آداب المتعلم
كلنا يعلم أن أول ما نزل من القرآن الكريم أن أمر الله تعالى نبيه بالقراءة: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)" العلق.
ومَنَّ على الإنسان بالإنعام عليه بالعلم: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)" العلق.
ثم أقسم في ثاني سورة بالكتابة وأدواتها: "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)" القلم.
ثم تتالت الآيات في بيان فضل العلم كقوله تعالى: "هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا" الأنعام: 148. وفي الحث على التعلم كقوله تعالى: "فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ" التوبة 122.
وفي تكريم العلماء كقوله جلّ وعلا: "قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)" الرعد.
وتمت معجزة الدين الجديد بالقضاء على ظلام الجهل والخرافة والأمية، ونشر مشاعل العلم والحكمة والحضارة والمعرفة في أرجاء الأرض.
وليس هناك من دين سماوي أو نظام وضعي حض على العلم وقدسه وأمر بتحصيله وتحكيمه في كل خطوة من خطوات الحياة وفي كل ميادينها كما فعل الإسلام.
ففي وقت كان العلم محظورًا على الرعاع من الناس، ومقصورًا على طبقة الأشراف والنُّبلاء، لم يبح الاسلامُ العلم وإنما جعله فريضة على جميع معتنقيه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" رواه ابن ماجه وغيره عن أنس -رضي الله عنه-.
وتبرأ من كل جاهل فقال عليه الصلاة والسلام: "ليس مني إلا عالم أو متعلم" رواه الديلمي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.
وجعله بمنزلة الحيوان الأعجم فقال: "الناس رجلان: عالم أو متعلم، ولا خير فيمن سواهما" رواه الطبراني عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.
وجعل العلم طريقًا إلى الفوز بالجنة فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنة" رواه مسلم.
وجعل طالبه حبيب الملائكة الذين يقومون بتأييده ومعونته، قال عليه الصلاة والسلام: "وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم" رواه أبو داود عن أبي الدرداء.
وبيَّن أن القليل منه، خيرٌ من كثير العبادة فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لأن تغدو فتتعلم بابًا من العلم خيرٌ من أن تُصلي مائة ركعة" رواه ابن عبدالبر عن أبي ذر رضي الله عنه، وقال: "فضل العلم خير من فضل العبادة" رواه الطبراني والحاكم.
وجعل طلبه جهادًا في سبيل الله فقال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع" رواه الترمذي عن أنس -رضي الله عنه-، وأجره كأجر مَنْ ظفر بحجة تامة فقال: "مَنْ غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يُعلمه كان له كأجر حاجّ تامًا حجّته" رواه الطبراني عن أبي أمامة -رضي الله عنه-.
وسببًا في مغفرة الذنوب وتكفير الخطايا فقال: "ما انتعل عبدٌ قط ولا تخفَّف ولا لبس ثوبًا في طلب علم إلا غفر الله له ذنوبه حيث يخطو عتبة داره" رواه الطبراني عن علي -رضي الله عنه-.
وأمر بطلبه إن فقد في بلده ولو في آخر الدنيا فقال عليه الصلاة والسلام: "اطلبوا العلم ولو بالصين" رواه ابن عدي والبيهقي عن أنس -رضي الله عنه-.
وجعل أثره بعد موت صاحبه عملاً مستمرًا له وأجرًا باقيًا وثوابًا جاريًا في صحيفته فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جاريةٍ * أو علمٌ يُنتفعُ به * أو ولدٌ صالحٌ يدعو له" رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ولئلا يفهم الناس أن المقصود من العلم هو علم العبادات والمناسك فقط، حثَّ القرآنُ في آياته على تتبع علوم الكون كله، واستنباط أسراره وتعلم قوانينه والاستفادة من نظامه ودقة نواميسه قال سبحانه: "أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ "الأعراف" 185.
وقال تعالى: "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ" آل عمران: 191.
وأشار في محكم تنزيله إلى بعض علوم السماء والأرض، والنبات والحيوان، والأجنَّة والفَلك، والسياسة والاجتماع، والمُعاملات الاجتماعية والعلاقات الدَّولية.
ومن وحي هذه التعاليم الإسلامية لم تمض فترة وجيزة إلا وقد صار كل بيت قبلة، وكل سوق مدرسة، وانقلبت الصحاري والمراعي إلى منابع للنور والحكمة وفنون العلم والمعارف، ثم انطلق المسلمون إلى أصقاع الأرض ينشرون هذا العلم بين الناس، ويبصرونهم سبل سعادتهم، ويدلونهم على حقيقة إنسانيتهم، وأسرار خلقهم.. ويبثون حضارة ما عرفت الإنسانية أعظم منها هدفًا ولا أنبل منها غايةً ولا أرحم منها على بني الإنسان.
إنها رسالة الإسلام التي لخصها صاحبها عليه الصلاة والسلام بقوله: "إنما بُعثت معلمًا، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" رواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
هذا وليحصل طالب العلم على ثمرات عمله على الوجه المطلوبـ،، وليُبارك في جهوده، لابد أن يطلب العلم متأدبًا بآدابه التي نقطف منها هذه اللآلئ، وننظمها لكل متعلم:
1 »» آداب المتعلم مع العلم:
1 »» التماس مجالس العلم، وانتقاء اليانع من ثمراتها، والانتفاع بها على الوجه المطلوب.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا . قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: "مجالس العلم". رواه الطبراني.
2 »» الصدق في طلب العلم، وبذل الوقت والجهد في تحصيله، والإعراض عن كل ما يشغل عنه من لغو أو بطالة أو اقتراف لمعصية أو مُحَرَّم.
قال الشافعي رحمه الله:
شكوت الى وكيع سوء حفظي ***** فأرشدني الى ترك المعاصي
وأخبـــــــــرني بأن العلم نور ***** ونــــور الله لا يهدى لعاصي
قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فسُئل أي الناس أعلم؟ قال أنا، فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك" رواه الشيخان والترمذي.
وقد ذكر القرآن الكريم:
قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)" الكهف.
أي مجدًا مجتهدًا، ومسافرًا راحلاً في طلب مَنْ هو أعلم مني لأزداد علمًا ولو استدام سفري عشرات السنين والأحقاب مسافرًا في طلب العلم.
3 »» الإخلاص في طلب العلم، وإرادة وجه الله تعالى في تحصيله، وامتثال أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والحذر من أن يكون حظه من العلم طلب عرض من الدنيا قليل.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ تعلم علمًا لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار" رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" رواه أبو داود.
4 »» تزكية النفس وتطهيرها من رذائل الأخلاق واتباع الأهواء قبل طلب العلم، لأن العلم إذا نزل على نفس خبيثة زادها خبثًا وصار ضررًا على صاحبه وبلاءً على الناس.
قال الشاعر:
لا تحسبنّ العلم ينفع وحده ***** ما لم يتوّج ربّه بخلاق
وقال آخر:
لو كان للعلم من دون التقى شرف ***** لكان أشرف خلق الله إبليس
5 »» الابتعاد عن المِراء، وتجنب الجدال بعد ظهور الحق، فإن المِراء لا يأتي بخير، لأنه يضيع الوقت، ويقسي القلوب، ويورث الأحقاد، ويسبب البغضاء، وعلى المتعلم أن يبدي رأيه لمحدثه فإن اقتنع وإلا فليتوقف عن النقاش العقيم.
قال الله تعالى: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" العنكبوت 46.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ طلب العلم ليُماري به السفهاء أو ليُباهي به العلماء أو ليَصرف وجوه الناس إليه فهو في النار" رواه ابن ماجه.
6 »» المحافظة على السمت الحسن، والاتزان والهدوء، ووقار العلم، وما يطبعه في النفس من خشية لله، ومعرفة بأقدار الناس، والابتعاد عن كل ما يُخلُّ بشرف العلم ومكانته في النطق والمشي والأمكنة والمعاملات.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والوقار، تواضعوا لمَنْ تتعلمون منه" رواه الطبراني.
7 »» طلب العلم النافع المفيد في دين المسلم أو دنياه أو آخرته، وتجنب العلوم التي انقضى زمانها، أو التي لا طائل منها، أو التي تضر المسلم في دينه، أو توقعه في الشك والإلحاد.
قال تعالى: "وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ" الشورى 14.
وعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها" رواه مسلم.
8 »» تلقي العلم عن أهله الأكفاء، من العلماء الراسخين، والأتقياء الصالحين، وأخذ كل فن من المختصين به، المحسنين له.
عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" رواه الحاكم.
9 »» الصبر على التعلم والحفظ والمراجعة، واستغلال الوقت واكتساب الفراغ، قبل ذهابهما بما يستطيع من الاستزادة من العلم، قال سيدنا عمر -رضي الله عنه- (تفقهوا قبل أن تسودوا).
10 »» السؤال عن كل ما استعصى عليه فهمه، والبحث في كل مسألة حتى يتقنها، وعدم الحياء في طلب العلم.
فقد قيل لابن عباس -رضي الله عنهما- ما بما نلت هذا العلم؟ فقال: بلسان سؤول، وقلب عقول.
وقال مجاهد: لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "نِعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهنّ الحياء أن يتفقهن في الدين.
11 »» التبكير إلى مجالس العلم، والحرص على كل ما يرد فيها من أفكار ومعان وبركات، وتقييدها بالكتابة، وتصنيفها وتبويبها بعد مراجعتها في البيت.
قال الشافعي رحمه الله:
العــــــلم صيد والكتابة قيد
قيّد صيودك بالحبال الواثقة
12 »» استكمال العُدة اللازمة للدخول في عِداد طلاب العلم ومنها ثمانية أشياء: الدليل: وهو المعلم الكامل، والزاد: وهو التقوى، والسلاح: وهو الوضوء، والسراج: وهو الذكر، والمنهاج: وهو الشريعة المحمدية، والهمة الصادقة القوية، والأخوة في الله المصاحبين بالصدق، وتجنب اتباع الهوى.