رمضان محطة سفر إلى الجنة! (1)
العَشْرُ وليلةُ القدر
عَمَّنْ تُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ؟
لا تيأس من رحمة ربك مهما كثرت ذنوبك!
لِمَنْ تفتح أبواب الجنة، و عَمَّنْ تُغْلَّقُ أبوابُ النَّار؟
بادر بالتوبة قبل فوات الأوان
إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به.
عَمَّنْ تُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ؟
روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان رمضان، فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين) [البخاري (1800) ومسلم (1079) واللفظ له، وساقه الإمام أحمد، بلفظ (قد جاءكم رمضان، شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها) [المسند (7148)]، وسياق النسائي قريب من سياق الإمام أحمد. [سنن النسائي (2106)، ورواه الحاكم بلفظ: (إذا كان أول ليلة من رمضان، صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار) المستدرك على الصحيحين (1532) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة" ورواه الترمذي بنفس السياق، إلا انه زاد بعد قوله: (ولله عتقاء من النار) : (وذلك كل ليلة) سنن الترمذي (682)].
في هذه الأحاديث ثلاث مسائل رئيسية:
المسألة الأولى: أن الله يفتح في أول ليلة من شهر رمضان أبواب الرحمة، أو الجنة.
المسألة الثانية: أنه تعالى يغلق أبواب جهنم.
المسألة الثالثة: أنه يسلسل الشياطين، ومردة الجن.
وسنبدأ في هذه الحلقة بالمسألة الثالثة (تصفيد الشياطين)
ولسنا نريد الدخول فيما قيل من أن تصفيدهم وسلسلتهم، حقيقة أو مجاز، فالمراد على كلا الرأيين، أن الله تعالى يخفف من شر الشياطين ووسوستهم في صدور المؤمنين، إعانة لهم على صيام رمضان وقيامه، والاجتهاد في الإكثار من الطاعات، ومجاهدة النفس على ترك المعاصي... هذا هو المعنى المراد من تصفيد الشياطين... و الله اعلم. و "التصفيد" معناه في اللغة شَدُّ الأصفاد، وهي القيود والأغلال، في أيدي المسجونين وأرجلهم، ويورد العلماء في هذه المسألة إشكالا، وهو أن كثيرا من المسلمين، يرتكبون المعاصي في شهر رمضان الذي تصفد فيه الشياطين، وقد لا يصوم بعضهم الشهر نفسه، قال الحافظ ابن حجر: "وقال القرطبي -بعد أن رجح حمله على ظاهره-: "فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصى واقعة في رمضان كثيرا، فلو صفدت الشياطين، لم يقع ذلك؟
فالجواب أنها إنما تغل عن الصائمين الصومَ الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه. أو المصفد بعض الشياطين، وهم المردة، لا كلهم...أو المقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس، فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية.. " [فتح الباري (4/115)]، ويبدو أن ما ذكره القرطبي رحمه الله "أنها إنما تغل عن الصائمين الصومَ الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه" هو جواب سليم، ونحن نرى أثر تصفيد الله تعالى الشياطين في هذا الشهر، واضحة في سلوك المسلمين، كل منهم بقدر ما يبذل من الاجتهاد في طاعة الله، والبعد عن معصيته، فالمسلم المجتهد في طاعة الله في غير رمضان، يزيد اجتهاده في رمضان، والمسلم الذي يسدد ويقارب ويكون منه تقصير في غير رمضان، يكون في رمضان أكثر تسديدا ومقاربة، وأقل تقصيرا فيه، والمسلم الذي يكثر فسقه في غير رمضان، يقل فسقه فيه.
أما المسلم الموغل في ترك الطاعات، المبالغ في ارتكاب الكبائر في غير رمضان، فإنه تجذبه في هذا الشهر الكريم عاملان:
العامل الأول:
أجواء رمضان الإيمانية العبادية، التي يراها في عامة المسلمين، في المنازل و الأسر، وفي الشوارع والأسواق التي تختفي فيها المطاعم والمشارب في النهار، وفي المساجد والجوامع التي تمتلئ بالمصلين في الليل والنهار.
العامل الثاني:
نفسه الأمارة بالسوء التي تشده إلى ما ألفته من الوقوع في حمأة الشر والفساد، والشيطان الذي يسوس في صدره، ويغريه بالاستمرار في بسلوك سبله التي كان يسلكها في غير رمضان، و شهواته التي تدعوه إلى تناول ما ألف التلذذ به منها، وهذا الصنف من الناس، يحتاج إلى إرادة قوية، وعزم شديد، ونية صادقة، ليرجح كفة العامل الأول، ولجوء إلى الله تعالى ليعينه على التغلب على هزيمة جيوش العامل الثاني، فإن انتصر على أعدائه نال حظه من تصفيد الشياطين، وفاز بالخير العميم في شهر رمضان، وإن هزم في هذه المعركة، بقي أسيرًا لشيطانه ونفسه وهواه، وحرم فرص نفحات هذا الشهر الكريم.
ولمزيد من الإيضاح نقول: إن الله تعالى ذكر في كتابه، أنه أنزل كتبه السابقة، وأنزل كتابه القرآن، هدى للناس، ولكن كثيرا من الناس، لم يهتدوا بالكتب السابقة، ولا بالقرآن الكريم، وهذا يدل على أن من أراد الهداية في كتب الله المنزلة في عهد رسله السابقين، وجدها وعبد الله فكان مهتديا فعلا، ومن أراد الهداية في كتاب الله "القرآن" وجدها فيه وعبد الله تعالى، فكان مهتديا بالفعل، وأن من لم يرد الهداية الموجودة في كتاب الله، لم يكن من المهتدين بالفعل، مع أنها متاحة له لو أراد.. قال تعالى: ((الم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4) [آل عمران]، فهو تعالى أنزل التوراة والإنجيل (هدى للناس) في عهد موسى وعيسى، عليهما السلام، ولكن المهتدين بهما فعلا قليل.
وقال تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس البقرة (185)، وها هو القرآن الكريم قد بقي محفوظا، يحمل الهدى لكافة الناس، ومع ذلك لم يهتد به فعلا إلا القليل من بني البشر، ولهذا خص سبحانه من انتفع بهذا القرآن واهتدى بهداه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)) [البقرة(2) البقرة، والمقصود من هذا أن الله تعالى يوجد ما ينفع الإنسان ويدعوه إلى الانتفاع به، وينقسم الناس قسمين: قسم يستجيب لدعوة الله وينتفع بما أوجده لنفعه، وقسم يرفض دعوة الله ولا ينتفع بما أوجده لنفعه.
ومن هذا الباب تيسير الله تعالى لعباده المؤمنين سبل طاعته، وتسهيله لهم ترك معصيته، في هذا الشهر الكريم، بتصفيده الشياطين الذي يضلون عباد الله، الذي دعاهم إلى الانتفاع بهذا التيسير والتسهيل، فمن لبى دعوته، واستعان به وجاهد نفسه وهواه وشيطانه، انتفع بما يسره الله له، ومن أبى إلا التمرد على طاعة الله، واستمر مطيعا للشيطان، فهو الذي جنى على نفسه وحرمها من فرصة سانحة متاحة، فصار من اغتنم تصفيد الشياطين واجتهد في طاعة ربه، بمنزلة من اهتدى بالقرآن، ومن تجاهل ذلك واستمر في غيه، بمنزلة من أبى الاهتداء بالقرآن، فيصح أن يقال: إن الشياطين إنما صفدت لمن يرغب في طاعة الله وترك معصيته، ولم تصفد لمن أصر على الاستجابة لها، كما صح أن يقال: إن القرآن هدى لمن اتقى الله وسعى في طاعته، وليس هدى لغيره ممن كفر به.
ومعلوم أن الهدى قسمان:
هدى دلالة وإرشاد وهو بمعنى البيان، وهذا شامل لكل الناس، فالقرآن يهديهم ويدلهم على الحق ويبينه لهم ويدعوهم إليه، ويهديهم ويدلهم على الباطل، أي يبينه لهم، الباطل، ويحذرهم منه، فيهتدي به فعلا من استجاب، ويحرم من هدايته من استكبر وأبى.
ولنضرب مثالا يوضح الأمر:
لو أن جبارا في الأرض، جمع الناس في سجن كبير وكبلهم بالأغلال والأصفاد، وأحاط السجن بحراس شداد، يمنعون المسجونين من الخروج، ويسومونهم سوء العذاب، ثم هيأ الله لهم أميرا رحيما أقوى من ذلك الجبار، ومعه جنود أقوياء يطيعون أمره، فأمر هم بطرد حراس السجن وفتح أبوابه، ثم أمر مناديا ينادي من في السجن: أن اخرجوا فأنتم أحرار طلقاء، فاغتنم الفرصة من يريدون العزة والحرية وخرجوا، وأبى آخرون ممن ألفوا الذل والهوان، وأصروا على بقائهم في سجن ذلك الجبار، ألا يصح أن يقال: إن أبواب السجن فتحت للجميع، باعتبار أن الفرصة أتيحت لهم، ويقال: إن أبواب السجن إنما فتحت لمن خرجوا، باعتبار أنهم هم الذين استفادوا منه فعلا؟ وعلى هذا قس تصفيد الشياطين، واعرف من صفدت لهم حقيقة.
وهل ينتصر على عدوه وهو قاعد؟
معلوم أن الشيطان عدو لآدم وذريته، وعداؤه للإنسان قديم، إذ لم يوجد الإنسان إلا كان الشيطان بجانبه، يحسده على الخير الذي آتاه الله، ويدبر له المؤامرات، ويكيد له المكائد ويغريه بالمعاصي، ويزين له الابتعاد عن طاعة الله ورضاه، وهو مُصِرٌّ على مواصلة العداء والإضلال، وهو ملازم للإنسان ملازمة مستمرة، في كل مكان وزمان، وله أساليب متنوعة في الإضلال، الإغواء وقلب الحقائق حتى يُرِىَ الإنسانَ الحقَّ باطلا والباطلَ حقاً، ويتخذ أنواعا من التهديد والتخويف التي يرعب بها الإنسان، ليثنيه عن طاعة الله، ويوقعه في معصيته. إنه الشيطان!
وقد أبان الله لخلقه تلك العداوة، وحذرهم من عدوهم غاية التحذير، وأمرهم أن يتخذوه عدوا كما اتخذهم هو أعداء، والقرآن مليء بالآيات المحذرة منه، وقد ذكرت شطرا منها مع التعليق على بعض معانيها في كتاب "الجهاد في سبيل الله-حقيقته وغايته"، ومنها قوله تعالى: ((يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدوا، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير)) [فاطر: 5ـ6]، وقال تعالى: ((ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)) [البقرة (208)]، ولا ينتصر العدو على عدوه وهو قاعد، بل لا بد من أن يدفع عن نفسه، بكل وسيلة متاحة لمجاهدته، ولهذا نرى الحيوانات في الغابات والقفار يقاتل بعضها بعضا، هجوما ودفاعا، وقد يقضي القوي على الضعيف، أو يطرده من الأرض التي يسيطر عليها، وهكذا البشر، من لم يتخذ أسباب القوة، لا يعيش إلا ذليلا مهانا، ومن لم يرهب عدوه أرهبه، قال تعالى: ((وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم، إن الذي اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)) [الأعراف (200، 201)].
فَدَفْعُ الإنسانِ أذى عدوه إبليس، لا يكون بالسيف والرشاش والصاروخ، وإنما يكون بالاستجابة لأمر الله وطاعة رسوله، والالتجاء إلى الله تعالى والاستعاذة به منه، والإكثار من ذكر الله، فإذا لم يتخذ الإنسان هذا السلاح لمحاربة هذا العدو، صرعه ولابد، ثم إن الشياطين التي توسوس في صدور ابن آدم، ولا يسلم منها المؤمن إلا بالاستعاذة بالله من وسواسها، هذه الشياطين تكون من الجن والإنس، ولهذا منح الله خلقه من الناس سورة سميت باسمهم: "سورة الناس" وفيها أمر الله تعالى رسوله، وهو قدوة أمته، بالاستعاذة من القسمين: ((قل أعوذ يرب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس. الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس.)).
والشياطين، ليس لهم سلطان على عباد الله المؤمنين الحريصين على طاعة الله وترك معصيته، أما من آثر تولي الشياطين، على ولاية الله، فإن الله تعالى يكله على من تولاه، فيكون له عليه سلطان، ويكون سلطانه عليه بقدر توليه إياه، كما قال تعالى: ((فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98) إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون)) (100) [النحل]، وعلى ضوء ما مضى ينبغي أن نفهم معنى تصفيد الله للشياطين في هذا الشهر الكريم.
لِمَنْ تفتح أبواب الجنة، وعَمَّنْ تُغْلَّقُ أبوابُ النَّار؟
نعود مرة أخرى إلى الآية الكريمة التي فرض الله فيها صيام شهر رمضان على المؤمنين، للتذكير بأن من أهم ما يثمره الصيام في الصائمين، تقوى الله عز وجل، كما قال تعالى: (( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) [البقرة (183)] ونعيد كذلك التذكير بالحديث الذي بشر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، بفتح أبواب الجنة وغلق أبواب النار في شهر رمضان: روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان رمضان، فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين) [البخاري (1800) ومسلم (1079) واللفظ له، ثم نستفتي القرآن الكريم، في المؤهلات التي تفتح بها أبواب الجنة، وتغلق بها أبواب النار، وسنجد أن التقوى التي يجنيها الصائمون من صيامهم، هي خلاصة المؤهلات لدخول الجنة، والنجاة من النار، في كل الأوقات، ومن باب أولى في هذا الشهر الكريم.. وقد تكرر ذلك كثيرا في القرآن الكريم.
ومن ذلك قوله تعالى في الآيات الآتية:
((إن المتقين في جنات وعيون)) [الذاريات (15)].
((تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا)) [مريم (63)].
((وأزلفت الجنة للمتقين)) [الشعراء (90)].
((وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)) [الزمر (73)[.
((مثل الجنة التي وعد المتقون)) [محمد (15)].
((وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد)) [ق (31)].
((وإن للمتقين لحسن مآب(49)جنات عدن مفتحة لهم الأبواب)) [الذاريات (50)].
وقد جمع الله تعالى للمتقين، دخول الجنة وما فيها من نعيم، والوقاية من النار، فقال تعالى: ((إن المتقين في مقام أمين (51) في جنات وعيون (52) يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين (53) كذلك وزوجناهم بحور عين (54) يدعون فيها بكل فاكهة آمنين (55) لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم(56)
ومعلوم أن التقوى هي طاعة الله تعالى، بفعل ما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، ويدخل في ذلك، فعل الواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، وفعل المباحات، أو تركها تقربا بذلك إلى الله تعالى، وهذه هي الأحكام التكليفية التي ذكرها العلماء في كتب أصول الفقه.. كما يكثر في القرآن الكريم، أن الإيمان والعمل الصالح، هما المؤهلان لدخول الجنة، والعمل الصالح هو التقوى، والإيمان أساسهما، قال تعالى: ((وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون)) [البقرة (25)]، وكثيرا ما يفصل القرآن الكريم، مؤهلات أهل الجنة الناجين من النار، فعلا وتركا، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ((قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8) والذين هم على صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)) (11) [المؤمنون].
وينبغي أن يعلم أن الحد الأعلى للتقوى والإيمان والعمل الصالح، هو ما سبق من فعل المسلم الواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، وفعل المباحات أو تركها، تقربا إلى الله تعالى. وهؤلاء هم السابقون بالخيرات، وأن الحد الأدنى للتقوى الذي يستحق به صاحبه الجنة والنجاة من النار، بفضل الله ورحمته، هو فعل الواجبات، وترك المحرمات، وهؤلاء هم المقتصدون في طاعة الله، بحيث لا يحرصون على فعل المندوبات، وترك المكروهات، ومع ذلك فإن رحمة الله تعالى تشمل من يفرط في ترك بعض الواجبات، وارتكاب بعض المحرمات، ما سلم من الشرك بالله، وهؤلاء هم الظالمون لأنفسهم.
وقد شمل هذه الأصناف الثلاثة، قوله تعالى: ((ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32) جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير)) [فاطر (33)]، فالجنة يفتح الله أبوابها لطالبيها، والنار يغلق الله أبوابها للهاربين منها، وطلب الأولى والهرب من الثانية، إنما يكونان بالإيمان والعمل الصالح وتقوى الله الشاملة لفعل الواجبات وترك المحرمات.
ولهذا جاء في بعض ألفاظ حديث أبي هريرة، رضي الله عنه: بعد ذكر فتح أبواب الجنة، وغلق أبواب النار: (ونادى مناد: يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشر أقصر).
ومن فضل الله تعالى على أمة محمد أنهم جميعا يدخلون الجنة، إلا من حرم نفسه منها، فأبى دخولها، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) [البخاري رقم (6851)]، وقد خص الله تعالى الصائمين، بباب من أبواب جنته الثمانية، لا يدخله غيرهم، إكراما منه تعالى لهم، كما في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون) [البخاري رقم (3084) ومسلم (1152)]، وفي لفظ (ومَن دخله لم يظمأ أبدا) [الترمذي (765) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب)] قال الحافظ: "وهو مما وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه، لأنه مشتق من الري، وهو مناسب لحال الصائمين،وسيأتي أن من دخله لم يظمأ" [فتح الباري (4/11)].
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
إن من أعظم نعم الله على عبده المؤمن، أن يجتهد في عبادة ربه، كل باب من أبواب الخير: الصلاة، والصيام، والزكاة والصدقة، والحج، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذكر، وصلة الرحم، وتلاوة القرآن، وقيام الليل، والاعتكاف...وبخاصة في الأوقات الفاضلة، مثل هذا الشهر المبارك "رمضان" لتجتمع له فضائل الأعمال، وينال من ربه تعالى رضاه وثوابه الجزيل، وإن المسلم لجديرون بأن يغنموا فرصة فتح أبواب الجنة التي بشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، في هذا الشهر الكريم، بأن يتطلعوا لكل تلك الأبواب، ولا يقتصروا على باب واحد منها، اقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام، ومنهم خليفته الأول أبو بكر رضي الله عنه، الذي رجا له الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك الخير، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله، دعي من أبواب –يعني- الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان) فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: (نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر) [البخاري (3466) ومسلم (1027)]، ((وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)).
يتبع إن شاء الله...