العزة:
معانيها.. أقسامها.. حقيقتها.. صورها..
وكيفية تحصيلها
السؤال:
شيخنا الكريم، بعد إذنكم أريد أن أستفسر عن موضوع أثار اهتمامي، وأقلقني بعض الشيء، ولكنه بالغ الأهمية في تعزيز إيمان المسلم في قلبه؛ لذا أرجو منكم الإجابة عن تساؤلاتي جزاكم الله كل خير.
يقول الله تعالى:
"ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"، "مَن كان يريد العزة فلله العزة جميعا" وقال عمر بن الخطاب: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، مهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله" ما المقصود بالعزة؟ هل هي عزة دنيوية أي بالمال، أو الشهرة، أو القوة، أو المكانة الاجتماعية؟
وهل هي في كيفية نظرة الناس (جميعهم مسلمين أم لا) أو المجتمع لهذا الشخص، أم هي عزة داخلية تتجلى في الاكتفاء، والغنى النفسي، والشعور بالثقة بالنفس، والاطمئنان حتى احتقره المجتمع والناس، ومهما كان رأيهم فيه؟ في حال كانت عزة دنيوية (أي مكانته في نظرة الناس إليه) فكيف يتحقق قول عمر بن الخطاب، إذ نعلم جميعا أن الحصول على هذه العزة يحتاج إلى أمور كثيرة كالقوة، والمال، والذكاء، والجمال، والجاه ...إلخ.
وعمر يقول إن الإسلام يكفي للحصول عليها؟ أما في حال أنها عزة داخلية (كما فصلنا سابقا) فهل نعتبر مثلا أن المسلمين عندما كانت الدعوة سرية كانوا أعزاء؟ مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب لهم العزة بقوله: اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين؟ - الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وقف على الصفا، ونادى في أهل مكة أن يا قوم إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، وقال له أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟ سؤالي هو أنه هل بالرغم من سخرية الجميع من الشخص (بغض النظر عن كونه رسولاً) واستهزائهم به يبقى عزيزاً؟ كيف نفسر ذلك؟ وما هي العزة إذاً؟
وهناك أمثلة كثيرة:-
عندما ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وتبعه الغلمان، ورموه بالحجارة، وشتموه .... إلخ.
هل كان في موقف عزة؟ إذا كان الجواب لا فكيف يجزم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن السبب الوحيد للعزة هو الإسلام، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أكمل المسلمين إيمانا في القلب، وتطبيقا في العمل؟ وإذا كان الجواب نعم.
فلماذا حزن الرسول صلى الله عليه وسلم، وجلس يشكو إلى الله ضعف قوته، وقلة حيلته، وهوانه على الناس؟ عذراً للإطالة، ولكنني شرحت تساؤلاتي بأدق التفاصيل كي أوضح ماهيتها، وكي لا أفهم بطريقة خاطئة.
والحمد لله رب العالمين.
جزاكم الله كل خير.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنقدم بكلام حول حقيقة العزة، وأقسامها، ومصدرها، وكيفية تحصيلها، ومعانيها حتى تتضح الصورة عند السائل.
فقول:
إن حقيقة العزة ارتباط بالله، وارتفاع بالنفس عن مواضع المهانة، والتحرر من رِقِّ الأهواء، ومن ذُلِّ الطمع، وعدم السير إلا وفق ما شرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وتنقسم العزة إلى قسمين:
عزة شرعية، وعزة غير شرعية.
فالقسم الأول: العزة الشرعية:
وهي التي ترتبط بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيعتز المرء بدينه، ويرتفع بنفسه عن مواضع المهانة، فهو لا يريق ماء وجهه، ولا يبذل عرضه فيما يدنسه، فيبقى موفور الكرامة، مرتاح الضمير، مرفوع الرأس، شامخ العرين، سالما من ألم الهوان، متحررا من رق الأهواء، ومن ذل الطمع، لا يسير إلا وفق ما يمليه عليه إيمانه، والحق الذي يحمله ويدعو إليه.
والثاني: العزة غير الشرعية:
كاعتزاز الكفار بكفرهم، وهو في الحقيقية ذل، أو الاعتزاز بالنسب على جهة الفخر والخيلاء، أو الاعتزاز بالوطن، والمال ونحوها، وكل هذه مذمومة.
ولها صورٌ منها:
- الاعتزاز بالكفار من يهودٍ، ونصارى، ومنافقين وغيرهم.
- الاعتزاز بالآباء والأجداد.
- الاعتزاز بالقبيلة والرهط.
- الاعتزاز بالكثرة, سواء كان بالمال، أو العدد.
- الاعتزاز عند النصح والإرشاد, وذلك بعدم قبول النصيحة.
- الاعتزاز بجمال الثياب.
- الاعتزاز بالأصنام والأوثان.
- الاعتزاز بالجاه والمنصب.
واعلم أن للعزة مصادر شتى، لكنها مثل السراب لا حقيقة لها، والعزة الحقيقة لها مصدر واحد وهو الله جل جلاله، والالتجاء إلى جنابه، فهو سبحانه يذل من يشاء، ويعز من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير؛ يقول الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {آل عمران: 26}.
فالله سبحانه هو المعز الحقيقي لمن يشاء إعزازه من البشر، بما يقيض له من الأسباب الموجبة للعز، كالقوة، وحماية الذمار، ونصرة الحق، وكثرة الأعوان، ونفاذ الكلمة، وغير ذلك من الصفات التي تجعل الحاصل عليها عزيزا.
وهذه الحقيقة هي التي دل عليها قول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا {فاطر:10}. فإذا استقرت في القلوب، كانت كفيلة بأن تبدل معايير العزة الناقصة، وتبدل مفاهيمها الخاطئة.
ولا سبيل لتحصيلها إلا بطاعة الله تعالى.
قال ابن القيم- رحمه الله- في إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان:
يوجد في المتبع هواه من ذل النفس، وضعفها، ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه، والذل لمن عصاه. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وقال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُريِدُ الْعِزَّةَ فَللَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر: 10] .
أي من كان يطلب العزة، فليطلبها بطاعة الله: بالكلم الطيب، والعمل الصالح.
وقال بعض السلف:
"الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله" وقال الحسن:
"وإن هَمْلَجَتْ بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله عز وجل إلا أن يُذِلَّ من عصاه، وذلك أن من أطاع الله تعالى فقد والاه، ولا يذل من والاه الله، كما في دعاء القنوت: "إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ". انتهى.
وهنا ينبغي التنبه إلى أن للعزة عدة معان من لم يراعها عند النظر في الآيات، والأحاديث، وأقوال السلف الواردة في العزة فإنه ستختلط عليه المعاني بعضها ببعض.
فمن معاني العزة:
الشدة والغلظة؛ قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {المائدة:54}.
ومن معانيها:
الغلبة، والمنعة، والقوة؛ قال الله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. {هود: 91-92}
ومن ذلك قوله تعالى:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [الفتح: 1- 3]
قال ابن جرير - رحمه الله- في تفسيره:
{وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] يَقُولُ: وَيَنْصُرُكَ عَلَى سَائِرِ أَعْدَائِكَ، وَمَنْ نَاوَأَكَ نَصْرًا لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، وَلَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ، لِلْبَأْسِ الَّذِي يُؤَيِّدُكَ اللَّهُ بِهِ، وَبِالظَّفَرِ الَّذِي يُمِدُّكَ بِهِ. انتهى.
فهذه الغلبة كانت من ثمار الفتح، والمراد به هنا صلح الحديبة.
وبهذا تعلم أن العزة بهذا المعنى وهو الغلبة والمنعة لم تكن في صورها الكاملة في بداية الدعوة، ولهذا تعرض النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أذى المشركين كما في دعوته قريشا، وأهل الطائف.
ومن معاني هذه العزة:
عزة القوة، والغلبة، والمنعة ما رواه الترمذي في سننه بسنده عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب قال: وكان أحبهما إليه عمر. صححه الألباني.
ومعنى اللهم أعز الإسلام:
" أي قوِّهِ وانْصُره " كما قاله الطيبي. فالنبي صلى الله عليه وسلم طلب من ربه القوة، والنصرة بأحب هذين الرجلين، وذلك حين استضعافهم.
والله أعلم.