الســـــــــــــــــــيرة النبـــــــــــــــــــــوية
أهميتها.. أقسامها.. مقاصد دراستها...
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدِّمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلام على إمام المتَّقين وقدوة النَّاس أجمعين رسول ربِّ العالمين محمَّد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فهذا بحثٌ عن أهميَّة السِّيرة النَّبويَّة لحياة المسلمين وحاجتهم؛ بل وضرورتهم إلى معرفتها والاهتداء بهدي صاحبها -صلى الله عليه وسلم-، والذي سيكون طريقَهم لبناء الجيل الذي يؤمِّلُ إجادةَ صناعة الحياة الصَّحيحة، والعودة بالأمَّة إلى سابق عهدها وسلفها الصَّالح، والخروج من المأزق الذي تعيشه؛ فما أحوج أمَّة الإسلام اليوم إلى بناء النُّخبة وثلة النَّصر التي تفهم الرِّسالة، وتدافع أقدار الله بأقدار الله، وتؤسِّس للنَّهضة الحضاريَّة بمفهومها الصَّحيح كما صنع أسلافها من أصحاب نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-.
إنَّ البناءَ العقديَّ الإيمانيَّ المؤسَّسَ على الحقائق والبراهين هو القاعدة التي عمل النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على ترسيخها طوال مدَّة الرِّسالة، وكان الوحي يتنزَّل عليه مرة تلو الأخرى مؤكِّدًا على هذه الحقيقة؛ لأنَّ العقيدةّ هي نبعُ التَّربية وميزان السُّلوك وحَجَرُ الزَّاوية في الفكر والتَّوَجُّه، ومع البناء العقديّ كان البناءُ السُّلوكيُّ الأخلاقيُّ والاجتماعي والاقتصادي بل والسِّياسيّ يسير جنبًا إلى جنب متكاملة ومتوازية في نسق واحد؛ جمعًا لشتات النَّفس وتوجيه الهمّ ليكون همًّا واحدًا، وبذلك نمت الأمَّةُ وتكاملت شخصيَّتُها واشتدَّ عودُها، وأثمرت علمًا وأدبًا وحضارةً باسقةَ البناء وارفةَ الظِّلال، بسطت أشعَّتَها ونورَها على البشريَّة فأخرجتها من ظلمات الجهل والظُّلم والاستكبار إلى نور الحقِّ والعدل والرَّحمة والمساواة والإنسانية في أصدق معانيها وأجلى صورها.
وإنَّ دراسةَ السِّيرة بهذه المعاني العميقة والمفاهيم الواضحة ستُضفي على دارسها الأمنَ والطُّمأنينة وسعادة الحياة والرغبة المستمرة في الدراسة والتأمل في دلائلها وفوائدها.
وقد ذكرتُ جملةً من فوائد دراسة السِّيرة النَّبويَّة وأهداف دراستها ذات الارتباط بمقاصد الشَّريعة وأحوال المتعبِّدين؛ عسى أن تكون مساعدةً في البناء التَّربويِّ للأمَّة وإخراج الجيل الحاضر من مشكلاته وتوجُّهاته المتشعِّبة والمختلفة الموارد والمصادر، والعودة إلى المصدر الحقِّ والمنبع الصَّافي الذي سيكون فيه الهدى والشِّفاء لكلِّ العلل والأمراض التي أصابته إذا أخلص النِّيَّة ووحَّد المقصدَ، وارتفع عن الشَّهوات الهابطة، وتحرَّر من الأفكار الوافدة، واهتمَّ بمعالي الأمور.
فإذا تربَّى على هذه المعاني والأهداف العالية ارتفعت همَّتُه وسَمَت رغبتُه إلى ما هو أعلى وأغلى من كلِّ هذه الدُّنيا ممَّا أعدَّه الله لعباده المتَّقين؛ فإنَّ موضعَ السَّوط في الجنة خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ونصيف المرأة– أي خمارها– خير من الدُّنيا وما فيها.
وليس معنى هذا إهمال الدنيا كما فهم طائفة من الناس؛ وإنَّما المنهج الرَّبَّانيُّ منهجٌ متكاملٌ ومتوازنٌ، والدنيا هي دار العمل ومزرعة للحصاد في الأخرى، وعمارتها وفقَ أحكام الله وشرعه مطلبٌ شرعيٌّ وتوجيهٌ نبويٌّ.
ولقد حرصتُ على الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النَّبويَّة الصَّحيحة؛ لأنَّ البناءَ العلميَّ والتَّربويَّ لابدَّ أن يكون مؤسَّسًا على نصوص ومصادر موثوقة؛ حتَّى يصحَّ التَّأَسِّي والاقتداء.
وأسأل الله- سبحانه وتعالى- أن ينفعَ به ويجعلَه من العمل الخالص لوجهه؛ إنَّه سميعٌ مجيبٌ.
تعريفُ السِّيرة النَّبويَّة
السِّيرةُ لغةً:
قال ابنُ فارس: السِّين والياء والرَّاء أصلٌ يدلُّ على مضيٍّ وجريان؛ يقال: سار يسير سيرًا. والسِّيرةُ: الطَّريقةُ في الشَّيء، والسُّنَّةُ؛ لأنَّها تسير وتجري.
وقال ابنُ منظور: «السِّيرةُ: الطريقة. يقال: سار بهم سيرةً حسنةً. والسِّيرةُ: الهيئة، وفي التَّنزيل الكريم: "سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى" [طه: 21]. وسيَّر سيرةً: حدَّث أحاديثَ الأوائل»، وبهذا يكون معنى السيرة النبوية في اللغة: ما أضيف إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من السُّنَّة والطَّريقة والهيئة وأحاديث الأوائل.
السِّيرةُ اصطلاحًا:
لها دلالات متنوعة؛ فقد تكون مرادفةً لمعنى السُّنَّة عند علماء الحديث؛ وتعني طريقة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عند علماء العقيدة والأصول، كما تعني عند علماء التاريخ أخبارَه ومغازيه -صلى الله عليه وسلم-. وهذه الدلالات والمعاني ليست متضادَّةً؛ إنَّما هي متنوِّعةٌ ومتكاملةٌ.
وبهذا نستطيع أن نقول في تعريف السِّيرة النَّبويَّة اصطلاحًا:
هي دراسة حياة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأخباره وأخبار أصحابه على الجملة، وبيان أخلاقه وصفاته وخصائصه ودلائل نبوَّته وأحوال عصره؛ فالسِّيرةُ النَّبويَّة تشمل كلَّ ما يتعلَّقُ بالنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وأحوال عصره، وأخبار أصحابه؛ لأنَّ السِّيرةَ هي: فعله -صلى الله عليه وسلم- وإقرارُه لفعل أصحابه رضي الله عنهم.
أهمية دراسة السِّيرة النَّبويَّة:
إنَّ دراسةَ السِّيرة النَّبويَّة ليست كدراسة سيرة بطل من الأبطال فحسب –وإن كان هو -صلى الله عليه وسلم- بطل الأبطال– فلا تقرأ وتتعلم لأجل المعرفة أو إشباع رغبة حبِّ الاستطلاع وزيادة الرَّصيد المعرفيّ فقط؛ بل يجب أن تكون الدِّراسة للسِّيرة النَّبويَّة ذاتَ أهداف واضحة ومرتبطة بمقاصد الشَّريعة وأحوال المتعبِّدين، وباحثة عن الهدى والصِّراط المستقيم، ومؤدِّية إلى مرضاة ربِّ العالمين؛ لأنَّ السِّيرةَ مصدرٌ من مصادر التَّشريع ومنهجٌ لحياة كلِّ مسلم، ولابدَّ أن يدرك القارئُ للسِّيرة النَّبويَّة أهميَّتَها التَّربويَّةَ والتَّشريعيةَ والاجتماعية والإدارية والسياسية؛ لأنها تطبيقٌ عمليٌّ لنصوص الوحي في كافَّة مناحي الحياة الإنسانية، وعليه أن يعي ذلك وعيًا كاملاً؛ حتى يستخرج كنوزَها، ويستفيد من عبرها، ويحصل له خيرها بمتابعة صاحبها -صلى الله عليه وسلم- والتَّأَسِّي بمواقفه وأحواله.
إنَّ هذه السِّيرةَ العطرةَ مليئةٌ بالكنوز والدُّروس والعبر التي لا يدركها إلَّا مَن تعلَّمها بقصد الاتِّباع لصاحبها عليه الصَّلاة والسَّلام، والتربية على مقاصدها وعبرها؛ فهي مادَّةٌ تربويَّةٌ سلوكيَّةٌ تبني الشَّخصيةَ السَّويَّةَ المتكاملةَ وتُقَوِّمُ السُّلوك المعوجّ.
ولذا فإنَّه يجب على المسلمين بصفة عامة والعلماء والمربِّين بصفة خاصَّة الاعتناء بدراسة السِّيرة النَّبويَّة، والحرص على ما صحَّ من أخبارها؛ حتى يحصل التَّأسِّي والمتابعة على الوجه الصَّحيح.
وإنَّ المناهجَ التَّربويَّةَ والدَّعوات الإصلاحيَّة ستكون قاصرةً وناقصةً- بل خاسرةً وباطلةً- إذا لم تقتبس من هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وتلتزم به اعتقادًا وسلوكًا ومنهج تفكير.
والسِّيرةُ النَّبويَّة معينٌ لا يَنْضَبُ وتراثٌ لا يَبْلَى لكلِّ مَن رجع إليها وتأدَّب بأدبها واقتبس من مشكاتها، وقد فقه الصَّحابةُ- رضي الله عنهم- هذه المعاني في السِّيرة، وأدركوا أهميَّتَها؛ فكانت مع القرآن الكريم هي منهج التَّربية للأجيال ومادَّة البناء الفكريّ والسُّلوكيّ، ومَحَطّ الاهتمام والعناية.
يقولُ عليُّ بن الحسين زين العابدين: «كنَّا نعلِّم مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما نعلِّم السُّورةَ من القرآن».
وكان إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقّاص يحفِّظ أبناءه مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعدّها عليهم، ويقول: «هذه مآثرُ آبائكم فلا تضيِّعوا ذكرَها».
وبهذا المنهج العالي كان جيلُ الصَّحابة- رضوان الله عليهم- ثمَّ التَّابعين أرقى أجيال الأمَّة وأقواها علمًا وعملاً وأثرًا في واقع الحياة وبناء الحضارة؛ فكانوا قادةً وسادةً معتزِّين بمنهجهم مؤثِّرين في غيرهم غيرَ متأثِّرين؛ فقد حقَّقت السِّيرةُ النَّبويَّةُ للجيل الأوَّل السِّيادة والرِّيادة في كلِّ الميادين الخيِّرة النَّافعة، ونشروا العدل والأمن والإسلام في كلِّ بلد وصلوا إليه وانتشر فيه نور الحقّ.
والأمَّةُ الإسلاميَّةُ اليومَ أحوجُ ما تكون إلى هذا المنهج في دراسة سيرة نبيِّها -صلى الله عليه وسلم- والاعتزاز بها؛ لترتفع إلى مكان الصَّدارة والرِّيادة، وتحصل لها القدرة والتَّمكُّن من القيادة الرَّاشدة للمجتمعات الإنسانيَّة، وتتحمَّل المسؤوليَّةَ تجاه هداية البشريَّة وردّها إلى الصِّراط المستقيم، وتكون خير أمَّة أخرجت للناس في قضاء الله وحكمه، وفي واقع حياتها؛ قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [البقرة: 143]، وقال تعالى: "مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" [الحج: 78].
فالله جعل هذه الأمة وسطًا؛ أي عدولاً وخيارًا، وجعلها شهيدةً على الناس جميعًا، ورسولها -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم الرُّسل وأفضلهم، وهو شهيد على أمته بإبلاغها ما أُنزل إليه من الوحي، وببيان الوحي المتلوّ بسنَّته القوليَّة، وبسنته الفعليَّة، وبتقريره؛ قال تعالى: "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى *" [النجم: 3، 4].
وقد أدَّى عليه الصَّلاة والسَّلام الشَّهادةَ كاملةً وبلَّغ البلاغَ المبين، ورفع الأمَّةَ بهذا الوحي إلى مراقي النَّجاح والفلاح بعد أن كانت أمَّةً أميَّةً تعيش في ضلال مبين؛ قال تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" [الجمعة: 2].
فالرَّسول- عليه الصَّلاة والسَّلام- هو معلِّم الكتاب ومبلِّغ الوحي إلى عباد الله، وهو مزكِّي النُّفوس بهذا الوحي، وهو منقِّي المسالك من الضَّلالات والأهواء والانحرافات، وهو مبين بسيرته لكيفيَّات تنزيل القرآن على الواقع، وتقويم السُّلوك البشريّ بهدي القرآن وبناء الأمَّة والمجتمع العالميّ بالعلم والتَّزكية للنُّفوس والأخلاق.
وهذه الآيةُ تضمَّنت أثرَ الوحي في بناء الأمَّة المسلمة، وأنَّه مادَّةُ بنائها وقاعدة فكرها ومنطلَق تصوُّراتها؛ كما تضمَّنت بيانَ وظيفة الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- ومهمَّته من تلاوة الوحي؛ وهي: تعليمه لهم، وتربيتهم على مقتضياته، وتزكية نفوسهم وأخلاقهم من خلال قوله وفعله، والأمَّةُ مطلوبٌ منها للشَّهادة على النَّاس القيام بواجب البلاغ والعمل بذلك؛ حتى تكونَ قدوةً للنَّاس جميعاً، ولكي تحصل لها القدرةُ والتَّمَكُّن من أداء الشَّهادة على وجهها يلزمُ أن تكونَ في موقع القيادة الرَّاشدة للمجتمعات الإنسانيَّة، والرِّيادة في كلِّ المجالات النَّافعة، وتَحَمُّل المسؤولية تجاه هداية البشريَّة جمعاء إلى الحقِّ والهدى.
وقد تحقَّق السِّيادةُ والرِّيادةُ للجيل الأوَّل عندما صَدَقَ في التَّأسِّي والمتابعة للرَّسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فتمكَّن من التَّطبيق الواقعيّ لنصوص القرآن والسُّنَّة، ولابُدَّ لاستئناف الحياة الإسلاميَّة الصَّحيحة من تمثُّل السِّيرة النَّبويَّة في الواقع المعاش على مختلف المستويات، وفي كل المواقع والنَّواحي، وأن تكون دراستُنا للسِّيرة النَّبويَّة بهذه المعاني العميقة والنَّظرة الشَّاملة، والفقه الواعي؛ حتى نصنعَ جيلَ النَّهضة، وثلَّة النَّصر وقاعدةَ التَّمكين للأمَّة.
وقد مرَّت حياةُ الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- بمراحل وأطوار مختلفة، وجعل اللهُ في سيرته وتصرُّفاته تنوُّعًا وشمولاً لكلِّ جانب من جوانب الحياة ومواقفها المتغيِّرة؛ لتكون مساحةُ الاقتداء والتَّأَسِّي واسعةً وشاملةً لكافَّة القُدُرات البشريَّة بفروقها الفرديَّة وسجاياها الفطريَّة؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قدوةٌ لكلِّ المسلمين على مختلَف عصورهم وتعدُّد مواقعهم الجغرافية وأحوالهم العلميَّة ومراكزهم الإداريَّة؛ قال تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" [الأحزاب: 21، 22].
قال الحافظُ ابنُ كثير: هذه الآيةُ أصلٌ كبير في التَّأَسِّي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر النَّاسَ بالتَّأَسِّي بالنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربِّه عزَّ وجلَّ، ولهذا قال -تعالى– للذين تقلقلوا وتضجَّروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ"؛ أي: هلَّا اقتديتم به وتأسَّيتُم بشمائله؟.
ثم قال عزَّ وجلَّ مخبرًا عن عباده المؤمنين المصدِّقين بموعود الله لهم، وجَعْله العاقبة حاصلةً لهم في الدُّنيا والآخرة: "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ -صلى الله عليه وسلم-؛ أي: هذا ما وعدنا اللهُ ورسولُه من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يُعْقُبُه النَّصرُ القريب؛ والمراد –كما قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه وقتادة– قولُه تعالى في سورة البقرة: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" [البقرة: 214]؛ فهذه الآيةُ الآمرةُ بالتَّأَسِّي بالرَّسول -صلى الله عليه وسلم- نزلت بمناسبة غزوة الأحزاب حين رمى أهلَ الشِّرك والكفر المسلمين عن قوس واحدة وتحزَّبوا عليهم؛ حيث زلزلت النُّفوسُ وبلغت القلوبُ الحناجرَ، وكاد أن يهتزَّ الاقتداءُ لتأخُّر النَّصر؛ فجاءت لتؤكِّدَ أنَّ الاقتداءَ إنَّما يكون في مواطن الشِّدَّة والصَّبر والبأس والضِّيق ومؤشرات فوت الحياة الدُّنيا، وتُبَيِّن كيف أنَّ الارتباطَ بالآخرة هو سبيلُ الصُّمود والحماية من السُّقوط؛ فالاقتداءُ لا يكون في اليسر دون العسر، والاقتداء لا يكون بالكماليَّات والتَّحسينيَّات من مقاصد الشَّريعة دون الضَّروريَّات والحاجيَّات، والاقتداء لا يكون بالأشكال دون الأفعال.
ومع أهمية الاقتداء بكلِّ أفعال الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- وأثرها في صياغة الشَّخصيَّة المسلمة وبنائها على طريقة التَّربية النَّبوية إلَّا أنَّه من المعلوم أنَّ للدِّين والشَّريعة الإسلاميَّة مقاصدَ تتمثَّل في تحقيق ضروريَّات لا تقوم الحياة إلا بها، وحاجيَّات لا تحمى وتُقام الضَّروريَّاتُ إلَّا بتوفيرها، وكماليَّات وتحسينيَّات تعدُّ أمورًا جماليَّةً انعدامُها لا يؤثِّر كثيرًا في قيام الحياة الصَّحيحة المستقيمة.
والمشكلةُ التي تعاني منها الأمَّةُ اليومَ هي التَّخاذلُ والتَّفريطُ في الاقتداء بالرَّسول -صلى الله عليه وسلم- في الضَّروريَّات والمقاصد الكبرى للدِّين، وإذا وجد اقتداءٌ فهو في التَّحسينيَّات التي لا تكلف جهدًا وتضحيةً وبلاءً؛ فهذه قضيةٌ بحاجة إلى إدراك ومعالجة.
وقضيةٌ أخرى هي كذلك بحاجة إلى تحرير القول فيها بعد أن تحوَّل كثيرٌ من المسلمين في التاريخ المعاصر من التَّوَكُّل إلى التَّواكل والإرجاء والعجز عن التَّعامل مع الحياة المعاصرة وتقويم مسيرتها؛ لقد خرج كثيرٌ من الناس من الحياة وافتقدوا القدرةَ على التَّعامل مع مشكلاتها في ضوء السِّيرة النَّبويَّة، فانتهى بعضهم إلى المقابر؛ سواءٌ في ذلك مَن يَعتبر الأمواتَ سبيلاً لحلِّ مشكلاته، فيستغيث بهم، أو مَن يعتبر الأموات سببًا لمشكلته فيرى معركته معهم؛ فألقى اللَّومَ عليهم، واشتغل بسبِّهم.
وبعضٌ آخرُ حاولَ سَتْرَ عجزه عن الاقتداء بالنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والتَّأسِّي به بالإسقاط وإلقاء اللَّوم على الآخر من عدوٍّ خارجيٍّ أو عميل داخليٍّ.
والقضية التي نعرض لها هي أنَّ مسيرةَ السِّيرة النَّبويَّة كلَّها تحقَّقت من خلال التَّعامل مع السُّنَن الجارية التي تقتضيها بشريَّةُ الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- وتحتملُها عَزَماتُ البشر؛ لتكون السِّيرةُ محلًّا للاقتداء وإعادة البناء في كلِّ زمان ومكان؛ إذ الاقتداء يقتضي العمل بالسُّنن الجارية، والفاعليَّة في الحياة، والحركة بذلك؛ أمَّا السُّننُ الخارقة والمعجزات والكرامات فلا تأتي إلا بقدر الله، ولمن قام بالواجب عليه حسب السُّنَن الجارية والشَّريعة المقرَّرة؛ وهي من إكرام الله لأوليائه، ونصره لهم، وتأييدهم بها، ولا يكونوا أولياءَ لله حتى يحقِّقوا الإيمانَ والتَّقوى.
إنَّ انتظارَ الكرامات والخوارق دون العمل يفتح الباب لإشاعة الخرافة والبدعة وتغييب السُّنَّة التي هي القانون الجاري، ومن الأمور الملفتة للنَّظَر تسميةُ طريقة الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- في التَّعامل مع الحياة والأحياء سنَّة بكلِّ ما تحمل هذه التَّسمية من دلالات في المنهج والقانونية والإطراء.
إنَّ آيةَ الاقتداء نزلت يوم الأحزاب– كما أسلفنا، وقد أخذ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بالأسباب، وحفروا الخندق، وعندما واجهت بعضَهم صخرةٌ كبيرةٌ وعجزوا عن تفتيتها استعانوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذ معْوَلَه وضَرَبَها؛ محاولاً تفتيتها طبقًا للسُّنن الجارية في الحياة، وكلُّه أمل في نصر الله لهم؛ فأكرمه اللهُ إكرامًا عظيمًا وأراه آيةً جليلةً؛ وهي البشرى بفتح بلاد فارس والرُّوم للمسلمين وسقوط الباطل وأهله.
إنَّ قيمةَ الاقتداء وفائدتَه وعطاءَه وعظيمَ ثوابه إنَّما يكون في العزائم والقضايا الكبيرة التي قد يُمتحن صاحبُها في صدق إيمانه وقوَّة يقينه؛ فتفوتُه بعضُ النَّتائج في الدُّنيا ويخسر المعركة؛ لكن الاقتداءَ يحميه ويحول بينه وبين السُّقوط، ويرتفع به من الوقوف عند النَّتائج القريبة إلى إبصار العواقب والمآلات؛ ذلك أنَّ نقطةَ الارتكاز في الاقتداء هي رجاءُ الله واليوم الآخر، واستمرار الذِّكر الذي يجلِّي هذه الحقيقةَ ويؤكِّد حضورَها واستمرارَها.
وتظهرُ أهميَّةُ السِّيرة النَّبويَّة في التَّكامل والشُّمول في فهم النُّصوص الشَّرعيَّة، وضرورة الاقتداء والتَّأَسِّي بالرَّسول -صلى الله عليه وسلم- في كلِّ جوانب الحياة، والتَّعامُل مع نصوصها الصَّحيحة الثَّابتة بكلِّ تقدير واحترام؛ وقد يَسَّرَ اللهُ لهذه السِّيرة مَن يقوم على حفظها والعناية بأدقِّ تفاصيلها؛ حتَّى كأنَّك تنظر إلى صاحبها وأحواله رأيَ العين، والتاريخ شاهدٌ على أنَّه ليس في الدُّنيا أحدٌ يصحُّ أن تكون سيرتُه من الوضوح والكمال والصِّدق غير سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- وحياته.
يقول الأستاذ سليمان النَّدويّ: «إنَّ حياةَ العظيم الذي يجدر بالناس أن يتَّخذوا منها قدوةً لهم في الحياة ينبغي أن تتوفَّرَ فيها أربعُ خصال:
1- أن تكون تاريخيَّةً؛ أي أنَّ التَّاريخَ الصَّحيحَ الممحِّصَ يصدِّقُها ويشهد لها.
2- أن تكون جامعةً؛ أي محيطةً بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شؤونها.
3- أن تكون كاملةً؛ أي تكون متسلسلةً لا ينقص فيها شيء من حلقات الحياة لذلك العظيم.
4- أن تكون عمليَّةً؛ أي أنَّ الدَّعوةَ إلى الفضائل والمبادئ والواجبات بعمل الدَّاعي وأخلاقه لا بمجرَّد قوله، وأن يكون كلُّ ما دعا إليه بلسانه قد حقَّقَه بسيرته وعمل به في حياته الشَّخصيَّة والعائليَّة والاجتماعيَّة؛ وبهذا تكون أعمالُه مثلاً عليًّا للنَّاس يتأسّون بها».
وسيرةُ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ليست مجرَّدَ حوادث تاريخيَّة تؤخَذُ منها العبر والعظات فحسب؛ وإنَّما هي فوق هذا كلِّه؛ إنَّها تجسيدٌ عمليٌّ للوحي الذي يقتدى به، وهي منهج سليم واضح يهتدى بهداه، وصراط مستقيم يُسلك ويُتَّبع؛ لأنَّها منهجٌ معياريٌّ غيرُ خاضع لحدود الزَّمان والمكان؛ بل تقاس إليه الأعمال والمواقف، وتعاير عليه الاجتهادات والآراء، وتوزن بميزانه الحقِّ.
يقول الدكتور فاروق حمادة: «السيرة النَّبوية تجسيدٌ حيٌّ لتعاليم الإسلام كما أرادها الله تعالى أن تُطبَّقَ في عالم الواقع؛ فتعاليمُ الإسلام لم تنزل لتُحْصَرَ بين جدران المساجد وداخل أروقة بيوت العلم الشَّرعيِّ وكليَّاته؛ بل تنزَّلت من الحكيم العليم لتكون سلوكًا إنسانيًّا ومنهجًا حياتيًّا يعيشها الفردُ المسلم في نفسه وشخصه، ويدركها في واقعه ومجتمعه، ويشبُّ عليها؛ فتصبحَ جزءًا لا يتجزَّأُ من كيانه، يتصرَّف على هديها في كلِّ صغيرة وكبيرة، وفي كلِّ موقف وشأن؛ فالمبدأُ النَّظَريُّ يُرى ماثلاً قائمًا في شخص صاحبه؛ وهذا ما نجده في السِّيرة النَّبويَّة؛ حيث كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجسِّم تعاليمَ الإسلام كما أرادها اللهُ تعالى أن تُطَبَّقَ في عالم الأحياء والبشر.
وذلك في جميع أحواله وظروفه؛ نومًا ويقظةً، سلمًا وحرباً، جدًّا ومداعبةً، غضبًا ورضًا، فردًا وجماعةً؛ فإذا ما فارق التَّربيةَ الإلهيَّةَ قيدَ أَنْمُلَة جاءه التَّصحيحُ والتَّنبيه والتَّعليم من الله عز وجل كما في حادثة ابن أمِّ مكتوم وغيرها».؛ ولهذا لم تجد أمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها– حين سُئلت عن أخلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحواله وأوضاعه كلمةً أدقَّ وأبلغَ من قولها للسَّائل: «ألم تقرأ القرآن؟! كان خلُقُه القرآن».
وتَظْهَرُ شخصيَّةُ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من خلال السِّيرة النَّبويَّة في الصُّورة المشرقة للإنسان الذي يمارس إنسانيَّته بكلِّ أبعادها، ويتفاعل مع الواقع بكلِّ معطياته، وندرك أنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- سيد البشر –بكل نوازع البشر– قد تربَّع قمَّةَ التَّسامي الإنسانيّ، وهو المثل الأعلى الحقّ للبشريَّة جميعًا؛ كما يدرك الدَّارس للسيرة النبوية التَّلازُمَ والتَّطابقَ الذي لا ينفصم بين القول والعمل، والمبدأ والسلوك؛ فلا يأمر الناس بالبرِّ وينسى نفسَه؛ بل هو أوَّلُ ملتزم ومطبِّق للأمر ولو كان وحده.
ولقد اهتدى بهذه السِّيرة الكريمة العطرة واستدل بها على صدق نبوته ورسالته عدد غير قليل في حياته وبعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- من العظماء والكبراء وآحاد النَّاس وعامَّتهم؛ ومنهم الجلنديّ ملك عمان؛ فقد قال لعمرو بن العاص عندما جاءه برسالة من النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: والله لقد دلَّني على صدق هذا النَّبيِّ الأمِّيِّ أنَّه لا يأمر بخير إلا كان أولَ آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أولَ تارك له، وأنَّه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يهجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي.
فهذه القمَّةُ الرَّفيعةُ من الإنسانية في شخص محمد -صلى الله عليه وسلم- والتي كانت تدرج على الأرض وتسير في فجاجها، عندما تُقَدَّمُ للإنسان على اختلاف زمانه ومكانه ودينه ولغته تقديمًا صحيحًا غيرَ مشوبة بأساطير وخرافات المحبِّين الجاهلين، وغيرَ مشوَّهة بتحليلات الجاحدين والمنكرين؛ بل تُقَدَّم حَيَّةً نابضةً يراها القارئ وكأنَّه يعيش أحداثها دون حجب التَّعصُّب، أو غشاوة العاطفة الجاهلة- لا شَكَّ أنَّها ستستهوي القلوبَ، ويرى فيها أيُّ شخص إنسانيَّتَه التي يَحنُّ إليها؛ لأنَّ النُّفوسَ السَّليمةَ جُبلَتْ على التَّسامي والتَّعَلُّق بالمثل الأعلى؛ وقد كان في قدر الله أن يكون محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- مظهرًا للكمال الإنسانيِّ، وطلب من الناس أن يسعوا إليه ويحاولوا التَّخَلُّقَ بأخلاقه ومحاكاة سلوكه؛ لأنَّ هذه هي الأخلاق المرضيَّة الكاملة عند الله تعالى.
إنَّ قراءةَ السِّيرة النَّبويَّة بحاجة إلى نظام معرفيٍّ واضح المعالم مستمَدٍّ من القيم والمعايير التي جسَّدتها السِّيرةُ في واقع الناس..
ومنهج القراءة يجب أن يراعي الأمور الآتية:
1- هداية الوحي والاستمداد منه.
2- خلود الرسالة وخاتمتها للأديان الإلهية.
3- مقاصد الدين.
4- عصمة النبوة وحفظ للرسول -صلى الله عليه وسلم- من الخطأ في البلاغ عن الله.
5- سلامة النقل.
6- دراية العقل.
وهذا النظام المعرفيُّ مطلوبٌ اليومَ أكثرَ من أيِّ وقت مضى؛ حيث إنَّ الأمَّةَ تعاني على أكثر من صعيد في الجانب العقديِّ والفكريِّ والجانب السِّياسيِّ والاقتصاديِّ والجانب التَّربويِّ والثَّقافيِّ.
ومسيرة السِّيرة النبوية خلال ثلاث وعشرين سنة بين الدَّعوة والدَّولة ومرحلة الضَّعف ومرحلة التَّمكين حتى وصلت إلى مرحلة الكمال والاكتمال –والتي تمَّ خلالها بناء نموذج الاقتداء الذي استوعب أصول الحالات التي يمكن أن تمرَّ بها البشريَّة حتى قيام الساعة– بحاجة إلى قراءة صحيحة وفقَ المنهج المذكور أعلاه..
وسوف يَخرج الدَّارسُ بحلول عمليَّة لكلِّ المشكلات التي تواجه الأمَّةَ بشرط أن يتوفَّر للدِّراسة:
1- الدِّقَّة في قراءة الواقع الذي عليه الناس.
2- الإحاطة بهذا الواقع من خلال متخصِّصين لا متحمِّسين فحسب.
3- تحليل الواقع بدقَّة وموضوعية.
4- تفسير وتحليل أحداث السِّيرة النَّبويَّة وفقَ المنهج المعرفيِّ الإسلاميِّ.
5- تحديد موقع الاقتداء من مسيرة السِّيرة النَّبويَّة، ومعرفة المرحلة التي تمثِّل حالةَ الاقتداء.
6- بيان كيفيَّة الاقتداء من خلال ظروف الحال التي عليها النَّاس وطبيعة أقدار التَّدَيُّن صعودًا وهبوطًا.
وإنَّ قراءةَ السِّيرة النَّبويَّة بأنظمة معرفيَّة مستوردة من الخارج رأسماليَّة واشتراكية، علمانية وقومية، أو مستنبَتة في الدَّاخل من أصحاب الأهواء والفرق المنحرفة التي ظهرت على امتداد التَّاريخ الإسلاميّ يؤدِّي إلى تقطيعها والانتقاء من أحداثها، وفصلها عن نسقها المعرفيّ وسياقها ومناسباتها؛ وهذا نتيجة طبيعيَّةٌ للانحراف العقديّ والتَّخاذل الثَّقافيِّ، وتصبح السِّيرة النَّبوية والتُّراث الإسلاميُّ بصفة عامة مدخلاً أو معبرًا للغزو الفكريِّ الذي يحاول إضفاءَ المشروعيَّة والقبول على انحرافه في الدَّاخل الإسلاميِّ.
النِّطاقُ الزَّمانيُّ للسِّيرة النَّبويَّة:
البعثةُ المحمديةُ هي خاتمة الرِّسالات كما قال تعالى: "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ:" [الأحزاب: 40].
ورسالته رسالةٌ عامَّةٌ لجميع الإنس والجن؛ كما أنَّ شريعتَه ناسخةٌ لجميع شرائع الرُّسُل؛ فلا يَقبل اللهُ من أحد غيرَ شريعته -صلى الله عليه وسلم-؛ وهي تأتي حسبَ تاريخ النُّبوَّات آخر النبوات.
والسِّيرةُ النَّبويَّةُ في نطاقها الزَّمانيِّ تشمل الفترةَ من ولادته -صلى الله عليه وسلم- عامَ الفيل وحتَّى وفاته في الثَّاني عشر من شهر ربيع الأوَّل من السَّنة الحادية عشرة من الهجرة النَّبويَّة، وجملتُها ثلاث وستُّون سنة قمريَّةً، وتوافقها في التَّاريخ المسيحيّ الفترة (571م – 632م).
والنُّبوَّاتُ جميعًا تمثِّل وحدةً تاريخيَّةً واحدةً ذات حلقات متعدِّدة، والأنبياء وأتباعُهم أمَّةٌ واحدة لها سمات مشتركةٌ، والتَّاريخ الإسلاميُّ ليست بدايته من بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- كما قد يظنُّ البعض؛ وإنما بدايته الحقيقية من هبوط آدم وحوَّاء إلى هذه الأرض مسلمين لله ربِّ العالمين؛ فإنَّ آدمَ أبا البشر- عليه الصلاة والسلام- «نبيٌّ مكلَّمٌ»، واستمرَّت ذريَّتُه عشرةَ قرون كلّهم على التَّوحيد، كما ثبت بذلك الخبرُ عن ابن عبَّاس- رضي الله عنه.
ثمَّ لمَّا وقع الانحرافُ في التَّوحيد وظهر الشِّركُ في البشريَّة بعث اللهُ نوحًا عليه الصَّلاةُ والسلامُ ليجدِّد معالمَ التَّوحيد ويعيدَ المشركين إلى الحقِّ، ثم تتابعت الرُّسُلُ والأنبياء يدعون إلى عبادة الله وحدَه واجتناب الطَّاغوت؛ كما قال تعالى: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" [النحل: 36].
فأصلُ الدِّين واحدٌ؛ وهو التَّوحيدُ الذي هو إفرادُ الله بالعبادة؛ أمَّا الشَّرائع فهي متنوِّعةٌ كما قال- عليه الصَّلاة والسَّلام: «أنا أولى الأنبياء بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة، الأنبياء أخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وليس بيننا نبي»..
ومنذ وقوع الشَّرك في القوم الذين بُعث إليهم نوح- عليه الصلاة والسلام- انقسمت البشريَّةُ من حيث العقيدة إلى أمَّتَين اثنتين:
- أمَّة مسلمة موحِّدة.
- أمَّة كافرة مشركة.
وكلُّ الذين صَدَقوا الرُّسَلَ واتَّبعوهم من آدم- عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى محمَّد -صلى الله عليه وسلم- هم المسلمون، ويمثِّلون أمَّةً واحدةً وإن اختلفت أوطانُهم ولغاتُهم وتباعدت أزمانُهم؛ كما قال- تعالى- بعد ذكر جملة من الأنبياء: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء: 92]؛ فأتباعُ الرُّسُل أمَّةٌ واحدةٌ هي أمَّةُ التَّوحيد وحزب الرَّحمن وأهل الحقِّ والإيمان؛ وهم المسلمون.
أمَّا الذين كذَّبوا الرُّسُل فهم أمَّةُ الكفر والضَّلال، وهم حزبُ الشَّيطان، وهم أمةٌ واحدةٌ مهما اختلفت أوطانهم ومذاهبهم وأزمانهم؛ فإنَّ السِّمةَ الجامعة لهم هي الشِّرك وعبادة غير الله.
وهذا المفهوم يوضِّح منزلةَ السِّيرة النَّبويَّة بين سير الأنبياء- عليهم الصَّلاة والسلام- وأهميَّةَ دراستها؛ وإن كان نطاقُها الزَّمانيُّ محدودًا بحياة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من الولادة حتى الوفاة؛ فهي امتداد لسير الأنبياء قبلَه، واستمرار لتاريخ أمة الإسلام المهتدين بهديه من بعده حتى قيام الساعة.
النطاق المكاني للسيرة النبوية:
بُعِثَ النبيُ -صلى الله عليه وسلم- في مكة بلد الله الحرام، وفيها بيتُه المعظَّم الذي رفع قواعدَه إبراهيمُ الخليل وابنُه إسماعيل جدُّ العرب، والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من أهلها وقد ولد ونشأ فيها ومكة يومئذ حاضرةُ الجزيرة العربية الكبرى ولها مكانة دينية عندهم؛ حيث يحجُّون إليها كلَّ عام، ثم هاجر -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة النَّبويَّة بعد ثلاث عشر سنة من النُّبُوَّة، وفيها أسَّسَ بناء دولة الإسلام، وابتداء الجهاد حتى فتح مكَّةَ وما حولها، ثمَّ أَتَتْه الوفودُ مسلمةً ومستسلمةً في العام التَّاسع من الهجرة، ولم يَنتقل إلى الرَّفيق الأعلى حتى كانت الجزيرةُ كلُّها خاضعةً لسلطان الإسلام، وأهلها إمَّا مسلمون، وإمَّا معاهدون مسالمون.
والرسولُ -صلى الله عليه وسلم- هو أوَّلُ مَن جمع الجزيرةَ العربيةَ بكاملها في وحدة واحدة؛ وحدة فكريَّة عقديَّة، ووحدة سياسيَّة جغرافيَّة؛ وحدة على ملة الإسلام ودين التَّوحيد، وكانت قبلَ ذلك طوالَ تاريخها إمارات ودولاً متفرِّقةً؛ ففي اليمن كانت دولة معين، ثم دولة سبأ، ثم حمير، ثم استعمرهم الأحباشُ، ثم دخل عليهم الفرسُ وصارت الولايةُ في أبنائهم، وفي شمال الجزيرة كانت في وقت البعثة إمارات الحيرة والغساسنة الخاضعة للفرس والروم.
أما الحجازُ فَتَوَلَّى أمرَها إسماعيلُ بعدَ بناء البيت ثم أولادُه من بعده، ثم جدُّ أولاد إسماعيل مضاض بن عمرو الجرهمي، وطالت ولايةُ جرهم للبيت حوالي عشرين قرنًا، ثم نزعتها منهم خزاعة فحكمتْها ثلاثمائة سنة حتى انتزعها قصيُّ بن كلاب، وجمع قريش في مكَّة وما حولها؛ وذلك في منتصف القرن الخامس الميلاديِّ؛ فالجزيرة العربية هي النِّطاق المكانيّ لحركة السِّيرة النَّبويَّة في عهده -صلى الله عليه وسلم-.
وبعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- حدثت ردَّةٌ في الأطراف والقرى؛ ولكن تمكَّن أصحابُه الكرام بقيادة خليفته الأوَّل أبي بكر الصِّدِّيق -رضي الله عنه- من قمع المرتدين وإعادتهم إلى الهدى ودين الحقِّ في أقلّ من عام واحد, ثم انطلقوا بالدَّعوة والفتوحات إلى مَن يليهم من أهل الأرض مشرقًا ومغربًا حتى دانوا بالإسلام، وخضعوا لشريعته وأحكامه كما هو معلوم من سير الفتوحات الإسلاميَّة التي استمرَّت في انطلاقتها طوالَ القرن الأوَّل من الهجرة؛ فوصلوا إلى حدود الصِّين شرقًا، وإلى المحيط الأطلسيِّ وحدود فرنسا غربًا، ولله الحمدُ والمنَّةُ.
والكرةُ الأرضيةُ بكاملها مجالٌ لنشر الإسلام، وأهلها مدعوُّون جميعاً للدُّخول في الدِّين الحقِّ الذي ارتضاه المولى- عزَّ وجلَّ- دينًا للبشريَّة جميعًا كما قال تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ" [آل عمران: 19]، وقال: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [آل عمران: 85].
وقد راسل النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ملوكَ الأرض في زمانه ودعاهم إلى الدُّخول في الإسلام؛ تنفيذًا لعالميَّة الدَّعوة الإسلاميَّة؛ كما قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" [الأنبياء: 107]، وقال: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا" [الأعراف: 158]؛ فالرِّسالةُ المحمديَّةُ رسالةٌ عالميَّةٌ لكلِّ الأجناس البشريَّة؛ فكما أنَّ الأرضَ كلَّها نطاقٌ مكانيٌّ لحركة الجهاد والدَّعوة على أيدي أتباعه -صلى الله عليه وسلم- فكذلك البشر كلُّهم على مختلَف أجناسهم وأزمانهم مدعوُّون للدُّخول في الدِّين الحقِّ الذي هو الإٍسلام؛ وهو رحمةٌ لهم ومنقذ لهم من الضَّلالات والخرافات والأهواء والظُّلم والجَوْر؛ لتُشرق عليهم أنوارُ الحقِّ والعدل والطُّمَأْنينة، وتتحقَّقَ لهم الإنسانيَّةُ الصَّادقةُ والفطرة السَّليمةُ التي فَطَرَ اللهُ الخلقَ عليها؛ قال تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [الروم: 30].
يتبع إن شاء الله...