سمات رجل العقيدةلفضيــلة الشيـــخ: محمد المنجد
غفر الله له ولوالديه وللمسلمـين عناصر الموضوع:
1. حاجة الإسلام إلى الرجال
2. الإيمان بهذه العقيدة
3. الدفاع عن هذه العقيدة
4. عدم الاعتداء على نصوص القرآن والسنة
5. الاهتمام بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم
6. الانتساب إلى الله ورسوله
7. الدعوة إلى مذهب أهل السنة والجماعة
8. طلب العلم والعمل به
9. الاهتمام بالقرآن
10. إيقاف الناس عند حدهم
11. التوازن في التلقي
12. إنكار المنكر
13. الدعوة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة
14. التضحية في سبيل هذه العقيدة
15. معرفة الواقع
16. تقدير الأمور ومعرفة أنها مسئولية
17. تثبيت النفس والغير
18. الدعوة إلى الله عز وجل
19. استغلال الطاقات والمواهب في خدمة الدين
20. الاهتمام بضعفاء المسلمين ومساكينهم
21. مخالفة الكفار ومفاصلتهم
22. اليقين بأن المستقبل للإسلام
سمات رجل العقيدة:
إن الإسلام اليوم في حاجة ماسة إلى رجال يذودون عنه، ويردون على أصحاب الشبهات الذين يريدون تشويه صورة الإسلام الحقيقية، وهؤلاء الرجال ليسوا كغيرهم من الرجال، وإنما لهم سمات خاصة يتميزون بها عن غيرهم طالعها في هذه المادة.
حاجة الإسلام إلى الرجال:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
بمثل هذه الكلمات -أيها الإخوة- أسلم صحابيٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قادماً من اليمن، فأوحى إليه كفار قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم رجلٌ مؤذٍ لكي يتجنبه، ولكنه خطر بباله أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع منه، فأتاه وعرض عليه أن يساعده إن كان به مرض أو كان به رئي من الجن، فتلا عليه صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات من أوائل خطبة الحاجة، فكان هذا سبباً في إسلامه رضي الله عنه.
إخواني! يُسرني أن ألتقي بكم في هذا المكان، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا الأجر العظيم في هذا اللقاء، وأن يجعل حضورنا للقاء بعضنا لقاء الإخوة في الله عز وجل.
والموضوع الذي أريد أن أتحدث به إليكم هو (سمات رجل العقيدة) ونعلم جميعاً -أيها الإخوة- بأن الدين الذي ندين الله به يتعرض في هذا الزمان إلى هجمات شرسة، وأن المسلمين في هذا العصر في غاية الضعف والهوان، وليس العيب من الإسلام، ولكن العيب من المسلمين أنفسهم، فإن هذا الدين دين كامل، ليست المشكلة في هذا الدين، ولكن المشكلة في الناس الذين من المفترض أن يحملوا هذا الدين على أكتافهم، ولذلك لما فكر أحد المستشرقين في هذا الدين فتجلت له بعض جوانب عظمة الإسلام قال: يا له من دينٍ لو كان له رجال.
فهذا المستشرق أدرك عظمة هذا الإسلام، فقال: يا له من دين عظيم لكنه يحتاج إلى رجال يحملونه، إن هذا الدين يحمل في طياته عوامل استمراريته وهيمنته على سائر الأديان، ونحن في عصر الذل الذي يعيش فيه المسلمون، لا بد أن نضع أمام أعيننا عدة اعتبارات: الاعتبار الأول: عدم اليأس واستمرارية العمل لنشر هذا الدين. الاعتبار الثاني: أن التركيز لا بد أن يتم ويستمر في بناء الشخصيات التي تحمل هذا الدين.
المشكلة هي مشكلة عدم وجود الرجال، لو كان هناك رجال لانتهت المشكلة، وعندما تمنى بعض الصحابة أماني، قال عمر: [أتمنى أن يكون لي ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة]. نتعرّف في هذا المقام على بعض السمات التي تتكون منها الخطوط العريضة في نفس صاحب العقيدة ورجل العقيدة:
الإيمان بهذه العقيدة:
فأما أولها: فهو الإيمان بهذه العقيدة التي نزلت من عند رب العالمين؛ الإيمان بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إلى الكتاب والسنة عند التنازع، والاستغناء بهما عما جاء في سواهما، واعتقاد كمال هذا الدين، ووجوب تقديم النقل على العقل في حالة التعارض المتوهم، وإلا ففي الحقيقة فإن النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح. والأدب مع نصوص الكتاب والسنة من حيث مراعاة الألفاظ في بيان العقيدة، وعدم الدخول إلى القرآن والسنة بمقررات عقلية سابقة، وترك الخوض في علم الكلام والفلسفة من حيث أنه علم لا ينفع، وكما ورد في الدعاء: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) وأن نؤمن إيماناً تاماً بأنه لا يُوجد شيء اسمه فلسفة إسلامية، ورجل العقيدة كما أنه يعتقد بهذه العقيدة، فإنه يُربي الناس عليها، ويبينها بالوحي حتى تمتلئ قلوب الناس بعظمة الله وبعظمة نصوص القرآن والسنة، ويحرص رجل العقيدة على أن يربي نفسه ويربي الشباب بالذات على هذه العقيدة وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو بن حبيش رضي الله عنه: [إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه -توقع منه الخير- وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشوئه].
ولذلك الآن لو وُجدت هناك الأوعية التربوية الصحيحة المستمدة من عقيدة أهل السنة والجماعة فانضوى وانضم إليها شباب الأمة، لخرجت نوعية عظيمة من الرجال، ولكن المشكلة أن شباب الأمة الإسلامية تتخطفهم الشهوات والشبهات وطرق الزيغ والضلال، والطرق التي يُخلط فيها الحق بالباطل في كثيرٍ من الأحيان، ولذلك لا تجد النوعيات التي تحمل هذا الدين، وإنما تجد عقليات مشوشة ومضطربة لا يمكن أن تفهم نصوص الكتاب والسنة فهماً صحيحاً وتنطلق بها لتطبقها تطبيقاً صحيحاً، فأنى لهؤلاء أن يحملوا هذا الدين.
وقال عبد الله بن شوذب رحمه الله: "إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك -إذا اهتدى وسلك الطريق المستقيم- أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها"، وهذا الكلام يشمل النساء أيضاً، ولذلك يجب أن تنتبه المرأة المسلمة إلى دعاة الضلال الذين يريدون أن يؤثروا عليها بالبدعة مثل دعاة التصوف.
والعقيدة الصحيحة إذا استقرت في نفس رجل العقيدة فإن لها أثراً عظيماً في حياته، بل وحتى على فراش الموت يكون لها أثر، مثال: عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شابٍ وهو يحتضر، فقال: كيف تجدك؟ فقال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه ممَّا يخاف).
الدفاع عن هذه العقيدة:
وكذلك من سمات رجل العقيدة: أنه يدافع عن هذه العقيدة ويرد عنها سهام المبطلين وكيد المنحرفين وأصحاب الأهواء، وذلك بمنهج متميز واضح، ويعتمد في منهجه على حجية السنة في العقيدة، ومنها أحاديث الآحاد الصحيحة، ويعتقد أن القول بأن أحاديث الآحاد لا تفيد قطعية الثبوت، فهذه بدعة كبيرة جاءت إلينا من كتب أهل البدع، ويعتقد بتقديم أقوال الصحابة في تفسير النصوص الشرعية؛ لأنهم أعلم من غيرهم من أفراد الأمة، ولا ينبز الصحابة بمثل الكلام الذي يتشدق به بعض المنحرفين في كتبهم، وخصوصاً من المعاصرين الذين يقولون: إن الصحابة لم يعلموا علم الكلام؛ لأنهم كانوا منشغلين عن ذلك بالجهاد!! سبحان الله ما أعظم فريتهم! رموا صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم جهلوا علم الكلام؛ لأنهم كانوا منشغلين بالجهاد، وهل يفوت الصحابة رضوان الله عليهم علم نافع، لأنهم كانوا منشغلين بالجهاد؟!! كل الصحابة غاب عليهم هذا العلم التافه، والحمد لله أنه غاب عنهم.
وكذلك يأخذ بطريقة جمع النصوص في المسألة الواحدة وعدم الاقتصار على بعضها دون بعض كفعل أهل البدعة، نأخذ مثالاً -أيها الإخوة- لو أن شخصاً أخذ بحديث: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) ولم يأخذ بغيره، هذا النص قد يُوهم عند البعض بأن مجرد التلفظ باللسان يكفي في دخول الجنة، ولكنه عندما يأخذ بالنصوص الأخرى، ومنها -مثلاً- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) وقوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة..) إلى آخر الحديث.
إذاً: تتكامل النصوص وتجتمع لتكون العقيدة الصحيحة من جميع جوانبها، أما أن نأخذ بعض النصوص ونترك بعضها، فإننا سوف نقع في بدعة وضلال ولا نفهم العقيدة الصحيحة. والاقتصار على الكتاب والسنة في مقارعة المبتدعة أمر مهم يدل على فقه صاحبه، وإليكم هذا المثال: قال صالح بن الإمام أحمد رحمه الله: جعل ابن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمغضب، قال أبي: وكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين! هو والله ضال مضل مبتدع، فيقول الخليفة: كلموه.. ناظروه، فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا يقول المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول، فأقول: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به، لا زال الإمام أحمد على هذه الحالة حتى قال أحمد بن أبي دؤاد وقد نفذ صبره: أنت لا تقول إلا ما في الكتاب والسنة! وهذا الكلام اعتراض صريح يُدين ذلك المبتدع إدانة كاملة.
ورجل العقيدة يقف أمام محاولات تهوين العقيدة؛ الذين يهونون من شأن العقيدة ويقولون: هذه أمور جانبية، هذه أمور تافهة، هذه أمور لا تقدم ولا تؤخر، وماذا يعني: إذا اعتقدنا أن لله يداً أو وجهاً؟! تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، لم يعرفوا ربهم ثم يريدون أن يدعوا إليه وإلى سبيله. بعض الناس يتبجحون، فيقولون: أين الذين يقولون بعلو الله من الغزو الفكري؟ أين الذين يقولون بعلو الله من التيارات العلمانية؟ أين الذين يقولون بعلو الله من قضايا الجهاد؟ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف: 5].
أي: لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله والجهاد في سبيل الله؟! لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله ومقاومة الغزو الفكري؟! لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله والرد وفضح التيارات العلمانية؟! أين التكامل؟! لماذا نقتصر على جانب من الدين ونترك الجوانب الأخرى؟!
عدم الاعتداء على نصوص القرآن والسنة:
رجل العقيدة لا يعتدي على نصوص القرآن والسنة، ولا يُغير عليها بسهام التأويل والرد والتفنيد ويُحكم عقله فيها، بل إنه يستسلم لها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي -أحد الذين غرموا في الدية-: يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يُطل؟!). هذا الرجل لما علم أنه سيدفع دية الجنين اعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: كيف تريدوني أن أدفع دية جنين؛ والجنين لا أكل، ولا شرب، ولا نطق ولا صرخ ولا استهل؟! فمثل هذا الكلام يسقط عني لا شأن لي به. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام قال عبارة نقضت كلام الرجل من أصله، وبينت عيبه وزيفه، فقال: (إنما هذا من إخوان الكهان).
هذا الرجل من إخوان الكهان، هذا المنطق تقديم العقل على النقل والاعتراض على نصوص الشريعة؛ لأنها لا توافق عقل الشخص من الكهانة (إنما هذا من إخوان الكهان). وبعض نصوص العقيدة يكذبها بعض الناس؛ لأنها لا توافق عقولهم، فمثلاً: لما سئل الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله لما روى حديث نزول الله عزوجل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، سأله إنسان في المجلس، قال: كيف ينزل؟ فأجاب عبد الله بن المبارك: "ينزل كيف يشاء سبحانه وتعالى". وفي رواية: "إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخضع له".
كان هارون الرشيد رحمه الله مرة من المرات في مجلس، وكان يحدثه بالأحاديث رجل من الصالحين يسمى أبو معاوية الضرير، فحدثه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى..) إلى آخر الحديث، فقال عيسى بن جعفر -أحد الحاضرين-: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟!! -أي: من القرون- ما هو خطأ الرجل؟ أنه قدم عقله على النص، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (احتج آدم وموسى..) وهذا يقول: كيف التقوا؟ وأين التقوا وبينهما سنين طويلة؟ هذه جريمة يا إخوان!! هذا العقل المحصور الضيق نحكمه في النصوص الشرعية وننفي النصوص، فوثب هارون الرشيد رحمه الله تعالى، وقال: يحدثك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضه بكيف؟! وفي رواية: أن هارون الرشيد رحمه الله -وكان شديداً على المبتدعة- قال: النطع -السيف- زنديق يطعن في الحديث. فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول: بادرة منه يا أمير المؤمنين! بادرة منه يا أمير المؤمنين! حتى سكت. وفي رواية: أنه حبسه ولم يُطلقه حتى حلف بالأيمان المغلظة أنه ما سمعه من أحد؛ أي: ما تلقى الشبهة هذه من أحد.
الاهتمام بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم:
ورجل العقيدة: يهتم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتماماً عظيماً في تعلمها وجمعها وتطبيقها وتمييز صحيحها من سقيمها، فهو يميز الأحاديث الضعيفة من الأحاديث الصحيحة، ولا يأخذ بأي حديث سمعه، وإنما يبحث عن صحته لكي يعمل به ويرويه للناس. لا يجوز أن نروي حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولسنا متأكدين من صحته، فضلاً عن أن نكون متأكدين من ضعفه أو كذبه: (من حدَّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبِين، أو الكاذبَين) لا يجوز لك أن تحدث بحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأنت لم تتأكد من صحته، هذا فضلاً عن أن تحدث به وأنت تعلم أنه ضعيف أو موضوع؛ هذه جريمة أكبر من الأولى. والآن لا يخلو واعظ أو خطيب أو محاضر إلا وتجد في ثنايا كلامه أحاديث ضعيفة أو مكذوبة، يقولون: ترقق قلوب الناس.. تؤثر في الناس.. نستغلها لصالح الرسول الله صلى الله وسلم! كذبوا والله، وافتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذباً، نحن لسنا يهوداً، والغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، وإنما الوسائل لها حكم المقاصد، إذا كان مقصدك صحيح لا بد أن تكون وسيلتك صحيحة. بعض الناس يأخذ أحاديث مثل: (إذا دمعت عيني اليتيم، وقعت دموعه في كف الرحمن فيأخذها، ويقول: من أبكى هذا اليتيم؟ أعطيت الجنة من أسكته) كلام مؤثر، لكن الحديث لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يجوز لنا أن نأخذ به؟!! ولذلك قام رجال الأمة الذين قيضهم الله لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فما تركوا شيئاً إلا بينوه، فجردوا أسماء الضعفاء، وأسماء الثقات، وبينوا درجات الأحاديث، وبينوا ثقة الرجال من ضعفهم، وجردوا الأحاديث المكذوبة والمصنوعة في الكتب حتى تبين للناس ما هو الحق، ولا زالت الأمور في تنقيح واجتهاد يتوالى عليه الناس المجتهدون منهم في هذا الأمر جيلاً بعد جيل، دلالةً على أن الله يحفظ هذا الدين بحفظ القرآن والسنة.
وكذلك من حق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل العقيدة: أنه يقدم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلام كل أحد، وإذا تعارض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كلام البشر يقدم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويترك كلام ذلك الشخص.
عن وبرة قال: كنت جالساً عند ابن عمر، فجاء رجل، فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر: (فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقاً؟!) رواه مسلم.
والاهتمام بالسنة من مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله، بعض الناس يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وهو يُهمل السنن ولا يطبقها، وإذا جاءت سنة يقول: هذه أشياء تافهة، وهذه قشور، وهذه أمور جانبية، اتركنا من اللحية، واتركنا من إسبال الثوب، ودعنا من تحريك الإصبع في الصلاة ووضع اليدين على الصدر؛ هذه قشور، لا ينبغي أن نشتغل بها، سبحان الله العظيم! ماذا كان يفعل الرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا كان كلام هؤلاء المجرمين صحيحاً فمعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كوم السنن الصغيرة حتى إذا كانت آخر دقائق من حياته قال: يا مسلمون! إني كنت أشغلكم بالجهاد وبالأمور الكبيرة، وأنا الآن سوف أذكر لكم السنن الصغيرة في آخر عمري؛ لأني ما أردت أن أشغلكم بها من البداية، ثم مات. هذا معنى كلامه. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس الأمور الصغيرة والكبيرة بالتوازن.
لو كان عندك كافر تطبق عليه حديث معاذ: (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -هذا أول شيء- فإن هم أطاعوك لذلك فأعلموهم بأن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم..) الحديث.
فلو أسلم الكافر فيجب أن نعلمه جميع الدين، يجب أن نكون أمناء في تقديم الدين، لا نقول: نقدم بعضه للناس ونترك بعضه، وبعد عشرين سنة نبدأ نعلمهم هذه الأشياء الصغيرة، سبحان الله! هذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ومن المسائل الخطيرة التي تحدث في هذا العصر وتخرج بها كتب جديدة إلى الأسواق، هذه المسألة من مذهب المعتزلة في تقديم العقل على النقل، وربما تظنون أن هذا الكلام نظري وصعب، لكن لو أخبرتكم أن رجلاً من المسلمين قد أخرج كتاباً في هذه السنة (1409هـ) يقول فيه: إن حديث موسى أنه لطم عين ملك الموت ففقأها، مع أنه صحيح وثابت لكنه غير معقول؛ لأن موسى لا يلطم عين ملك الموت فيفقأها، فالحديث لا نقبله، وببساطة شطَّب الحديث.
حديث: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة) رواه البخاري. يقولون: هذه أشياء وعادات وتقاليد، ونحن لسنا مكلفين أن ننقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا و استراليا. قالوا: والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث لما سمع أن بنت كسرى تولت زمام الملك، لكن لو رأى جولدا مائير لقال غير هذا الكلام! سبحان الله! كبرت كلمة تخرج من فمه، اللهم لا تسلطه على أحد من المسلمين، وامحقه وأفكاره التي يريد أن يسمم بها عقول المسلمين، اللهم قاتل معتزلة القرن العشرين، وامحقهم يا رب العالمين، ولا تجعل لهم سناناً ولا لساناً مسلطاً على المسلمين.
أيها الإخوة! نحن نعيش في أخطار.. الكتب والأشرطة تُقذف إلينا سموم من هذا المنهج الرديء.. تقديم العقل على النصوص الشرعية.. كقولهم: صحيح البخاري لا نأخذ به، وإذا كان هناك حديث ثابت لم يعجبهم يقولون: هذا لا يُوافق طبيعة العصر الذي نعيش فيه.. أين الإسلام؟! أين الاستسلام لله بالطاعة والانقياد له؟! اللهم اهد من كان ضالاً من المسلمين.
الانتساب إلى الله ورسوله:
رجل العقيدة لا يُنتسب إلى أحد غير الله ورسوله، كما قال ابن القيم رحمه الله: وأهل هذه الغربة هم أهل الله حقاً، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، ومن صفات هؤلاء الغرباء: ترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله.. لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وأكثر الناس لاهم لهم. إذاً: المسلمون يجمعهم طريقٌ واحد ليس له ثانٍ؛ طريق أهل السنة والجماعة وهو طريق أهل الحديث سماهم أئمة السلف هكذا، سموهم أهل السنة والجماعة تمييزاً لهم عن أهل البدعة، وسموهم بأهل الحديث تمييزاً لهم عن الذين يحكمون عقولهم وآراءهم في النصوص.
قال الإمام أحمد عن الطائفة المنصورة: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. كل تسمية مخترعة مهما كان الذي اخترعها، ومهما كان عدد الذين ساروا عليها، فكلها تسميات مبتدعة، يُقصد منها تفريق صفوف المسلمين؛ المسلمون ليس لهم جماعة إلا جماعة واحدة وهم أهل السنة والجماعة؛ عقيدتهم معروفة لم تختلف على مرَّ العصور، وأعمالهم وأخلاقهم معروفة، وطريقتهم في الدعوة معروفة، ومفاصلتهم للكفار معروفة، وكل شيء واضح في القرآن والسنة، وعلماء المسلمين يوضحون هذا الطريق لمن يسير إليه فقط، ليست هناك تسميات وأحزاب وطوائف، وإلا فقل لي: ما الذي أخر مسيرة الدعوة الإسلامية الآن إلا هذه التحزبات والتفرقات؟! هذا من الطائفة الفلانية، وهذا من الطائفة الفلانية.
يا أخي! أين أنت من جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ماذا كانوا يسمون أنفسهم؟! ليس لهم إلا أوصاف: الطائفة المنصورة، الفرقة الناجية، لكنهم هم أهل السنة والجماعة الذين اجتمعوا على هذه السنة فقط، ولذلك فإن من المدهش أحياناً أنك تجد اثنين من المسلمين ليس بينهم فرق في التصورات، لكن هذا يطلق على نفسه اسم كذا، وهذا يطلق على نفسه اسم كذا، وهذا موجود -فقط الاسم- هذا رافع لشعار، وهذا رافع شعار.. لماذا يا أخي؟ ألسنا أمة واحدة؟!! أليس إبراهيم سمَّانا المسلمين؟!! لماذا نتفرق؟!! ما هي المشكلة؟ أن كل أحد ينتسب إلى طائفة يسميها بأسماء ليست شرعية، فيوالي لها، ويعادي عليها، ويتعصب لها، ويدافع عنها بالحق والباطل.
الدعوة إلى مذهب أهل السنة والجماعة:
ورجل العقيدة يدعو إلى مذهب أهل السنة والجماعة؛ وهم الوسط بين الأطراف، والحجة عند الخلاف، المتفقون على العقيدة عبر الأزمان، ورجل العقيدة يُصحح معتقدات العامة، فإن كثيراً من العامة عندهم خرافات وشعوذات ومعتقدات باطلة، وهذه قصة تُبين لنا كيف كان العلماء يصححون معتقدات العامة الخاطئة؟ كان نعمان بن محمود الآلوسي رحمه الله جوزي زمانه في الوعظ والتذكير، فكان في كل سنة يجلس في شهر رمضان للوعظ في أحد المساجد الواسعة، فيُقصد من أطراف الأماكن حتى يغص المكان بالمستمعين، فاتفق له في رمضان سنة (1305هـ) أن استطرد في مجلسٍ من مجالسه بحث سماع الموتى، فذكر ما قاله أهل العلم في كتبهم الفقهية من عدم سماع الموتى كلام الأحياء، فقام حشوية بغداد وأنكروا عليه هذا العزو، وأثاروا أفراد جهلة العوام كما هي عادتهم في كل زمان ومكان، وكادت تقع فتنة تسود وجه التاريخ، ولكنه بدهائه وحلمه سكن ثائرتهم، فجمع في اليوم الثاني كل ما لديه من كتب المذاهب الأربعة وارتقى كرسي الوعظ، وقد احتشدت الجموع، فأعاد البحث وصدع بالبيان، ثم أخذ يتناول كتاباً كتاباً فيتلو نصوص العلماء ثم يرمي بها إلى المستمعين ويصرخ: هؤلاء علماؤكم، فإن كنتم في ريبٍ فدونكموهم وناقشوهم الحساب.
حتى إذا فرغ نهض واخترق الجموع الثائرة غير وجلٍ ولا هياب، فأقبلوا عليه يقبلون يديه ويعتذرون إليه من قيامهم بتحريك المرجفين وفريق المقلدة الجامدين، فكان ذلك سبب تأليف رسالته المشهورة: الآيات البينات في حكم سماع الأموات.
رجل العقيدة والعصبية:
رجل العقيدة لا يتعصب لأحدٍ، ويضع نصب عينيه القاعدة الذهبية التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من نصب شخصاً كائناً من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، ولا تجوز الطاعة المطلقة لإمام من الأئمة مهما علا شأنه، وشاع بين الناس ذكره، ولكن من يجهل حكماً من الأحكام عليه أن يستفتي الأتقياء العلماء؛ الذين يعتمدون في فتاويهم على القرآن والسنة، وينبغي أن يتحرى الدليل ما أمكن، والناس منهم من يجتهد، ومنهم طالب علم يُمحص ويقرأ ويعرف الأدلة، ويتابع القول الذي عليه الدليل الصحيح، ومنهم عامة لا يعرفون ولا يميزون، هؤلاء عليهم أن يسألوا الثقات من العلماء في بلادهم الذين يعتمدون على القرآن والسنة، هذه المسألة ببساطة.
وفي الوقت الذي ندعو فيه إلى عدم التعصب لأحدٍ أياً كان، فإننا في ذات الوقت ننكر على أولئك النفر الذين وضعوا أنفسهم في رتبة الاجتهاد ولما يحصّلوا العلم الشرعي بعد أو قواعده الأساسية، كيف يطيرون ولم ينبت لهم الريش في أجنحتهم؟ كيف يحلقون في سماء العلم؟ هؤلاء الناس الذين يظنون أنه بمقدورهم وهم العاجزون القُصر أن يستنبطوا الأحكام الشرعية لوحدهم، وبعضهم يزعم أن علماء الحديث عنده كعمال الخدمات يقدمون له الحديث الصحيح وهو الذي يتولى فهمه وشرحه؛ هؤلاء أساءوا العلم والأدب وهم من المغرورين.
وفي ذات الوقت عليكم أن تنتبهوا من خلال قراءتكم وسماعكم لهذه الأشياء المسجلة المنتشرة إلى ألفاظ الغمز واللمز في أهل السنة الذين تجردوا عن التعصب، وهناك من يلمزهم وينبزهم ويغتابهم ويستهزئ بهم، فترى أحدهم يقول: هذه سلفية مزعومة، والآخر يقول: هذا فقه بدوي، وثالث يقول: فتيان سوء يتطاولون على أئمة العلم؛ ومقصودهم تنفير الناس من اتباع الدليل، يريدون التعصب والتقوقع.
طلب العلم والعمل به:
يجب أن يكون منهاج رجل العقيدة طلب العلم الصحيح، وأن يكون طلبه مبدوءاً بتعلم خشية الله أولاً، فإن رأس العلم خشية الله، وليس مجرد تعلم التعريفات والمتون والمصطلحات والاختلافات والأقوال، وعلم بغير زكاةٍ يكون وبالاً على صاحبه.
وبعض طلبة العلم يقولون: لا نريد دليلاً إلا من القرآن أو من السنة، وغير ذلك نرمي به عرض الحائط، فكيف إذا كان إجماعاً صحيحاً، أو إذا كان قياساً صحيحاً مستنبطاً من القرآن والسنة، وهل متابعتهم للعلماء أولى أم متابعتهم لآرائهم الشخصية؟!! ويجب على رجل العقيدة: أن يعمل الدروس النافعة للعامة والخاصة، للبسطاء والمثقفين، لمن له تعمق في الفهم ومن هو بسيط في الفهم.
قال ابن حجر رحمه الله في ترجمة أحد العلماء في كتابه إنباء الغُمر: "وكان يعمل المواعيد النافعة للعامة والخاصة، حتى إن كثيراً من العوام انتفعوا به، وصارت لديهم فضيلة مما استفادوا منه". وقال ابن حجر رحمه الله: "أحمد بن محمد الصفدي كانت له عناية بالعلم، وكان يعرف بشيخ الوضوء".
لماذا كان يعرف بشيخ الوضوء؟ لأنه كان يعلم الناس الوضوء، كان يتعاهد المطاهر فيعلم العوام الوضوء، فلذلك سمي شيخ الوضوء. إذاً: علينا أن نعلم العامة والخاصة، بعض الناس يقصرون جهودهم التعليمية على فئة معينة من الناس؛ على الشباب دون الشيوخ، أو على الرجال دون النساء، أو على الكبار دون الصغار؛ هؤلاء ما عندهم تكامل في خطتهم التربوية التعليمية، ويجب أن يكون التعليم عاماً شائعاً في الناس؛ في الصغار والكبار، والرجال والنساء، والشباب والشيوخ، حاول ألا تخص أحداً دون أحد. بعضهم تقول له زوجته: علمني شيئاً، وهو مُنشغل مع إخوانه أو يُعلم نفسه، ويتعلم مع إخوانه، زوجته التي في البيت لا تعرف أشياء كثيرة من الأحكام؛ هذا غير صحيح.
أيها الإخوة: يجب أن تكون لدينا نظرة شمولية في قضية الدعوة والتعليم، لو رأيت منكراً في الشارع أنكر عليه، ولو كنت بجانب شخص في الطائرة علمه شيئاً فإنك لن تخسر شيئاً، اصرف جهودك في الأماكن العامة لتعليم الناس، أئمة المساجد يقيمون الدروس لتعليم الناس، المدرسون في المدارس يعلمون الطلاب، ويبذلون العلم للجميع وينصحون الكل، وبهذه الطريقة نصل إلى منع المنكرات بأقصر وقت ما أمكن، أما الانزواء والتقوقع في بيئات معينة منغلقة ونمنع الخير عن الناس فهذا غير صحيح.
الاهتمام بالقرآن:
رجل العقيدة يهتم بالقرآن الكريم في التربية، فإن بعض الناس يركزون على المواضيع الفكرية، أو الفقهية، أو العلمية البحتة.. وغيرها، وينسون كتاب الله عزوجل، ويقرءون كلام الأشخاص أكثر مما يقرءون كلام الله، ولذلك يصير اتصالهم بالأشخاص والمؤلفات أكثر من الاتصال بالقرآن الكريم؛ وهذا فيه نوع من الخطورة.
الرسول صلى الله عليه وسلم لماذا منع في بادئ الأمر كتابة شيء غير القرآن؟ لأنه يريد أن ينصب اهتمام الناس على القرآن، ينطلقون منه ويسيرون عليه، وبعض الناس يتصورون أن القرآن لا يوفي جميع الأشياء، وهذا غير صحيح، فالقرآن كتاب أحكام، وكتاب تربية، وكتاب أخلاق، والقرآن يجمع أشياء كثيرة، وإذا أردت التربية فستجد هناك التربية بأنواعها.. بالقصة، وبالموعظة، وبالقدوة، وبالعقوبة.. إلى آخره.
ينبغي أن تكون دراسة رجل العقيدة للقرآن الكريم دراسة وافية عامة.. يدرس قصص القرآن وأمثاله، والعلاقة بينه وبين أسباب نزوله، وتسلسل الأحداث بالمكي والمدني؛ ليعرف مسيرة القرآن في تربية المسلمين، وما هي الأولويات؟ وبماذا يبدأ؟ وبماذا يتوسط؟ وبماذا انتهى؟ وأساليب الجدل والمناظرة في القرآن لمعرفة كيفية إفحام الخصوم وإقامة الحجة عليهم. وكذلك دراسة نواحي الإعجاز في القرآن حتى يعظم في النفس، وكل علم قد يتندم الإنسان على الاشتغال به إلا دراسة القرآن والسنة.
كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
وكذلك فإن تدبر القرآن الكريم مهم، يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظراً.
فعليك بالنظر في هذا القرآن الكريم، والقراءة للكتّاب الذين يأخذون من القرآن ويستشهدون بالقرآن كثيراً، مثل: كتابات ابن القيم رحمه الله، فإنك تُحس أن العبارات حية، كثير الاستشهاد بالآيات والأحاديث، هذا الإمام العالم الرباني الذي يربط الناس بالقرآن والسنة، وليس أن تقرأ كتاباً فيه عشر صفحات ليس فيها آية ولا حديث. ورجل العقيدة يُقارع الكفار والمبتدعة والفجار بالقرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما حدث لـابن عباس رضي الله عنه مع الخوارج ، فإنه أول ما أتاهم أثنى على عبادتهم وعلى حسناتهم، ثم استفرغ ما لديهم من الحجج حجة حجة، وبعد أن قال: أفرغتم، وتأكد أنه ما بقي لديهم شيء بدأ يجيب عليهم ويرد على كل شبهة بدليل؛ يأخذ شبهتهم ويردها بدليل.. آية بآية.. حديثاً بحديث، وسيرة بسيرة.. وهكذا، ولم يَسْتَسِر ولم ينفعل لما انتقدوا شخصيته، بعض الخوارج لما رأوا ابن عباس قالوا: لا تناظروه فإنه من قريش، الذين قال الله فيهم: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58]، فلم يغضب ابن عباس ويتركهم ويذهب، وإنما تحمل حتى أبلغهم الحق كاملاً. قال الشافعي رحمه الله: قال رجل من الخوارج لـعلي رضي الله عنه وهو في الصلاة: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65] فقرأ علي : "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ" [الروم: 60]. وهذا الإمام أحمد رحمه الله لما سأله المبتدع: ما تقول في القرآن؟ قال الإمام أحمد : ما تقول أنت في علم الله؟ فسكت المبتدع؛ لأنه يعلم ما وراء السؤال. قال الإمام أحمد : فقال لي بعضهم: أليس الله تعالى يقول: "اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" [الرعد: 16] والقرآن شيء، قال الإمام أحمد: قال الله تعالى: "تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ" [الأحقاف: 25] ألم تبق أشياء لم تدمر. قال المبتدع: أليس قد قال الله تعالى: "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً" [الزخرف:3] أفيكون مجعولاً إلا مخلوقاً؟ فقال الإمام أحمد : "فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ" [الفيل: 5] أي: خلقهم؟! وأنت تعلم أن من معاني كلمة جعل: صَيَّرَ.
يتبع إن شاء الله...