كتـــــاب لا تحـــــــــــزن 22
صنائعُ المعروفِ تقي مصارع السُّوءِ
منْ أجملِ الكلماتِ، قولُ أبي بكرٍ الصِّديق -رضي الله عنه-: صنائع المعروف تقي مصارع السوءِ.
وهذا كلامٌ يُصدِّقه النَّقلُ والعقلُ: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ {143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
تقولُ خديجةُ للرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((كلا واللهِ لا يُخزيك اللهُ أبداً لتصِلُ الرَّحِم، وتحمِلُ الكلَّ، وتكسِبُ المعدوم، وتُعينُ على نوائِبِ الدَّهْرِ)).
فانظُرْ كيف استدلَّتْ بمحاسنِ الأفعالِ على حُسْنِ العواقبِ، وكَرَمِ البدايةِ على جلالِة النهايةِ.
وفي كتاب «الوزراء» للصابي، و«المنتظم» لابنِ الجوزي، و «الفَرَجِ بعد الشِّدَّةِ» للتنوخي قصَّةٌ، مفادُها: أن ابن الفراتِ الوزير، كان يتتبَّعُ أبا جعفرٍ بن بسطامٍ بالأذِيَّة، ويقصدُه بالمكاره، فلقي منه في ذلك شدائد كثيرةً، وكانت أُمّ أبي جعفر قد عوَّدته -منذُ كان طفلاً- أنْ تجعل له في كلِّ ليلةٍ، تحت مخدَّته التي ينامُ عليها رغيفاً من الخبزِ، فإذا كان في غدٍ، تصدَّقتْ به عنه.
فلمَّا كان بعد مُدَّة من أذيَّةِ ابنِ الفراتِ له، دخل إلى ابن الفراتِ في شيءٍ احتاج إلى ذلك فيه، فقال له ابنُ الفراتِ: لك مع أُمِّك خُبْزٌ في رغيف؟ قال: لا.
فقال: لابُدَّ أن تصدُقني.
فذكر أبو جعفر الحديث، فحدَّثه به على سبيل التَّطايُبِ بذلك منْ أفعالِ النساءِ.
فقال ابنُ الفراتِ: لا تفعلْ، فإنّي بتُّ البارحة، وأنا أُدبِّرُ عليك تدبيراً لو تمَّ لاستأصلْتُك، فنمتُ، فرأيتُ في منامي كأنَّ بيدي سيفاً مسلولاً، وقد قصدتُك لأقتلك به، فاعترضتْني أُمُّك بيدِها رغيفٌ تُترِّسُك به منّي، فما وصلتُ إليك، وانتبهتُ.
فعاتبه أبو جعفر على ما كان بينهما، وجعل ذلك طريقاً إلى استصلاحِه، وبذل لهُ منْ نفْسِه ما يريدُه منْ حُسْنِ الطاعةِ، ولم يبرحْ حتى أرضاهُ، وصارا صديقيْن.
وقال له ابنُ الفراتِ: واللهِ، لا رأيت منِّي بعدها سُوءاً أبداً.
***************************************
استجمامٌ يُعين علىُ مُواصلةِ السَّيْرِ
من المعلومِ أنَّ في الشريعةِ سَعَةً وفُسحةً، تُعينُ العبد على الاستمرار في عبادتِه وعطائِه وعملِه الصالحِ، فرسولُنا -صلى الله عليه وسلم- كان يضحكُ: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾، وكان يمزحُ ولا يقولُ إلا حقّاً، وسابق عائشة رضي اللهُ عنها، وكان يتخوَّلُ الصحابة بالموعظةِ، كراهِية السَّآمِة عليهم، وكان ينهى عن التَّعمُّق والتَّكلُّفِ والتشديدِ، ويُخبرُ أنه لن يُشادّ الدِّين أحدٌ، إلا غَلَبَهُ، وفي الحديثِ أنَّ الدين متينٌ، فأوغِلُوا فيه برفْقٍ. وفي الحديثِ أيضاً أنَّ لكل عابد شِرَّةً، وهي الشّدَّةُ والضَّراوةُ والاندِفاعُ. ولا يلبثُ المتكلِّفُ إلا أنْ ينقطع، لأنه نظر إلى الحالةِ الراهنةِ ونسي الطوارئ وطُول المُدَّة وملالة النَّفْس، وإلاَّ فالعاقلُ له حدٌّ أدنى في العملِ يُداومُ عليه، فإنْ نشط زاد، وإنْ ضعف بقي على أصلِه، وهذا معنى الأثر منْ كلامِ بعضِ الصحابة: إنَّ للنفوسِ إقبالاً وإدباراً، فاغتنموها عند إقبالها، وذرُوها عند إدبارِها.
وما رأيتُ نفراً زادُوا في الكْيلِ، وأكثَرُوا من النوافل، وحاولوا أنْ يُغالوا، فانقطعُوا وعادُوا أضْعفَ ممَّا كانوا قبْلَ البدايةِ.
والدِّينُ أصلاً جاء للإسعاد ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾.
وقد لام اللهُ قوماً كلَّفُوا أنفُسهم فوق الطَّاقةِ، ثم انسحبوا منْ أرضِ الواقع ناكثِين ما ألزمُوا أنفسهم به ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾.
وميزةُ الإسلامِ على سائر الأديانُ أنه دينُ فطرةٍ، وأنه وَسَطٌ، وأنه للرُّوحِ والجسمِ، والدنيا والآخرةِ، وأنه ميسرٌ ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾.
عن أبي سعيد الخُدْريّ قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول اللهِ، أيُّ الناس خيْرٌ؟ قال: ((مؤمِنٌ مجاهِدٌ بنفسِه ومالِه في سبيلِ اللهِ، ثم رجُلٌ معتزلٌ في شِعْبٍ من الشِّعابِ يعبُد ربَّه)).
وفي روايةٍ: ((يتَّقي الله ويدع الناس من شرِّه))، وعنْ أبي سعيدٍ قال: سمعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: ((يُوشكُ أنْ يكون خير مالِ المسلم غنمٌ يتبعُ بها شعْفَ الجبالِ ومواقع القطْرِ، يفرُّ بدينِه من الفِتنِ)). رواه البخاريُّ.
قال عمرُ -رضي الله عنه-: «خُذُوا حظَّكم من العُزلةِ».
وما أحْسنَ قول الجنيدِ:
«مُكابدَةُ العزلةِ أيسرُ مْن مداراةِ الخلطةِ».
وقال الخطَّابيُّ: لو لم يكُنْ في العزلةِ إلا السلامةُ من الغيبةِ، ومنْ رؤيةِ المنكرِ الذي لا يقدرُ على إزالتهِ، لكان ذلك خيراً كثيراً.
وفي هذا معنى ما أخرجهُ الحاكمُ، منْ حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً، بلفظ: ((الوحدُة خيرٌ من جلِيسِ السُّوء)). وسنده حَسَنٌ.
وذَكَر الخطَّابيُّ في «كتاب العزلة» أنَّ العزلة والاختلاط يختلفُ باختلافِ متعلقاتهما، فتُحمل الأدلَّةُ الوارِدةُ في الحضِّ على الاجتماعِ، على ما يتعلَّقُ بطاعةِ الأئمةِ وأمورِ الدينِ، وعكسُها في عكسِهِ، وأما الاجتماعُ والافتراقُ بالأبدانِ، فمنْ عَرَفَ الاكتفاء بنفسِه في حقِّ معاشِهِ ومحافظةِ دينهِ، فالأوْلى لهُ الانكفافُ منْ مخالطةِ الناسِ، بشرْطِ أنْ يُحافظَ على الجماعِة، والسَّلامِ والرَّدِّ، وحقوقِ المسلمين من العيادةِ وشهودِ الجنازةِ، ونحْوِ ذلك. والمطلوبُ إنما هو ترْكُ فضولِ الصُّحبةِ، لما في ذلك منْ شغِلِ البالِ وتضييعِ الوقتِ عن المُهمَّاتِ، ويجعلُ الاجتماع بمنزلةِ الاحتياجِ إلى الغداءِ والعشاءِ، فيقتصرُ منه على ما لابدَّ له منه، فهو أرْوَحُ للبَدَنِ والقلبِ. واللهُ أعلمُ.
وقال القُشيريُّ في «الرسالة»: طريقُ من آثرَ العُزلةَ، أن يعتقد سلامة الناسِ منْ شرِّه، لا العكسُ، فإنَّ الأول: يُنتجهُ استصغارُه نفْسه، وهي صفةُ المتواضعِ، والثاني: شهودُه مزيةً له على غيرِه، وهذه صفةُ المتكبِّرِ.
والناسُ في مسألةِ العُزلةِ والخلطةِ طرفانِ ووسطٌ:
فالطرف الأوَّلُ: من اعتزل الناس حتى عن الجُمعِ والجماعاتِ والأعيادِ ومجامع الخيْرِ، وهؤلاءِ أخطؤُوا.
والطرف الثاني: منْ خالط الناس حتى في مجالسِ اللَّهوِ واللَّغوِ والقيلِ والقالِ وتضييعِ الزَّمانِ، وهؤلاء أخطؤُوا.
والوسط: منْ خالط الناس في العباداتِ التي لا تقوُم إلا باجتماعٍ، وشاركهم في ما فيه تعاونٌ على البِرِّ والتقوى وأجرٌ ومثوبةُ، واعتزال مناسباتِ الصَّدِّ والإعراضِ عن اللهِ وفضولِ المباحاتِ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾.
************************************************
وقفـــــة
عن عُباد بنِ الصامتِ قال : قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكمْ بالجهاد في سبيلِ اللهِ، فإنه بابٌ من أبوابِ الجنةِ، يُذهِبُ اللهُ به الغمَّ والهمَّ)).
«وأمَّا تأثيرُ الجهاد في دفْع الهمِّ والغمِّ، فأمرٌ معلومٌ بالوجدان، فإنَّ النَّفْس متى تركتْ صائل الباطلِ وصولتهُ واستيلاءهُ، اشتدَّ همُّها وغمُّها، وكربُها وخوفُها، فإذا جاهدتْه للهِ، أبدل اللهُ ذلك الهمَّ والحُزْن فرحاً ونشاطاً وقوةً، كما قال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ {14} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾.
فلا شيء أذْهبُ لجَوَى القلبِ وغمِّه وحزنِه من الجهادِ، واللهُ المستعانُ».
قال الشاعرُ:
وإني لأُغضي مقلتيَّ على القذى
وألْبَسُ ثوب الصبرِ أبيض أبْلجا
وإني لأدعو الله والأمرُ ضيِّقٌ
عليَّ فما ينفكُّ أن يَتَفَرَّجَا
وكم من فتى سُدَّتْ عليه وجوهُهُ
أصاب لها في دعوةِ اللهِ مَخْرَجا
*******************
مَسارِحُ النَّظر في الملكوت
منْ طُرُقِ الارتياحِ وبسْطِة الخاطرِ، التَّطلُّعُ إلى آثارِ القُدرةِ في بديعِ السماواتِ والأرضِ، فتستلذّ بالبهجة العامرةِ في خلقِ الباري -جلَّ في عُلاهُ- في الزهرة، في الشجرةِ، في الجدولِ، في الخميلةِ، في التلِّ والجبل، في الأرضِ والسماءِ، في الليلِ والنهارِ، في الشمسِ والقمرِ، فتجدُ المتعة والأُنس، وتزدادُ إيماناً وتسليماً وانقياداً لهذا الخالقِ العظيمِ ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾.
يقول أحدُ الفلاسفةِ ممنْ أسلموا : كنتُ إذا شككْتُ في القُدرةِ، نظرتُ إلى كتابِ الكونِ، لأُطالع فيه أحْرُفَ الإعجازِ والإبداعِ، فأزدادُ إيماناً.
*********************************
خُطوات مدروسة
يقولُ الشوكانيُّ: أوصاني بعضُ العلماءِ فقال: لا تنقطعِ عن التأليف ولو أنْ تكتُب في اليومِ سطرين.
قال: فأخذتُ بوصيَّتِه، فوجدتُ ثمرتها.
وهذا معنى الحديث: ((خيرُ العملِ ما داوم عليه صاحبُه وإنْ قلَّ)) وقال: القطرةُ مع القطرةِ تجتمعُ سيلاً عظيماً.
أما تَرَى الحبلَ بطُولِ المدى
على صليبِ الصَّخْر قدْ أثَّرا
وإنما يأتينا الاضطرابُ منْ أننا نريدُ أن نفعل كلَّ شيءٍ مرَّةً واحدةً، فنَمَلُّ ونتعبُ ونترُكُ العمل، ولو أننا أخذْنا عَمَلنا شيئاً فشيئاً، ووزَّعْناه على مراحل، لقطعْنا المراحل في هدوءٍ، واعتبِرْ بالصلاةِ، فإنَّ الشَّرْع جَعَلَها في خمسةِ أوقاتٍ متفرِّقةٍ، ليكون العبدُ في استجمامٍ وراحةٍ، ويأتي لها بالأشواق، ولو جُمعتْ في وقتٍ، لملَّ العبد، وفي الحديثِ: ((إن المُنْبتَّ لا ظهْراً أبْقى ولا أرضاً قطع)).
ووُجِد بالتَّربةِ، أنَّ منْ يأخذُ العَمَلَ على فتراتٍ، يُنجزُ ما لم يُنجزْهُ منْ أخذهُ دفعةً واحدةً، مع بقاءِ جذوةِ الرُّوحِ وتوقُّدِ العاطفةِ.
ومما استفدتُه عنْ بعض العلماءِ: أنَّ الصلوات ترتِّبُ الأوقاتِ، أخذاً منْ قولِ الباري: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾.
فلو أنَّ العبد وزَّع أعمالهُ الدينية والدُّنيوية بعد كلِّ صلاةٍ، لوجد سعةً في الوقت، وفسحةً في الزمنِ.
وأنا أضربُ لك مَثَلاَ:
فلو أن طالب العِلْم، جعل ما بعد الفجرِ للحفْظِ في أيّ فنٍّ شاء، وجعل بعد الظُّهر للقراءةِ السهْلةِ في المجامع العامَّة، وجعل بعد العصر للبحثِ العلميِّ الدقيقِ، وما بعد المغربِ للزِّيارةِ والأُنسِ، وما بعد العشاءِ لقراءة الكُتُبِ العصريَّةِ والبحوثِ والدوريَّاتِ والجلوس مع الأهل، لكان هذا حسناً، والعاقِل له مِنْ بصيرتِه مَدَدٌ ونورٌ.
﴿إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾.
*******************
بلا فوضويَّة
مما يُكدِّرُ ويُشتِّتُ الذِّهن، الفوضويَّةُ الفكريَّةُ التي يعيشُها بعضُ الناسِ، فهو لم يحدِّد قُدراتِه، ولم يقصدْ إلى ما يجمعُ شمل فكْرهِ ونظرِه ؛ لأن المعرفة شعوبٌ ودروبٌ، ولابُدَّ منْ تحديدِ آيتِها ومعرفةِ مسالكها، ويُجمعُ رأْيه على مشربٍ معروفٍ، لأنّ التَّفرد مطلوبٌ.
وكذلك ممَّا يشتِّتُ الذهن، ويُورِث الغمَّ، الدَّيْنُ والتبِعاتُ الماليةُ والتكاليفُ المعيشيَّةُ.
وهناك أصولٌ في هذه المسألةِ أريدُ ذِكرها:
أولها: ما غال منِ اقتصدُ: ومنْ أحْسَنَ الإنفاق، وحفِظ مالهُ إلاَّ للحاجة، واجتنب التبذير والإسراف، وَجَدَ العون من اللهِ ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾.
الثاني: كسْب المال من الوجوهِ المُباحةِ، وهجْرُ كلِّ كسبٍ محرَّمٍ، فإنَّ الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّباً، واللهُ لا يُباركُ في المكسبِ الخبيثِ ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾.
الثالث: السَّعْيُ في طلبِ المالِ الحلالِ، وجمْعُه منْ حلِّه، وتركُ العطالةِ والبطالةِ، واجتنابِ إزجاءِ الأوقاتِ في التفاهاتِ، فهذا ابنُ عوف يقول: دُلُّوني على السوقِ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
******************************************
ثمنُك إيمانُك وخُلُقُك
مرَّ هذا الرجلُ الفقيرُ المعدومُ، وعليهِ أسمالٌ باليةٌ وثيابٌ رثَّة، جائع البطْن، حافي القدمِ، مغمور النَّسبِ، لا جاهٌ ولا مالٌ ولا عشيرةٌ، ليس له بيتٌ يأوي إليهِ، ولا أثاث ولا متاع، يشربُ من الحياضِ العامَّةِ بكفَّيْه مع الواردين، وينامُ في المسجدِ، مخدَّتُه ذراعُه، وفراشُه البطحاءُ، لكنَّه صاحبُ ذِكرٍ لربِّه وتلاوةٍ لكتابِ مولاهُ لا يغيبُ عنِ الصَّفِّ الأولِ في الصلاةِ والقتالِ، مرَّ ذات يومٍ برسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فناداهُ باسمِهِ وصاح به: ((يا جُليْبيبُ ألا تتزوَّجُ؟)).
قال: يا رسول اللهِ، ومنْ يُزوِّجُني؟ ولا مالٌ ولا جاهٌ؟ ثمَّ مرَّ به أخرى، فقال له مثْل قولهِ الأولِ، وأجاب بنفسِ الجواب، ومرَّ ثالثةً، فأعاد عليه السؤال وأعاد هو الجواب، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((يا جليبيبُ، انطلِقْ إلى بيتِ فلانٍ الأنصاريِّ وقُلْ له: رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقرئُك السلام، ويطلبُ منك أن تُزوِّجني بِنْتك)).
وهذا الأنصاريَّ منْ بيتٍ شريفٍ وأسرةٍ موقرةٍ، فانطلق جليبيبٌ إلى هذا الأنصاريِّ وطرق عليه الباب وأخبره بما أمره به رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقال الأنصاريُّ: على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلامُ، وكيف أُزوِّجك بنتي يا جليبيبُ ولا مالٌ ولا جاهٌ؟ وتسمعُ زوجتُه الخَبَرَ فتعجبُ وتتساءلُ: جليبيبٌ ! لا مالٌ ولا جاهٌ؟ فتسمُع البنتُ المؤمنةُ كلام جليبيبٍ ورسالة الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- فتقول لأبويها: أترُدَّانِ طلب رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، لا والذي نفسي بيدِهِ.
وحصل الزواج المبارك والذُّرِّيَّةُ المباركةُ والبيتُ العامرُ، المؤسَّسُ على تقوى من اللهِ ورضوانٍ، ونادى منادي الجهادِ، وحضر جليبيبُ المعركة، وقتل بيده سبعةً من الكفارِ، ثم قُتل في سبيلِ اللهِ، وتوسد الثرى راضياً عنْ ربِّه وعنْ رسولِه -صلى الله عليه وسلم- وعنْ مبدئِه الذي مات منْ أجلِهِ، ويتفقَّدُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- القتلى، فيُخبرُه الناسُ بأسمائِهم، وينسون جليبيباً في غمرةِ الحديث، لأنهُ ليس لامعاً ولا مشهوراً، ولكنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يذكُرُ جليبيباً ولا ينساهُ، ويحفظُ اسمه في الزحامِ ولا يُغفله، ويقولُ: ((لكنَّني أفقِدُ جليبيباً)).
ويجده وقد تدثَّر بالتراب، فينفضُ التراب عن وجهه ويقولُ له: ((قَتَلْتَ سبعة ثم قُتِلْت؟ أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك)).
ويكفي هذا الوسام النبويُّ جليبيباً عطاءً ومكافأةً وجائزةً.
إنَّ ثمنَ جليبيبٍ، إيمانُه وحبُّ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- له، ورسالتُه التي مات من أجلِها.
إنَّ فقره وعدمَه وضآلةُ أسرتِه لم تُؤخِّرْه عنْ هذا الشرفِ العظيمِ والمكسب الضخمِ، لقدْ حاز الشهادة والرِّضا والقبُول والسعادة في الدنيا والآخرة: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
إنَّ قيمتك في معانيك الجليلةِ وصفاتِك النبيلةِ.
إنَّ سعادتك في معرفتِك للأشياءِ واهتماماتِك وسموِّك.
إنَّ الفقرَ والعوز والخمول، ما كان -يوماً من الأيامِ- عائقاً في طريق التَّفوُّقِ والوصولِ والاستعلاءِ.
هنيئاً لمنْ عَرَفَ ثمنه فعلاً بنفسِه، وهنيئاً لمنْ أسعد نفسهُ بتوجيههِ وجهادِه ونُبِله، وهنيئاً لمنْ أحْسنَ مرَّتيْن، وسعد في الحياتينِ، وأفلح في الكرتيْنِ، الدُّنيا والآخرةِ.
**********************************************
يا سعادة هؤلاء
أبو بكرٍ -رضي اللهُ عنهُ-: بآيةٍ: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى {17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾.
عمرُ -رضي الله عنه-: بحديثِ: ((رأيتُ قصراً أبيض في الجنةِ، قلتُ: لمن هذا القصرُ؟ قيل لي: لعمر بن الخطابِ)).
وعثمانُ -رضي الله عنهُ-: بدعاءِ: ((اللهمَّ اغفْر لعثمان ما تقدَّم منْ ذنبِه وما تأخَّر)).
وعليٌّ -رضي الله عنه-: ((رجُلٌ يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ُ ورسولُه)).
وسعدُ بنُ معاذٍ -رضي الله عنهُ-: ((اهتزَّ له عرشُ الرحمنِ)).
وعبدُاللهِ بن عمْرٍو الأنصاريُّ -رضي الله عنهُ-: ((كلَّمه اللهُ كِفاحاً بلا ترْجُمان)).
وحنْظَلَةُ -رضي الله عنهُ-: ((غسَّلتْهُ ملائكةُ الرحمنِ)).
********************
ويا شقاوة هؤلاء
فرعونُ: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾.
وقارونُ: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾.
والوليدُ بنُ المغيرة: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾.
وأُميَّةُ بنُ خلف: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾.
وأبو لهبٍ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾.
والعاص بنُ وائلٍ: ﴿كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً﴾.
****************************************
وقفــــــة
«قلَّةُ التوفيقِ وفسادُ الرأي، وخفاءُ الحقِّ وفسادُ القلب، وخمولُ الذِّكْرِ، وإضاعةُ الوقتِ، ونَفْرَةُ الخلْق، والوحْشةُ بين العبدِ وبين ربِّه، ومنْعُ إجابةِ الدعاءِ، وقسوةُ القلبِ، ومحْقُ البركةِ في الرِّزقِ والعُمرِ، وحرمانُ العلمِ، ولباسُ الذُّلِّ، وإهانةُ العدوِّ وضيقُ الصدرِ، والابتلاءُ بقرناءِ السوءِ الذين يُفسدون القلب ويُضيِّعون الوقت، وطولُ الهمِّ، وضنْكُ المعيشةِ، وكَسْفُ البالِ... تتولَّد من المعصيةِ والغفلِة عن ذكرِ اللهِ، كما يتولَّد الزرعُ عن الماءِ، والإحراقُ عن النارِ، وأضدادُ هذه تتولَّدُ عن الطاعةِ».
«أمَّا تأثيرُ الاستغفارِ في دفْع الهمِّ والغمِّ والضيقِ، فمِمَّا اشترك في العلْمِ به أهلُ المللِ وعقلاءُ كلِّ أمَّة، إنَّ المعاصي والفساد تُوجِب الهمَّ والغمَّ، والخوف والحزن، وضِيق الصدر، وأمراض القلب، حتى إنّ أهلها ذا قضوا منها أوطارها، وسئمتْها نفوسُهم، ارتكبوها دفعاً لما يجدونهُ في صدورهِم من الضِّيقِ والهمِّ والغمِّ،
كما قال شيخُ الفسوقِ:
وكأسٍ شرِبْتُ على لذَّةٍ
وأُخرى تداويْتُ مِنْها بها
وإذا كان هذا تأثيرُ الذنوبِ والآثامِ في القلوبِ، فلا دواء لها إلا التوبةُ والاستغفارُ».
*************************************
رِقْقاً بالقوارير
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾.
﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾.
وفي الحديثِ: ((استوصُوا بالنساءِ خيراً، فإنهنَّ عوانٍ عندكم)).
وفي حديثِ آخر : ((خيرُكم خيركم لأهِلهِ، وأنا خيرُكم لأهلي)).
البيتُ السعيدُ هو العامرُ بالأُلفةِ، القائمُ على الحبِّ المملوءُ تقوى ورضواناً:
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ .
*****************************************
بَسْمةٌ في البدايةِ
من حُسنِ الطالع وجميلِ المقابلةِ تبسُّم الزوجةِ لزوجِها والزوجُ لزوجتِه، إن هذه البسمة إعلانٌ مبدئيٌّ للوفاقِ والمصالحةِ: ((وتبسُّمك في وجه أخيك صدقةٌ)).
وكان -صلى الله عليه وسلم- ضحَّاكاً بسَّاماً.
وفي البدايةِ بالسلامِ: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾، وردُّ التحيةِ من أحدِهما للآخرِ: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾.
قال كُثيِّر:
حيَّتْك عزّةُ بالتسليمِ وانصرفتْ
فحيِّها مثل ما حيَّتْك يا جملُ
ليت التحية كانتْ لي فأشكرها
مكان يا جملاً حُيِّيت يا رجلُ
ومنها الدعاءُ عند دخول المنزلِ: ((اللهمَّ إني أسألُك خَيْرَ الموْلجِ وخير المخرجِ، باسم اللهِ ولجْنا، وباسمِ اللهِ خرجْنا، وعلى اللهِ ربِّنا توكَّلنا)).
ومن أسبابِ سعادةِ البيتِ: لِينُ الخطابِ من الطرفين: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
وكلامُها السحرُ الحلالُ لو أنه
لم يجنِ قتل المسلمِ المتحرِّزِ
إنْ طال لمْ يُمْلَلْ وإنْ هي أوجزتْ
ودَّ المحدَّثُ أنها لم تُوجزِ
يا ليت الرجل ويا ليت المرأة، كلٌّ منهما يسحبُ كلام الإساءةِ وجرْح المشاعرِ والاستفزازِ، يا ليت أنهما يذكرانِ الجانب الجميل المشرق في كلٍّ منهما، ويغضَّانِ الطرْف عن الجانبِ الضعيفِ البشريِّ في كليهما.
إن الرجل إذا عدَّد محاسن امرأتِه، وتجافى عن النقصِ، سعِد وارتاح، وفي الحديثِ: ((لا يفرُكُ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلُقاً رضي منها آخر)).
ومعنى لا يفرك: لا يبغضِ ولا يكره.
من ذا الذي ما ساء قطْ
ومنْ له الحسنى فقطْ
من الذي ما ما نبا سيفُ فضائلِه ولا كبا جوادُ محاسنِه:
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾.
أكثرُ مشاكلِ البيوتِ من معاناةِ التوافهِ ومعايشةِ صغارِ المسائلِ، وقد عشتُ عشراتِ القضايا التي تنتهي بالفراقِ، سببُ إيقادِ جذوتها أمورٌ هينةٌ سهلة، أحدُ الأسبابِ أن البيت لم يكن مرتّباً، والطعام لمِ يقدَّم في وقتِه، وسببُه عند آخرين أن المرأة تريدُ من زوجها أن لا يُكثر من استقبالِ الضيوفِ، وخذْ من هذه القائمة التي تُورثُ اليتُم والمآسي في البيوتِ.
إن علينا جميعاً أن نعترف بواقِعنا وحالِنا وضعفِنا، ولا نعيشُ الخيال والمثالياتِ، التي لا تحصلُ إلا لأولي العزمِ من أفرادِ العالمِ.
نحن بشرٌ نغضبُ ونحتدُّ، ونضعفُ ونخطئُ، وما معنا إلا البحثُ عن الأمرِ النسبيِّ في الموافقة الزوجيةِ حتى بعد هذه السنواتِ القصيرةِ بسلامِ.
إن أريحية أحمد بنِ حنبل وحُسْن صحبته تقدّم في هذه الكلمة، إذ يقول بعد وفاة زوجتهِ أمِّ عبدِالله: لقد صاحبتُها أربعين سنةً ما اختلفتُ معها في كلمةٍ.
إن على الرجل أن يسكت إذا غضبتْ زوجتُه، وعليها أن تسكتُ هي إذا غضب، حتى تهدأ الثائرةُ، وتبرد المشاعرُ، وتسكن اضطراباتُ النفسِ.
قال ابنُ الجوزيِّ في «صيدِ الخاطرِ»: «متى رأيت صاحبك قد غَضِبَ وأخذ يتكلَّمُ بما لا يصلحُ، فلا ينبغي أن تعقد على ما يقولُه خِنْصِرًا ( أي لا تعتدَّ به ولا تلتفتْ إليه )، ولا أن تؤاخذه به، فإن حاله حالُ السكرانِ لا يدري ما يجري، بل اصبرْ ولو فترةً، ولا تعوِّلْ عليها، فإن الشيطان قد غلبه، والطبعُ قد هاج، والعقلُ قد استتر، ومتى أخذت في نفسِك عليه، أو أجبته بمقتضى فعْله، كنت كعاقل واجه مجنوناً، أو مفيقٍ عاتب مغمىً عليه، فالذنبُ لك، بل انظرْ إليه بعينِ الرحمةِ، وتلمَّحْ تصريف القدر له، وتفرَّجْ في لعبِ الطبعِ به.
واعلم أنه إذا انتبه ندِم على ما جرى، وعَرَفَ لك فضْل الصَّبْرِ، وأقلُّ الأقسامِ أن تُسْلِمه فيما يفعلُ في غضبِه إلى ما يستريحُ به.
وهذه الحالةُ ينبغي أن يتلمَّحها الولدُ عند غضب الوالدِ، والزوجةُ عند غضبِ الزوج، فتتركه يشفى بما يقولُ، ولا تعوِّلْ على ذلك، فسيعودُ نادماً معتذراً، ومتى قُوبل على حالته ومقالتِه صارتِ العداوةُ متمكِّنةً، وجازى في الإفاقةِ على ما فُعِل في حقِّه وقت السُّكْرِ.
وأكثرُ الناسِ على غيْرِ هذا الطريقِ، متى رأوا غضبان قابلُوه بما يقولُ ويعملُ، وهذا على غيْرُ مقتضى الحكمةِ، بل الحِكمةُ ما ذكرتُ، وما يعقلُها إلا العالمون».
***************************
حبُّ الانتقامِ سُمُّ زُعاف في النفوسِ الهائجةِ
في كتاب «المصلوبون في التاريخ» قصصٌ وحكاياتٌ لبعضِ أهل البطشِ الذين أنزلوا بخصومهم أشدَّ العقوباتِ وأقسى المُثلات، ثم لما قتلوهم ما شفى لهم القتلُ غليلاً، ولا أبرد لهم عليلاً، حتى صلبوهُم على الخُشُب، والعَجَبُ أن المصلوب بعد قتلِهِ لا يتألَّم ولا يُحِسُّ ولا يتعذبُ، لأن روحه فارقتْ جسمه، ولكن الحيَّ القاتل يأنسُ ويرتاحُ، ويُسرُّ بزيادةِ التنكيلِ.
إن هذه النفوس المتلمِّظة على خصومِها المضطرمةَ على أعدائِها لن تهدأ أبداً ولن تسعد، لأن نار الانتقامِ وبركان التشفِّي يدمِّرُهم قبل خصومِهِمْ.
وأعجبُ من هذا أن بعض خلفاءِ بني العباس فاته أن يقتل خصومه من بني أمية، لأنهم ماتُوا قبل أن يتولَّى، فأخرجهم من قبورهم وبعضُهم رميمٌ فجلدهم، ثم صلبهم، ثم أحرقهم. إنها ثورةُ الحقدِ العارمِ الذي يُنهي على المسرَّاتِ وعلى مباهجِ النفسِ واستقرارِها.
إن الضرر على المنتقمِ أعظمُ، لأنه فَقَدَ أعصابَه وراحته وهدوءهُ وطمأنينته.
لا يبلغُ الأعداءُ من جاهلٍ
ما يبلغُ الجاهلُ مِنْ نَفْسِهِ
﴿وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ﴾.
*****************************************
وقفــــةٌ
«ليس للعبدِ إذا بُغِي عليه وأُوذي وتسلَّط عليه خصومُه، شيء أنفعُ له من التوبةِ النصوحِ، وعلامةُ سعادتِه أن يعكس فكره ونظره على نفسِه وذنوبِه وعيوبِه، فيشتغل بها وبإصلاحها، وبالتوبةِ منها، فلا يبقى فيه فراغٌ لتدبُّر ما نَزَل به، بل يتولَّى هو التوبة وإصلاح عيوبه، واللهُ يتولى نُصرته وحفظه والدفع عنه ولابدَّ، فما أسعدهُ من عبدٍ، وما أبركها من نازلةٍ نزلتْ به، وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيدِ اللهِ، لا مانعٍ لما أعطى ولا مُعطي لما منع، فما كلُّ أحدٍ يُوفَّق لهذا، لا معرفةً به، ولا إرادةً له، ولا قدرةً عليه، ولا حول ولا قوة إلا باللهِ».
سبحان منْ يعفو ونهفو دائماً
ولم يزلْ مهما هفا العبدُ عفا
يُعطي الذي يخطي ولا يمنعُه
جلالُه عن العطا لذي الخطا
****************
لا تذُبْ في شخصيةِ غيرك
تمرُّ بالإنسان ثلاثةُ أطوار: طوْرُ التقليد، وطورُ الاختيارِ، وطورُ الابتكارِ.
فالتقليدُ: هو المحاكاةُ للآخرين وتقمُّصُ شخصياتِهم وانتحالُ صفاتِهم والذوبانُ فيهم، وسببُ هذا التقليدِ هو الإعجابُ والتعلُّقُ والميْلُ الشديدُ، وهذا التقليدُ الغالي ليحمل بعضهُم على التقليد في الحركاتِ واللحظاتِ، ونبْرةِ الصوتِ والالتفاتِ، ونحو ذلك، وهو وأْدٌ للشخصية وانتحارٌ معنويٌّ للذاتِ.
ويا لمُعاناةِ هؤلاءِ من أنفسِهم، وهم يعكسون اتجاههُمْ، ويسيرون إلى الخلفِ !!
 فالواحدُ منهم ترك صوته لصوتِ الآخرِ، وهَجَرَ مشيته لمشيةِ فلانٍ، ليت هذا التقليد كان للصفاتِ الممدوحةِ التي تُثري العمر وتُضفي عليه هالة من السموِّ والرّفعةِ، كالعِلْمِ والكرمِ والحلمِ ونحوها، لكنك تُفاجأُ أن هؤلاء يقلِّدون في مخارجِ الحروفِ وطريقةِ الكلامِ وإشارةِ اليدِ !!.
أريدُ التأكيد عليك بما سبق:
إنك خَلْقٌ آخرُ وشيءٌ آخرُ، إنه نهجُك أنت من خلالِ صفاتِك وقدراتِك، فإنه منذُ خَلَقَ اللهُ آدم إلى أن ينهي اللهُ العالم، لم يتفقْ اثنانِ في الصورةِ الخارجيةِ للجسمِ، بحيثُ ينطبق شكلُ هذا على شكلِ ذاك: ﴿وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ...﴾ الآية.
فلماذا نحنُ نريدُ أن نتفقَ مع الآخرين في صفاتِنا ومواهبِنا وقدراتِنا؟!
إن جمال صوتِك أن يكون متفرِّداً، وإن حُسْن إلقائِك أن يكون متميِّزاً:
﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾.
*******************
المكظومون في انتظار لطْف الله
هذا الخطيبُ المِصْقعُ لا يلتوي لسانُه إذا تراكضتِ الألفاظُ في ميدانِ البيانِ، بل يمضي ساطعاً صارماً متدفِّقاً.
هو خطيبُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحسْبُ، وخطيب الإسلام وكفى، كان يرفع صوته بالخطبِ بين يدي رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لنصرةِ الدِّين، إنه ثابتُ بنُ قيسِ بن شمّاس، وأنزل اللهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾.
وظنَّ قيسٌ أنه هو المقصودُ، فاعتزل الناس واختبأ في بيتِه يبكي، وفقده رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنه، فأخبره الصحابةُ الخَبَرَ، فقال: ((كلاَّ، بل هو من أهلِ الجنةِ)).
فصارتِ النذارةُ بشارةٌ.
هناءٌ محا ذاك العزاء المقدَّما
فما جزِع المحزونُ حتى تبسَّما
وتبقى عائشةُ أمُّ المؤمنين -رضي اللهُ عنها- تبكي شهراً كاملاً ليلاً ونهاراً، حتى كاد البكاء يمزِّقُ كبِدها ويفري جسمها، لأنها طُعنتْ في عِرْضها الشريفِ، العفيفِ، فجاء الفرج: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾.
وحمدتِ الله وصارتْ أطهر الطُّهرِ، كما كانتْ، وفرح المؤمنون بهذا الفتحِ المبينِ.
والثَّلاثةُ الذين تخلَّفوا عن غزوةِ تبوك، وضاقْتْ عليهمْ الأرضُ بما رحُبتْ، وضاقتْ عليهم أنفسُهم، وظنُّوا أن لا ملجأ من اللهِ إلا إليه، أتاهم الفرجُ ممنْ يملكُه - سبحانه- ونزل عليهم الغوْثُ من السميعِ القريبِ.
******************
احرصْ على العملِ الذي ترتاحُ لهُ
يقولُ ابن تيمية: «ابتدأني مرضٌ، فقال لي الطبيبُ: إنَّ مطالعتك وكلامك في العلمِ يزيدُ المرض.
فقلت له: لا أصبرُ على ذلك، لا أصبرُ على ذلك، وأنا أحاكمُك إلى علمِك، أليستِ النَّفسُ إذا فرجتْ وسُرَّتْ قويتِ الطَّبيعةُ، فَدَفعتِ المرض؟ فقال: بلى.
فقلتُ له: فإن نفسي تُسرُّ بالعلمِ، فتقوى به الطبيعةُ، فأجدُ راحةً.
فقال: هذا خارجٌ عن علاجِنا» ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
لعلَّ عَتْبَك محمودٌ عواقبُهُ
فربَّما صحتِ الأجسامُ بالعِللِ
*******************
كُلاً نُمِدُّ هؤلاءِ وهؤلاء
ما أحوجنا إلى المثابرةِ واستثمارِ الوقت، ومسابقةِ الأنفاسِ بالعملِ الصالحِ النافعِ المفيدِ، إننا سوف نسعدُ يوم نقدِّم للآخرين نفعاً ووعياً وخدمة وثقافةً وحضارةً، وسوف نسعدُ إذا علمْنا أننا لم نأتِ إلى الحياةِ سُدّى، ولم نُخْلقْ عَبَثاً، ولم نُوجدْ لعِباً.
يوم تصفَّحتُ «الأعلام» للزركليِّ فوجدتُ تراجم شرقيين وغربيين، ساسةً وعلماء، وحكماء وأدباء وأطباء، يجمعهم أنهم نابغون مؤثِّرون لامعون، ووجدتُ في سِيرهم جميعاً سنة اللهِ في خلقِه، ووعد اللهِ في عبادِه، وهي أن من أحسن من أجل الدنيا وُفّي نصيبه من الدنيا، من الذيوعِ والشهرةِ والانتشارِ، وما يلحقُ ذلك من مالِ ومنصبٍ وإتحافٍ، ومن أحسن للآخرةِ وجدها هنا وهناك، من النفعِ والقبولِ والرضا والأجرِ والمثوبةِ: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ .
ووجدتُ في الكتابِ أيضاً أن هؤلاءِ العباقرةِ الذين قدَّموا للبشرية نفعاً ونتاجاً ولم يعملُوا للآخرة -وأخصُّ منهم غيْر المؤمنين باللهِ ولقائِه- وجدتُهم أسعدوا الناس أكثر من أنفسِهم، وأفرحوا أرواح الآخرين أكثر من أرواحهِم، فإذا بعضُهم ينتحرُ، وبعضهم يثورُ من واقعِه ويغضبُ من حياتِهِ، وآخرون منهم يعيشون بؤساً وضنْكاً.
وسألتُ نفسي: ما هي الفائدةُ إذا سعد بي قومٌ وشقيت أنا، وانتفع بي ملأٌ وحُرمِت أنا؟!
ووجدتُ أنَّ الله أعطى كلَّ أحدٍ من هؤلاءِ البارزين ما أراد، تحقيقاً لوعدِه، فجمْعٌ منهم حصل على جائزةِ نوبل، لأنه أرادها وسعى لها، ومنهم من تبوَّأ الصدارة في الشهرةِ، لأنه بحث عنها وشغف بها، ومنهم من وَجَدَ المال، لأنه هام به وأحبَّه، ومنهم عبادُ اللهِ الصالحون، حصلُوا على ثوابِ الدنيا وحسنِ ثوابِ الآخرةِ -إنْ شاء اللهُ-، يبتغون فضلاً من اللهِ ورِضْواناً.
إنَّ من المعادلات الصحيحة المقبولة:
أن المغمور السعيد الواثق من منهجِه وطريقِه، أنعمُ حظّاً من اللامعِ الشهيرِ الشقيِّ بمبادئِه وفكرِهِ.
إنَّ راعي الإبلِ المسلمِ في جزيرةِ العربِ أسعدُ حالاً بإسلامِه من «تولوستوي» الكاتب الروائي الشهيرِ، لأن الأول قضى حياته مطمئناً راضياً ساكناً يعرفُ مصيرَهُ ومنقلبه، والثاني عاش ممزَّق الإرادةِ، مبعثر الجهدِ، لم يبردْ غليلُه من مرادِه، ولا يعرفْ مستقبلهُ.
عند المسلمين أعظمُ دواءٍ عرفتْه البشريةُ، وأجلُّ علاجٍ اكتشفتْه الإنسانيةُ.
إنه الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ، حتى قال بعضُ الحكماءِ: لن يسعد في الحياةِ كافرٌ بالقضاءِ والقدرِ.
وقد أعدتُ عليك هذا المعنى كثيراً، وعرضتُه لك في أساليب شتَّى، وأنا على عمْد، لأنني أعرفُ من نفسي ومن كثير مثلي أننا نؤمنُ بالقضاءِ والقدرِ فيما نحبُّه، وقد نتسخَّطُ عليه فيما نكرهُهُ>
ولذلك كان شرطُ الملَّةِ وميثاقُ الوحيِ:
((أن تؤمن بالقدرِ خيرِه وشره، حلوِه ومرِّه))