في مـدرســـة الـهـجـــرة الشـــريفة
دكتـور: بـدر عبـدالحمــيد هـمـيــسه
غفر الله لنا وله ولوالديه وللمسلمين
*************************
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد..؛
فلقد كانت الهجرة النبوية الشريفة فتحاً ونصراً وعزة وانطلاقة كبرى لنشر الدعوة الإسلامية, وإعزاز دين الله تبارك وتعالى.
ولسوف تبقى دروس الهجرة مثلاً يحتذي لجميع الأجيال المسلمة في حسن الثقة واليقين بنصر الله تعالى, وأن العزة دائما لله ولرسوله وللمؤمنين.
وأن التوكل الحقيقي هو الذي يقوم على الأخذ بالأسباب والتخطيط الجيد, وأن أخوة الإيمان تعلو فوق أخوة النسب والعرق.
وهذه الرسالة "في مدرسة الهجرة الشريفة" تقف عند بعض الدروس المستفادة من تلك الرحلة المباركة الطيبة.
والله أدعوا أن يغفر زلاتنا وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
راجي عفو ربه:
دكتور: بدر عبد الحميد هميسه
hamesabadr@yahoo.com
المواسير – إيتاي البارود – البحيرة
في 15 من شعبان 1430هـ
6 /8 / 2009م.
***********
1-المؤمن يحسن التوكل على الله تعالى:
حسن التوكل على الله تعالى، يعني صدق اعتماد القلب على الله في دفع المضار وجاب المنافع، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي إلا الله ولا يمنع إلا الله ولا يضر ولا ينفع سواه. ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
قال تعالى: "قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا" [الطلاق: 2] وقال: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق:3].
وقال: "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا" [الطلاق: 4]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا » [رواه أحمد].
يقول داود بن سليمان رحمه الله: "يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات" صيد الخاصر (3830) بتصرف يسير.
دنياك بحر عميق لا قرار له ... هيهات ينجو الفتى فيها من الغرق
فاجعل سفينتك التقوى ومحملها ... الإيمان واستصحب الناجي من الفرق
واجعل شراعك من حسن التوكل في ... سير الطريق وثق بالله تستبق
ولقد كان صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة الشريفة متوكلاً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن صلى الله عليه وسلم بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها، بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان.
فالقائد: محمد، والمساعد: أبو بكر، والفدائي: علي، والتموين: أسماء، والاستخبارات: عبد الله، والتغطية وتعمية العدو: عامر، ودليل الرحلة: عبد الله بن أريقط، والمكان المؤقت: غار ثور، وموعد الانطلاق: بعد ثلاثة أيام، وخط السير: الطريق الساحلي.
وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وأخراً.
ويتجلى ذلك من خلال استبقاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلي وأبي بكر معه؛ حيث لم يهاجرا إلى المدينة مع المسلمين، فعليّ رضي الله عنه بات في فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه صحبه في الرحلة.
ويتجلى كذلك في استعانته بعبد الله بن أريقط الليثي وكان خبيراً ماهراً بالطريق, ويتجلى كذلك في كتم أسرار مسيره إلا مَنْ لهم صلة ماسّة، ومع ذلك فلم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم، ومع أخذه بتلك الأسباب وغيرها لم يكن ملتفتاً إليها بل كان قلبه مطوياً على التوكل على الله عز وجل.
وحسن التوكل الحقيقي على الله تعالى خير دليل نجاح هذه الرحلة ولقد تمثل ذلك في التالي:
1- اختيار الصاحب المناسب وهو أبو بكر الصديق اختاره من بين جميع الصحابة.
2- التعريض له بالخبر، فلم يقطع له النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الصحبة في الهجرة وإنما قال: ((لعل الله يجعل لك صاحباً)).
3- إعداد راحلتين قبل مدة طويلة من الهجرة، إذ لو اشترى الراحلتين قبيل الهجرة فربما لفت أنظار قريش إلى ذلك، وماذا يريد أبو بكر بهاتين الراحلتين إلا لأمر بيَّته مع محمد؟ وبخاصة بعد تفاقم الأزمة واشتداد الوحشة بعد بيعة العقبة الثانية، وهذه رواية البخاري.
4- دفع الراحلتين إلى الدليل قبل الهجرة.
5- زيارة أبي بكر كل يوم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخطئه يوم أن يأتي أبا بكر غدوة وعشية، وعلى هذا لم يكن الأمر غريباً على قريش في مجيئه إليه وقت التخطيط للهجرة.
6- تغيير الوقت المعتاد للزيارة، ولعل ذلك بسبب الرصد من قبل قريش لزياراته في الوقت المعتاد.
7- اختيار الوقت المناسب للزيارة وهو وقت الظهيرة حيث يستظل الناس ويكونون في بيوتهم.
8- الخروج إلى أبي بكر متنكراً بالقناع حتى لا يُعرف.
9- الإسرار لأبي بكر بخبر الهجرة، وكتمان ذلك عن أهل بيته في بداية الأمر حيث قال له: أخرج من عندك.
10- الإسراع في إعداد الزاد وتجهيزه.
11- مبيت "علي" على الفراش، كما في المسند لأحمد.
12- الخروج من خوخة في ظهر بيت أبي بكر ولم يخرجوا من الباب المعتاد، كما في رواية ابن إسحاق.
13- الخروج من الطريق المعاكس لطريق المدينة، فالأصل أن يخرجوا من جهة الشمال حيث طريق المدينة، فخرجوا جهة الجنوب.
14- اختيار الغار حيث البعد عن الأنظار للاختفاء فيه.
15- البقاء في الغار ثلاثة أيام حتى يسكن الطلب عنهما.
16- التخطيط للتعرف على كيد العدو ومتابعته وإعطاء هذا الأمر أهمية كبيرة.
17- اختيار الرجل المناسب لهذه المهمة في متابعة أخبار قريش وترتيباتها للقبض عليهما، فقد اختاروا شاباً قد لا يلفت نظرهم، ويمتاز بالذكاء والفطنة فيلتقط كل خبر ولا يفوته شيء.
18- متابعة الأخبار أولاً بأول حيث يأتي بالخبر كل يوم، فالحدث لا يتحمل التأخير أكثر من هذا.
19- ترتيب مجيء المخبر وانصرافه، سواء في وقت المجيء والانصراف، أو في طريقة الذهاب والإياب.
20- إسناد مهمة الإتيان باللبن للرجل المناسب وهو الراعي عامر بن فهيرة.
21- ترتيب حضور عامر بن فهيرة وانصرافه.
22- إتباع عامر بن فهيرة أثر عبد الله بن أبي بكر بالغنم حتى تعمي أثره، كما هو عند ابن إسحاق.
23- اختيار الدليل ذي الكفاءة العالية.
24- الخروج من الغار آخر الليل، كما في البخاري وعند موسى بن عقبة.
25- سلوك طريق غير الطريق المعتاد للمدينة.
26- اصطحاب عامر للخدمة.
27- مواصلة السير بدون توقف.
28- تأخير وقت الراحة.
29- حمل أبي بكر جميع ماله، ومن فوائد ذلك أن أبا بكر كان رجلاً غنياً فربما لحقهم الطلب فاستطاع أن يفدي أنفسهما بذلك المال، وكان مبلغاً كبيراً قدر بخمسة آلاف، كما عند ابن إسحاق، وتقدير المبلغ. رواه أحمد والحاكم.
بدأ التخطيط العلمي للهجرة بعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه على الوافدين إلى مكة وعقد بيعة العقبة الأولى والثانية وبايعهم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في المنشط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا تأخذهم في الله لومة لائم، وأن ينصروه ويمنعوه إذا قدم إليهم بما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم.
30 ـ وقبل ذلك كله أرسل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير ليعلمهم وليمهد البيئة في المدينة المنورة لقدوم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين.
2- الصبر واليقين طريق النصر والتمكين:
أصحاب الرسالات في هذه الحياة لا بد أن تواجههم المصاعب والمتاعب والمحن والابتلاءات, قال تعالى: "الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)" سورة العنكبوت.
وقال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ﴾ الأنعام: من الآية 34.
عَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ, ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ, فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ, فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ, وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ, فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. رواه الترمذي (2398) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143).
المرء رهن مصائب لا تنقضي * * * حتى يوسد جسمه في رَمْسِهِ
فمؤجَّلٌ يلقى الردى في غيره* * * ومعجَّل يلقى الردى في نفسهِ
فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة يهيأ الله تعالى لهم طيبة الطيبة، ويقذف الإيمان في قلوب الأنصار، ليبدأ مسلسل النصر والتمكين لأهل الصبر واليقين, قال تعالى: "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)" سورة غافر.
وإن طريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره والأذى، لكن من صبر ظفر ومن ثبت انتصر.
ولقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أذى قريش وكان النبي صل الله عليه وسلم يطمأنهم بأن النصر قادم.
فحينما جاءه خباب بن الأرت يشكو ظلم قريش, عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ، فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ، لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ. أخرجه أحمد" 5 /109 (21371) و "البُخَارِي" 4/ 244 (3612) و"أبو داود" 2649 و"النَّسائي" 8/ 204.
وفي الهجرة المباركة لما خاف الصديق على رسول الله من أذي قريش, وقال لرسول الله: " لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إِلَى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ" رفض الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الرسالة السلبية وقال له في ثبات المؤمن ويقينه بربه: " يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا.
فأنزل الله تعالى: "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) سورة التوبة.
سهرت أعين، ونامـت عيـون * * * في أمـور تكـون أو لا تكـون
فادرأ الهم ما استطعت عن النفس * * * فحملانـك الهـمـوم جـنـون
إن رباً كفاك بالأمس مـا كـان * * * سيكفيك فـي غـدٍ مـا يكـون
فليعلم المسلم أن الصراع بين الحق والباطل: صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية نافذة قال الله عز وجل: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].
ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21].
فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان
وأن النصر ليس بكثرة عدد ولا عدد، ولهذا قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 249 سورة البقرة.
قدم على معاوية بطريق من الروم، يعرض عليه جزية الروم عن كل مَنْ بأرض الروم من كبير أو صغير جزية دينارين، إلا عن رجلين: الملك وابنه، فإنه لا ينبغي للملك وابنه أن يجزيا، فقال معاوية وهو في كنيسة من كنائس دمشق: لو صببتم لي دنانير جزية حتى تملؤوا هذه الكنيسة، ولا يجزى الملك وابنه؛ ما قبلتها منكم، قال الرومي: لا تماكرني، فإنه لا يماكر أحد مكراً إلا ومعه كذب، فقال معاوية: أراك تمازحني! قال الرومي: إنك اضطررتني إلى ذلك، وغزوتني في البر والبحر، والصيف والشتاء، أما والله يا معاوية لا تغلبونا لا بعدد ولا عُدة، ولوددت أن الله جمع بيننا وبينكم في مرج، ثم خلى بيننا، ورفع عنا وعنكم النصر حتى ترى، قال معاوية: ما له، قاتله الله؟ إنه ليعرف أن النصر من عند الله!!. مختصر تاريخ دمشق 8 /381، فالمؤمن بصبره ويقينه وثقته بربه يعلم أن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة.
3- الله تعالى يؤيد رسله بالمعجزات:
الله تعالى قد يبتلي أولياءه وأحبابه من أصحاب الرسالات والدعوات بالمحن والشدائد, ولكن لا يتركهم لتلك المحن والشدائد حتى تعصرهم, بل يمحصهم, ويرفع من قدرهم, ثم يؤيدهم بالمعجزات التي ثبت صدق دعواهم, قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)" سورة الحج.
وفي رحلة الهجرة الشريفة تجلت معجزات وآيات وبراهين تؤكد صدق دعوى النبي صلى الله عليه وسلم, فهل رأيتم رجلاً أعزلاً مُحاصراً يخرج إلى المجرمين ويخترق صفوفهم فلا يرونه ويذر التراب على رؤوسهم ويمضي.
وهل رأيتم عنكبوتاً تنسج خيوطها على باب الغار في ساعات معدودة.
وهل رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون على الباب فلا يطأطيء أحدهم رأسه لينظر في الغار.. هل رأيتم فرس سراقة تمشي في أرض صلبه فتسيخ قدماها في الأرض وكأنما هي تسير في الطين.. هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة يتفجر ضرعها باللبن.
قال البوصيري:
وما حوى الغـــارُ مِن خيرٍ ومِن كَرَمِ * * * وكُــلُّ طَرْفٍ مِنَ الكفارِ عنه عَمِي
فالصدقُ في الغــارِ والصدِّيقُ لم يَرِمَـا* * * وهُم يقولون مـا بالغــارِ مِن أَرِمِ
ظنُّوا الحمــامَةَ وظنُّوا العنكبوتَ على * * * خــيرِ البَرِّيَّـةِ لم تَنسُـجْ ولم تَحُمِ
وِقَـــايَةُ اللهِ أغنَتْ عَن مُضَــاعَفَةٍ * * * مِنَ الدُّرُوعِ وعن عــالٍ مِنَ الأُطُمِ
إن هذه المعجزات لهي من أعظم دلائل قدرة الله تعالى، وإذا أراد الله نصر المؤمنين خرق القوانين، وقلب الموازين: "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" 36 يس.