السبب الرابع:
أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ، فيكون الحديث صحيحاً والمراد منه مفهوماً ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه فحينئذ له العذر لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم بالناسخ.
من هذا رأي ابن مسعود -رضي الله عنه-.. ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا ركع؟. كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ووضعهما بين ركبتيه، هذا هو المشروع في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك، وصار المشروع أن يضع يديه على ركبتيه، وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- لم يعلم بالنسخ فكان يطبق بين يديه، فصلى إلى جانب علقمة والأسود!؟، فوضعا يديهما على ركبهما، ولكنه -رضي الله عنه- نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق.. لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ والإنسان لا يكلف إلا وسع نفسه.. قال تعالى: ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)) الآية.
السبب الخامس:
أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، بمعنى أنه يصل الدليل إلى المـسـتدل، ولـكـنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، وهذا كثير في خلاف الأئمة، وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع ولكنه عند التأمل لا يكون إجماعاً.
ومن أغرب ما نــقـل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد.
وآخرون قالوا:
أجمعوا على أنــهــا لا تقبل شهادة العبد.
هذا من غرائب النقل؛ لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظــن أن لا مخالف لهم، لاعتقاده أن ذلك مقـتـضـى النصوص فيجتمع في ذهنه دليلان: النص والإجماع، وربما يراه مقتضى القياس الصحيح والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده والأمر قد كان بالعكس.
ويمكن أن نمثل لذلك برأي ابن عباس -رضي الله عنهما- في ربا الفضل:
ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: »إنما الربا في النسيئة«، وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره:»إن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة«.
وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة، أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط، مثاله: لو بعت صاعاً من القمح بصاعين يداً بيد فإنه عند ابن عباس لا بأس به؛ لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط، وإذا بعت مثلاً مثقالاً من الذهب بمثقالين من الذهب يداً بيد عنده أنه ليس رباً، لكن إذا أخرت القبض، فأعطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد التفرق فهو رباً.. لكن ابن عباس -رضي الله عنهما- يرى أن هذا الحصر مانع من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن (إنما) تفيد الحصر، فيدل على أن ما سواه ليس برباً، لكن الحقيقة أن ا دل عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: »من زاد أو استزاد فقد أربى«.
إذاً ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدل به ابن عباس؟ موقفنا أن نحمله على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضاً في الفضل: بأن نقول: إما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهـل الجاهلـية والذي ورد فيه قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُـلُـوا الرِّبَا أَضْـعَـافـاً مُّضَاعَفَةً)) الآية.
إنما هو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيم في كتاب (إعلام الموقعين) إلى أن تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل ، وليس من باب تحريم المقاصد.
والسبب السادس:
أن يأخذ العالم بحديث ضعيف ويستدل استدلالاً ضعيفاً. وهو كثير جداً، فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسبيح، وهو أن يصلي الإنسان ركعتين، يقرأ فيهما بالفاتحة، ويسبح خمس عشرة تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم أضبطها، لأنني لا أعتقدها من حيث الشرع.
ويرى آخرون أن صلاة التسبيح بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك: الإمام أحمد -رحمه الله-، وقال: إنها لا تصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة من تأملها وجد أن بها شذوذاً حتى بالنسبة للشرع؛ إذ أن العبادة، إما أن تكون نافعة للقلب، ولا بد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا تكون نافعة فلا تـكـون مـشـروعة، وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم أو كل أسـبـوع أو كل شهر أو في العمر مرة، هذا لا نظير له في الشرع، فدل على شذوذها سنداً ومـتـناً، وأن مـن قـال أنها كذب كشيخ الإسلام فإنه مصيب، ولذا قال شيخ الإسلام: إنه لم يستحبها أحد من الأئمة.
وإنما مثلتُ بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون هذه البدعة أمراً مشروعاً، وإنما أقول بدعة أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس لأننا نعتقد أن كل من دان لله سبحانه مما ليس في كتاب الله أو سنة رسوله فإنه بدعة.
كذلك أيضاً مَنْ يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال.
الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء من حديث: »زكاة الجنين زكاة أمه«.. فمعروف عند أهل العلم من مـعـنـى الحـديث أن أم الجـنين إذا ذكيت فإن زكاتها زكاةً له، أي لا يحتاج إلا زكاةً إذا أخرج منها بعد الذبح، لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.
ومن العلماء من فهم أن المراد به -أي الحديث-: أن زكاة الجنين كزكاة أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم، ولكن هذا بعيد، والذي يبعده أنه لا يحصل إنهار الدم بعد الموت.
ورسول الله يقول: »ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل«، ومن المعلوم أن لا يمكن إنهار الدم بعد الموت.
هذه في الحقيقة الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثيرة وبحر لا ساحل له.. ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟.
ومـا قـلـتـه في أول الـمـوضوع أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو اخـتـلاف المـتـكـلـمين في هذه المسائل صاروا يتشككون ويقولون: من نتبع؟.
تكاثرت الظـباء على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيد
وحينئذ نقول:
موقنا من هذا الخلاف، وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم أنهم موثوقون علماً وديانة، لا من هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله؛ لأننا لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهــل الـعـلــم..
ولكننا نعني به: العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم.
موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:
1 - كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره وهو كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحراً في العلم.
2 - ما موقفنا من اتباعهم؟ من نتبع من هؤلاء العلماء؟ أيتبع الإنسان إماماً لا يخرج عن قوله ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب.
أم يتبع ما ترجح عنده من دليل ولو كان مخالفاً لمن ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟ الجواب هو الثاني، فالواجب على من علم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف من خالف من الأئمة.
إذ لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحداً غير رسول الله يجب أن يؤخذ بقوله فعلاً وتركاً بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة، ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله، ولكن يبقى في الأمر نظر لأننا لا نزال في دوامة من الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من هذه الأدلة؟ هذه مشكلة؛ لأن كل واحد صار يقول: أنا صاحبها، وهذا في الحقيقة ليس بجيد، وأن نفتح الباب لكل من عرف أن ينطق الدليل وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول: أنت مجتهد تقول ما شئت، فإن في ذلك فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع.
والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:
1- عالم رزقه الله علماً وفهماً.
2- طالب علم عنده من العلم لكن لم يبلغ درجة لذلك المتبحر.
3- عامي لا يدري شيئاً.
أما الأول:
فإن له الحق أن يجتهد وأن يقول، بـل يجـب عـلـيـه أن يقول ما كان عليه مقتضى الدليل عنده مهما خالفه من خالفه من الناس؛ لأنه مـأمـور بـذلـك.
قال تعالى: ((لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ))، الآية، وهذا من أهل الاستنباط الذين يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.
أما الثاني:
الذي رزقه الله علماً ولكنه لم يبلغ درجة الأول، فلا حرج عـلـيـه إذا أخذ بالعمومات، والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزاً في ذلك وألا يقصر عن سؤال من هو أعلى منه من أهل العلم؛ لأنه قد يخطئ وقد لا يصل علمه إلا شيء خصص ما كان عاماً أو قيد ما كان مطلقاً أو نسخ ما يراه محكماً، وهو لا يدري بذلك.
أما الثالث:
وهو من ليس عنده علم ، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم؛ لقوله تعالى: ((فَاسـْأَلُوا أَهْــلَ الذِّكْرِ إن كُـنـتُـمْ لا تَعْلَمُونَ))، وفي آية أخرى: ((إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ والزُّبُرِ))، فوظيفة هذا أن يسأل ولكن من يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكل يقول: إنه عالم، أو كل يقال عنه إنه عالم فمن الذي يسأل، هل نقول: يجب عليك أن تتحرى من هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل من شئت ممن تراه من أهل العلم، والمفضول قد يوفق للعلم في مسألة معينة لا يوفق لها من هو أفضل منه وأعلم.
اختلف في هذا أهل العلم:
فمنهم من يرى أنه يجب على العامي أن يسأل من يراه أوثق في علمه من علماء بلده؛ لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه من يراه أقوى معرفة في أمور الطب فكذلك هنا؛ لأن العـلـم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك من تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار من تراه أقوى علماً إذ لا فرق.
ومنهم من يرى أن ذلك ليس بواجب لأن من هو أقوى علماً قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها، يرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل، والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل من يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب؛ لأن من هو أفضل قد يخطئ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية والأرجح أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه.
وأخيراً أنصح نفسي أولاً وإخواني المسلمين، ولاسيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم أن لا يتعجل ويتسرع حتى يتثبت ويعلم فيقول، لئلا يقول على الله بلا علم.
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلغ شريعة الله كما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: »العلماء ورثة الأنبياء«، »وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن القضاة ثلاثة: قاضٍ واحد في الجنة، وهو من علم الحق فحكم به«، كذلك أيضاً من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلمك لاسيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس، فقد ذكر لي بعض مشايخنا أنه ينبغي على من سأل عن مسألة أن يكثر من الاستغفار مستنبطاً من قوله تعالى: ((إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ولا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً * واسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً))، لأن الإكثار من الاستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في نسيان العلم والجهل، كما قال تعالى: ((فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ونَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)) الآية.
وقد ذُكِر عن الشافعي أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعـلـم بأن الـعـلم نــور ونـــور الله لا يؤتـاه عاصي
فلا جرم حينئذ أن الاستغفار سبباً لفتح الله على المرء..
وأسأل الله التوفيق والسداد وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.