* حاجة الفطرة البشرية:
2- ما ذكرناه من حاجة الإنسان إلى الدين يتصل بحاجاته العقلية، ولكن هناك حاجة الوجدان والشعور أيضا، فالإنسان ليس عقلا فقط، كالأدمغةالإلكترونية، إنما هو عقل ووجدان وروح، هكذا تكونت فطرته، ونطقت جبلته.
فالإنسان بفطرته لا يقنعه علم ولا ثقافة، ولا يشبع نهمته فن ولا أدب، ولا يملأ فراغ نفسه زينة أو متعة، ويظل قلق النفس، جوعان الروح، ظمآن الفطرة، وشاعراً بالفراغ والنقص، حتى يجد العقيدة في الله،فيطمئن بعد قلق، ويسكن بعد اضطراب، ويأمن بعد خوف، ويحس بأنه وجد نفسه.
يقول الفيلسوف "أجوست سياته" في كتابه "فلسفة الأديان":
"لماذا أنا متدين؟ إني لم أحرك شفتي بهذا السؤال مرة، إلا وأراني مسوقاً للإجابة عليه بهذا الجواب، وهو: أنا متدين، لأني لا أستطيع خلاف ذلك، لأن التدين لازم معنوي من لوازم ذاتي.
يقولون لي: ذلك أثر من آثار الوراثة أو التربية أو المزاج، فأقول لهم: قد اعترضت على نفسي كثيراً بهذا الاعتراض نفسه، ولكني وجدته يقهقر المسألة ولا يحلها".
ولا عجب أن وجدنا هذه العقيدة عند كل الأمم، بدائية ومتحضرة، وفي كل القارات شرقية وغربية، وفى كل العصور قديمة وحديثة، وإن كان الأكثرون قد انحرفوا بها عن الصراط المستقيم.
يقول المؤرخ الإغريقي "بلوتارك":
قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد...
ولهذا جعل القرآن الدين -بمعنى العقيدة- هو الفطرة البشرية نفسها: (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرت الله التي فطر الناس عليها).
* حاجة الإنسان إلى الصحة النفسية والقوة الروحية:
3- وثمة حاجة أخرى إلى الدين: حاجة تقتضيها حياة الإنسان وآماله فيها، وآلامه بها… حاجة الإنسان إلى ركن شديد يأوي إليه، وإلى سند متين يعتمد عليه، إذا ألمت به الشدائد، وحلت بساحته الكوارث، ففقد ما يحب، أو واجه ما يكره، أو خاب ما يرجو، أو وقع به ما يخاف، هنا تأتي العقيدة الدينية، فتمنحه القوة عند الضعف، والأمل في ساعة اليأس، والرجاء في لحظة الخوف، والصبر في البأساء والضراء، وحين البأس.
إن العقيدة في الله وفي عدله ورحمته، وفي العوض والجزاء عنده في دار الخلود، تهب الإنسان الصحة النفسية والقوة الروحية، فتشيع في كيانه البهجة، ويغمر روحه التفاؤل، وتتسع في عينه دائرة الوجود، وينظر إلى الحياة بمنظار مشرق، ويهون عليه ما يلقى وما يكابد في حياته القصيرة الفانية، ويجد من العزاء والرجاء والسكينة ما لا يقوم مقامه ولا يغنى عنه علم ولا فلسفة ولا مال ولا ولد ولا ملك المشرق والمغرب.
ورضي الله عن عمر إذ قال: "ما أصبت بمصيبة إلا كان لله علي فيها أربع نعم: أنها لم تكن في ديني… وأنها لم تكن أكبر منها… وأنني لم أحرم الرضا عند نزولها… وأنني أرجو ثواب الله عليها".
أما الذي يعيش في دنياه بغير دين، بغير إيمان، يرجع إليه في أموره كلها وبخاصة إذا ادلهمت الخطوب، وتتابعت الكروب، والتبست على الناس المسالك والدروب، يستفتيه فيفتيه، ويسأله فيجيبه، ويستعينه فيعينه، ويمنحه المدد الذي لا يغلب، والعون الذي لا ينقطع الذي يعيش بغير هذا الإيمان يعيش مضطرب النفس، متحير الفكر، مبلبل الاتجاه، ممزق الكيان، شبهه بعض فلاسفة الأخلاق بحال "راقاياك" التعس، الذي يحكون عنه أنه اغتال الملك، فكان جزاؤه أن يربط من يديه ورجليه إلى أربعة من الجياد، ثم ألهب ظهر كل منها، لتتجه مسرعة، كل واحد منها إلى جهة من الجهات الأربع، حتى مزق جسمه شر ممزق!
هذا التمزق الجسمي البشع مثل للتمزق النفسي الذي يعانيه من يحيا بغير دين، ولعل الثاني أقسى من الأول وأنكى في نظر العارفين المتعمقين، لأنه تمزق لا ينتهي أثره في لحظات، بل هو عذاب يطول مداه، ويلازم من نكب به طول الحياة.
ولهذا نرى الذين يعيشون بغير عقيدة راسخة يتعرضون أكثر من غيرهم للقلق النفسي، والتوتر العصبي، والاضطراب الذهني، وهم ينهارون بسرعة إذا صدمتهم نكبات الحياة، فإما انتحروا انتحارا سريعا، وإما عاشوا مرضى النفوس، أمواتا كالأحياء!
على نحو ما قال الشاعر العربي قديماً:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء!
إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليـــــل الرجاء!
وهذا ما يقرره علماء النفس وأطباء العلاج النفسي في العصر الحديث وهو ما سجله المفكرون والنقاد في العالم كله.
يقول المؤرخ الفيلسوف "آرنولد توينبى":
"الدين إحدى الملكات الضرورية الطبيعية البشرية، وحسبنا القول بأن افتقار المرء للدين يدفعه إلى حالة من اليأس الروحي، تضطره إلى التماس العزاء الديني على موائد لا تملك منه شيئا".
ويقول الدكتور "كارل بانج" في كتابه "الإنسان العصري يبحث عن نفسه" : "إن كل المرضى الذين استشاروني خلال الثلاثين سنة الماضية، من كل أنحاء العالم، كان سبب مرضهم هو نقص إيمانهم، وتزعزع عقائدهم ولم ينالوا الشفاء إلا بعد أن استعادوا إيمانهم".
ويقول "وليم جيمس" فيلسوف المنفعة والذرائع: "إن أعظم علاج للقلق ـ ولا شك ـ هو الإيمان".
ويقول الدكتور "بريال": "إن المرء المتدين حقا لا يعاني قط مرضا نفسيا".
ويقول "ديل كارنيجي" في كتابه "دع القلق وابدأ الحياة": "إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين، كفيلان بأن يقهرا القلق، والتوتر العصبي، وأن يشفيا من هذه الأمراض".
وقد أفاض الدكتور "هنري لنك" في كتابه "العودة إلى الإيمان" في بيان ذلك والتدليل عليه بما لمسه وجربه من وقائع وفيرة، خلال عمله في العلاج النفسي.
حاجة المجتمع إلى بواعث وضوابط أخلاقية:
4- وهناك حاجة أخرى إلى الدين:
حاجة اجتماعية، إنها حاجة إلى بواعث وضوابط:
بواعث تدفع أفراده إلى عمل الخير، وأداء الواجب وإن لم يوجد من البشر من يراقبهم، أو يكافئهم.. وضوابط تحكم علاقاتهم، وتلزم كل واحد منهم أن يقف عند حده، ولا يعتدي على حق غيره أو يفرط في خير مجتمعه، من أجل شهوات نفسه، أو منفعته المادية العاجلة.
ولا يقال: إن القوانين واللوائح كافية لإيجاد هذه الضوابط وتلك البواعث، فإن القوانين لا تخلق باعثا، ولا تكفي ضابطا، فإن الإفلات منها ممكن، والاحتيال عليها ميسور، ولهذا كان لا بد من بواعث وضوابط أخلاقية، تعمل من داخل النفس الإنسانية لا من خارجها.
لا بد من هذا الباعث الداخلي، ومن هذا: الوازع الذاتي، لا بد من الضمير، أو "الوجدان" أو "القلب" -سمه ما شئت- فهو القوة التي إذا صلحت صلح عمل الإنسان كله، وإذا فسدت فسد كله.
ولقد عرف الناس بالمشاهدة والتجربة واستقراء التاريخ، أن العقيدة الدينية لا يغنى غناءها شيء في تربية الضمير وتزكية الأخلاق، وتكوين البواعث التي تحفز على الخير، والضوابط التي تردع عن الشر، حتى قال بعض قضاة العصر في بريطانيا ـ وقد هاله ما رأى من جرائم موبقة، رغم تقدم العلم، واتساع الثقافة، ودقة القوانين: "بدون أخلاق لا يوجد قانون، وبدون إيمان لا توجد أخلاق".
ولا غرو أن اعترف بعض الملاحدة أنفسهم بأن الحياة لا تستقيم بدون دين، بدون عقيدة في الله وفي الجزاء في الآخرة، حتى قال "فولتير": "لو لم يكن الله موجودا لوجب علينا أن نخلقه"! أي نخترع للناس إلها يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويلتمسون رضاءه فيعملون الصالحات، ويتجنبون السيئات، ويقول مرة أخرى ساخرا: " لم تشككون في وجود الله، ولولاه لخانتني زوجتي، وسرقني خادمي"!!
وقال "بلوتارخ": "إن مدينة بلا أرض تقوم عليها، أسهل من قيام دولة بلا إله"!!
* حاجة المجتمع إلى التعاون والتماسك:
5- ثم إن للدين دورا كبير الأهمية في توثيق الصلة بين الناس بعضهم وبعض، باعتبارهم جميعا عبيدا لرب واحد خلقهم، وأبناء لأب واحد نسلهم، فضلا عما ينشئه الدين بينهم من أخوة العقيدة، وآصرة الإيمان.
(إنما المؤمنون إخوة) وما تحدثه هذه الأخوة الدينية من آثار في الأنفس والحياة، حتى نجد أحدهم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل يؤثر أخاه على نفسه، ولو كان به خصاصة.
يقول شيخنا الدكتور محمد عبد الله دراز، في كتابه القيم (الدين):
لا حاجة بنا إلى التنبيه على أن الحياة في الجماعة لا قيام لها إلا بـ "التعاون" بين أعضائها، وأن هذا التعاون إنما يتم "بقانون" ينظم علاقاته، ويحدد حقوقه وواجباته، وأن هذا القانون لا غنى له عن "سلطان" نازع وازع، يكفل مهابته في النفوس ويمنع انتهاك حرماته.
تلك كلها مبادئ مقررة، والحديث فيها معاد مملول.
وإنما الشأن كل الشأن في هذا السلطان النازع الوازع: ما هو؟
فالذي نريد أن نثبته في هذه الحلقة من البحث هو أنه ليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام القانون، وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه.
السر في ذلك أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولى قيادتها شيء لا يقع سمعه ولا بصره، ولا يوضع في يده ولا عنقه، ولا يجري في دمه، لا يسري في عضلاته وأعصابه، وإنما هو معنى إنساني روحاني، اسمه الفكرة والعقيدة، فالإنسان أبدا أسير هذه الفكرة والعقيدة.
ولقد ضل قوم قلبوا هذا الوضع وحسبوا أن الفكر والضمير لا يؤثران في الحياة المادية والاقتصادية، بل يتأثران بها، هذا الرأي الماركسي هو قبل كل شيء نزول بالإنسان عن عرش كرامته، ورجوع به القهقرى إلى مستوى البهيمية، ثم هو تصوير مقلوب للحقائق الثابتة المشاهدة في سلوك الأفراد والجماعات في كل عصر؛ فلكي يختار الناس أن يحيوا حياة مادية لا نصيب فيها للقلب ولا للروح، لا بد أن يقنعوا أنفسهم بادئ ذي بدء بأن سعادتهم هي في هذا النوع من الحياة.
فالإنسان مقود أبداً بفكرة: صحيحة أو فاسدة، فإذا صلحت عقيدته صلح فيه كل شيء؟ وإن فسدت فسد كل شيء.
أجل إن الإنسان يساق من باطنه لا من ظاهره، وليست قوانين الجماعات ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لإقامة مدينة فاضلة تحترم فيها الحقوق، وتؤدى الواجبات على وجهها الكامل، فإذا الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط أو السجن أو العقوبة المالية، لا يلبث أن يهمله متى اطمأن إلى سيفلت من طائلة القانون.
ومن الخطأ البين أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانا للسلام والرخاء، وعوضا عن التربية والتهذيب الديني والخلقي؟ ذلك أن العلم سلاح ذو حدين: يصلح للهدم والتدمير، كما يصلح للبناء والتعمير، ولا بد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي يوجهه لخير الإنسانية وعمارة الأرض، لا إلى نشر الشر والفساد.
ذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان.
كلام الإمام محمد عبده:
وقد بين الأستاذ الإمام محمد عبده في كتابه الفريد "رسالة التوحيد" وجوه حاجة البشر إلى النبوة والرسالة الإلهية، وأنها للنوع الإنساني بمثابة العقل للفرد الإنساني، وأن البشر لا يستغنون عن هداية الله لهم بحال، لهذا أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)، ولقد أكد هذا في تفسيره لسورة الفاتحة وبيان حاجة الناس إلى هدى الله سبحانه عند آية: (اهدنا الصراط المستقيم) كما نقله صاحب المنار رحمهما الله جميعا.
وعاد إلى ذلك في تفسير قوله تعالى من سورة النساء عقب بيان أحكام المواريث: (تلك حدود الله، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها…).
فقال رحمه الله:
"طاعة الرسول هي طاعة الله بعينها لأنه إنما يأمرنا بما يوحيه إليه الله من مصالحا التي فيها سعادتنا في الدنيا والآخرة، وإنما يذكر طاعة الرسول مع طاعة الله لأن من الناس من كانوا يعتقدون قبل اليهودية وبعدها، وكذلك بعد الإسلام إلى اليوم: أن الإنسان يمكن أن يتغنى بعقله وعلمه عن الوحي، يقول أحدهم: إنني أعتقد أن للعالم صانعا عليما حكيما، وأعمل بعد ذلك بما يصل إليه عقلي من الخير واجتناب الشر. وهذا خطأ من الإنسان، ولو صح ذلك لما كان في حاجة إلى الرسل، وقد تقدم في تفسير سورة الفاتحة: أن الإنسان محتاج بطبيعته النوعية إلى هداية الدين، وأنها هي الهداية الرابعة التي وهبها الله للإنسان بعد هداية الحواس والوجدان والعقل، فلم يكن العقل في عصر من عصوره كافيا لهداية أمة من أممه ومرقيا له بدون معونة الدين.
اعتراض من الملحدين وجوابه:
وقد عقب العلامة السيد رشيد رضا في تفسير المنار على كلام الشيخ عبده بإيراد اعتراض من المرتابين والملاحدة وأجاب عنه إجابة مطولة.
فقال رحمه الله:
"يرد على هذا من جانب المرتابين والملاحدة: إننا نرى كثيراً من أفراد الناس لا يدينون بدين، وهم في درجة عالية من الأفكار والآداب، وحسن الأعمال التي تنفعهم وتنفع الناس، حتى أن العاقل المجرد عن التعصب الديني يتمنى لو كان الناس كلهم مثله، بل يسعى كثير من الفلاسفة لجعل الأمم مثل هؤلاء الأفراد في آدابهم وارتقائهم".
وأجيب عن هذا (أولا):
بأن الكلام في هداية الجماعات من البشر، كالشعوب والقبائل والأمم الذين يتحقق بارتقائهم معنى الإنسانية في الحياة الاجتماعية، سواء كانت بل بدوية أو مدنية، وقد علمنا التاريخ أنه لم تقم مدنية في الأرض من المدنيات التي وعاها وعرفها إلا على أساس الدين، حتى مدنيات الأمم الوثنية كقدماء المصريين والكلدانيين واليونانيين، وعلمنا القرآن أنه ما من أمة إلا وقد خلا فيها نذير مرسل من الله عز وجل لهدايتها.
فنحن بهذا نرى أن تلك الديانات الوثنية كان لها أصل إلهي، ثم سرت الوثنية إلى أهلها حتى غلبت على أصلها، كما سرت إلى من بعدهم من أهل الديانات، التي بقي أصلها كله أو بعضه على سبيل القطع، أو على سبيل الظن.
وليس للبشر ديانة يحفظ التاريخ أصلها حفظاً تاماً إلا الديانة الإسلامية، وهو مع ذلك قد دون في أسفاره كيفية سريان الوثنية الجلية أو الخفية إلى كثير من المنتسبين إليها كالنصيرية، وسائر الباطنية وغيرهم، ممن غلب عليهم التأويل أو الجهل، حتى إنه يوجد في هذا العصر من المنتمين إلى الإسلام من لا يعرفون من أحكامه الظاهرة غير قليل مما يخالفون به جيرانهم، كجواز أكل لحم البقر في الأطراف الشاسعة من الهند! وكيفية الزواج ودفن الموتى في بعض بلاد روسيا وغيرها!! فمن علم هذا لا يستبعد تحول الديانات الإلهية القديمة إلى الوثنية.
فاتباع الرسل وهداية الدين أساس كل مدنية، لأن الارتقاء المعنوي هو الذي يبعث على الارتقاء المادي.
وها نحن أولاء نقرأ من كلام شيخ الفلاسفة الاجتماعيين في هذا العصر "هربرت سبنسر" أن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها مستندة كلها إلى الدين، وقائمة على أساسه، وإن بعض العلماء يحاولون تحويلها عن أساس الدين وباءها على أساس العلم والعقل، وأن الأمم إلى يجرى فيها هذا التحويل، لا بد أن تقع في طور التحويل في فوضى أدبية، لا تعرف عاتبها ولا يحدد ضررها.
هذا معنى كلامه في بعض كتبه، وقد قال هو للأستاذ الإمام في حديث له معه " إن الفضيلة قد اعتلت في الأمة الإنجليزية في هذه السنين الأخيرة، من حيث قوى فيها الطمع المادي.
ونحن نعلم أن الأمة الإنجليزية من أشد أمم أوروبا تمسكاً بالدين، مع كون مدنيتها أثبت، وتقدمها أعم، لأن الدين قوام المدنية بما فيه من روح الفضائل والآداب، على أن المدنية الأوروبية بعيدة عن روح الديانة المسيحية، وهو الزهد في المال والسلطان وزينة الدنيا، فلولا غلبة بعض آداب الإنجيل على تلك الأمم لأسرفوا في مدنيتهم المادية إسرافا غير مقترن بشيء من البر وعمل الخير، وإذا لبادت مدنيتهم سريعاً.
ومن يقل: إنه سيكون أبعدها عن الدين أقربها إلى السقوط والهلاك لا يكون مفتاتا في الحكم، ولا بعيدا عن قواعد علم الاجتماع فيه.
فحاصل هذا الجواب الأول عن ذلك الإيراد:
أن وجود أفراد من الفضلاء غير المتدينين لا ينقض ما قاله الأستاذ الإمام من كون الدين هو الهداية الرابعة لنوع الإنسان التي تسوقه إلى كماله المدني في الدنيا، كما تسرقه إلى سعادة الآخرة.
وثانيا:
إنه لا يمكن الجزم بأن فلاناً الملحد الذي تراه عالي الأفكار والآداب قد نشأ على الإلحاد وتربى عليه من صغره، حتى يُقال: إنه قد استغنى في ذلك عن الدين، لأننا لا نعرف أمة من الأمم تربي أولادها على الإلحاد، وإننا نعرف بعض هؤلاء الملحدين الذين يعدون في مقدمة المرتقين بين قومهم، ونعلم أنهم كانوا في نشأتهم الأولى من أشد الناس تديناً واتباعاً لآداب دينهم وفضائله، ثم طرأ عليهم الإلحاد في الكبر، بعد الخوض في الفلسفة التي تناقض بعض أصول ذلك الدين الذي نشأوا عليه، والفلسفة قد تغير بعض عقائد الإنسان، وآرائه، ولكن لا يوجد فيها ما يقبح له الفضائل والآداب الدينية، أو يذهب بملكاته وأخلاقه الراسخة كلها، وإنما يسطو الإلحاد على بعض آداب الدين كالقناعة بالمال الحلال، فيزين لصاحبه أن يستكثر من المال ولو من الحرام، كأكل حقوق الناس والقمار بشرط أن يتقي ما يجعله حقيراً بين من يعيش معهم، أو يلقيه في السجن، وكالعفة في الشهوات، فيبيح له وآدابه، وأما غير الراقين منهم فهم الذين لا يصدهم عن الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل إلا القوة القاهرة.
ولولا أن دول أوروبا قد نظمت فرق المحافظين على الحقوق من الشحنة والشرطة (البوليس والضابطة) أتم تنظيم، وجعلت الجيوش المنظمة عونا لهم عند الحاجة، لما حفظ لأحد عندها عرض ولا مال، ولعمت بلادها الفوضى والاختلال، ولقد كانت الحقوق والأعراض محفوظة في الأمم من غير وجود هذه القوى المنظمة أيام كان الدين مرعيا في الآداب والأحكام فتبين بهذا أن طاعة الله ورسله لا بد منها لسعادة الدنيا".
يتبع إن شاء الله...