اليوم العالمي لليتيم
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أولى القرآن الكريم عناية فائقة بأمر اليتيم وشأن اليتيم، اهتم القرآن بتربية اليتيم وبأمره من الناحية النفسية ومن الناحية المادية على السواء مراعاة لظروف اليتيم النفسية بعد فقد أبيه، فقد يحس بشيء من الذل أو القهر أو الانكسار، وراعى القرآن هذه الحالة النفسية مراعاة دقيقة؛ لأن الذي يُشَرّعُ هو الذي خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
مكانة اليتيم في القرآن:
ستعجبون -أيها الاخوه والاخوات- إذا علمتم أن اهتمام القرآن بأمر اليتيم كان منذ الفترة الأولى لتنزل الوحي على قلب الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي نشأ يتيماً، فكان يُتمهُ تشريفاً لكل يتيم.
منذ الفترة الأولى اهتم القرآن بأمر اليتيم، بل امتن اللهُ جل وعلا بذلك على حبيبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي ولد يتيماً ونشأ يتيماً، فكان يُتمهُ كما ذكرت تشريفاً وتكريماً لكل مسلم يتيم، قال اللهُ تعالى ممتناً على حبيبه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 6-8].
أي: لقد كنت يتيماً يا محمد -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فآواك الله وأيدك وأحاطك بعنايته ورعايته وحفظه وفضله، وكنت فقيراً فأغنى الله نفسك بالقناعة والرضا، ثم أفاض عليك بعد ذلك بالمال الوفير الحلال الطيب، وكنت شارداً تائهاً تبحث عن الحق في شعاب مكة وربوعها، في بيئة جاحدة، وبين نفوس شاردة، وفي هاجرة قاتلة محرقة، فهداك الله جل وعلا للحق، وطمأن قلبك، وشرح صدرك، ورفع ذكرك، ووضع وزرك، ومنَّ الله جل وعلا عليك بكل هذه الأفضال والنعم.
ومن ثمَّ جاء هذا التوجيه الرباني الكريم:
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 9-11].
بل تعجبون إذا علمتم أن اللهَ جل وعلا قد أمر بالإحسان إلى اليتيم، ولم يكن هذا الأمر خاصاً بأمة الحبيب فحسب، بل لقد أمر اللهُ بذلك الأمم من قبل أمة النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد أخذ اللهُ هذا الأمر ميثاقاً جامعاً من بين المواثيق الجامعة التي أخذها على بني إسرائيل، فقال جل وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83].
ومن هذا المنطلق الكريم بالاهتمام بأمر اليتيم، أمر اللهُ جل وعلا ولي اليتيم والوصي على ماله بالمحافظة على هذا المال محافظة تامةً كاملة.
وأمر اللهُ ولي اليتيم بعدم تبديد أمواله، أو تبديلها بالخبيث من الأموال، أو المتاجرة بها فيما حرم اللهُ جل وعلا، وأمر اللهُ جل وعلا ولي اليتيم أيضاً بألا يُسرف بالإنفاق من أموال اليتامى، وبألا يُسرع في تبديدها قبل أن يكبر أصحابها اليتامى ليأخذوا حقهم.
وأمر اللهُ ولي اليتيم أيضاً بأنه إذا ما أحس النُضج والرُّشد عند هؤلاء اليتامى، ورأى أنهم أصبحوا قادرين على تصريف شئونهم، وتدبير أحوالهم، والمحافظة على أموالهم، أمره اللهُ أن يسارع برد هذه الأموال كاملة وافرة غير منقوصة.
وإن كان هذا الولي غنياً فليستعفف عن الأكل من أموال اليتامى، وإن كان فقيراً فله أن يأكل من هذه الأموال مع اليتامى بالمعروف من غير سرفٍ ولا تبذير، وفي أضيق نطاق، وأقل الحدود.
ثم أمر الله وصي اليتيم بعد ذلك إذا ما كبر اليتامى أن يدفع إليهم أموالهم، وأن يُشهد على ذلك تبرئة للذمة، ودرءاً للشبهة.
وإليكم هذه الآيات الكريمة التي تؤكد هذه المعاني التي ذكرتها آنفاً:
يقول اللهُ جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]،
وقال الله عز وجل في سورة النساء: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]، أمر للوجوب؛ إذ لم تأت قرينة تصرف هذه الأوامر من الوجوب إلى الندب: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2]، أي: إثماً وذنباً عظيماً، وقال عز وجل في سورة النساء أيضاً: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء: 6].
قالت الشافعية والمالكية: إن الأمر بالإشهاد للوجوب أيضاً إلا أن الحنفية قالوا: إنه للندب وليس للوجوب، ولكن ظاهر الآيات يدل على أن الأمر بالإشهاد عند دفع المال للوجوب كذلك {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء: 6].
ويا لها والله من خاتمة جليلة تفزع القلوب الحية! ألا وهي قوله تعالى:
{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء: 6]، فهو الحسيب والرقيب والشهيد على أحوالكم وأقوالكم وأعمالكم، وهو الذي يعلم منكم السر وأخفى، وهو الذي سيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم في يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وصدق الله إذ يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
وتأتي هذه الآية الجليلة -أيها الاخوه والاخوات- التي تقرن أمر الإحسان إلى اليتيم بأمر عبادة الله وحده لا شريك له، ويا لها من مكانةٍ عظيمة لليتامى! قال الله جل وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36].
إنه تكريم وتشريف أن يقرن الأمر بالإحسان إلى اليتامى بالأمر بعبادة الله جل وعلا وحده لا شريك له.
ومع أن كل هذه الآيات تشمل أمر اليتيم واليتيمة -أي: الذكر والأنثى- إلا أن ربنا جل وتعالى قد خص اليتيمة بآيتين للتأكيد على حقها، ولزيادة التوضيح والبيان؛ فقال ربنا جل وعلا في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وقال عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127].
ورد في صحيح مسلم أن عروة بن الزبير سأل خالته عائشة رضي الله عنها عن الآية الأولى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] قالت: [يا بن أخي: هي اليتيمة في حجر وليها، فيرغب وليها في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا إليهن في صداقهن، وأُمروا بنكاح سواهن مثنى وثلاث ورباع] أي: أن الله جل وعلا يأمر ولي اليتيمة إن رغب في الزواج منها فقد أوجب الله عليه أن يُكمل لها الصداق، وأن لا ينتقص حقاً من حقوقها، قال عروة: [قالت عائشة: إلا أن الناس قد استفتوا رسول الله بعد ذلك فأنزل الله جل وعلا: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127]] هذه هي مكانة اليتيم واليتيمة -أيها الأخوة والأخوات- في القرآن، والآيات كثيرة جداً لا أستطيع أن أقف معها كلها، وأكتفي بهذا القدر لأعرج على مكانة اليتيم في سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مكانة اليتيم في السُّنَّةِ النَّبويَّة:
لقد كرم النبي صلى الله عليه وسلم الذي نشأ يتيماً اليتامى على الأرض من المسلمين تكريماً عجيباً، ووالله لو لم يأت في السنة إلا هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة لكفى، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) أسمعت يا عبد الله؟
يقول حبيبك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار النبي بالسبابة والوسطى) الله أكبر! أي فضلٍ وأي شرفٍ، ولفظ رواية مسلم: قال صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره -أي إذا كان اليتيم من قرابته أو كان اليتيم أجنبياً عنه لا يعرفه- معي في الجنة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى) أي فضلٍ وأي شرفٍ لمن يكفل اليتيم أن يكون مُرافقاً في الجنة للنبي صلى الله عليه وسلم.
نقل الحافظ ابن حجر في الفتح مقولة عن ابن بطال إذ يقول: حق على كل مَن سمع بهذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة فهي أفضل منزلة في الآخرة.
مَن منا لا يريد أن يُرافق الحبيب في الجنة؟ بل لقد ورد في الحديث الذي رواه أبو يعلى وقال الحافظ ابن حجر في كتاب الأدب معلقاً على هذا الحديث الذي استشهد به: وإسناده لا بأس به من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول مَن يفتح باب الجنة، فأرى امرأة تبادرني -أي تسرع خلفي لتدخل معي إلى الجنة- فأقول لها: مالكِ؟ مَن أنتِ؟ فتقول المرأة: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) امرأة جلست تُربي أيتامها بعد موت زوجها تُسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدخل معه الجنة.
قال الحافظ ابن حجر: وقد يشتمل هذا الحديث على الأمرين، أي: على أمر السرعة والمنـزلة معاً، تُسرع لتكون مع رسول الله ولتكون في منـزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، يقول لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (مالكِ؟ مَن أنتِ؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي)، جلست على أيتام لها لتربيهم تربية طيبة بالحلال الطيب، بعيداً عن أجواء المعصية العفنة عياذاً بالله جل وعلا.
وفي الحديث الذي رواه النسائي بسندٍ جيد من حديث أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللهم إني أحرج -والحرج هو: الإثم الشديد والذنب العظيم- اللهم إني أحرج على حق الضعيفين اليتيم والمرأة).
وأختم بهذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمسكين -والأرملة هي التي مات زوجها وترك لها أولاده- كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل).
أسمعت يا عبد الله إلى هذا الفيض وإلى هذه النعم؟! (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل) أي فضلٍ هذا؟! والله الذي لا إله غيره إنَّ مَن تخلى عن هذا الفضل لمحروم في الدنيا والآخرة.
الساعي على مَن مات عنها زوجها وترك لها أفراخها الصغار أجرهُ عند العزيز الغفار كأجر المجاهد في سبيل الله الذي حمل نفسه وروحه على أسنة السيوف والرماح وطلب الشهادة من الله جل وعلا، أو كالذي يُتعب نفسه ويصوم النهار ويقوم الليل لله العزيز الغفار جل وعلا.
منقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــول