المورد في حكم المولد
للشيخ الإمام
أبي حفص تاج الدين الفاكهاني (رحمه الله)
المتوفى سنة: 734 هـ
تحقيق الشيخ علي حسن عبد الحميد الحلبي
قام بنسخه من شبكة الانترنت وأعاد تنسيقه على برنامج الوورد
أبو معاذ السلفي (السني الحضرمي)
alhdrme@hotmail.com
-----------------------------------
الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء آثار السلف ([1]) الصالحين، حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع ([2]) في الدين.
أحمده على ما منَّ به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين ([3])، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد تكرر سؤال جماعة من المُباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ([4])، ويسمونه: المولد:
هل له أصل في الشرع؟ وقصدوا ([5]) الجواب عن ذلك مٌبيَّناً، والإيضاح عنه معيناً.
فقلت وبالله التوفيق:
لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ([6])، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة ([7])، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بِدعة أحدثها البطالون ([8])، وشهوة نفسٍ اغتنى ([9]) بها الأكالون، بدليل أنَّا إذا أدرنا ([10]) عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماً.
وهو ليس بواجب إجماعاً، ولا مندوباً؛ لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه ([11])، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون ولا العلماء المتدينون - فيما علمت- وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت.
ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين، فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً، أو حراماً ([12]).
وحينئذٍ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين:
أحدهما:
أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئاً من الآثام ([13]): فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام، سُرُجُ الأزمنة وزَيْن الأمكنة.
والثاني:
أن تدخله الجناية ([14])، وتقوى به العناية ([15])، حتى يُعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه؛ لما يجد من ألم الحيف ([16])، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف ([17])، لاسيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل، من الدفوف ([18]) والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد ([19])، والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم أو مشرفات ([20])، والرقص بالتثني والانعطاف ([21])، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف ([22]).
وكذا النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنئات ([23]) والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد ([24])، غافلات عن قوله تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" الفجر: 14.
وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان ([25])، وإنما يَحِلُّ ذلك بنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات المحرمات ([26])، فإن لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ([27]).
ولله در شيخنا القشيري ([28]) حيث يقول فيما أجازَناه:
قد عرف المنكر واستنكر الـ --- معروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وهدة ([29]) --- وصار أهل الجهل في رتبة
حـادوا عن الحـق فما للذي --- سادوا به فيما مضى نسبة
فقلت للأبـرار أهـل التـقى --- والـدين لما اشتدت الكربة
لا تنكـروا أحوالكم قد أتت --- نوبتكم ([30]) في زمن الغربة
ولقد أحسن أبو عمرو بن العلاء ([31]) رحمه الله تعالى حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) -وهو ربيع الأول- هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه.
وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول.
-----------------------------
([1]) هم أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، وانظر: «الأنساب»: (7/ 104)، و«اللباب»: (2/126)، و «سير أعلام النبلاء»: (21 /6)، ورسالتي «نحو منهج السلف» يسر الله إتمامها بمنه وكرمه.
([2]) ولقد صنف العلماء قديماً وحديثاً كتباً ورسائل في ذم البدع والمبتدعين، منهم ابن وضاح القرطبي في «البدع والنهي عنها»، والطرطوشىِ في «الحوادث والبدع»، والشاطبي في «الاعتصام» وغيرهم.
([3]) يظن بعض الجهلة في زماننا أن الذين لا يجيزون عمل المولد والاحتفال به لا يحبون النبي (صلى الله عليه وسلم) وهذا ظن آثم، ورأي كاسد، إذ المحبة وصدقها تكون في الاتباع الصحيح للنبي (صلى الله عليه وسلم)، كما قال تعالى: ]قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ[ ]آل عمران:31[.
([4]) وقد اختلف في تحديد اليوم الذي ولد فيه النبي (صلى الله عليه وسلم)، وانظر«المعيار المعرب» (7/ 100)و«البداية والنهاية» (260 /2 ) و «المواهب اللدنية» (131/ 1) و «وفيات الأعيان» (1/ 437) و«القول الفصل» (ص60-62).
([5]) أرادوا.
([6]) أما تخريج البعض له على صيام يوم عاشوراء وحديثه الوارد في (الصحيحين) فهو باطل، إذ قرر الأصوليون في مصنفاتهم أنه يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه السلف الأولون، فما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب وأقوم في العلم والعمل، كما في «الموافقات» (3/ 17) و «إعلام الموقعين» (390 /2) ومن المتفق عليه بين المؤالف والمخالف أن عمل المولد لم يكن من فعل السلف الأول فهو -إذن- بالرد قمين، ولقد وسع الرد على هذا التخريج المدعى العلامة رشيد رضا في (2112 /5) من «فتاويه» والشيخ إسماعيل الأنصاري في «القول الفصل» (78-80) فليراجع.
([7]) ونقل الشيخ ابن منيع في تقريظه لـ «القول الفصل» (ص:24): (إجماع الأوائل على ابتداعها، يعني الاحتفالات بالموالد!! فهل يجمعون على باطل ومنكر؟ ثم ما حكم مخالف الإجماع؟!.
([8]) وهم الفاطميون العبيديون من الباطنيين، كما نقله المقريزي في «خططه» (490/ 1)، والقلقشندي في «صُبْح الأعشى» (498/ 3) والسندوبي في «تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي» (69) ومحمد بخيت في «حسن الكلام» (44) وعلي فكري في «محاضراته» (84) وعلي محفوظ في «الإبداع» (ص: 126) فإن قيل: قد ذكر غير واحد أن أول من احتفل بالمولد ملك عادل عالم هو الملك المظفر صاحب إربل، فهو باطل بما تقدم نقله من وجه، ومن وجه آخر بما نقله أبو شامة في «الباعث على إنكار البدع والحوادث» (ص13) من أنه اقتدى بفعل الشيخ عمر بن محمد الملا، وهو أول من أحدثه، وذكر ذلك أيضاً سبط ابن الجوزي في «مرآة الزمان» (310 /8)، وعمر الملا هذا من كبار الصوفية المبتدعين، ولا يستبعد أن يكون عمل المولد تسرب إلى الشيخ عمر الملا من العبيديين، فإنهم أخذوا الموصل سنة سبع وأربعين وثلاثمائة كما في «البداية والنهاية» (232 /11) ومولد الملك المظفر سنة (549هـ)، كما في «التكملة» (354 /3) وولي السلطنة بعد وفاة أبيه سنة (563هـ)، كما في «سير أعلام النبلاء» (335 /22)، ومن وجه ثالث فإن البدعة في الدين لا تقبل من أي أحد كان؟ لنصوص الأحاديث الواردة في ذم الابتداع، فلا يمكننا أن نعارضها بعمل الملك المظفر وإحداثه، ثم عدالته لا توجب عصمته كما لا يخفى، ولقد بين ياقوت في«معجمه»(138 /1) -وهو من معاصري الملك المظفر- شيئاً من أحواله وقال: طباع هذا الأمير متضادة، فإنه كثير الظلم، عسوفٌ بالرعية، راغب في أخذ الأموال من غير وجهها. قلت: ثم ذكر ما يضاد ذلك وعقب عليه بما أستحيي من نقله!!
([9]) في «الحاوي» و«السيرة الشامية»: اعتنى، بالعين المهملة، ولعل الصواب ما أثبته: بالغين المعجمة، إذ الأكالون ينالهم الغنى والمال بعمل هذه المبتدعات، والله أعلم.
([10]) أي: عرضناه على الأحكام الخمسة الشرعية، وهي التي ذكرها المصنف بَعْدُ.
([11]) راجع «المنخول في علم الأصول» (ص137) للغزالي.
([12]) أما تقسيم الشيخ العز بن عبد السلام البدعة إلى خمسة أقسام وهي التي ذكرها المصنف، فقد أبطله ورده غير واحد من العلماء منهم الشاطبي في «الاعتصام» (1 /150-155)، وابن تيمية رحمه الله في«اقتضاء الصراط المستقيم» (274، 275) وغيرهما، فلا يغتر بإطالة السيوطي في استدلاله بها.
([13]) أي: كان مجرداً عن المنكرات والمعاصي محافظاَ على مظهره الإسلامي العام، فهو مع ذلك بدعة؛ لأنه لم يثبت عن السلف الصالح رضوان الله عليهم (مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً، أو راجحاً، لكان السلف أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص) كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» (ص29).
([14]) يريد المنكرات، والمعاصي، والأمور المنهي عنها.
([15]) يقصد أنه يطلب أولو الأمر من الناس مالاً لإقامة مثل هذا المولد!!.
([16]) الظلم.
([17]) مستنبطين ذلك من قوله (صلى الله عليه وسلم): «لا يحل مالُ امريء مسلم إلا بطيب نفس منه» أخرجه أحمد (72 /5) والدارمي (246/2) وأبو يعلى (1569) والبيهقي (100 /6) والطبراني في «الكبير» (3609) عن حنيفة الرَّقاشي، وفيه ضعف، ويشهد له ما في الباب عن أبي حميد الساعدي، وابن عباس، وغيرهما..
([18]) ولقد رأينا في عصرنا كثيراً من الدعاة يستحملون هذه الدفوف مصاحبة لما يزعمون أنه أناشيد إسلامية!! وانظر: «رسالة السماع» للشيخ الإمام ابن تيمية، و «الاعتصام» (221 /1) للشاطبي، ورسالتي «تيسير العزيز الحميد في حكم الدف المستعمل مع الأناشيد»!!
([19]) انظر «تلبيس إبليس» (ص29-309) لابن الجوزي.
([20]) أي: تتولى النساء شؤون الرجال وتتعهدهم دونما اختلاط مباشر بهم.
([21]) الإمالة، وانظر لزاماً «تفسير القرطبي» (400 /7) و« التذكرة والاعتبار» (33) لابن شيخ الحزامين بتحقيقي.
([22]) يعني يوم القيامة.
([23]) لعله يريد الصياح! وفي نسخة: بالتنهيد.
([24]) وهذا يحدث دائماً مع الاحتفالات بالمولد على مر العصور، وانظر شواهد ذلك في «المعيار المعرب» (48/ 12) و«المدخل» (11/ 2) و«المرقبة العليا» (162) و«نيل الابتهاج» (193) و«أزهار الرياض» (43 /1) و«الفتاوى الحديثية» (109) و «الاقتضاء» (291) و «الإبداع» (126) و «القول الفصل» (187).
([25]) هم الرجال العقلاء الشجعان.
([26]) بدليل إنكارهم على دعاة السنة، واتهامهم إياهم بعدم محبة النبي (صلى الله عليه وسلم)، كما هو مذكور في كراسات علوي المالكي، والرفاعي الكويتي!!.
([27]) كما في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في «صحيحه» (145) عن أبي هريرة، والترمذي في «سننه» (2631) عن ابن مسعود، وانظر رسالة «كشف الكربة في وصف أهل الغربة»، للحافظ ابن رجب -وهي مطبوعة.
([28]) هو محمد بن علي بن وهب بن مطيع، تقي الدين القشيري، المشهور بابن دقيق العيد، المتوفى سنة (702)هـ، ترجمته في«الدرر الكامنة» (91/ 4) و«تذكرة الحفاظ» (1481) و«الوافي بالوفيات» (4/ 193) و «طبقات السبكي» (2/6) و«البدر الطالع» (229 /2).
([29]) انخفاض وذل.
([30]) النوبة: النازلة.
([31]) هو الإمام المقريء المشهور، توفي سنة أربع وخمسين ومائة، ترجمته في «وفيات الأعيان» (466/ 3) و «معرفة القراء الكبار» (100 /1) و«سير أعلام النبلاء » (457/ 6).