كتـــــاب لا تحـــــــــــزن 24
كفى باللهِ وكيلاً وشهيداً
ذكر البخاريُّ في صحيحهِ:
أن رجلاً من بني إسرائيل طلب من رجلٍ أن يُقرضه ألف دينارٍ، قال: هل لك شاهدٌ؟ قال: ما معي شاهدٌ إلا اللهُ.
قال: كفى بالله شهيداً.
قال: هل معك وكيلٌ ؟ قال: ما معي وكيل إلا اللهُ.
قال: كفى بالله وكيلاً.
ثم أعطاه ألف دينار، وذهب الرجل وكان بينهما موعدٌ وأجلٌ مسمَّى، وبينهما نهرٌ في تلك الديارِ، فلما حان الموعدُ أتى صاحبُ الدنانيرِ ليعيدها لصاحبِها الأولِ، فوقف على شاطئ النهرِ، يريدُ قارباً يركبُه إليه ، فما وجد شيئاً، وأتى الليلُ وبقي وقتاً طويلاً، فلم يجدْ من يحملُه، فقال: اللهمَّ إنه سألني شهيداً فما وجدتُ إلا أنت، وسألني كفيلاً فما وجدتُ إلا أنت، اللهمّ بلِّغْه هذه الرسالة.
ثم أخذ خشبةً فنقرها وأدخل الدنانير فيها ، وكتب فيها رسالةً ، ثم أخذ الخشبة ورماها في النهرِ ، فذهبتْ بإذنِ الله ، وبلطفِ اللهِ ، وبعنايةِ اللهِ سبحانه وتعالى ، وخرج ذاك الرجلُ صاحبُ الدنانير الأولُ ينتظرُ موعد صاحبهِ ، فوقف على شاطئ النهرِ وانتظر فما وجد أحداً ، فقال: لِم لا آخذ حطباً لأهل بيتي ؟!
فعرضتْ له الخشبةُ بالدنانير ، فأخذها وذهب بها إلى بيتِه ، فكسرها فوجد الدنانير والرسالة .
لأنَّ الشهيد سبحانه وتعالى أعان ، ولأن الوكيل أدَّى الوكالة ، فتعالى اللهُ في عُلاهُ .
﴿ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ .
﴿ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ .
******************************
وقفــــةٌ
قال لبيدُ:
فاكذبِ النفس إذا حدَّثْتها
إنَّ صِدْق النفسِ يُزْرِي بالأملْ
وقال البستيُّ:
أفِدْ طبعك المكدود بالهمِّ راحةً
تجمَّ وعلِّلْهُ بشيءٍ من المزْحِ
ولكنْ إذا أعطيته ذاك فليكنْ
بمقدارِ ما يُعطى الطعامُ مِن الملحِ
وقال أبو علي بن الشبل:
بحفظِ الجسمِ تبقى النفسُ فيهٍ
بقاء النارِ تُحفظُ بالوعاءِ
فباليأسِ المُمِضِّ فلا تُمِتْها
ولا تمددْ لها طول الرجاءِ
وعِدْها في شدائدها رخاءً
وذكِّرْها الشدائد في الرخاءِ
يُعدُّ صلاحُها هذا وهذا
وبالتركيبِ مَنْفَعَةُ الدواءِ
*******************
أطِبْ مطعمك تكنْ مستجاب الدعوةِ
كان سعدُ بنُ أبي وقَّاص يدركُ هذه الحقيقة ، وهو أحدُ العشرةِ المبشرين بالجنةِ ، وقد دعا له -صلى الله عليه وسلم- بسدادِ الرمي وإجابةِ الدعوةِ ، فكان إذا دعا أُجيبْت دعوتُه كَفَلقِ الصبحِ .
أرسل عمرُ –رضي اللهُ عنه– أناساً من الصحابة يسألون عن عدْلِ سعدٍ في الكوفةِ ، فأثنى الناسُ عليه خيْراً ، ولما أتْوا في مسجدِ حيٍّ لبني عبْسٍ ، قام رجلٌ فقال: أما سألتموني عنْ سعدٍ ؟ فإنه لا يعدلُ في القضيةِ ، ولا يحكمُ بالسَّويَّةِ ، ولا يمشي مع الرعية .
فقال سعدٌ: اللهمَّ إنْ كان قام هذا رياءً وسمعةً فأعْمِ بصره ، وأطلْ عمره ، وعرِّضْه للفتنِ . فطال عُمْرُ هذا الرجلِ ، وسقط حاجباهُ على عينيه ، وأخذ يتعرَّضُ للجواري ويغمزهُنّ في شوارعِ الكوفةِ ، ويقول: شيخٌ مفتون ، ، أصابتْني دعوة سعْدٍ .
إنه الاتصالُ باللهِ عزَّ وجلَّ ، وصدق النية معه، والوثوق بموعودِه ، تبارك اللهُ ربَّ العالمين.
وفي « سيرِ أعلامِ النبلاءِ»: عن سُعد أيضاَ:
أن رجلاً قام يَسُبُّ علياً -رضي اللهُ عنه– ، فدافع سعدٌ عن علي ، واستمرَّ الرجل في السبِّ والشتمِ ، فقال سعدٌ: اللهم اكفنيه بما شئت .
فانطلق بعيرٌ من الكوفةِ فأقبل مسرعاً ، لا يلوي على شيء ، وأخذ يدخل من بينِ الناس حتى وَصَلَ إلى الرجلِ ، ثم داسه بخفَّيْه حتى قتله أمام مشهدٍ ومرأى من الناسِ .
﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ .
وإنني أعرضُ لك هذه القصص لتزداد إيماناً ووثوقاً بموعودِ ربِّك فتدعوه وتناجيه ، وتعلم أن اللطف لطفُه سبحانه ، وأنه قد أمرك في محكم التنزيل فقال: ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ .
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ .
لقد استدعى الحجَّاجُ الحسن البصريَّ ليبطش به ، وذهب الحسنُ وما في ذهنه إلا عنايةُ اللهِ ولطفُ الله ، والوثوقُ بوعِد اللهِ ، فأخذ يدعو ربَّه ، ويهتفُ بأسمائِه الحسنى ، وصفاتِه العلى ، فيحوِّل اللهُ قلب الحجاجِ ، ويقذفُ في قلبه الرعب ، فما وصل الحسَنُ إلا وقد تهيأ الحجاجُ لاستقبالِه ، وقام إلى البابِ ، واستقبل الحَسَنَ ، وأجلسَه معه على السريرِ ، وأخذ يُطيِّب لحيته ، ويترفَّقُ به ، ويُلينُ له في الخطابِ !!
فما هو إلا تسخيرُ ربِّ العزةِ والجلالِ .
إنَّ لطف اللهِ يسري في العالمِ ، في عالم الإنسانِ ، في عالمِ الحيوانِ ، في البرِّ والبحْرِ ، في الليلِ والنهارِ ، في المتحركِ والساكنِ ، ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ .
صحَّ: أنَّ سليمان عليه السلام قد أُوتي منطق الطيرِ ، خَرَجَ يستسقي بالناسِ ، وفي طريقِه من بيتِه إلى المصلَّ رأى نملةً قد رفعتْ رجليها تدعو ربَّ العزِة ، تدعو الإله الذي يعطي ويمنحُ ويلطفُ ويُغيثُ ، فقال سليمان: أيُّها الناسُ ، عودُوا فقد كُفيتُم بدعاءِ غيرِكم .
فأخذ الغيثُ ينهمرُ بدعاءِ تلك النملةِ ، النملةِ التي فهِم كلامها سليمانُ عليه السلامُ ، وهو يزجفُ بجيشه الجرَّار ، فتعظُ أخواتها في عالم النملِ: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ {18} فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا ﴾ .
في كثير من الأحيان يأتي لطفُ الباري سبحانه وتعالى بسبب هذه العجماواتِ .
وقد ذكر أبو يعلى في قدسي أن الله يقولُ: (( وعِزَّتي وجلالي ، لولا شيوخٌ رُكَّعٌ ، وأطفال رُضَّعٌ ، وبهائمُ رُتَّعٌ ، لمنعتُ عنكم قطْرَ السماءِ )) .
***************************
وإنْ منْ شيء إلا يسبِّحُ بحمدِ ربِّه
إنَّ الهدد في عالمِ الطيورِ عرف ربَّهُ ، وأذعنّ لمولاهُ ، وأخبت لخالقِه .
ذهب الهدهدُ ، وكانت تلك القصةُ الطويلةُ ، وانتهتْ إلى تلك النتائجِ التاريخيةِ ، وكان سببها هذا الطائرُ الذي عَرَفَ ربَّه ، حتى قال بعضُ العلماءِ : عجيبٌ ! الهدد أذكى من فرعون ، فرعونُ كَفَرَ في الرخاءِ فما نفعه إيمانُه في الشِّدَّة ، والهدهدُ آمن بربِّه في الرخاءِ ، فنفعه إيمانُه في الشّدةِ .
الهدهدُ قال: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ...﴾.
وفرعونُ يقول: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي... ﴾ .
إن الشقيَّ من كان الهدهد أذكى منه ، والنملة أفهمُ لمصيرِها منه .
وإن البليد من أظلمتْ سبُله ، وتقطَّعتْ حبالُه ، وتعطَّلتْ جوارحُه عن النفعِ ، ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ .
في عالم النحل لطفٌ اللهِ يسري ، وخيرُه يجرِي ، وعنايتُه تلاحقُ تلكم الحشرة الضئيلة المسكينة ، تنطلقُ من خليّتها بتسخيرٍ من الباري ، تلتمسُ رزقها ، لا تقعُ إلا على الطيبِ النقيِّ الطاهرِ ، تمصُّ الرحيقَ ، تهيمُ بالورودِ ، تعشقُ الزَّهْر ، تعودُ محمَّلةً بشرابٍ مختلفٍ ألوانُه فيه شفاءٌ للناسِ ، تعودُ إلى خليتِها لا إلى خليةٍ أخرى ، لا تضلُّ طريقها ، ولا تحارُ في سبلِها ، ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ{68} ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ .
إن سعادتك منْ هذا القصص ، ومن هذا الحديثِ ، ومن هذه العِبر: أن تعلم أن هناك لطفاً خفياً للهِ الواحدِ الحدِ ، فتدعوه وحده ، وترجوه وحده ، وتسألهُ وحده ، وأنَّ عليك واجباً شرعياً نزلَ في الميثاقِ الربانيِّ ، وفي النَّهْجِ السماويِّ أن تسجد له ، وأن تشكره ، وأن تتولاَّه ، وأن تتجه بقلبِك إليه .
إن عليك أنْ تعلم أن هذا البشَرَ الكثير وهذا العالم الضخم ، لا يُغنون عنك من اللهِ شيئاً ، إنهم مساكينُ ، إنهم كلهم محتاجون إلى اللهِ ، إنهم يطلبون رزقهم صباح مساء ، ويطلبون سعادتهم وصحَّتهم وعافيتهم وأشياءهم وأموالهم ومناصبهم من اللهِ الذي يملكُ كلَّ شيءٍ .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ ، إن عليك أن تعلم علم اليقينِ أنه لا يهديك ولا ينصرُنك ، ولا يحميك ولا يتولاك ، ولا يحفظُك ، ولا يمنحُك إلا اللهُ ، إن عليك أن توحِّد اتجاه القلبِ ، وتفرد الربِّ بالوحدانيةِ والألوهيةِ والسؤالِ والاستعانةِ والرجاءِ ، وأن تعلم قْدر البشرِ ، وأن المخلوق يحتاجُ إلى الخالقِ ، وأن الفاني يحتاجُ إلى الباقي ، وأن الفقيرَ يحتاجُ إلى الغني ، وأن الضعيف يحتاجُ إلى القويِّ .
والقوةُ والغنى والبقاءُ والعزَّةُ المطلقةُ يملكُها اللهُ وَحْدَهُ .
إذا علمت ذلك ، فاسعدْ بقربهِ وبعبادتِه والتبتلِ إليه ، إليه ، إنِ استغفرته غَفَرَ لك ، وإن تبت إليه تاب عليك ، وإن سألته أعطاك ، وإن طلبت منه الرزق رزقك ، وإن استنصرته نصرك ، وإن شكرته زادك .
*******************
ارض عن الله عزَّ وجلَّ
من لوازمِ ((رضيتُ باللهِ رباً ، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- نبياً)).
أن ترضى عن ربِّك سبحانه وتعالى ، فترضى بأحكامِه ، وترضى بقضائِه وقدرِهِ ، خيرِه وشرِه ، حُلوِه ومُرِّه .
إن الانتقائية بالإيمانِ بالقضاءِ والقدرِ ليستْ صحيحةً ، وهي أن ترضى فَحَسْبُ عند موافقةِ القضاءِ لرغباتِك ، وتتسخَّط إذا خالف مرادك وميْلك ، فهذا ليس من شأنِ العبدِ .
إن قوماً رضُوا بربِّهم في الرخاءِ وسخطُوا في البلاءِ ، وانقادُوا في النعمةِ وعاندُوا وقت النقمةِ: ﴿ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ﴾ .
لقدْ كان الأعرابُ يُسْلمون ، فإذا وجدُوا في الإسلامِ رغداً بنزولِ غيثٍ ، ودرِّ لبنٍ ، ونبْتِ عشبٍ ، قالوا: هذا دينُ خيْرٍ .
فانقادُوا وحافظوا على دينِهم .
فإذا وجدُوا الأخرى ، جفافاً وقحْطاً وجدْباً واضحملالاً في الأموالِ وفناءً للمرعى ، نكصُوا على أعقابهم وتركُوا رسالتهم ودينهم .
هذا إذن إسلامُ الهوى ، وإسلامُ الرغبةِ للنفس .
إن هناك أناساً يرضون عن اللهِ عزَّ وجلَّ ، لأنهم يريدون ما عند اللهِ ، يريدون وجهه، يبتغون فضلاً من اللهِ ورضواناً ، يسعون للآخرةِ .
رضينا بك اللهمَّ رباً وخالقاً
وبالمصطفى المختارِ نوراً وهاديا
فإمَّا حياةٌ نظَّم الوحيُ سيرها
وإلا فموتٌ لا يسُرُّ الأعاديا
إن من يرشحُه اللهُ للعبوديّةِ ويصطفيه للخدمةِ ويجتبيه لسدانةِ الملَّةِ ، ثم لا يرضى بهذا الترشيحِ والاصطفاءِ والاجتباءِ ، لهو حقيقٌ بالسقوطِ الأبدي والهلاك السَّرمديِّ: ﴿ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ ، ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ .
إن الرّضا بوابةُ الديانةِ الكبرى ، منها يَلجُ المقرَّبون إلى ربِّهم ، الفرحون بهداه ، المنقادون لأمرِه ، المستسلمون لحكمه .
قَسَّمَ -صلى الله عليه وسلم- غنائم حُنَيْنٍ ، فأعطى كثيراً من رؤساءِ العربِ ومتأخري العرب ، وترك الأنصار ، ثقةً بما في قلوبِهم من الرضى والإيمانِ واليقين والخيرِ العميمِ ، فكأنهم عتبُوا لأن المقصود لم يظهر لهم ، فجمعهم -صلى الله عليه وسلم- وفسَّرَ لهم السرَّ في المسألةِ ، وأخبرهم أنه معهم ، وأنه يحبُّهم ، وأنه ما أعطى أولئك إلا تأليفاً لقلوبهم ، لنقْصِ ما عندهم من اليقين ، وأما الأنصارُ فقال لهم : (( أما ترضون أن ينطلق الناس بالشاء والبعير ، وتنطلقون برسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إلى رحالِكم ؟! الأنصار شعارٌ ، والناسُ دِثار ، رحم اللهُ الأنصار ، وأبناء الأنصارِ ، وأبناء أبناءِ الأنصارِ ، لو سلك الناسُ شِعْباً ووادياً ، وسلك الأنصارُ شعباً ووادياً لسلكتُ وادي الأنصارِ وشِعْبَ الأنصارِ )) .
فغمرتْهم الفرحةُ .
وملأتْهم المسرَّةُ ، ونزلتْ عليهم السكينةُ ، وفازوا برضا اللهِ ورضا رسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-.
إن الذين يتطلعون إلى رِضْوانِ اللهِ ويتشوَّقون إلى جنَّةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ ، لا يقبلون الدنيا بحذافيرِها بدلاً من هذا الرضوانِ ، ولا عوضاً عن هذا النوالِ العظيمِ .
أسلم أعرابيٌّ بين يدي رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فأعطاه -صلى الله عليه وسلم- بعض المالِ ، فقال: يا رسول اللهِ ، ما على هذا بايعتُك .
فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( على ماذا بايعتني ؟ )) قال: بايعتُك على أن يأتيني سهمٌ طائش فيقع هنا ( وأشار إلى حلْقِه ) ويخرج من هنا ( وأشار إلى قفاه ).
قال له -صلى الله عليه وسلم-: (( إن تصْدُقِ اللهُ يصدقُكَ )).
وحضر المعركة، وجاءه سهمٌ طائش ونفذ من نحرِه، ولقي ربَّه راضياً مرضيّا .
ما المالُ والأيَّامُ ما الدُّنيا وما
تلك الكنوزُ من الجواهرِ والذَّهَبْ
ما المجدُ والقصرُ المنيفُ وما المنى
ما هذه الأكداسُ مِن أغلى النشبْ
لا شيء كُلُّ نفيسةٍ مرغوبةٍ
تفنى ويبقى اللهُ أكرم من وَهَبْ
ووزَّع -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم أموالاً ، فأعطى أناساً ، قليلي الدين ، ضحلى الأمانة ، مقفرين في عالم المُثُل ، وترك أناساً ثُلَّمتْ سيوفُهم في سبيلِ اللهِ ، وأُنفقتْ أمواُلهم، وجُرحتْ أجسامُهم في الجهادِ والذبِّ عن الملَّةِ ، ثم قام -صلى الله عليه وسلم- خطيباً في المسجدِ وأخبرهم بالأمرِ ، وقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: (( إني أعطي أناساً لمِا جعل اللهُ في قلوبِهم من الجزعِ والطمعِ ، وأدَعُ أناساً لما جعل اللهُ في قلوبِهم من الإيمانِ –أو الخيْرِ– منهم: عمرو بنُ تغلب )) .
فقالَ عمروُ بنُ تغلب: كلمةً ما أريدُ أنَّ لي بها الدنيا وما فيها .
إنه الرضا عن اللهِ عزَّ وجلَّ الرضا عن حكْمِ رسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، طلبَ ما عندَ اللهِ ، إنَّ الدنيا لا تساوي عند الصحابي الواحد كلمة راضية باسمة منه -صلى الله عليه وسلم-.
لقد كانت وُعودُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابِه ثواباً من عندِ اللهِ ، وجنةً عنده ورضواناً منه ، لم يَعِدْ -صلى الله عليه وسلم- أحداً منهم بقصرِ أو ولايةِ إقليمٍ أو حديقةٍ . كان يقول لهم: من يفعلُ كذا وله الجنةُ ؟ ولآخر: وهو رفيقي في الجنةِ ؟ لأن البذلُ الذي بذلوه والمالُ الذي أنفقوه والجهدُ الذي قدموه ، لا جزاء له إلا في الدارِ الآخرةِ ، لأن الدنيا بما فيها لا تكافئُ المجهود الضخم ؛ لأنها ثمنٌ بخيسٌ ، وعطاءٌ رخيصٌ وبذْلٌ زهيدٌ .
وعند الترمذيِّ: يستأذنُ عمرُ -رضي اللهُ عنه- رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في العمرةِ ، قال: ((لا تنسنا من دعائِك يا أخي )) .
وقائل هذه الكلمة هو رسولُ الهدى -صلى الله عليه وسلم-، الإمامُ المعصومُ ، الذي لا ينطقُ عن الهوى ، ولكنها كلمةٌ عظيمةٌ وثمينةٌ ونفيسةٌ ، قال عمرُ فيما بعدُ: كلمة ما أريد أنَّ لي بها الدنيا وما فيها .
ولك أنْ تشعر أن رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قال لك أنت بعينكِ: لا تْنسنا من دعائك يا أخي .
كان رضا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ربِّه فوق ما يصفُه الواصفون ، فهو راضٍ في الغنى والفقرِ ، راضٍ في السلْمِ والحربِ ، راضٍ وقت القوةٍ والضعفِ ، راضٍ وقت الصحةِ والسقمِ ، راضٍ في الشدةِ والرخاءِ .
عاش -صلى الله عليه وسلم- مرارة اليُتْمِ ، وأسى اليتمِ ، ولوعة اليتمِ فكان راضياً ، وافتقر -صلى الله عليه وسلم- حتى ما يجد دَقَلَ التمرِ –أي رديئه- ، وكان يربطُ الحجر على بطنِه من شدَّةِ الجوعِ ، ويقترضُ شعيراً من يهودي ويرهنُ درعه عنده ، وينامُ على الحصير فيؤثرُ في جنبِه ، وتمرُّ ثلاثةُ أيام لا يجدُ شيئاً يأكلُه ، ومع ذلك كان راضياً عن اللهِ ربِّ العالمين ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ﴾ .
ورضي عن ربِّه وقت المجابهةِ الأولى ، يوم وقَفَ هو في حزبِ اللهِ ، ووقفتِ الدنيا –كلُّ الدنيا– تحاربُه بخيلِها ورجِلها ، بغناها بزخرفِها ، بزهوِها بخيلائها ، فكان راضياً عن اللهِ . رضي عنِ اللهِ في الفترةِ الحرجةِ ، يوم مات عمُّه وماتت زوجتٌه خديجةُ ، وأُوذي أشدَّ الأذى ، وكُذب أشدَّ التكذيبِ ، وخُدشتُ كرامتُه ، ورُمي في صِدْقِهِ ، فقيل له : كذَّابٌ ، وساحرٌ ، وكاهنٌ ، ومجنونٌ ، وشاعرٌ .
ورضي يوم طُرِد من بلدِه ، ومسقطِ رأسهِ ، فيها مراتعُ صباه ، وملاعبُ طفولتِه ، وأفانينُ شبابِه ، فيلتفتُ إلى مكة وتسيلُ دموعُه ، ويقول: (( إنكِ أحبُّ بلادِ اللهِ إليَّ ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ )) .
ورضي عن اللهِ وهو يذهبُ إلى الطائفِ ليعرِض دعوته ، فيُواجه بأقبحِ ردٍّ ، وبأسوأِ استقبالٍ ، ويُرمى بالحجارةِ حتى تسيل قدماه ، فيرضى عن مولاه .
ويرضى عن اللهِ وهو يخرج من مكة مرغماً ، فيسير إلى المدينة ويُطاردُ بالخيلِ ، وتُوضعُ العراقيلُ في طريقِه أينما ذهب .
يرضى عن ربه في كلِّ موطنٍ ، وفي كل مكانٍ ، وفي كل زمنٍ .
يحضر أُحُداً -صلى الله عليه وسلم- فيُشجّ رأسُه ، وتُكسرُ ثنيتُه ، ويُقتلُ عمُّه ، ويُذبحُ أصحابهُ ، ويُغلبُ جيشُه ، فيقول: (( صُفُّوا ورائي لأُثني على ربي )) .
يرضى عن ربِّه وقد ظهر حِلْفٌ كافرٌ ضدَّه من المنافقين واليهود والمشركين ، فيقف صامداً متوكِّلاً على اللهِ ، مفوِّضاً الأمر إليه .
وجزاءُ هذا الرضا منه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ .
*****************
هِتافٌ في وادي نخلة
أُخرج محمدٌ المعصومُ -صلى الله عليه وسلم- من مكة حيث أهلُه وأبناؤه ودارُه ووطنُه ، طُردُ طرداً وشًرِّد تشريداً ، والتجأ إلى الطائفِ فقُوبل بالتكذيبِ وجُوبِه بالجحودِ ، وتهاوتْ عليه الحجارةُ والأذى والسُّ والشتمُ .
فعيناه بدموع الأسى تكِفانِ وقدماه بدماءِ الطهرِ تنزفانِ ، وقلبُه بمرارةِ المصيبة يَلْعَجُ ، فإلى من يلتجئ؟ ومن يسألُ ؟ وإلى من يشكو ؟ وإلى من يقصدُ ؟ إلى اللهِ إلى القويِّ إلى القهارِ ، إلى العزيزِ ، إلى الناصرِ.
استقبل محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- القبلة ، وقصد ربَّه ، وشكر مولاه ، وتدفَّق لسانهُ بعباراتِ الشكوى وصادقِ النجوى وأحرِّ الطلبِ ، ودعا وألحَّ وبكى ، وشكا وتظلَّم وتألَّم .
المآقي من الخطوبِ بكاءُ
والمآسي على الخدودِ ظِماءُ
وشفاهُ الأيامِ تلثمُ وجهاً
نَحَتَتْهُ الرعودُ والأنواءُ
اسمع سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- مولاهُ وإلهه ليلة نخلة ، إذْ يقول: (( اللهم إني أشكو إليك ضعْف قوتي وقِلَّة حيلتِي وهواني على الناسِ ، أنت أرحمُ الراحمين، وربُّ المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكِلُني ؟ إلى قريبٍ يتجهَّمُني ، أو إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري ، إن لم يكن عليَّ غَضَبٌ فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لُي ، أعوذُ بنور وجهِك الذي أشرقتْ له الظلماتُ ، وصَلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ ، أن ينزلُ بي غَضَبُك ، أو يحلَّ بي سخطُك ، لك العُتْبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بكَ )) .