اسم الله: "الهادي"
بسم الله الرحمن الرحيم
مع الاسم الثامن والعشرين من أسماء الله الحسنى والاسم هو الهادي ، والله سبحانه وتعالى ، خَلَقَ ثمَّ هدى .
شققنا الطريق ، ثم وضعنا الشاخصات ، صنعنا الآلة وأصدرنا كُتيّب التعليمات ، الله سبحانه وتعالى خلق الكون ثم نوّره .
كلمة الهادي مأخوذة من فعل هدى ، والهادي اسم فاعل ، ما معنى هدى ؟ إن الله عز وجل يقول : "وَاللَّهُ يَدعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)" (سورة يونس: 25).
يعني خُلِقتَ لِيُسعِدَكَ ، لا سعادة تنقطع عند الموت ، بل لِيُسعِدَكَ إلى الأبد ، وما الحياة الدنيا إلا إعداد لهذه الحياة الأبدية.
إذاً : " وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " الصراط هو الطريق ، الله عز وجل أعطى الإنسان حرية الاختيار ؛ فمن شاء الهُدى هداه إلى صراط يؤدي إلى دار السلام ، خُلقت لدار السلام ، دار السلام هي الجنة ، خُلقت لدار السلام وأنت مُخيّر ، فإذا اخترت دار السلام هداك الله إلى الصراط المستقيم الذي يوصلك إلى دار السلام ، آيةٌ دقيقة المعنى جداً.
لا تظنوا كما يظن بعض الناس أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس ليعذبهم، لا تظنوا أن هذه المصائب عشوائية؛ وأن هذه المصائب مقررة من قِبَل الله عز وجل لإلجاء العباد إلى بابه قال تعالى: "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
ما معنى الهِداية ؟
الهِداية : الإمالة ، هداه أي أماله ، أي وجهه نحو الحق ، فالهِداية في اللغة معناها الإمالة ، وتُسمى الهديةُ هديةً لأن من شأنها أن تُميل قلب المَهْدي إليه .
يقول الإمام الجنيد قال :
" اهدنا الصراط المستقيم ؛ يعني يا رب مِلْ بقلوبنا إليك ، وأقم هِمَمنا بين يديك ، واجعل دليلنا منك عليك " ، النقطة الدقيقة :
هي أن الإنسان مُخيّر ، ومعنى مُخيّر أمامه عِدة خيارات ، قال تعالى : " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)" (سورة الإنسان: 3).
مَن هو الداعية ؟
هو الذي يقنعك بأن تتجه إلى طريق الحق عن طريق ماذا ؟ عن طريق الإقناع ، وعن طريق الدليل ، وعن طريق التبيين ، وعن طريق التوضيح ؛ فربنا عز وجل هو الهادي .
وبناء عليه فكم طريقة من الطُرق يهتدي بها الإنسان؟ ..
بادئ ذي بدء فالله سبحانه هدى الإنسان إليه عن طريق الخلق ، وأول مخلوقاته الكون ، والله قوي ، وفي الكون مظاهر قوته .
وهو الغني وفي الكون مظاهر الغِنى .
وهو عليم وفي الكون مظاهر العِلم .
وهو رحيم وفي الكون مظاهر الرحمة .
يعني بإمكانك أن تقول :
إنَّ الكون مظهر لأسماء الله الحُسنى ولِصفاته الفُضلى .
فإذا أردت أن تفكر في الكون وصلتَ إلى الله إنه صنعته ، منه تصل إلى الصانع .
إنه خلقه ، منه تصل إلى الخالق ، إنه كونه ، منه تصل إلى المكوّن .
إنه تنظيمه ، منه تصل إلى المُنظِّم .
به ترى العِلم ، به ترى الحِكمة ، به ترى القُدرة ، به ترى اللُطف ، به ترى العطف ، به ترى الرحمة ، به ترى الخِبرة ، كل ما في الكون يدلُّ على الله عزَّ وجل.
وقد تنظر إلى وردة فكأنَّ الله سبحانه وتعالى تجلّى عليها باسم الجميل .
فإذا رأيت البحر هائجاً ، تجلّى الله عز وجل على البحر باسم الجبّار .
تارةً ترى اسم الجبّار ، تارةً ترى اسم القهّار ، تارةً ترى اسم المُنتقم ، تارةً ترى اسم العليم ، تارةً ترى اسم الحكيم ، تارةً ترى اسم العليّ الكبير .
فكُلُّ مظهر في الكون ؛ يدلُ على اسمٍ من أسمائِه ؛ أو على كل أسمائه فكيف هدانا الله ؟ ، الله قال : " قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)" (سورة يونس: 101).
" فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) " (سورة عبس: 24).
" فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)" (سورة الطارق: 5-8).
فإذا أردت أن تهتدي إلى الله فحسبُكَ الكون ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " حسبكم الكون معجزة " .
هذا أول باب.
ولكني أقول للقارئ الكريم :
إن باب الكون أوسع أبواب الهُدى ، وأقرب طُرق الهُدى ؛ لأنَّ الكون يضعُك وجهاً لِوجه أمام قُدرة الله ، وأمام عظمته ، وأمام حِكمته، وأمام رحمته ، وأمام عِلمِه وأمام خِبرته .
فالله سبحانه وتعالى هداك بخلقه ؛ إذاً الهادي اسم من أسماء أفعاله .
أيها القارئ الكريم يمكنك أن تتأمل آلة وتقول: المهندس خِبرته رفيعة المستوى .
وتقول : هذه الألوان التي أعطاها للآلة لطيفة فيها ذوق رفيع .
تكتشف علمه ، وتكتشف ذوقه ، وتكتشف خبرته ، لكن أحياناً مع الآلة نشرة ، الآن ربنا عز وجل يهدي الإنسان لا بخلقه فحسب بل بكلامه ، قال : " اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)" (سورة الحج: 75).
" أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) " (سورة التوبة: 78).
" وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)" (سورة النحل: 77).
" فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)" (سورة البقرة: 182).
" وَهُوَ الغَفُورُ الْوَدُودُ (14)" (سورة البروج: 14).
" وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)" (سورة هود: 90).
وفي الآيات التالية تبين الهدي بكلامه سبحانه وتعالى : " اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)" (سورة الرعد: 2).
" وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)" (سورة الشورى: 29).
" لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)" (سورة هود: 22).
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)" (سورة الروم: 25).
" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)" (سورة الروم: 37).
" نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)" (سورة فُصلّت: 32).
" وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)" (سورة الشورى: 39).
" وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)" (سورة الشورى: 46).
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)" (سورة الروم: 21).
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)" (سورة الروم: 20).
أول بند من بنود الهُدى خلقُه ، فالهادي اسم من أسماء أفعاله .
البند الثاني :
أن الهادي اسم من أسماء ذاته ، لأنه المُتكلّم ، فالله مُتكلّم ، والقرآن كلامه.
أحياناً تنظر لشيء رائع ، ويقول لك صانع هذا الشيء : هذه صنعتها لكذا وهذه لكذا ، وهذه المادة الأولية من أعلى مستوى ، وهذه الآلة لأجل كذا ، فقد أعطاك تعليمات من عنده مباشرةً ، فالله سبحانه وتعالى يهدي بكلامه ، إذاً الهادي اسم من أسماء ذاته كما أننا عرفنا أنه اسم من أسماء أفعاله .
إذاً : هداك بخلقه ؛ فالهادي اسم من أسماء أفعاله ، وإذا هداك بكلامه ؛ فالهادي اسم من أسماء ذاته .
اقرأ القرآن .
القرآن يُبيّن لكَ أصل الخليقة ، حقيقة الحياة الدنيا ، ما بعد الدنيا ، كما بيّن لك أسماء الله عز وجل ، بيّن لك صفاته ، بيّن لك أنبياءه السابقين واللاحقين ، بيّن لك حكمة الوجود ، أَمَرَكَ بالصلاة في القرآن ، أَمَرَكَ بالصوم وبالزكاة وبالحج ، بيّن لك لماذا تصلي.
" اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)" (سورة العنكبوت: 45).
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)" (سورة البقرة: 183).
" خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)" (سورة التوبة: 103).
فالله سبحانه هو هادي ، الله هداك بكلامه ، فإذا أردت أن تقرأ القرآن ؛ فالقرآن باب إلى الله عزَّ وجل .
والكون باب ؛ لكن (الكون) لغة عالمية ، يعني يراه ويقرؤه ويفهمه المُسلم وغير المُسلم ، العربي وغير العربي ، إفريقي ، صيني ، أمريكي، أوروبي، من أي مكان ، الشمس ساطعة ، النجوم زاهرة ، الكواكب متألّقة ، الماء عذب زلال ، من جعله عذباً زلالاً بعد أن كان مِلحاً أجاجاً ؟ الكون يقرؤه كل إنسان ، لكن القرآن يقرأه العربي .
على كُلٍ ؛ إذا تعمّق الإنسان في معرفة الله عزَّ وجل ، تعلّم العربية حُباً بالله عز وجل ، وقد تجد شعوباً من غير العرب أتقنوا العربية لا لشيء إلا حُباً بالله عز وجل .
كيفَ أنك اليوم إذا أردت أن تأخذ شهادة عُليا من بلدٍ أجنبي ، بادئ ذي بدء تتعلم لغة ذاك البلد ، يقول لك : سنتان لغة ، أي تتعلم لغة البلد الأجنبي الذي قصدته لمدة سنتين .
طالب من طلابي نالَ بعثةً إلى تشيكسلوفاكيا ، قال : تعلمتْ لغتهم خلال سنتين ، من أجل شهادة دنيوية ، من أجل حياة محدودة تعلمتَ لغة هؤلاء القوم كي تتعلم عِلمهم ، لذلك إذا عرفت الله عزَّ وجل ، ورأيت أن كلامه شيء ثمين جداً ، فلابد إنْ كنت غير عربي ، من أن تجدَ نفسك مسوقاً إلى تعلم اللغة العربية .
والإخوة الأكارم الأفارقة مثلاً ، الأتراك الذين وفدوا إلى هذه البلدة الطيبة ، لتعلُّم أمور الدين ؛ تراهم يتقنون اللغة العربية ، بل إنهم ينزعجون انزعاجاً شديداً لو تكلمنا بكلمة واحدة باللهجة العامية خلال الدرس كله لا يفهمون إلا اللغة الفصحى .
إذاً ، إذا بلغ حُبُكَ لله عز وجل حداً مُعيناً ؛ ترى نفسك مسوقاً إلى تعلُم اللغة العربية .
إذاً فالقرآن ؛ باب آخر من أبواب الهُدى .
الكون ؛ هداك بخلقه .
والقرآن ؛ هداك بكلامه .
وأرجو ألا تنسوا أنَّ الله عزَّ وجل جعل الكون كله في كفة ، وجعل القرآن كله في كفة.
قال تعالى : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)" (سورة الأنعام: 1).
فهذه الآية صريحة في ذكر خلق الكون .
لأنهما الكون والقرآن يدلان عليه ، لأنهما يُشيران إليه ، لأنهما يُظهران أسماءَه الحُسنى ، وقال سبحانه في حديثه عن القرآن : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)" (سورة الكهف: 1).
فالكتاب ؛ هدىً بياني ؛ والكون ؛ هدىً استدلالي .
لاحظ نفسك ، أحياناً تشتري آلة من دون نشرة تعليمات تنظر إليها ، تُدقق ، تستنبط ، تُحرك بعض مفاتيحها ، تُشغلها ، تُحرّك هذا المفتاح ، انقطع التيار ، تُحرّك هذا المفتاح علا الصوت أو انخفض ؛ إذاً هذا المفتاح للصوت ، تُحرّك هذا المفتاح فيصبح الصوت صافياً ، إذاً هذا للتصفية ، تكتشف خصائصها بالتأمل والملاحظة ، لكن إذا رأيت معها نشرة باللغة العربية تقرؤها .. مفتاح رقم واحد للصوت ، الثاني للتصفية .. تَطَابُق ، يُمكن أن تتأمل في هذه الآلة فتصل إلى بعض خصائصها ؛ لكنك إذا قرأت التعليمات التي أصدرها الصانع تصل إلى خصائصها الكاملة .
إلاّ أن هناك ملاحظة ؛ فأنت من طريق التأمل تصل إلى أشياء كثيرةٍ جداً لكن ما كل شيء تصل إليه من خلال الكون .
الكون ، يَدُل على وجود الله ، يَدُل على عظمته ، يَدُل على أسمائه لكن الكون لا يَدُلُك على الصلاة ، مهما تأملّت في الكون أين الصلاة ؟ أين ذكرُ خمس صلوات ؟ أين الفرائض ؟ أين السنن ؟ أين الزكاة ؟ أين الحج ؟ أين الصيام ؟ أين غضُ البصر ؟ هذه لابُدَّ لها من منهج أنزله الله على نبيه عليه الصلاة والسلام .
من اكتفى بالكون فقد أخذ شطر الدين ، لكن لابُدَّ من أن تهتدي بالكون جزئياً ، ومن أن تهتدي بالقرآن كلياً .
القرآن يشتمل على أحكام ، كما يشتمل على أوامر ، وعلى نواهٍ وفيه منهج كامل ، وفيه أخبار السابقين ، وأخبار اللاحقين ، فيه بيان للمستقبل البعيد ، وفيه بيان عن ذات الله عزَّ وجل .
لا يكفي الكون وحده بل لا بد من أن يتكامل الكون مع القرآن .
دخلتَ إلى جامعة ، تأملت في قاعاتها الفسيحة ، تأملت في قاعات المحاضرات الكبيرة، تأملت في حدائقها الرائعة ، تأملت في بيوت طلابها ، تأملت في مخبرها ، تأملت في مسرحها ، تأملت في مكتبتها أخذك العجب العُجاب ، لكن مهما تأملت في هذه الجامعة وفي أقواسها وقاعات محاضراتها ، مهما تأملت في بيوت الطلاب وفي حدائقها وفي مكتبتها ، لا يُمكن أن تصل إلى نظامها الداخلي ، لا يُمكن أن تصل إلى طريقة النجاح والرسوب ، لا يُمكن أن تصل إلى أسماء الأساتذة ، تأمل في الجدران من هم مدرسو هذه الجامعة ؟
لابُدَّ من كتاب تقرؤه في بيان الكليات ، أقسام الكليات ، رؤساء الأقسام ، عُمداء الكليات ، أسماء الأساتذة اختصاصاتهم ميزاتهم ، موقع كل كلية ، نِظامُها الداخلي ، طريقة النجاح طريقة الرسوب طريقة الانتقال ، طريقة الدرجات المقبول ، امتياز ، شرف ، جيد ، جيد جداً ، هذا شيء لابُدَّ من أن تقرأه في النظام الداخلي .
أنا أقول هذا الكلام وأريد منه أنك إذا فكرت في الكون عرفت عظمة الله عزَّ وجل .
أما إذا أردت أن تعرف منهجه ، فلابُدَّ من قراءة القرآن .
والقرآن في أساسه موجز ، فيه كُليّات الدين ، جاء النبي عليه الصلاة والسلام فشرحه وبيّنه ، فإذا فكرت في الكون عرفت أن لِهذا الكون خالِقاً عظيماً كبيراً عليماً قديراً حكيماً لطيفاً .. الخ .
لكنك إذا أردت أن تعبده ، وإذا أردت أن تتقرب إليه ، وإذا أردت أن يُحبك ، فماذا تفعل؟ أنت الآن بحاجة إلى تعليمات من قِبَل الخالِق يقول لك صُمْ شهرَ رمضان ، أدِ زكاة مالك، غُضَ بَصَرَك أحسِن إلى أخيك ، اُعفُ عنه ، أنت الآن بحاجة إلى تعليمات هذا الخالِق أنت بعقلك عن طريق الكون آمنت بالخالِق ، لكنك إذاً أردت أن تعرف منهج الخالِق ، أمره ونهيّه ، أخبار الأمم السابقة، ماذا يُريد منك، لماذا خُلقت؟ فلابُد من أن تقرأ كتابه.
أذكّر القراء الكرام مرةً ثانية بمثال الجامعة ، دخلت إلى الجامعة أطلعوك على قاعات المحاضرات ، على بيوت الطلاب ، على الحدائق الغنّاء ، على الملاعب ، على المكتبة الضخمة، أُعجِبتَ بِها ؛ مهما تأملت في هذه الجامعة ، فهل تعرف عن طريق التأمل والمشاهدة كم كُليّة فيها ؛ هل تعرف نظام النجاح فيها ؛ هل تعرف نظام الإقامة في بيوت الطلاب ؟ لا تعرف ، هل تعرف من هم المدرسون ؟ لا تعرف ، ما أسماء الكتب المقررة ؟ لا تعرف .
إذاً الكون ؛ يَدُلُكَ على وجود الله وعلى أسمائِه الحُسنى والقرآن يَدُلُكَ على منهجه ، يعني إذا أردتَ أن تؤمن به ففكّر بالكون ، وإذا أردت أن تعبده فاقرأ القرآن ، بالكون تعرفه ، وبالقرآن تعبده ، لا يُغني أحدُهما عن الآخر .
إذا قرأت القرآن ولم تفكر في الواحد الديّان كأنك ما قرأت القرآن لماذا ؟ لأن القرآن يأمُرُكَ أن تُفكر ، فإذا لم تُفكر فقد عطلّت آيات التفكر في القرآن .
إذا فكرت في الأكوان ولم تقرأ القرآن عرفت الصانع ، لكن كيف تُصلي وكيف تصوم ؟ أين أمرُه ؟ ما عباداته؟ ماذا يريد منك ، فلا تعرف ذلك إلا بمطالعة منهجه المكتوب .
إذاً فالله هداك بالكون ؛ فالهادي اسم من أسماء أفعاله ، وهداك بالقرآن ؛ فالهادي اسم من أسماء ذاته لأنَّ الله مُتكلم ، هداك بكلامه .
ومن َثمَّ فبعدَ أن خَلَقَ الكون ، والكون دلّكَ عليه ، وأنزل القرآن والقرآن بيّنَ لك منهجه، وأمره ، ونهيّه ، وهناك حوادث ، كما أن هناك تصرفات ، شيء ما يحدث ، أمطار تنهمر ، سماء تُمطر ، سماء لا تُمطر تأتي موجة صقيع : " فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)" (سورة القلم: 19).
ترى محصولاً ثمنه ألف مليون بثلاث دقائق يتلف بالصقيع ونعوذ بالله من الصقيع، إذاً له أفعال، منها صقيع، ومنها رياح عاتية وأعاصير، وفيضانات، وبراكين، وزلازل، وكذلك أمراض وبيلة وقهر، وفقر هذه أفعاله.
خلقُهُ يدلُّ عليه، وكلامه يدل عليه، كما أن أفعاله تدل عليه: " وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)" (سورة هود: 117).
" اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)" (سورة الشورى: 30).
فلو فرضنا أن طالباً في المرحلة الإبتدائية ضرب زميل له فشكا للمعلم فعاقبه المعلم وضربه ، اثم التقى بزميله فلم يضربه فالمُعلم لا يضربه ثم في لقاء ثالث ضرب زميله فالمُعلم عاد وضربه ، مع بقاء المُعلم ساكتاً ألا يَستنبط هذا الطالب من ضرب المعلم له كلما ضرب زميله ؟ أن المعلم لا يُرضيه أن يضرب طالبٌ زميله ؟ إذاً علّمك لا بكلامه ، ولا بخلْقه علّمك بفعله .
مَنَعَ زكاةَ مالِهِ فتَلَفَ مالُهُ بقدر زكاة ماله ، هذا تعليم .
استطلت في أعراض الناس ، فالناس استطالوا في عرضك هذه بتلك .
تكبرت ؛ فأهانك الله .
تواضعت ؛ فَرَفَعَكَ الله .
أنفقت ؛ فعوّضَ الله عليك .
بَخِلت ، فأتلف الله مالَك .
غضضت بصرك عن محارم الله ، أَسعَدَكَ الله في بيتك .
أطلقت بصرك ، أشقاك في بيتك كُنتَ مع الناس صادقاً ، وثق الناس بك .
كذبت عليهم ، فَضَحَ أمركَ .
دعك الآن من كتاب الله ، ودعك من خلق الله ، تعال إلى أفعال الله ، أفعال الله وحدها تُعلِّمُكَ ، مرةً ثانية ؛ المعلم ساكت لم يتكلّم ولا بكلمة حينما رآك وكزت زميلك وأنت خارج إلى الباحة ضربك على رأسك ، في الساعة الثانية ما وكزته فلم يضربْك ، في الساعة الثالثة ، وكزته فضربك المعلم وهو ساكت ، سكوته كافٍ ، وفِعلُه يُعلّم ، أليس كذلك .
طبعاً على هذه الفكرة ينطبق آلاف الوقائع ، أفعال الله وحدها تُعلِمُك .
خلْقُه يُعلِمُك وكلامه يُعلِمُك ، ربنا عز وجل قال: " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)" (سورة النمل: 69).
شخص غشَّ الناس صودرت أملاكه فلماذا صودرت ؟ دليل على أذيّته ، هذا الذي نصحهم لماذا نمَّى الله ماله ؟ هذا الذي أكرمهم لماذا أكرمه الناس ؟ هذا الذي أعطاهم لماذا أعطاه الله ؟.
إذاً : هو الهادي بخلقه ، والهادي بكلامه ، والهادي بأفعاله هداك بخلقه وهداك بكلامه وهداك بأفعاله ، لا أعتقد أنَّ واحداً من الإخوة االقرّاء إلا وعلَّمَهُ الله بالأفعال .. صليتَ الصُبح في جماعة ، فشَعَرتَ طَوَالَ النهار أن كلامك سديد ، وأن عقلك رشيد ، وأن أحوالك عالية ، وأن قلبَكَ عامر ، وأن الناس قد هابوك ، وأن الأمور مُيّسْرَةَ .
في اليوم التالي لم تُصلَ الصبح ، فاتتك صلاة الفجر ، فواجهتك مشاكل كثيرة : أول مشكلة بالطريق ، الثانية بالمحل ، الثالثة جاءك موظف تطاول عليك ، الرابعة ذهبت إلى فلان فلم تجده .
لقد عَلّمَكَ بأفعالِهِ ، يوم صليت الفجر في جماعة ؛ فأنت في حفظ الله وفي ذمته ، فلما فاتتك صلاة الفجر ، تلاحقت المشاكل في الطريق وفي العمل وفي البيت ، هذا تعليم ، الله يهديك إليه بأفعاله ، تصدقت جاءتك دفعة لم تكن بالحسبان .
سألك إنسان سؤالاً فأعطيته رغم أنك مُضطّر للمال فتح الله عليك رِزقاً .
يتبع إن شاء الله...