فإن ذلك عزم على الرضى، فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك العزم، سأل الرضى بعده، فإن المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه والرضى بعد وقوعه. فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما، كما فى المسند وغيره عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "إن من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضا بما قضى الله، وإن من شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله، وسخطه بما قضى الله تعالى".
ولما كانت خشية الله عز وجل رأس كل خير فى المشهد والمغيب، سأله خشيته فى الغيب والشهادة، ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق فى رضاه، فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل، وقد يدخله أيضاً رضاه فى الباطل، سأل الله عز وجل من توفيقه لكلمة الحق فى الغضب والرضى.
ولهذا قال بعض السلف:
لا تكن ممن إذا رضى أدخله رضاه فى الباطل، وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق، ولما كان الفقر والغنى محنتين وبليتين، يبتلى الله بهما عبده، ففى الغنى يبسط يده، وفى الفقر يقبضها، سأل الله عز وجل القصد فى الحالين، وهو التوسط الذى ليس معه إسراف ولا تقتير.
ولما كان النعيم نوعين:
نوعاً للبدن، ونوعاً للقلب، وهو قرة العين، وكماله بدوامه واستمراره، جمع بينهما فى قوله: "أسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع".
ولما كانت الزينة زينتين:
زينة البدن، وزينة القلب، وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا وأجلهما خطرا، وإذا حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه فى العقبى، سأل ربه الزينة الباطنة فقال: "زيِّنا بِزِينَةِ الإيمَانِ"، ولما كان العيش فى هذه الدار لا يبرد لأحد كائنا من كان، بل هو محشو بالغصص والنكد، ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة، سأل برد العيش بعد الموت.
والمقصود:
أنه جمع فى هذا الدعاء بين أطيب ما فى الدنيا، وأطيب ما فى الآخرة، فإن حاجة العباد إلى ربهم فى عبادتهم إياه وتألههم له، كحاجتهم إليه فى خلقه لهم، ورزقه إياهم، ومعافاة أبدانهم، وستر عوراتهم، وتأمين روعاتهم، بل حاجتهم إلى تألهه ومحبته وعبوديته أعظم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم.
ولا صلاح لهم ولا نعيم ولا فلاح ولا لذة ولا سعادة بدون ذلك بحال ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أحسن الحسنات، وكان توحيد الإلهية رأس الأمر، وأما توحيد الربوبية الذى أقر به المسلم والكافر، وقرره أهل الكلام فى كتبهم، فلا يكفى وحده، بل هو الحجة عليهم، كما بين ذلك سبحانه فى كتابه الكريم فى عدة مواضع، ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما فى الحديث الصحيح الذى رواه معاذ بن جبل رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "أتدرى ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار".
ولذلك يحب سبحانه عباده المؤمنين الموحدين ويفرح بتوبتهم، كما أن فى ذلك أعظم لذة العبد وسعادته ونعيمه، فليس فى الكائنات شىء غير الله سبحانه يسكن القلب إليه، ويطمئن به ويأنس به، ويتنعم بالتوجه إليه، ومن عبد غيره سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة، فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته، وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ، وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا، كما قال تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فساداً لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذى يحبه ويرجوه، ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه.
الوجه الثالث:
أن فقر العبد إلى أن يعبد الله سبحانه وحده لا يشرك به شيئا ليس له نظير فيقاس به، ولكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس، فيقاس بها، ولكن بينهما فروق كثيرة، فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذى لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، وهو كادح إليه كدحا فملاقيه، ولا بد له من لقائه، ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه، ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا فى حال، وبهذا فى حال، وكثيرا ما يكون ذلك الذى يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته.
وأما إلهه الحق فلا بد له منه فى كل وقت وفى كل حال، وأينما كان فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلت عليه السنة والقرآن، وشهدت به الفطرة والجنان، لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان، وبُخِس حظه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة، لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، كما فى مقالات من بُخِسَ حظه من معرفة الرحمن، وقل نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبَدَ الأفكار وزُبالة الأذهان، بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب والجنان، وأطيب نعيم ناله من كان أهلا لهذا الشان، والله المستعان، وعليه التكلان.
وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمنا وتبعا فى بعضها، لأسباب اقتضته لابد منها، هى من لوازم هذه النشأة، فأوامره سبحانه، وحقه الذى أوجبه على عباده، وشرائعه التى شرعها لهم هى قرة العيون ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها، وكمالها فى معاشها ومعادها، بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم فى الحقيقة إلا بذلك، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لمِا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحمةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفضْلِ اللهِ وَبِرحمتِه فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيٌر مِمَّا يجمعُونَ} [يونس: 57- 58].
قال أبو سعيد الخدرى "فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله" وقال هلال بن يساف "بالإسلام الذى هداكم إليه، وبالقرآن الذى علمكم إياه، هو خير مما تجمعون: من الذهب والفضة" وكذلك قال ابن عباس والحسن وقتادة "فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن" وقالت طائفة من السلف "فضله: القرآن، ورحمته: الإسلام".
والتحقيق:
أن كلا منهما فيه الوصفان، الفضل والرحمة، وهما الأمران اللذان امتن الله بهما على رسوله عليه الصلاة والسلام فقال: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52]، والله سبحانه إنما رفع من رفع بالكتاب والإيمان. ووضع من وضع بعدمهما.
فإن قيل:
فقد وقع تسمية ذلك تكليفا فى القرآن كقوله: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقوله: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].
قيل:
نعم، إنما جاء ذلك فى جانب النفى، ولم يسم سبحانه أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفا قط، بل سماها روحا ونورا، وشفاء وهدى ورحمة، وحياة، وعهدا، ووصية، ونحو ذلك.
الوجه الرابع:
أن أفضل نعيم الآخرة وأجله وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع خطابه، كما فى صحيح مسلم عن صهيب رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويُجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه" وفى حديث آخر: "فلا يلتفتون إلى شىء من النعيم ما داموا ينظرون إليه" فبين النبىّ عليه الصلاة والسلام أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم فى الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما كان ذلك أحب إليهم لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين، فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين البتة. ولهذا قال سبحانه وتعالى فى حق الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لمَحْجُوبُونَ ثُم إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجحِيمِ} [المطففين: 15-16].
فجمع عليهم نوعى العذاب:
عذاب النار، وعذاب الحجاب عنه سبحانه، كما جمع لأوليائه نوعى النعيم: نعيم التمتع بما فى الجنة، ونعيم التمتع برؤيته، وذكر سبحانه هذه الأنواع الأربعة فى هذه السورة فقال فى حق الأبرار: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22، 23].
ولقد هضم معنى الآية من قال:
ينظرون إلى أعدائهم يعذبون، أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض، وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره، وإنما المعنى ينظرون إلى وجه ربهم، ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم لمحجوبون، {ثُمَّ إنَّهُمْ لَصالُوا الجحِيمِ} [المطففين: 16]، وتأمل كيف قابل سبحانه ما قاله الكفار فى أعدائهم فى الدنيا وسخروا به منهم، بضده فى القيامة، فإن الكفار كانوا إذا مر بهم المؤمنون يتغامزون ويضحكون منهم: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 32].
فقال تعالى:
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] مقابلة لتغامزهم وضحكهم منهم، ثم قال: فأطلق النظر، ولم يقيده بمنظور دون منظور، وأعلى ما نظروا إليه وأجله وأعظمه هو الله سبحانه، والنظر إليه أجل أنواع النظر وأفضلها، وهو أعلى مراتب الهداية، فقابل بذلك قولهم: {إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ} [المطففين: 32]، فالنظر إلى الرب سبحانه مراد من هذين الموضعين ولا بد، إما بخصوصه، وإما بالعموم والإطلاق، ومن تأمل السياق لم يجد الآيتين تحتملان غير إرادة ذلك، خصوصا أو عموما.
فصل:
[فى أن لذة النظر إلى وجه الله يوم القيامة تابعة للتلذذ بمعرفته ومحبته فى الدنيا]
وكما أنه لا نسبة لنعيم ما فى الجنة إلى نعيم النظر إلى وجه الأعلى سبحانه، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة. فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب، وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم.
الوجه الخامس:
أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل الله وحده هو الذى يملك له ذلك كله، قال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الَحْكِيمُ} [فاطر: 2] وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُردْكَ بِخَيْر فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160].
وقال تعالى عن صاحب يس:
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِّ عَنى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس: 23] وقال تعالى: {يَا أيهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3] وقال تعالى: {أَمَّنْ هذَا الّذِى هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فى غُرُورٍ أَمَّنْ هذَا الّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20- 21]، فجمع سبحانه بين النصر والرزق، فإن العبد مضطر إلى من يدفع عنه عدوه بنصره، ويجلب له منافعه برزقه، فلا بد له من ناصر ورازق، والله وحده هو الذى ينصر ويرزق، فهو الرزاق ذو القوة المتين.
ومن كمال فطنة العبد ومعرفته:
أن يعلم أنه إذا مسه الله بسوء لم يرفعه عنه غيره وإذا ناله بنعمة لم يرزقه إياها سواه.
ويذكر أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه:
"أدْرِكْ لِى لَطِيفَ الْفِطْنَةِ، وَخَفِى اللُّطْفِ، فَإنِّى أُحِبُّ ذلِكَ. قَالَ: يَا رب وَمَا لَطِيفُ الْفِطْنَةِ؟ قَالَ: إنْ وَقَعَتْ عَلَيْكَ ذُبَابَةٌ فَاعْلَمْ أَنِّى أَنَا أَوْقَعْتُهَا فَاسْأَلْنِى أَرْفَعْهَا، قَالَ: وَمَا خَفِىُّ اللُّطْفِ؟ قَالَ: إذَا أَتَتْكَ حَبَّةٌ فَاعْلَمْ أَنِّى أَنَا ذَكَرْتُكَ بِهَا" وقد قال تعالى عن السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلا بإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102]، فهو سبحانه وحده الذى يكفى عبده وينصره ويرزقه ويكلؤه.
قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: سمعت وهبا يقول: قال الله تعالى فى بعض كتبه: "بِعِزَّتى، إنّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِى، فَإِنْ كادَتْهُ السَّموَاتُ بِمَنْ فِيهِنَّ، وَالأرَضُونَ بِمَنْ فِيهِنَّ، فَإنِّى أَجْعَلُ لَهُ مِنْ ذلِكَ مَخْرَجاً، وَمَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِى، فَإِنِّى أَقْطَعُ يَدَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ السَّمَاءِ وَأَخْسِفُ بِهِ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الأرْضَ، فَأَجْعَلُهُ فى الْهَوَاءِ، ثُمَّ أكِلُهُ إلَى نَفْسِهِ، كَفِّى لِعَبْدِى مَلأى، إذَا كانَ عَبْدِى فى طَاعَتِى أعْطِيِه قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَنى، وَأَسْتَجِيبُ لَهُ قَبْلَ أنْ يَدْعُوَنِى، فإنِّى أَعْلَمُ بِحَاجَتِهِ الَّتى تَرْفُقُ بِهِ مِنْهُ".
قال أحمد:
وحدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب، حدثنا من سمع عطاء الخراسانى قال: لقيت وهب بن منبه، وهو يطوف بالبيت، فقلت له: حدثنى حديثا أحفظه عنك فى مقامى هذا وأوجز، قال نعم: "أَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلى دَاوُدَ: يَا دَاوُدُ، أَمَا وَعِزَّتِى وَعَظَمَتِى لا يَعْتَصِمُ بِى عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِى دُونَ خَلْقِى - أَعْرِفُ ذلِكَ مِنْ نِيتهِ - فَتَكِيدُهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَالأرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ إِلا جَعَلْتُ لَهُ مِنْ بَيْنِهنَّ مَخْرَجا؛ أَمَا وَعِزَّتِى وَعَظَمَتِى لا يَعْتَصِمُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِى بِمَخْلُوقٍ دُونى - أَعْرِفُ ذلِكَ مِن نِيَّتِهَ- إِلا قَطَعْتُ أسبابَ السَّماءِ مِنْ يدِه، وَأَسَخْتُ الأرْضَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، ثُم لا أُبَالِى بِأَىِّ وَادٍ هَلَكَ".
وهذا الوجه أظهر للعامة من الذى قبله، ولهذا خوطبوا به فى القرآن أكثر من الأول ومنه دعت الرسل إلى الوجه الأول.
وإذا تدبر اللبيب القرآن وجد الله سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إلى الوجه الأول، وهذا الوجه يقتضى التوكل على الله تعالى والاستعانة به، ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضى أيضاً: محبته وعبادته، لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، فإذا أحبوه وعبدوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا منه إلى الوجه الأول.
ونظير ذلك:
من ينزل به بلاء عظيم، أو فاقة شديدة، أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله سبحانه ويتضرع إليه، حتى فتح له من لذيذ مناجاته وعظيم الإيمان به، والإنابة إليه ما هو أحب إليه من تلك الحاجة التى قصدها أولاً، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولاً حتى يطلبه، ويشتاق إليه.
وفى نحو ذلك قال القائل:
جَـــــــزَى اللهُ يَوْمَ الرَّوْعِ خَيْرًا، فَإِنَّه أَرَانَا عَلَى عِلاتِهِ أمَّ ثَابِتِ
أَرَانَا مَصُونَاتِ اْلحِجابِ، وَلَمْ نَكُنْ نَرَاهنَّ إِلا عِنْدَ نَعْتِ النَّوَاعِتِ
يتبع إن شاء الله...