على مدار أشهر قليلة، وبعد إعلان تحول حركة النهضة إلى حزب، سارت الأحداث في تونس كالآتي:
1. بدأ حزب النهضة يشتد عوده، وخرج الإسلاميون من صمتهم أو مخابئهم التي وضعهم النظام فيها، وكونوا تياراً قوياً في الشارع التونسي، له القدرة في التصدي للقيادات الثورية، ولأجهزة الأمن ذاتها، ومن ثم فقد ازدادت القلاقل في تونس، حتى إن منتصف عام 2011 شهد صراعاً قوياً، تمكن فيه حزب النهضة من السيطرة على الأوضاع الداخلية.
2. في مواجهة ذلك صعد الاتحاد العام للشغل من نفوذه، وحاول أن يكون نداً قوياً لحزب النهضة.
3. تكونت جبهات معارضة من الأحزاب الليبرالية، عملت فرادى أولاً، ثم حاولت أن تتحد وتكون جبهات معارضة قوية.
4. مع الصراعات الداخلية، بدأت الأيدي الخفية تلعب لتحقيق أهدافها، حيث أصبح الجنوب والغرب التونسي مناطق غير مسيطر عليها من النظام، وتكونت جبهة من السلفية الجهادية حركة أنصار الشريعة، للسيطرة على هذه المناطق لتشكل عبئاَ أمنياَ على الحكومة في تونس، خاصة مع إرسالها أعضاءها للقيام بعمليات اغتيال في العاصمة نفسها.
حيث تتهم بأنها وراء اغتيال الناشطين اليساريين "شكري بلعيد" ، و"محمد البراهيمي".
في الوقت نفسه، فإن المعارضة تتهم حزب النهضة بدعمه لهذا التيار السلفي، واتخاذه وسيلة لتحقيق أهدافها ضد المعارضة.
ثالثاً: صعود حزب النهضة لحكم البلاد:
مع توجه تونس إلى بناء نظام ديموقراطي، يأتي من خلال انتخابات تشريعية، فقد عمل حزب النهضة (الإسلامي) على بناء تحالف ثلاثي (ترويكا)، مع أحزاب غير إسلامية، حتى يُبعد عن نفسه شبه الحكم الاسلامي، ويحصل على أكبر أصوات انتخابية، وقد تكونت هذه الترويكا بقيادته ومشاركة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وهو تيار يساري وسطي، وحزب التكتل الديموقراطي من أجل العمل والحريات وهو حزب من الاشتراكيين الديموقراطيين.
خاضت الترويكا الانتخابات التشريعية، التي أجريت في 23 أكتوبر 2011، وشابها بعض القصور نتيجة تسجيل الناخبين على عجل، وفاز حزب النهضة بأغلبية كبيرة، تلاه حليفه في الترويكا حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، لذلك توزعت المناصب بينهما، حيث تقلد "المنصف المرزوقي" (زعيم المؤتمر من أجل الجمهورية) منصب الرئاسة، بينما انفرد حزب النهضة بتشكيل الحكومة برئاسة "علي العريض".
من خلال البرلمان، الذي يبلغ عدد أعضائه 217 عضواً، جرى انتخاب اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، والتي تتكون من 144 عضواً، أغلبها من حزب النهضة (89 عضواً)، يليه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (29 عضواً)، ثم باقي القوائم (29 عضواً).
1. أداء حزب النهضة في حكم تونس:
في ظل النظام العالمي الجديد وثورة الاتصالات والمعلومات، فإن الشعوب تتفاعل بشدة مع ما يحدث من حولها، وربما كان أثر الثورة المصرية وتحولاتها الحادة، وكذلك الانفتاح الإعلامي على تونس، له أثر كبير في مسار الأحداث بعد تولي حزب النهضة أمور حكم البلاد.
إن حزب النهضة ليس له تجارب في الحكم، كذلك فإن كوادره ليست لها الخبرة الكافية في إدارة دولة مثل تونس، لذلك استمرت القلاقل والاحتجاجات، واستمر استخدام الأمن في التصدي للاحتجاجات والتظاهرات، كما كان عليه في النظام السابق، وشعر أصحاب الثورة في تونس أن ثورتهم ضاعت من بين أيديهم.
2. صدام الاتحاد العام للشغل مع النظام (أحداث ديسمبر 2012):
كما هي العادة في بناء تنظيمات الإخوان المسلمين (ومنها النهضة)، فإن التنظيم الخاص يجري تكوينه وتسليحه وتدريبه لتحقيق الأهداف العليا للإخوان، ويستخدم عندما لا يراد الزّجّ بالأمن في مواقف محددة، وهذا ما حدث في 4 ديسمبر 2012، عندما كان الاتحاد يحتفل بذكرى أحد شهدائه، وقام أعضاء تنظيم حزب النهضة، الذين يطلق عليهم (رابطة حماية الثورة)، بالعدوان عليهم.
أعلن الاتحاد عن تنظيم إضراباً عاما في أرجاء تونس كافة، يوم 13 ديسمبر، ودعا كل الاحزاب والنقابات والشعب للمشاركة فيه، وقد نجح هذا الإضراب، وأصدرت رئاسة المجلس الوطني التأسيسي والمنظمات العالمية عدة بيانات عبروا من خلالها عن دعمهم للاتحاد، وتأكيدهم لضرورة حل رابطات حماية الثورة.
كان نجاح هذا الإضراب دافعاً لصعود الاتحاد العام للشغل لمرتبة متقدمة في معارضة للنظام القائم، والذي رأى فيه التونسيون نسخة طبق الأصل من النظام السابق، وبالتالي تصاعدت كراهية الشعب لنظام حكم النهضة.
رابعاً: أثر الثورة المصرية (30 يونيه 2013) على مسار الثورة التونسية:
كما كان للثورة التونسية، في 17 ديسمبر 2010، أثراً بارزاً على اندلاع ثورة 25 يناير 2011 في مصر، فإن ثورة 30 يونيه 2013 في مصر، قد حولت مسار الثورة التونسيه في مجالين محددين.
الأول:
يختص بالشعب التونسي ذاته، حيث تفتحت الآمال لديه وأيقن أن المقاومة وعدم الخضوع للنظام القائم، يمكن أن يحقق له آماله في تصحيح مسار الثورة التي ضلت طريقها إلى التيار الاسلامي.
الثاني:
يختص بالنظام نفسه، حيث تكونت لديه العديد من الحقائق التي يجب أن يراعيها، حتى لا يحدث له كما حدث لحكم الأخوان المسلمين في مصر.
وهذه الحقائق هي:
1. تقديم بعض التنازلات إظهاراً منه للاستجابة لمطالب الشعب، وأنه يعمل من أجل بناء تونس الجديدة، وليس للتمسك بالحكم.
وفي هذا المجال استجاب، في الأول من أكتوبر 2013، لمطالب خارطة الطريق التي وضعتها ائتلافات الأحزاب التونسية، وذلك بعد شهرين من الحوارات والشد والجذب، وهي تنص على بدء حوار وطني يرأسه المسؤولون الثلاثة الكبار في تونس، "المنصف المرزوقي" رئيس الجمهورية ـ "علي العريض" رئيس الحكومة
"مصطفي بن جعفر" رئيس المجلس التأسيسي، وبحضور ممثلي الأحزاب السياسية الممثلة في المجلس التأسيسي للبرلمان، وممثل الاتحاد العام للتشكيل.
يشمل الحوار أربعة موضوعات، هي:
أ. قبول تشكيل حكومة كفاءات ترأسها شخصية مستقلة، ولا يترشح أعضاؤها في الانتخابات المقبلة، وهذه الحكومة ستحل محل الحكومة الحالية برئاسة "علي العريض"، التي تتعهد بتقديم استقالتها فور البدء في الحوار المباشر بين الحكومة والمعارضة.
ب. استئناف المجلس التأسيسي (البرلمان) جلساته العامة، التي توقفت منذ اغتيال "محمد البراهيمي"، في 25 يوليه 2013، ويجري تحديد مهام المجلس التأسيسي والاتفاق النهائي على نهاية مدته، خاصة أنه مسؤول عن وضع دستور البلاد.
ج. بدء المشاورات حول الشخصية الوطنية المستقلة، التي سيُعهد اليها مهمة تشكيل الحكومة.
د. الاتفاق على خارطة محددة بشأن استكمال المسار الانتقالي، والاستعداد للانتخابات القادمة، وإصدار قوانين بها.
تحدد توقيت بدء الحوار واستقالة الحكومة في غضون ثلاثة أسابيع، وفي الوقت نفسه أعلن الاتحاد العام للشغل إنفاذ إجراءات، في 23 أكتوبر، فيما لو لم تجتمع لجنة الحوار.
وفي محاولة لتفويت فرصة الإضرابات، وتحديد فترة بقاء الحكومة، أعلن رئيس الوزراء "علي العريض"، في 20 أكتوبر، عقد اللجنة بعد ثلاثة أسابيع، والاستعداد للانتخابات القادمة، مؤكداً على أن فرصة التيار الإسلامي كبيرة جداً في الفوز في الانتخابات القادمة، التي ستتم بصورة ديموقراطية كاملة.
2. الحقيقة الثانية التي أفرزتها الثورة المصرية، هي شن الحرب على الإرهاب، الذي تنفذه الجماعات السلفية المتشددة.
وهو إجراء يحمل عدة رسائل للشعب:
أ. أن النظام لا يتحالف مع هذه التيارات التي تستمد دعمها من تنظيم القاعدة.
ب. الادعاء بأن النظام يعمل على تحقيق الأمن في ربوع البلاد.
ج. نهج تجربة مصر في محاربة الإرهاب.
د. الظهور أمام العالم بأن النظام يعمل من أجل بناء تونس الدولة المدنية الحديثة.
3. الدفاع عن صيغة الحكم الاسلامي الديموقراطي، ومن خلال ذلك هاجم "المنصف المرزوقي" رئيس تونس، ثورة 30 يونيه في مصر، موصلاً إلى الشعب التونسي أنها انقلاب عسكري مرفوض أن يتكرر في تونس.
4. أظهر استطلاع للرأي، في نهاية سبتمبر 2013، حول المرشحين للانتخابات الرئاسية القادمة في تونس، أن "الباجي قائد السبسي" رئيس حركة ثوار تونس
(ائتلاف يجمع بين اليساريين والليبراليين) يمثل المرتبة الأولى في التصويت لانتخابات الرئاسة بنسبة 15,2%، وجاء "قيس سعيد" الخبير في القانون الدستوري في المرتبة الثانية، بنسبة 4,7%، وتراجع "حمادي الجبالي" (رئيس حكومة سابق)
إلى المرتبة الثالثة، بنسبة 3,9%، وجاء "المنصف المرزوقي" في المؤخرة بنسبة 3,5%، وهو مؤشر هام يوضح صورة حكم ترويكا النهضة لتونس.
خامساً: بداية الثورة الثانية في تونس:
أعلن الاتحاد العام للشغل يوم 23 أكتوبر يوماً فارقاً، إن لم تستجب الحكومة للاستقالة، طبقاً للوعود السابقة التي أعلنتها، في 2 أكتوبر.
في الوقت نفسه أعلنت الحكومة بدء الحوار في هذا اليوم، وأنها لن تُقدم استقالتها إلا بعد وضع الدستور، وتكوين لجنة الانتخابات التي ستقوم بالعملية الانتخابية.
وهو ما أدى إلى احتدام الشارع التونسي كالآتي:
1. أعلن الاتحاد العام للشغل وأحزاب المعارضة تعليق عضويتها في لجنة الحوار، وأعلنت عدم عودتها إلا بعد إعلان صريح عن استقالة الحكومة واستبدالها بحكومة كفاءات وطنيه تدير البلاد في خلال ثلاثة أسابيع.
2. أعلن الثوار في تونس بداية الثورة الثانية لاسترداد الثورة التونسية، وإقصاء حزب النهضة عن الحكم.
3. بدأت التظاهرات تشتعل في العديد من مدن تونس، وفي مقدمتها تونس العاصمة، حيث تجمعت التظاهرات في شارع بورقيبة.
4. احتدمت الصدامات بين عناصر الأمن والجماعات الإسلامية السلفية الجهادية، ونتج عنها مقتل ثمانية أفراد من الأمن في ولاية سيدي بوزيد.
5. تعالت صيحات المتظاهرين في العاصمة تونس بعبارات تدل على إمكان تكرار سيناريو الثورة المصرية، في 30 يونيه، وتقول "يا مرزوقي سيب القصر.
ثورة تونس لحقت ثورة مصر"، مع تكرار شعار "ارحل".
6. حتى لا يزداد تصاعد الثورة، قبلت الحكومة إجراء الحوار، بشرط عودة الأعضاء المستقلين من اللجنة التأسيسية، وتعهد رئيس الحكومة كتابياً بالاستقالة في ظرف ثلاثة أسابيع.
7. استمر الحوار على مدى أسبوعين، ثم اصطنع حزب النهضة العديد من المشكلات، حتى لا يستمر الحوار، والذي توقف وانسحب أعضاء المجلس التأسيسي من المستقلين، وتجددت الاضطرابات في تونس.
8. في 4 ديسمبر 2013، وبعد فشل اللجنة الرباعية من تسمية رئيس الوزراء الجديد، وجه اتحاد الشغل إنذاراً نهائياً للأحزاب والمجلس التأسيسي مدته عشرة أيام للعمل على إنقاذ البلاد، وإلا سوف يتولى الاتحاد والقوى الليبرالية المسؤولية.
ومع مضي الوقت، فإن هناك متغيرات كثيرة ستحدث، ليس على مستوى تونس فقط، ولكن على مستوى دول الربيع العربي بالكامل، وربما تتعداه إلى المستوى الإقليمي أيضاً.