القوامة الزوجية..
أسبابها، ضوابطها، مقتضاها د. مـحـمـد بن سـعـد الـمقرن
==============
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا من فوق سبع سموات بأنه سبحانه قد أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً) (المائدة من الآية: 3)، وهذا مما يدل على أن هذا الدين صالح لكل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن هذا من لوازم كمال الدين.
وإن من الدين إثبات القوامة الزوجية للزوج بضوابطها الشرعية، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (النساء من الآية: 34) الآية، وإن هذه القوامة من تمام نعمة الله تعالى علينا، فإنها ملائمة ومناسبة لكل من الرجل والمرأة وما الله عليه من صفات جِبِلِّية، ومن استعدادات فطرية.
إلا أنه مع تبدل الأزمان، وتداخل الثقافات، ومحاولة أعداء المسلمين تشويه صورة هذا الدين الحنيف، بطرق مباشرة وأخرى غير مباشرة، بل بطرق ظاهرها الرحمة، والشفقة والعطف على المرأة، وباطنها العذاب، كل هذه الأمور، مضافاً إليها سوء الفهم لدى كثير من المسلمين لمعنى القوامة ووظيفتها الشرعية، جعل من الأهمية الحديث عن هذه الوظيفة الشرعية السامية بما يوضح حقيقتها الشرعية، ويبين زيف تلك الشُّبَه والادعاءات التي وجهت لهذا الدين عبر القوامة الزوجية في الشريعة الإسلامية.
وقد حاول الباحث من خلال هذا البحث الإسهام في معالجة هذا الموضوع معالجة يرجو أن يكون وفق فيها للصواب، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المبحث الأول: تعريف القوامة:
القوامة في اللغة من قام على الشيء يقوم قياماً: أي حافظ عليه وراعى مصالحه، ومن ذلك القيِّم وهو الذي يقوم على شأن شيء ويليه، ويصلحه، والقيم هو السيد، وسائس الأمر، وقيم القوم: هو الذي يقوّمهم ويسوس أمورهم، وقيم المرأة هو زوجها أو وليها لأنه يقوم بأمرها وما تحتاج.
والقوّام على وزن فعال للمبالغة من القيام على الشيء، والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد (1).
قال البغوي -رحمه الله-:
"القوام والقيم بمعنى واحد، والقوّام أبلغ، وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب "(2).
القوامة اصطلاحاً:
بعد التأمل في نصوص الفقهاء -رحمهم الله تعالى- واستخدامهم للفظة "القوامة" نجد أنهم -رحمهم الله- يستخدمون لفظ القوامة.
ويريدون به أحد المعاني الآتية:
الأول:
القيم على القاصر، وهي ولاية يعهد بها القاضي إلى شخص رشيد ليقوم بما يصلح أمر القاصر في أموره المالية.
الثاني:
القيم على الوقف، وهي ولاية يفوض بموجبها صاحبها بحفظ المال الموقوف، والعمل على بقائه صالحاً نامياً بحسب شروط الواقف.
الثالث:
القيم على الزوجة، وهي ولاية يفوض بموجبها الزوج تدبير شؤون زوجته والقيام بما يصلحها (3).
والنوع الثالث هنا هو المراد بهذا البحث.
وبناءً عليه يمكن القول بأن القوامة الزوجية:
ولاية يفوض بموجبها الزوج القيام على ما يصلح شأن زوجته بالتدبير والصيانة.
وبهذا يتبين أن القوامة للزوج على زوجته تكليف للزوج، وتشريف للزوجة، حيث أوجب عليه الشارع رعاية هذه الزوجة التي ارتبط بها برباط الشرع واستحل الاستمتاع بها بالعقد الذي وصفه الله تعالى بالميثاق الغليظ، قال تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء: 21)، فإذاً هذه القوامة تشريف للمرأة وتكريم لها بأن جعلها تحت قيّم يقوم على شؤونها وينظر في مصالحها ويذب عنها، ويبذل الأسباب المحققة لسعادتها وطمأنينتها.
ولعل هذا يصحح المفهوم الخاطئ لدى كثير من النساء من أن القوامة تسلط وتعنت وقهر للمرأة وإلغاء لشخصيتها، وهذا ما يحاول الأعداء تأكيده، وجعله نافذة يلِجُون من خلالها إلى أحكام الشريعة الإسلامية فيعملون فيها بالتشويه.
المبحث الثاني: الأصل في القوامة الزوجية:
الأصل في قوامة الزوج على زوجته الكتاب والسنة.
أولاً: الكتاب:
قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء من الآية: 34).
فهذه الآية الكريمة هي الأصل في قوامة الزوج على زوجته، وقد نص على ذلك جمهور العلماء من المفسرين والفقهاء، ولا شك أنهم أدرى الناس بمراد الله تعالى.
ومن المناسب عرض بعض أقوالهم في ذلك:
قال ابن كثير (4) في تفسير قول الله تعالى:
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ): "أي الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها، وكبيرها، والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت".
قال ابن جرير (5) رحمه الله:
"يعني بذلك جل ثناؤه (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) الرجال أهل قيام على نسائهم، في تأديبهن، والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهم لله ولأنفسهم (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يعني: بما فضل الله به الرجال على أزواجهم من سَوقهم إليهم مهورهن وإنفاقهم عليهن أموالهم، وكفايتهم إياهن مؤنهن، وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهن، ولذلك صاروا قُواماً عليهن، نافذي الأمر عليهن، فيما جعل الله إليهم من أمورهن".
وقال الجصاص (6) في تفسير الآية:
"قيامهم عليهن بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة، لما فضَّل الله الرجل على المرأة في العقل والرأي وبما ألزمه الله تعالى من الإنفاق عليها، فدلت الآية على معان أحدهما: تفضيل الرجل على المرأة في المنزلة وأنه هو الذي يقوم بتدبيرها وتأديبها، وهذا يدل على أن له إمساكها في بيته، ومنعها من الخروج، وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية، ودلت على وجوب نفقتها عليه".
وقال ابن العربي (7) في تفسير الآية:
"قوله: (قَوَّامُونَ) يقال: قوّم وقيم وهو فعال وفيعل من قام، والمعنى: هو أمين عليها، يتولى أمرها ويصلحها في حالها، قاله ابن عباس، وعليها له الطاعة... وعليه -أي الزوج- أن يبذل المهر والنفقة ويحسن العشرة، ويحميها ويأمرها بطاعة الله تعالى، ويرغب إليها شعائر الإسلام، من صلاة وصيام، وعليها الحفاظ لماله، والإحسان إلى أهله وقبول قوله في الطاعات".
وقال الزمخشري (8):
وفي الآية دليل على أن الولاية تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة والقهر.
وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) يعني: أمراء، عليها أن تطيعه فيما أمرها به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله. وكذا قال مقاتل والسدي والضحّاك (9).
وقال الشيخ ابن سعدي (10) رحمه الله:
"يخبر الله تعالى أن (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) أي: قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه، وكفهن عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموك بذلك، وقوامون عليهن أيضاً بالإنفاق عليهن والكسوة والمسكن".
ثانياً: السنة:
جاءت أحاديث كثيرة يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم المرأة بطاعة زوجها ما دام ذلك في حدود الشرع، وما دام ذلك في حدود قدرتها واستطاعتها، قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة من الآية: 228) الآية.
ومن تلك الأحاديث ما يأتي:
1 – قال صلى الله عليه وسلم:
"لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه" (11).
قال ابن حجر:
"وهذا القيد -أي وزوجها شاهد- لا مفهوم له بل خرج مخرج الغالب، وإلا فغيبة الزوج لا تقتضي الإباحة للمرأة أن تأذن لمن يدخل بيته، بل يتأكد حينئذ عليها المنع؛ لثبوت الأحاديث الواردة في النهي عن الدخول على المغيَّبات" (12).
وقال الشوكاني:
"إن النهي في الحديث محمول على عدم العلم برضا الزوج، أما لو علمت رضاه بذلك فلا حرج" (13).
2 – ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح" (14).
3 – وقال صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: "إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت" (15).
المبحث الثالث: تكريم الإسلام للمرأة:
جاء الإسلام والمرأة لا قيمة لها -في الجملة- بما تعنيه هذه الكلمة وإن كانت قاسية لكنها الحقيقة، بل جاء الإسلام والمرأة إنما تعد من سقط المتاع: تباع وتورث وتوهب وتهان، فهي سلعة من السلع التي تتداولها الأيدي، وإنما يحتاج إليها للاستمتاع الجسدي فقط كسائر ما يستمتع به الرجل، ولهذا لا غرابة أن نجد من يدفن ابنته وهي حيّة؛ خشية العار، وما الظن بمجتمع وصل به الحال إلى أن يقتل الرجل فلذة كبده بيديه، وبأبشع صورة للقتل.
لكن لما جاء الإسلام جاء معه بالكرامة للمرأة، وجاء معه بالشرف والتقدير، جاء بما يكفل حقوقها ويحميها من كيد الآخرين وعدوانهم لما في طبيعتها من اللين والرقة واللطافة، فهي الأم الحنون، وهي الأخت الكريمة، وهي الزوجة الحبيبة، وهي البنت الرقيقة.
ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك" (16)، وإن الحديث عن تكريم الإسلام للمرأة ليطول.
وإنما حسبنا في هذه العجالة أن نذكر شيئاً من ذلك:
لقد أقر الإسلام لها حق التملك ما دام عن طريق مشروع، وأقر لها حق الميراث، وأعطاها الصلاحية التامة في التصرف بأموالها.
كما جعل الإسلام رضاها شرطاً أساساً في صحة زواجها وحرم على الأولياء إكراهها على ذلك.
فهي صاحبة القرار في الرضا بالزواج ابتداءً؛ إذ ليس لوليها أن يعضلها ويمنعها من ذلك، فإن فعل انتقلت الولاية إلى من بعده، كما إنها صاحبة القرار في الرضا بالزوج الذي تقدم لها.
فعن عائشة رضي الله عنها:
"أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة قالت: اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردتُ أن أعْلَمَ أن للنساء من الأمر شيء" (17).
كما إن الإسلام أكرم المرأة بتشريع ما يصونها ويحفظ كرامتها وعفافها، فأمر بالحجاب والستر ونهى عن السفور والاختلاط.
ومن تكريم الإسلام للمرأة أن هيأ لها أسباب الاستقرار والراحة والأمان، فأوجب على زوجها النفقة والكسوة والسكن، كما أمره برعايتها والتلطف معها.
قال صلى الله عليه وسلم:
"اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن" (18).
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإنفاق عليها من أفضل النفقات، قال صلى الله عليه وسلم: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها الذي أنفقته على أهلك" (19).
وحث الإسلام على التودد إلى المرأة وتحمل ما قد يصدر منها من أذى، وحفظ معروفها، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر" (20).
وبعد فهذا غيض من فيض عن مكانة المرأة ومنزلتها في الإسلام منزلة التكريم، ومنزلة التشريف والوقار.
المبحث الرابع: أسباب القوامة:
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء من الآية: 34).
الله سبحانه وتعالى بيّن في الآية الكريمة سببين للقوامة التي جعلها للرجال، وهما:
السبب الأول:
قوله سبحانه: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ).
وهذا نص من الله تعالى على تفضيل الرجال على النساء؛ بما ركب الله سبحانه في الرجال من صفات وسمات وخصائص اقتضت تفضيل الرجال على النساء، وسواء أكانت تلك الخصائص والصفات من جهة الخلقة التي خلق الله عليها الرجال، أم من جهة الأوامر الشرعية التي تطلب من الرجال دون النساء.
أما من جهة الخلقة التي خلق الله عليها الرجال فإن من المعلوم تفوق الرجال على النساء في الجملة في العقل والقوة والشدة، على عكس النساء، فهن جبلن على الرقة والعطف واللين، وهذا الأمر فضلاً عن كونه مشاهداً في الواقع، فإن النص القرآني قد جاء بتأييده، ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، قال سبحانه: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) (البقرة من الآية: 282).
قال ابن كثير(21) رحمه الله:
"وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة كما قال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن، قالت: يا رسول الله ما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين" (22).
وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم وشهادة منه على نقصان عقل المرأة، ولعل هذا الأمر من أقوى الأمور التي يتمسك بها أعداء الإسلام الذين يزعمون باطلاً مساندتهم للمرأة، وأن ذلك -أي القول بنقصان عقل المرأة- مما يجرح كرامتها وكبرياءها، وينادون بالمساواة مع الرجال، وإن المتأمل في دعاواهم ومكايدهم يتبين له قلة علمهم وضعف فقههم، إضافة إلى ما تكنّه صدورهم من الحقد والعداوة للإسلام وأهله، وبتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم يجد كل منصف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف المرأة بالجنون أو السفه، بل أخبر صلى الله عليه وسلم أن تركيبها التي خلقها الله سبحانه وتعالى عليه يستدعي نقصان العقل والدين مقارنة بالرجال، فالله سبحانه أعطى الرجل من قوة العقل وحسن التدبير ما لم يعطه المرأة، وأعطاه من أمور الدين ما لم يعطه المرأة، وليس ذلك ينقص من أجرها وثوابها، وإنما ذلك يتناسب وفطرتها التي فطرها الله تعالى عليها، بل في نفس الحديث أثبت النبي صلى الله عليه وسلم قدرة النساء الضعيفات على سلب لبّ الرجال بما منحن الله تعالى من قدرة على ذلك، وقد وصف الله سبحانه مكر النساء وكيدهن بالعظمة كما قال سبحانه: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (يوسف من الآية: 28).
أما من جهة الأمور الشرعية التي يطالَب بها الرجال دون النساء وكانت سبباً في تفضيلهم فذلك مثل الجهاد وشهود الجمعة والجماعات وغيرها من العبادات التي لم تطلب من النساء.
السبب الثاني:
في قوله تعالى: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، حيث جعل سبحانه وتعالى إنفاق الرجال على النساء سبباً لقوامتهم عليهن؛ إذ إن الرجل اكتسب خاصية القوامة لكونه القائم على الزوجة من جهة الإنفاق والتدبير والحفظ والصيانة، ولا يرد هنا فرضية إنفاق الزوجة على زوجها مما يجعلها هي صاحبة القوامة؛ إذ إن ذلك مخالف للأصل الذي جعله الشارع، فالأصل أن الإنفاق يكون على الرجل فهو الذي يقوم بالمهر والنفقة والسكن لزوجته، وأما ما شذ عن ذلك فهو مخالف للأصل، إضافة إلى أن الإنفاق سبب من أسباب القوامة، مما يستدعي مراعاة الأسباب الأخرى، ولعل من المناسب في هذا المقام إيراد كلام أئمة السلف رضوان الله عليهم في أسباب قوامة الرجل على المرأة.
يقول أبو بكر ابن العربي (23) في قوله تعالى:
(بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ): "المعنى: إني جعلت القوامية على المرأة للرجل لأجل تفضيلي له عليها.
وذلك لثلاثة أشياء:
الأول:
كمال العقل والتمييز.
الثاني:
كمال الدين والطاعة في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على العموم، وغير ذلك.
وهذا الذي بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم منكن قلن: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: أليس إحداكن تمكث الليالي لا تصلي ولا تصوم فذلك نقصان دينها، وشهادة إحداكن على النصف من شهادة الرجل، فذلك من نقصان عقلها" (24)، وقد ذكر الله سبحانه ذلك في كتابه الكريم فقال: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) (البقرة من الآية: 282).
الثالث:
بذله المال من الصداق والنفقة، وقد نص الله عليه هاهنا.
وقال ابن كثير (25) في قوله تعالى:
(بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" (26)، وكذا منصب القضاء وغير ذلك، وقوله: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) أي من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيماً عليه كما قال الله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة من الآية: 228).
وقال الشوكاني (27) رحمه الله في قوله تعالى:
(بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) قال: "الباء في قوله: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ) للسببية، والضمير في قوله: (بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) للرجال والنساء أي: إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من كون الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء والغزاة فيهم، وغير ذلك من الأمور.
وقوله: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) أي: وبسبب ما أنفقوا من أموالهم، وما مصدرية، أو موصولة، وكذلك هي في قوله: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ) ومن تبعيضية، والمراد: ما أنفقوه على النساء، وبما دفعوه في مهورهن من أموالهم وكذلك ما ينفقونه في الجهاد وما يلزمهم في العقل".
وقال ابن عباس (28) رضي الله عنه في قوله:
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ): "يعني: أمراء عليهن، أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله، وقوله: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ) وفضله عليها بنفقته وسعيه".
وقال الشيخ محمد رشيد رضا (29):
"وسبب ذلك -أي قوامة الرجال على النساء- أن الله تعالى فضَّل الرجال على النساء في أصل الخلقة، وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة، فكان التفاوت في التكاليف والأحكام... وسبب آخر كَسْبِيٌّ يدعم السبب الفطري، وهو ما أنفق الرجال على النساء من أموالهم، فإن المهور تعويض للنساء ومكافأة على دخولهن بعقد الزوجية تحت رياسة الرجال، فالشريعة كرمت المرأة؛ إذ فرضت لها مكافأة عن أمر تقتضيه الفطرة ونظام المعيشة، وهو أن يكون زوجها قيِّماً عليها، فجعل هذا الأمر من قبيل الأمور العرفية التي يتواضع الناس عليها بالعقود لأجل المصلحة، كأنّ المرأة تنازلت باختيارها عن المساواة التامة وسمحت له بأن يكون للرجل عليها درجة واحدة وهي درجة القوامة والرياسة ورضيت بعوض مالي عنها".
وقال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي (30) رحمه الله:
"فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة، من كون الولايات مختصة بالرجال والنبوة والرسالة، واختصاصهم بكثير من العبادات كالجهاد والجمع، وبما خصهم الله من العقل والرزانة، والصبر، والجَلَد الذي ليس للنساء مثله وكذلك خصّهم بالنفقات على الزوجات، بل كثير من النفقات يختص بها الرجال ويتميزون عن النساء".
ويمكن القول باختصار هنا:
إن قوامة الرجل على المرأة تكون بسبب الجانب الفطري الذي فطر الله تعالى الرجال عليها، من كمال العقل وحسن التدبير والقوة البدنية، والنفسية، وبسبب المسؤولية التي يتحملها الرجال للنساء من النفقة، والقيام على شؤونهن بالحفظ والرعاية.
المبحث الخامس: ضوابط القوامة:
إن الشارع الحكيم لما جعل القوامة بيد الرجل بحكمته سبحانه وتعالى لم يجعل ذلك مطلقاً يستغله الرجال في إذلال النساء والتحكم بهن، وفق أهوائهم وما تشتيه أنفسهم، بل قيد تلك الوظيفة بضوابط وقيود من شأنها أن تكون سبباً في فهم الرجال للقوامة التي أرادها الشارع، وتنبه النساء إلى ذلك، وتردع كل من يستغل تلك الوظيفة الشرعية لإهانة المرأة والحط من قدرها، وسلبها حقوقها.
وهذا -أسفاً- هو واقع كثير من الرجال ممن جهلوا الحكم الشرعي لتلك الوظيفة الرائدة، فعملوا فيها بالجهل الذي هو سبب لكل شر والعياذ بالله، أو علموا الحكم الشرعي إلا أنهم تجاهلوا أو حمّلوا تلك الوظيفة ما لم تحتمل، فجعلوها نافذة يلجون من خلالها إلى حقوق المرأة ومكانتها فيعملون فيها بالهدم والتشويه، ونرجو أن تكون هذه الفئة من الرجال قليلة، إلا أنهم والحق يقال كانوا ولا زالوا سبباً رئيساً لامتعاض المرأة من هذه الكلمة (القوامة) بل حدا الأمر كثيراً من النساء إلى التمرد على تعاليم الدين الحنيف بسببها.
ولذا فإننا نقول:
إن الشارع الحكيم ضبط تلك القوامة وبينها أحسن بيان، حيث وضح الحقوق التي يجب أن تتوافر للمرأة كاملة غير منقوصة، ووضح كذلك حقوق الرجل التي تطالب المرأة بتحقيقها، ولهذا استحقت هذه الشريعة المباركة أن توصف بأنها شريعة العدل، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة من الآية: 143) الآية، أي: عدولاً خياراً.
ويمكن القول بأن ضوابط القوامة الزوجية تتمثل في الآتي:
الضابط الأول:
أداء الزوج لواجباته:
ومن الواجبات الشرعية التي يجب على الرجل أداؤها:
أ – المهر:
وهو المال الواجب للمرأة على الرجل بالنكاح أو الوطء(31)، قال تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) (النساء من الآية:4).
وقد نقل الإجماع على وجوبه في النكاح ابن عبد البر قال (32): "أجمع علماء المسلمين أنه لا يجوز له وطء في نكاح بغير صداق ديناً أو نقداً".
وهذا المهر حق للمرأة أثبته الشارع لها توثيقاً لعقد الزواج الذي هو أخطر العقود، وتأكيداً على مكانة المرأة، وشرفها، ودليلاً على صدق رغبة الرجل في الارتباط بها حيث بذل لها المال الذي هو عزيز على النفس، ولا يبذل إلا فيما هو عزيز، كما إنه سبب لديمومة النكاح واستمراره.
قال الكاساني (33) رحمه الله:
"إن ملك النكاح لم يشرع لعينه، بل لمقاصد لا حصول لها إلا بالدوام على النكاح والقرار عليه، ولا يدوم إلا بوجوب المهر بنفس العقد؛ لما يجري بين الزوجين من الأسباب التي تحمل الزوج على الطلاق من الوحشة والخشونة، فلو لم يجب المهر بنفس العقد لا يبالي الزوج عن إزالة هذا الملك بأدنى خشونة تحدث بينهما، لأنه لا يشق عليه إزالته لما لم يخف لزوم المهر فلا تحصل المقاصد المطلوبة من النكاح، ولأن مصالح النكاح ومقاصده لا تحصل إلا بالموافقة، ولا تحصل الموافقة إلا إذا كانت المرأة عزيزة مكرَّمة عند الزوج، ولا عزة إلا بانسداد طريق الوصول إليها، ولا يكون ذلك إلا بمال له خطر عند الزوج لأن ما ضاق طريق إصابته يعز في الأعين فيعزّ به إمساكه وما يتيسر طريق إصابته يهون في الأعين فيهون إمساكه، ومتى هانت في عين الزوج تلحقها الوحشة فلا تقع الموافقة ولا تحصل مقاصد النكاح، ولأن الملك ثابت في جانبها -أي الزوجة- إما في نفسها وإما في المتعة، وأحكام الملك في الحرة تشعر بالذل والهوان، فلا بد أن يقابله مال له خطر لينجبر الذل من حيث المعنى".
ب – النفقة:
بمجرد تمام عقد الزواج وتمكن الزوج من الاستمتاع بالزوجة يلزم الزوج الإنفاق على زوجته، وتوفير ما تحتاجه من مسكن وملبس، قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة من الآية: 233)، وقال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (34).
وقد أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على وجوب إنفاق الزوج على الزوجة.
قال ابن قدامة (35):
"اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين، إلا الناشز منهن... وفيه ضرب من العبرة وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب، فلا بد من أن ينفق عليها".
ولا شك أن إنفاق الرجل على زوجته من أعظم أسباب استقرار الأسرة واستدامة الزواج، كما إنه دليل على علو مكانة المرأة ورفيع منزلتها.
لكن ينبغي أن يعلم أن النفقة على الزوجة والأولاد يكون بقدر كفايتهم وأن ذلك بالمعروف، دليل ذلك قوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق: 7).
ولما جاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (36)، وهذا الحديث كما يدل على وجوب النفقة وكونها بقدر الكفاية بالمعروف فهو يدل أيضاً على جواز أخذ الزوجة من مال زوجها بغير علمه إذا لم يعطها ما يكفيها (37).
يتبع إن شاء الله...