فوائد الإسرار بالدعاء:
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ:
1ـ أنه أعظم إيمانا، لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي وأبلغ في الإخلاص والخضوع والخشوع .
2ـ أنه أعظم في الأدب والتعظيم ، لأن الملوك لا ترفع الأصوات عندهم ، ومن رفع صوته لديهم مقتوه ، ولله المثل الأعلى .
3ـ أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد ، ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً.
فلما استحضر أن الله أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما أمكنه .
فضل الذكر
للذكر فضائل كثيرة ، وفوائد عظيمة ، وأجور لا تعد ولا تحصى عند الله تعالى يوم القيامة .
قوله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً : أي أول النهار وآخره .
قال الإمام الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله اذكروا الله بقلوبكم ، وألسنتكم ، وجوارحكم ذكرا كثيرا فلا تخلو أبدانكم من ذكره في حال من أحوال طاقتكم ذلك ، وسبحوه بكرة.اهـ..
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ: الصلاة من الله الثناء ، ومن الملائكة الدعاء .
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: أي من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم، أن جعل من صلاته عليهم وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل، فهذا أعظم نعمة أنعم بها على عباده الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر الله الذي لطف بهم ورحمهم . اهـ .
فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
وقال ابن قيم الجوزية في تعليقه على هذه الآية: فهذة الصلاة منه تبارك وتعالى ومن ملائكته إنما هى سبب الإخراج لهم من الظلمات إلى النور، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله تبارك وتعالى وملائكته وأخرجوهم من الظلمات إلى النور فأي خير لم يحصل لهم وأي شر لم يندفع عنهم فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حرموا من خيره وفضله وبالله التوفيق. اهـ.
وقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ.
والذكر خير عند الله وأرفع للرجات من إنفاق الذهب والفضة، ومن مجاهدة أعداء الله .
فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: بلى قال: "ذكر الله".
أزكاها: أكثرها ثواباً وأطهرها، وأرفعها: أزيدها.
مليككم: أي ربكم ومالككم .
وأرفعها في درجاتكم: أي منازلكم في الجنة.
والورق: بكسر الراء الفضة .
فيه بيان فضل الذكر وأنه خير من الضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل ونفقة الأموال في سبيل الله.
قال المناوي: لأن سائر العبادات من الإنفاق ومقاتلة العدو وسائل ووسائط يتقرب بها إلى اللّه تعالى والذكر هو المقصود الأسنى ورأس الذكر قول لا إله إلا اللّه وهي الكلمة العليا وهي القطب الذي يدور عليه رحى الإسلام والقاعدة التي بني عليها أركان الدين والشعبة التي هي أعلى شعب الإيمان بل هي الكل وليس غيره...
وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: "الذاكرون الله كثيراً" قال: قلت: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: "لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون لله أفضل درجة".
وعن معاذ، عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن رجلاً سأل فقال: أي المجاهدين أعظم أجراً؟ قال: "أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا" قال: فأي الصائمين أعظم أجراً" قال: "أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا" ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك ورسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا" فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أجل".
وعَنْ هِشَام بْن سَعِيد عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يَا رَبّ كَيْف أَشْكُرك؟ قَالَ لَهُ رَبّه: تَذْكُرنِي وَلَا تَنْسَانِي فَإِذَا ذَكَرْتنِي فَقَدْ شَكَرْتنِي وَإِذَا نَسِيتنِي فَقَدْ كَفَرْتنِي.
قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة وَالسُّدِّيّ وَالرَّبِيع بْن أَنَس: إِنَّ اللَّه يَذْكُر مَنْ ذَكَرَهُ وَيَزِيد مَنْ شَكَرَهُ وَيُعَذِّبُ مَنْ كَفَرَهُ، وَقَالَ بَعْض السَّلَف فِي قَوْله تَعَالَى: "اِتَّقُوا اللَّه حَقّ تُقَاته".
قَالَ هُوَ أَنْ يُطَاع فَلَا يُعْصَى وَيُذْكَر فَلَا يُنْسَى وَيُشْكَر فَلَا يُكْفَر.
وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد بْن الصَّبَّاح أَخْبَرَنَا يَزِيد بْن هَارُونَ أَخْبَرَنَا عُمَارَة الصَّيْدَلَانِيّ أَخْبَرَنَا مَكْحُول الْأَزْدِيّ قَالَ : قُلْت لِابْنِ عُمَر أَرَأَيْت قَاتِل النَّفْس وَشَارِب الْخَمْر وَالسَّارِق وَالزَّانِي يَذْكُر اللَّه وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ "
قَالَ إِذَا ذَكَرَ اللَّه هَذَا ذَكَرَهُ اللَّه بِلَعْنَتِهِ حَتَّى يَسْكُت
وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله : " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ"
قَالَ اُذْكُرُونِي فِيمَا أَوْجَبْت لَكُمْ عَلَى نَفْسِي
وَعَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر اُذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُركُمْ بِمَغْفِرَتِي
وَفِي رِوَايَة بِرَحْمَتِي
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله اُذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ قَالَ ذِكْر اللَّه إِيَّاكُمْ أَكْبَر مِنْ ذَكَركُمْ إِيَّاهُ
وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح : " يَقُول اللَّه تَعَالَى مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسه ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْته فِي مَلَإٍ خَيْر مِنْهُ "
وعَنْ أَنَس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَا اِبْن آدَم إِنْ ذَكَرْتنِي فِي نَفْسك ذَكَرْتُك فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرْتنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُك فِي مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَة - أَوْ قَالَ فِي مَلَإٍ خَيْر مِنْهُ - وَإِنْ دَنَوْت مِنِّي شِبْرًا دَنَوْت مِنْك ذِرَاعًا وَإِنْ دَنَوْت مِنِّي ذِرَاعًا دَنَوْت مِنْك بَاعًا وَإِنْ أَتَيْتنِي تَمْشِي أَتَيْتُك هَرْوَلَة " . صَحِيح الْإِسْنَاد أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث قَتَادَة وَعِنْده قَالَ قَتَادَة اللَّه أَقْرَب بِالرَّحْمَةِ .
وَقَوْله: " وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ"
أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِشُكْرِهِ وَوَعَدَ عَلَى شُكْره بِمَزِيدِ الْخَيْر فَقَالَ
" وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "
وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا رَوْح حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ الْفُضَيْل بْن فَضَالَة - رَجُل مِنْ قَيْس - حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاء الْعُطَارِدِيّ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا عِمْرَان بْن حُصَيْن وَعَلَيْهِ مُطَرِّف مِنْ خَزّ لَمْ نَرَهُ عَلَيْهِ قَبْل ذَلِكَ وَلَا بَعْده فَقَالَ
إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَإِنَّ اللَّه يُحِبّ أَنْ يُرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ "
وَقَالَ رَوْح مَرَّة : عَلَى عَبْده .
قال ابن كثير في قوله تعالى : ((وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)): يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِذَلِكَ : اُشْكُرُوا لِي أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيمَا أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ مِنْ الْإِسْلَام وَالْهِدَايَة لِلدِّينِ الَّذِي شَرَعْته لِأَنْبِيَائِي وَأَصْفِيَائِي
{ وَلَا تَكْفُرُونِ } : يَقُول : وَلَا تَجْحَدُوا إحْسَانِي إلَيْكُمْ , فَأَسْلُبكُمْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ , وَلَكِنْ اُشْكُرُوا لِي عَلَيْهَا , وَأَزِيدكُمْ فَأُتَمِّم نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ , وَأَهْدِيكُمْ لِمَا هَدَيْت لَهُ مَنْ رَضِيت عَنْهُ مِنْ عِبَادِي , فَإِنِّي وَعَدْت خَلْقِي أَنَّ مَنْ شَكَرَ لِي زِدْته , وَمَنْ كَفَرَنِي حَرَمْته وَسَلَبْته مَا أَعْطَيْته .
وَالْعَرَب تَقُول : نَصَحْت لَك وَشَكَرْت لَك , وَلَا تَكَاد تَقُول نَصَحْتُك , وَرُبَّمَا قَالَتْ شَكَرْتُك وَنَصَحْتُك.
وقال الطبري : وَأَصْل الذِّكْر التَّنَبُّه بِالْقَلْبِ لِلْمَذْكُورِ وَالتَّيَقُّظ لَهُ .
وَسُمِّيَ الذِّكْر بِاللِّسَانِ ذِكْرًا لِأَنَّهُ دَلَالَة عَلَى الذِّكْر الْقَلْبِيّ , غَيْر أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ إِطْلَاق الذِّكْر عَلَى الْقَوْل اللِّسَانِيّ صَارَ هُوَ السَّابِق لِلْفَهْمِ .
وَمَعْنَى الْآيَة : اُذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُركُمْ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَة , قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر .
وَقَالَ أَيْضًا : الذِّكْر طَاعَة اللَّه , فَمَنْ لَمْ يُطِعْهُ لَمْ يَذْكُرهُ وَإِنْ أَكْثَرَ التَّسْبِيح وَالتَّهْلِيل وَقِرَاءَة الْقُرْآن , وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَطَاعَ اللَّه فَقَدْ ذَكَرَ اللَّه وَإِنْ أَقَلَّ صَلَاته وَصَوْمه وَصَنِيعه لِلْخَيْرِ وَمَنْ عَصَى اللَّه فَقَدْ نَسِيَ اللَّه وَإِنْ كَثَّرَ صَلَاته وَصَوْمه وَصَنِيعه لِلْخَيْرِ ).
ذَكَرَهُ أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن خُوَيْز مَنْدَاد فِي " أَحْكَام الْقُرْآن " لَهُ .
وَقَالَ أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ : إِنِّي لَأَعْلَم السَّاعَة الَّتِي يَذْكُرنَا اللَّه فِيهَا , قِيلَ لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ تَعْلَمهَا ؟
قَالَ يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَاذْكُرُونِي أَذْكُركُمْ " .
وَقَالَ السُّدِّيّ : لَيْسَ مِنْ عَبْد يَذْكُر اللَّه إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , لَا يَذْكُرهُ مُؤْمِن إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّه بِرَحْمَتِهِ , وَلَا يَذْكُرهُ كَافِر إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّه بِعَذَابٍ .
وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَان فَقِيلَ لَهُ: نَذْكُر اللَّه وَلَا نَجِد فِي قُلُوبنَا حَلَاوَة؟ فَقَالَ: اِحْمَدُوا اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنْ زَيَّنَ جَارِحَة مِنْ جَوَارِحكُمْ بِطَاعَتِهِ .
وَقَالَ ذُو النُّون الْمِصْرِيّ رَحِمَهُ اللَّه : مَنْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذِكْرًا عَلَى الْحَقِيقَة نَسِيَ فِي جَنْب ذِكْره كُلّ شَيْء , حَفِظَ اللَّه عَلَيْهِ كُلّ شَيْء , وَكَانَ لَهُ عِوَضًا مِنْ كُلّ شَيْء .
وَقَالَ مُعَاذ بْن جَبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَا عَمِلَ اِبْن آدَم مِنْ عَمَل أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَاب اللَّه مِنْ ذِكْر اللَّه .
وَالْأَحَادِيث فِي فَضْل الذِّكْر وَثَوَابه كَثِيرَة خَرَّجَهَا الْأَئِمَّة .
رَوَى اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَبْد اللَّه بْن بُسْر أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إِنَّ شَرَائِع الْإِسْلَام قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِشَيْءٍ أَتَشَبَّث بِهِ , قَالَ : لَا يَزَال لِسَانك رَطْبًا مِنْ ذِكْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ" .
وَخُرِّجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ ) .
وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَاب مَزِيد بَيَان عِنْد قَوْله تَعَالَى : "يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اللَّه ذِكْرًا كَثِيرًا ".
وَأَنَّ الْمُرَاد ذِكْر الْقَلْب الَّذِي يَجِب اِسْتِدَامَته فِي عُمُوم الْحَالَات ..
الذكر يكون على ثلاث حالات :
1 ـ ذكر مع جهاد ، وهذا أفضل الذكر .
2 ـ جهاد بدون ذكر .
3 ـ ذكر بدون جهاد .
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: فأفضل الذاكرين المجاهدون وأفضل المجاهدين الذاكرون.
ثواب حلق الذكر والإجتماع عليه
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن لله ملائكة فضلاً عن كتاب الناس يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تعالى تنادوا: هلموا إلى حاجتكم".
قال: "فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا".
قال: "فيسألهم ربهم تعالى وهو أعلم بهم ما يقول عبادي؟"
قال: "يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك".
قال: "فيقول: هل رأوني؟".
قال: "فيقولون: لا والله ما رأوك".
قال: "فيقول: كيف لو رأوني؟"
قال: "فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادةً وأشد لك تحميداً وتمجيداً وأكثر لك تسبيحاً".
قال: "فيقول: ما يسألوني؟".
قال: "فيقولون: يسألون الجنة".
قال: "فيقول: وهل رأوها؟".
قال: "فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها".
قال: "فيقول: كيف لو أنهم رأوها؟".
قال: "يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبةً".
قال: "فيقول: فمم يستعيذون؟".
قال: "فيقولون: من النار".
قال: "فيقول: وهل رأوها؟".
قال: "يقولون: لا والله يا رب! ما رأوها".
قال: "يقول: كيف لو رأوها".
قال: "يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً وأشد لها مخافةً".
قال: "يقول: فاشهدكم أني قد غفرت لهم".
قال:"فيقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجةٍ".
قال: "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم".
فيه من الفوائد: فضيلة الذكر وفضيلة مجالسه والجلوس مع أهله وإن لم يشاركهم، وفضيلة مجالسة الصالحين وبركتهم.
قوله: فضلاً: قال العلماء: أنهم ملائكة زائدون على الحفظة فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم وإنما مقصودهم حلق الذكر.
وقوله: ملائكة سيارة: معناه: سياحون في الأرض.
وقوله: ويستجيرونك من نارك أي: يطلبون الأمان منها.
وقوله : "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم":
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى : فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم فلهم نصيب من قوله : وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ.
فهكذا المؤمن مبارك اين حل ، والفاجر مشئوم اين حل ، فمجالس الذكر مجالس الملائكة ، ومجالس الغفلة مجالس الشياطين وكل مضاف الى شكله واشباهه فكل امرئ يصير الى ما يناسبه. اهـ .
فيه من الفوائد : فضيلة الذكر ، وفضيلة مجالسه والجلوس مع أهله وإن لم يشاركهم، وفضيلة مجالسة الصالحين وبركتهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء الله كان مطلوبهم الجنة ومهربهم من النار . اهـ .
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وذكر الله تعالى ضربان: ذكر بالقلب وذكر باللسان وذكر القلب نوعان:
أحدهما: وهو أرفع الأذكار وأجلها: الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سمواته وأرضه ومنه الحديث: "خير الذكر الخفي" والمراد هذا.
والثاني ذكره بالقلب عند الأمر والنهي فيتمثل ما أمر به ويترك ما نهى عنه ويقف عما أشكل عليه، وأما ذكر اللسان مجرداً فهو أضعف الأذكار ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث.
وقال رحمه الله تعالى: واختلفوا هل تكتب الملائكة ذكر القلب؟ فقيل: تكتبه ويجعل الله تعالى لهم علامة يعرفونه بها وقيل: لا يكتبونه لأنه لا يطلع عليه غير الله.
قال النووي رحمه الله تعالى: قلت: والصحيح أنهم يكتبونه وأن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده والله أعلم.أهـ .
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
قالوا والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار مقصود الشارع من أمته ليكونا دائما على ذكر منهم فلا ينسونهما ، ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة ، والعمل على حصول الجنة والنجاة من النار هو محض الإيمان ، قالوا وقد حض النبي عليها أصحابه وأمته فوصفها وجلاها لهم ليخطبوها وقال : "ألا مشمر للجنة فإنها ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وزوجة حسناء وفاكهة نضيجة وقصر مشيد ونهر مطرد" الحديث ، فقال الصحابة رضي الله عنهم : يا رسول الله نحن المشمرون لها ، فقال : "قولوا إن شاء الله" .
قالوا: وأيضاً فالله سبحانه يحب من عباده أن يسألوه جنته ويستعيذوا به من ناره فإنه يحب أن يسأل ومن لم يسأله يغضب عليه وأعظم ما سئل الجنة وأعظم ما استعيذ به من النار ، فالعمل لطلب الجنة محبوب للرب مرضي له وطلبها عبودية للرب والقيام بعبوديته كلها أولى من تعطيل بعضها، قالوا وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار ورجاء هذه والهرب من هذه فترت عزائمه وضعفت همته ووهى باعثه وكلما كان أشد طلبا للجنة وعملا لها كان الباعث له أقوى والهمة أشد والسعي أتم وهذا أمر معلوم بالذوق قالوا ولو لم يكن هذا مطلوبا للشارع لما وصف الجنة للعباد وزينها لهم وعرضها عليهم وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها وما عداه أخبرهم به مجملا كل هذا تشويقا لهم إليها وحثا لهم على السعى لها سعيها. اهـ .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله ما غنيمة مجالس الذكر؟ قال: "غنيمة مجالس الذكر الجنة".
الغنيمة: هو الفوز بالشيء وحيازته ، وهو مافيه من الأجر والثواب.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم".
وعن أنس، عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم منادٍ من السماء أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات".
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليبعثن الله أقواماً يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء".
قال: فجثا أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله جلهم لنا نعرفهم قال: هم المتحابون في الله من قبائل شتى وبلاد شتى يجتمعون على ذكر الله".
قوله: يغبطهم : الغِبْطَةُ بالكسر أن تتمنى مثل حال المَغْبُوطِ من غير أن تُريد زوالها عنه وليس بحسد .
وعن معاوية: أن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على حلقةٍ من أصحابه فقال: "ما أجلسكم" قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا.
قال: "آلله ما أجلسكم إلا ذلك" قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك قال: "أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة".
قال النووي : قوله : "لم أستحلفكم تهمة لكم" هى بفتح الهاء واسكانها ، وهى فعلة وفعلة من الوهم والتاء بدل من الواو واتهمته به اذا ظننت به ذلك .
وقوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله عز وجل يباهى بكم الملائكة" معناه يظهر فضلكم لهم ويريهم حسن عملكم ويثنى عليكم عندهم، وأصل البهاء الحسن والجمال، وفلان يباهى بماله أي يفخر ويتجمل به على غيره ويظهر حسنه . اهـ .
وعن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا:قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يقعد قوم يذكرون الله عزوجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده".
قوله: حفتهم الملائكة: أي يطوفون بهم يدورون حولهم .
قال المناوي: أي أحاطت بهم ملائكة الرحمة والبركة إلى سماء الدنيا ورفرفت عليهم الملائكة بأجنحتهم يستمعون الذكر قيل: ويكونون بعدد القراء.
وقوله: وغشيتهم الرحمة: أي علتهم الرحمة.
وقوله: السكينة: حالة يطمئن بها القلب فيسكن عن الميل إلى الشهوات وعند الرعب، وغشيتهم: عمتهم.
وهي فعيلة من السكون، وذكر الصغاني في الذيل أنها بكسر السين وهي على المشهور في الرواية كما في شرح الترمذي للعراقي بالرفع جملة حالية أو السكينة مبتدأ وعليكم خبره ، وفي رواية بالنصب إغراء واكتفى بالسكينة ولم يذكر الوقار للزومه لها أو هي هو فجمعه بينهما في رواية البخاري تأكيد .
وقوله: وذكرهم اللّه: أثنى عليهم أو أثابهم.
وقوله: فيمن عنده: من الأنبياء وكرام الملائكة .
قال النووي: وفيه فضل الاجتماع على تلاوة القرآن حتى بالمسجد.
فيه فضيلة مجالس الذكر وفضله ، ومجالسة أهله ، وأن من ذكر الله ذكره الله تعالى.
قال ابن قيم الجوزية:
إن للذكر من بين الاعمال لذة لا يشبهها شئ فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر والنعيم الذي يحصل لقلبه لكفي به ولهذا سميت مجالس الذكر رياض الجنة ، قال مالك بن دينار : وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل ، فليس شئ من الأعمال أخف مؤنة منه ولا اعظم لذة ولا اكثر فرحة وابتهاجا للقلب . اهـ .
وعنه أنه سمع النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآتاه رجل فقال: يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي عز وجل؟ قال: "قل: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني ويجمع أصابعه إلا الإبهام فإن هؤلاء تجمع دنياك وآخرتك".
قوله: اغفر لي: أي استر ذنوبي وتجاوز عن عيوبي ، وأصل الغَفْر التغطية ، والمغفرة : إلباس الله تعالى العفوَ للمذنبين .
وقوله: وارحمني: الرحمة هي الرقة والعطف .
وعافني: الغَفْو هو التجاوزُ عن الذَّنْب وتركُ العِقَاب عليه ، وأصله المَحْوُ والطَّمْسُ ، فالعفو :محو الذنوب ، والعافية : أن تسلم من الأسقام والبلايا .
وارزقني: أي انفعني وهب لي .
وعن أبي موسى، عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت".
وعنه عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت".
قال الحافظ ابن حجر:
إن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا الموطأ ، وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يراد به ساكن البيت ، فشبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وباطنة بنور المعرفة وغير الذاكر بالبيت الذي ظاهره عاطل وباطنه باطل ، وقيل موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت.اهـ.
ثواب ذكر الله على الإطلاق وفي كل الأحوال
قال الله تعالى: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون.
فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
وقال تعالى: والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً.
وعن عبد الله بن بسر قال: جاء اعرابي فقال: يا رسول الله! كثُرت عليَّ خلال الإسلام وشرائعه فأخبرني بأمر جامع يكفيني قال: "عليك بذكر الله تعالى" قال: ويكفيني يا رسول الله! قال: "نعم ويفضل عنك".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يقول الله تبارك وتعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خير منهم وإن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً وإذا آتاني يمشي آتيته هرولة".
وعن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الله تعالى على كل أحيانه.
التسبيح: هو التنـزيه، عندما أقول: سبحان الله، أي أنزه الله عن العيب والنقص .
التحميد: الحمد والشكر مُتَقاربان .
والحمد أعَمُّها, لأنّك تحمَد الإنسان على صِفاته الذَّاتيّة وعلى عطائه ولا تَشْكُره على صِفاته . هـ
ومنه الحديث: الحمدُ رأس الشُّكر ,ما شَكَر اللهَ عبْدٌ لا يَحْمَده كما أنّ كلمة الإخْلاص رأسُ الإيمان .
وإنما كان رأسَ الشُّكر لأنّ فيه إظهار النعْمة والإشادة بها , ولأنه أعم منه , فهو شُكْر وزيادة . هـ.
وفي حديث الدعاء سبحانك اللهمَّ وبحمدك أي وبحمدك أبتْدِىء .
وقيل بحمدك سَبَّحت .
وقد تحذف الواو وتكون الباء للتَّسْبِيب, أو للمُلاَبسة: أي التَّسبْيح مُسبَّب بالحمد , أو ملابِس له .
ومنه حديث: لِوَاء الحمْد بِيَدِى ؛ يُريد به إنْفِرَاده بالحمد يوم القيامة وشُهْرَته به على رءوس الخلق .
والعَرَبُ تَضَع اللِّواء مواضع الشُهْرة .
ومنه الحديث:
وابْعَثْه المقَام المحمود الذي وَعَدْتَه أي الذي يَحمْدَه فيه جميع الخلق لتعْجيل الحساب والإراحة من طُول الوقوف .
وقيل هو الشَّفاعة .هـ وفي كتابه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمّا بعْدُ فإني أحْمَد إليك اللهَ أي أحْمَدُ معَك, فأقام إلى مُقام مَع .
وقيل معناه أحْمَد إليك نِعمة الله بِتَحْدِيثك إيَّاها . اهـ
ومنه حديث ابن عباس أحْمَد إليكم غَسْل الإحْلِيل أي أرْضاه لكم وأتقَدّم فيه إليكم .ا هـ.
والحمد يكون في السراء والضراء .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: جاء فى الكتاب والسنة: حمد الله على كل حال وذلك يتضمن الرضا بقضائه، وفى الحديث: "أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله فى السراء والضراء".
وروي عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه كان إذا أتاه الأمر يسرُهُ قال : الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات وإذا أتاه الأمر الذى يسوءُهُ قال: الحمد لله على كل حال"
وفى مسند الإمام أحمد ، عن أبي موسى الأشعرى، عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا قبض ولد العبد يقول الله لملائكته أقبضتم ولد عبدى فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدى فيقولون حمدك واسترجع فيقول ابنوا لعبدى بيتا فى الجنة وسموه بيت الحمد"، ونبينا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو صاحب لواء الحمد وأمته هم الحمّادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء .
والحمد على الضراء يوجبه مشهدان:
أحدهما: علم العبد بأن الله سبحانه مستوجب لذلك مستحق له لنفسه فإنه أحسن كل شئ خلقه واتقن كل شئ وهو العليم الحكيم الخبير الرحيم.
والثانى: علمه بأن اختيار الله لعبده المؤمن خير من اختياره لنفسه كما روى مسلم فى صحيحه وغيره عن النبى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "والذى نفسى بيده لا يقتضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
فأخبر أن كل قضاء يقضيه الله للمؤمن الذى يصبر على البلاء ويشكر على السراء فهو خير له قال تعالى:إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.، وذكرهما فى أربعة مواضع من كتابه ، فأما من لايصبر على البلاء ولا يشكر على الرخاء فلا يلزم أن يكون القضاء خيرا له ولهذا أجيب من أورد هذا على ما يقضى على المؤمن من المعاصى بجوابين:
أحدهما:
أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد كما فى قوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أى من سراء، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.
أي من ضراء وكقوله تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.، أى بالسراء والضراء، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة.
فالحسنات والسيئات يراد بها المسار والمضار ويراد بها الطاعات والمعاصى .
والجواب الثانى:
إن هذا فى حق المؤمن الصبار الشكور والذنوب تنقض الايمان فاذا تاب العبد أحبه الله وقد ترتفع درجته بالتوبة، قال بعض السلف كان داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير أن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار وان العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة وذلك انه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستفغر الله ويتوب اليه منها ، وقد ثبت فى الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الأعمال بالخواتيم".
والمؤمن اذا فعل سيئة فان عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب:
أن يتوب فيتوب الله عليه فان التائب من الذنب كمن لاذنب له ، أو يستغفر فيغفر له أو يعمل حسنات تمحوها فإن الحسنات يذهبن السيئات أو يدعو له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيا وميتا أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به أو يشفِّع فيه نبيه محمد أو يبتليه الله تعالى فى الدينا بمصائب تكفر عنه أو يبتليه فى البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه أو يبتليه فى عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه أو يرحمه أرحم الراحمين فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومن إلا نفسه كما قال تعالى فيما يروى عنه رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أو فيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ الا نفسه".اهـ.
فعلى المسلم أن لا يغفل عن ذكر الله في أي حال من الأحوال ولا يعيقه شيء عنه، والحديث فيه دلالة على قراءة القرآن وذكر الله للحائض والنفساء لأنهما يدخلان في عموم الذكر.
قال النووي رحمه الله تعالى: هذا الحديث أصل في جواز ذكر الله تعالى بالتسبيح والتكبير والتحميد وشبهها من الأذكار وهذا جائز بإجماع المسلمين.
وعن الأغر أبي مسلم قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله أنه قال: "لا يقعد قوم في مجلس يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده".
وعن عبد الله بن بسر، أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها فأخبرني بما شئت أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى، وفي رواية: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي وأنا قد كبرت فأخبرني بشيء أتشبث به: قال: "لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى".
قوله: إن شرائع الإسلام: قال الطيبي الشريعة مورد الإبل على الماء الجاري، والمراد ماشرع الله وأظهره لعباده من الفرائض والسنن .
إن شرائع الإسلام قد كثرت علي: أي غلبت علي بالكثرة حتى عجزت عنها لضعفي فأخبرني بشيء قال الطيبي التنكير في بشيء للتقليل المتضمن لمعنى التعظيم كقوله تعالى ورضوان من الله أكبر ، ومعناه أخبرني بشيء يسير مستجلب لثواب كثير .
أتشبث به: أي أتعلق به وأستمسك ولم يرد أنه يترك شرائع الإسلام رأسا بل طلب ما يتشبث به بعد الفرائض عن سائر ما لم يفترض عليه .
لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى: أي طريا مشتغلا قريب العهد منه وهو كناية عن المداومة على الذكر .اهـ .
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا أدلك على ماهو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار قول: الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه والحمد لله على ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، وتسبح الله مثلهن تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك".
قوله: الحمد لله: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: معنى الحمد هو وصف المحمود بالكمال محبةً وتعظيماً ، فإن وصفه بالكمال لا محبةً ولا تعظيماً ولكن خوفاً ورهبةً سُمِّيَ ذلك مدحاً لا حمداً ، فالحمد لا بد أن يكون مقروناً بمحبة المحبوب وتعظيمه . اهـ .
عدد ما خلق: أي ما بين ما ذكر من السماء والأرض من الهواء والطير والسحاب وغيرها عدد ما هو خالق أي خالقه أو خالق له فيم بعد ذلك ، أي ما هو خالق له من الأزل إلى الأبد والمراد الاستمرار .اهـ .[/f