المقاصد الاربعة في بسم الله وفي الحمد لله
ان قلت: ارني هذه المقاصد الاربعة في "بسم الله" وفي "الحمد لله".
قلت: لما اُنزل (بسم الله) لتعليم العباد كان "قُلْ" مقدَّراً فيه.
وهو الأُمّ في تقدير الاقوال القرآنية 2.
فعلى هذا يكون في "قل" اشارة الى الرسالة.. وفي (بسم الله) رمز الى الالوهية.. وفي تقديم الباء تلويحٌ الى التوحيد 3..
وفي (الرحمن) تلميحٌ الى نظام العدالة والاحسان.. وفي (الرحيم) ايماء الى الحشر.
وكذلك في (الحمد لله) اشارةٌ الى الالوهية.. وفي لام الاختصاص رمزٌ الى التوحيد.. وفي (رب العالمين) ايماء الى العدالة والنبوة ايضا؛ لان بالرسل تربيةُ نوع البشر.. وفي (مالك يوم الدين) تصريح بالحشر.
حتى ان صَدَف (اِنَّا اَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ )4 يتضمن هذه الجواهر.
هذا مثالا فانسج على منواله.
_____________________
1 جواب لما .. (المؤلف).
2 اى: يا محمد! قل هذا الكلام وعلّمه الناس (ت: 13).
3 حيث يفيد الحصر. (ت: 13).
4 وهى من اقصر السور القرآنية.
(بِسْمِ الله)
كالشمس يضئ نَفْسَه كغيرِه، فاستغنى.
حتى ان باءه متعلقة بالفعل المفهوم من معناها -اي: استعين به، او المفهوم عرفاً، أي: أتَيمّن به، أو بما يستلزمه "قل" المقدَّر من "أقرأ"- المؤخّر للاخلاص والتوحيد 1.
اما "الاسم" فاعلم! ان لله اسماء ذاتية، واسماء فعلية متنوعة كالغفار والرزاق والمحيي والمميت وأمثالها. وتنوّعُها وتكثُّرها بسبب تعدد نسبة القدرة الازلية الى انواع الكائنات 2.
فكأن (بسم الله) استنزالٌ لتأثير وتعلق القدرة ليكون ذلك التعلقُ روحاً مُمدّاً لكسب العبد.
(الله) لفظة الجلال نسخةٌ جامعة لجميع الصفات الكمالية لدلالتها التزاماً عليه؛ بسر استلزام ذاته تعالى لصفاته بخلاف سائر الأَعلام، لعدم الاستلزام.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وجه النظم:
ان لفظ الجلال كما يتجلى منه الجلال بسلسلته، كذلك يتراءى الجمال بسلسلته من (الرحمن الرحيم).
اذ الجلال والجمال اصلان تسلسل منهما -بتجليهما في كل عالم- فروعٌ: كالامر والنهي، والثواب والعذاب، والترغيب والترهيب، والتسبيح والتحميد، والخوف والرجاء الى آخره .
وايضا كما ان لفظ الجلال اشارة الى الصفات العينية والتنزيهية؛ كذلك "الرحيم" ايماء الى الصفات الغيرية الفعلية؛ و"الرحمن" رمز الى الصفات السبع التي هي لا عينٌ ولا غيرٌ؛ اذ "الرحمن" بمعنى الرزاق، وهو عبارة عن اعطاء البقاء.
والبقاءُ تكررُ الوجود.
والوجود يستلزم صفة مُمَيِّزة وصفة مُخَصِّصَة وصفة مُؤَثِّرَة، وهي العلم والارادة والقدرة.
والبقاء الذي هو ثمرة اعطاء الرزق يقتضي عُرفاً ثبوت البصر والسمع والكلام؛ اذ لابد للرزاق من البصر ليرى حاجة المرزوق إن لم يَطلب، ومن السمع ليستمع كلامه إن طلب، ومن الكلام ليتكلم مع الواسطة إن كانت. وهذه الست تستلزم السابعة التي هي الحياة.
_____________________
1 ان الافعال المذكورة المتعلقة بالباء، تقدّر مؤخراً للحصر ليتضمن الاخلاص والتوحيد (ت: 14).
2 اى بسبب علاقة القدرة الازلية وتعلّقها بانواع الكائنات وافرادها (ت: 14).
ان قلت: تذييل "الرحمن" الدال على النِعَمِ العظيمة بـ "الرحيم" الدال على النعم الدقيقة يكون صنعة التدلّي. والبلاغة في صنعة الترقِّي من الادنى الى الاعلى؟
قلت: تذييلٌ للتتميم كالاهداب للعين واللجام للفرس.. وايضا لما توقفت العظيمةُ على الدقيقة، كانت الدقيقة ارقى كالمفتاح للقفل واللسان للروح..
وايضا لما كان هذا المقام مقام التنبيه على مواقع النِعَمِ كان الأخفى أجدر بالتنبيه، فيكون صنعةُ التدلِّي في مقام الامتنانِ والتعدادِ صنعةَ الترقِّي في مقام التنبيه.
ان قلت: "الرحمن" و"الرحيم" كامثالهما بمبادئها محالٌ في حقه تعالى كرقَّةِ القلب.
وان اُريد منها النهايات 1 فما حكمة المجاز؟
قلت: هي حكمة المتشابهات 2؛ وهي التنزلات الالهية الى عقول البشر؛ لتأنيس الاذهان وتفهيمها، كمن تكلم مع صبيّ بما يألفه ويأنس به.
فان الجمهور من الناس يجتنون معلوماتهم عن محسوساتهم ولا ينظرون الى الحقائق المحضة الا في مرآة متخيلاتهم ومن جانب مألوفاتهم.. وايضا المقصود من الكلام: افادةُ المعنى، وهي لاتتم الا بالتأثير في القلب والحس، وهو لايحصل الا بإلباس الحقيقة اسلوبَ مألوف المخاطب وبه يستعد القلب للقبول.
(الحَمْدُ)
وجه النظم مع ما قبله:
ان "الرحمن" و"الرحيم" لما دلّتا على النِعَم استوجبتا تعقيب الحمد.
ثم ان (الحمد لله) قد كُرِّرَت في أربع سُوَرٍ من القرآن 3، كل واحدة منها ناظرة الى نعمة من النعم الاساسية التي هي: النشأة الاولى، والبقاء فيها؛ والنشأة الاُخرى، والبقاء بعدها. 4
_____________________
1 اى: إن قصد الإنعام الذي هو نتيجة ولازم لمعنى حقيقتهما (ت: 16).
2 التى محال استعمال معناها الحقيقي بحقه تعالى، كاليد (ت: 16).
3 وهى: الانعام، الكهف، سبأ، فاطر.
4 قال ابو اسحق الاسفراينى رحمه الله: في سورة "الأنعام" كل قواعد التوحيد.
ولما كانت نعمه تعالى مما تفوت الحصر إلاّ انها ترجع اجمالاً الى ايجاد وابقاء في النشأة الاولى، وايجاد وابقاء في النشأة الآخرة.
وقد اشير في "الفاتحة" "الكهف" الى الابقاء الاول، وفي "سبأ" الى الايجاد الثانى، وفي "فاطر " الى الابقاء الثانى، فلهذا ابتدأت هذه السور الخمس بالتحميد (حاشية شهاب على سورة الانعام ج 4 ص2) (ب).
ثم وجه نظمه في هذا المقام، أي جعله فاتحةَ فاتحةِ القرآن هو: انه كتصوّر العلة الغائية 1 المقَدَّم في الذهن؛ لان الحمدَ صورةٌ اجمالية للعبادة التي هي نتيجةٌ للخِلقة، والمعرفةِ التي هي حكمةٌ وغايةٌ للكائنات.
فكأن ذكره تصورٌ للعلة الغائية.. وقد قال عز وجل (وماخلقتُ الجنَّ والإِنس الاّ ليعبدون) 2.
ثم ان المشهور من معاني الحمد اظهار الصفات الكمالية.
وتحقيقه:
ان الله سبحانه خلق الانسان وجعله نسخة جامعة للكائنات، وفهرستة 3 لكتاب العالَم المشتمل على ثمانية عشر الف عالَم، وأودع في جوهره انموذجاً من كل عالَم تجلى فيه اسمٌ من اسمائه تعالى.
فاذا صرفَ الانسانُ كل ما اُنعِمَ عليه الى ما خُلِقَ لأجله ايفاءً للشكر العرفي -الداخل تحت الحمد- وامتثالاً للشريعة التي هي جلاء لصدأ الطبيعة، يصيرُ كلُّ انموذجٍ مشكاةً لعالَمِهِ ومرآةً له وللصفة المتجلية فيه والاسم المتظاهر منه.
فيكون الانسان بروحه وجسمه خلاصةَ عالمَيْ الغيب والشهادة، ويتجلى فيه ما تجلى فيهما.
فبالحمد يصير الانسان مظهراً للصفات الكمالية الالهية.
يدل على هذا قول محي الدين العربي 4 في بيان حديث (كُنْتُ كَنْزَاً مَخْفِيًّا فَخَلًقْتُ الْخَلْقَ لِيَعْرِفُوني) 5 أي: فخلقت الخلق ليكون مرآةً أشاهِدُ فيها جمالي.
_____________________
1 اى يكون المعلوم لأجلها.
2 سورة الذاريات: 56 .
3 فهرس وفهرست كلمة معربة.
4 محي الدين بن عربي: 560 - 638هـ /1165 - 1240م
هو محمد بن علي بن محمد ابن عربي، ابو بكر الحاتمي الطائي الأندلسي، المعروف بمحي الدين بن عربي، الملقب بالشيخ الأكبر: فيلسوف، من أئمة المتكلمين في كل علم.
ولد في مرسيه (بالاندلس) وانتقل الى اشبيلية.
وقام برحلة فزار الشام وبلاد الروم والعراق والحجاز.
وانكر عليه اهل الديار المصرية «شطحات» صدرت عنه، فعمل بعضهم على إراقة دمه.
وحبس، فسعى في خلاصه علي بن فتح البجائي فنجا.
واستقر في دمشق، فتوفي فيها له نحو اربعمائة كتاب ورسالة، منها (الفتوحات المكية) في التصوف وعلم النفس و(فصوص الحكم).
الاعلام 6/281 فوات الوفيات 2/241 ميزان الاعتدال 3/108 جامع كرامات الاولياء 1/118 شذرات الذهب 5/190.
5 لا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، الاّ ان علي القارئ قال: ولكن معناه صحيح، مستفاد من قوله تعالى: (وما خلقت الجن والانس إلاّ ليعبدون) اى ليعرفونى، كما فسره ابن عباس رضى الله عنهما (باختصار عن كشف الخفاء 2/132).
(لله)
أي الحمد مختص ومستحق للذات 1 الاقدس المشخص الذي يُلاحَظ بمفهوم "الواجب الوجود" 2 اذ قد يلاحظ المشخص بأمر عام.
وهذه اللام متعلقة بمعنى نفسها، كأنها تشربت معنى متعلقها 3.
وفي اللام اشارة الى الاخلاص والتوحيد.
(رَبِّ)
أي الذي يربّي العالم بجميع اجزائه، التي كلٌ منها كالعالم عالَم؛ وذرَّاتهُ كنجومه متفرِّقةٌ متحرِّكة بالانتظام.
واعلم! ان الله عز وجل عيّن لكل شئ نقطةَ كمالٍ وأودع فيه ميلاً اليها، كأنه أمَرَه أمراً معنويا ان يتحرك به اليها، وفي سفره يحتاج الى ما يُمدُّه ودفع ما يَعوقهُ، وذلك بتربيته عز وجل.
لو تأملت في الكائنات لرأيتها كبني آدم طوائف وقبائل يشتغل كلٌ منفرداً ومجتمعاً بوظيفته التي عيَّنَها له صانِعُه ساعياً مُجدّاً مطيعا لقانون خالقه.
فما اعجب الانسان كيف يشذّ!
(الْعَالَمِينَ)
الياء والنون إما: علامة للاعراب فقط كـ "عشرين وثلاثين".. أو للجمعية؛ لأن اجزاء العالم عَوالم.. أو العالمُ ليس منحصراً في المنظومة الشمسية. قال الشاعر:
الَحَمْدُ لله كَمْ لله مِنْ فَلَكٍ تَجرِي النّجُومُ بِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وآثرَ جمعَ العقلاء مثل (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) 4 اشارةً الى ان نظرَ البلاغة يصوّر كل جزء من أجزاء العالم بصورةِ حيّ عاقلٍ متكلِّم بلسان الحال. اذ العالَم اسمُ مايُعلَمُ به الصانعُ ويشهدُ عليه ويشير اليه. فالتربية والإعلامُ يُومِيان - كالسجود - الى انها كالعقلاء.
(الْرَّحْمن الْرَّحِيمِ)
وجه النظم:
انهما اشارتان الى أساسَيْ التربية؛ اذ "الرحمن" لكونه بمعنى الرزاق يلائم جلب المنافع؛ و"الرحيم" لكونه بمعنى الغفار يناسب دفع المضار وهما الاساسان للتربية.
_____________________
1 جعل كلمة "الذات" اسماً للحقيقة فزال التأنيث.
2 الذى يكون وجوده من ذاته ولا يحتاج الى شئ اصلاً.
3 بعد حذف متعلقها (ت: 17).
4 سورة يوسف: 4.
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) اي يوم الحشر والجزاء.
وجه النظم:
انه كالنتيجة لسابقه؛ اذ الرحمة من أدلة القيامة والسعادة الابدية؛ لان الرحمة انما تكون رحمةً، والنعمة نعمةً إذا جاءت القيامة وحصلت السعادة الابدية.
وإلاّ فالعقلُ الذي هو من اعظم النِعَم يكون مصيبةً على الانسان، والمحبة والشفقة اللتان هما من ألطف انواع الرحمة تتحولان ألماً شديداً بملاحظة الفراق الابدي.
إن قلت: ان الله تعالى مالكٌ لكل شئ دائما فما وجه الاختصاص؟ 1
قلت: للاشارة الى ان الاسباب الظاهرية التي وضَعَها الله تعالى في عالم الكون والفساد لإظهار عظمته -أي لئلا يُرى في ظاهر نظر العقل مباشرةُ يد القدرة بالامور الخسيسة في جهة مُلْك الأشياء- ترتفع في ذلك اليوم وتتجلّى ملكوتيةُ كل شئ صافيةً شفّافةً، بحيث يَرى ويَعرف كلُ شئ سيِّدَه وصانِعَه بلا واسطة.
وفي التعبير بلفظ "اليوم" إشارة الى امارة حدسية من امارات الحشر بناء على التناسب البيّن بين اليوم والسنة، وعمر البشر ودوران الدنيا.
كالكائن بين اَمْيال الساعة العادّة للثواني والدقائق والساعات والايام.
فكما ان مَن يرى ميلاً أتمَّ دَوْرَه يحدس في نفسه ان من شأن الآخر أيضاً ان يتم دوره وإن كان بمهلة؛ كذلك ان من يرى القيامة النوعية المكررة في أمثال اليوم والسنة يتحدس بتولد ربيع السعادة الأبدية في صبح يوم الحشر للإنسان الذي شخصُه كنوعٍ.
والمراد من (الدّين) إمّا الجزاء، أي يوم جزاء الأعمال الخيرية والشرية، أو الحقائق الدينية، أي يوم طلوعها وظهورها وغلبة دائرة الاعتقاد على دائرة الاسباب؛ لأن الله عز وجل أودع بمشيئته في الكائنات نظاماً يربط الاسباب بالمسببات وألجأ الانسان بطبيعته ووهمه وخياله الى ان يراعي ذلك النظام ويرتبط به.
وكذا وجّه كل شئ اليه وتَنَزَّه عن تأثير الاسباب في مُلكه. وكلّف الانسان اعتقاداً وايماناً بان يراعي تلك الدائرة بوجدانه وروحه ويرتبط بها.
ففي الدنيا دائرة الاسباب غالبة على دائرة الاعتقاد؛ وفي الأُخرى تتجلى حقائق العقائد غالبة على دائرة الاسباب.
واعلم! ان لكلٍ من هاتين الدائرتين مقاماً معيناً وأحكاماً مخصوصة، فلابد ان يُعطى كلٌّ حقّه.
فمن نظر في مقام دائرة الاسباب بطبيعته ووهمه وخياله ومقاييس الاسباب، الى دائرة الاعتقاد اضطر الى الاعتزال.
ومن نظر في مقام الاعتقاد ومقاييسه بروحه ووجدانه الى دائرة الاسباب أنتج له توكلا تَنْبَلِياً 1 وتمرداً في مقابلة المشيئة النظامة.
_____________________
1 في مالك يوم الدين (ت: 19).
اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
(اِيَّاكَ نَعْبُدُ) في "الكاف" نكتتان:
احداهما: تضمن الخطاب بسر الالتفات 2 للاوصاف الكمالية المذكورة، اذ ذكرها شيئاً شيئاً يحرّك الذهن ويُعدّه ويملأُهُ شوقاً ويهزه للتوجه الى الموصوف.
فـ"اياك" أي: يامن هو موصوف بهذه الصفات.
والاخرى: ان الخطاب يشير الى وجوب ملاحظة المعاني في مذهب البلاغة ليكون المقروء كالمُنْزَل، فينجر طبعاً وذوقاً الى الخطاب.
فـ "ايّاك" يتضمن الامتثال بـ (أُعْبُدْ رَبَّكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ). 3
والتكلم مع الغير في (نعبد) لوجوه ثلاثة:
أي نعبد نحن معاشر أعضاء وذرّات هذا العالم الصغير - وهو أنا - بالشكر العرفي الذي هو إطاعة كلٍ لما أُمر به.. ونحن معاشر الموحّدين نعبدك باطاعة شريعتك.. ونحن معاشر الكائنات نعبد شريعتك الكبرى الفطرية 4 ونسجد بالحيرة والمحبة تحت عرش عظمتك وقدرتك.
وجه النظم: ان "نعبد" بيان وتفسير لـ "الحمد" ونتيجة ولازم لـ (مالك يوم الدين).
واعلم! ان تقديم "اياك" للاخلاص الذي هو روح العبادة.
وان في خطاب الكاف رمزاً الى علة العبادة لان من اتصف بتلك الاوصاف الداعية الى الخطاب استحق العبادة.
(وَاِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هذه كـ (ايَّاك نعبد) باعتبار الجماعات الثلاث:
_____________________
1 التنبل والتنبال: البليد الكسلان. ج تنابلة. والمقصود هنا مذهب الجبرية.
2 الالتفات: هو العدول عن الغيبة الى الخطاب او التكلم، او على العكس (التعريفات).
3 اصل الحديث رواه البخارى ومسلم، وفيه: ما الاحسان؟ قال: ان تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فانه يراك (متفق عليه) ورواية الطبرانى: اُعبدالله كأنك تراه. وهو حديث صحيح (صحيح الجامع الصغير 1049)
4 اى ننقاد ونخضع ونطيع.
اي نحن معاشر الاعضاء ومعاشر الموحِّدين ومعاشر الكائنات نطلب منك التوفيق والاعانة على كل الحاجات والمقاصد التي أهمها عبادتك.
كرَّرَ "اياك" لتزييد لذة الخطاب والحضور.. ولأن مقام العيان أعلى وأجلّ من مقام البرهان.. ولأن الحضور أدعَى الى الصدق وبأن لايكذب.. ولاستقلال كلٍّ من المقصدين.
واعلم! ان نظم "نستعين" مع "نعبد":
كنظم الاجرة مع الخدمة، لأن العبادة حق الله على العبد، والاعانة إحسانُه تعالى لعبده.
وفي حصر "اياك" إشارة الى ان بهذه النسبة الشريفة التي هي العبادة والخدمة له تعالى يترفَّعُ العبد عن التذلل للاسباب والوسائط، بل تصير الوسائطُ خادمةً له وهو لايعرف الا واحدا، فيتجلى حُكْمُ دائرة الاعتقاد والوجدان كما مر.
ومن لم يكن خادما له تعالى بحق يصير خادماً للاسباب ومتذللاً للوسائط.
لكن يلزم على العبد وهو في دائرة الاسباب ان لايهمل الاسباب بالمرة لئلا يكون متمردا في مقابلة النظام المودع بحكمته ومشيئته تعالى، لأن التوكل في تلك الدائرة عطالة كما مر، وكنظم المقدِّمة مع المقصود لأن الاعانة والتوفيق مقدمة العبادة.
اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
(اِهْدِنَا)
وجه النظم: انه جواب العبد عن سؤاله تعالى كأنه يسأل: أيّ مقاصدك أعلَقُ بقلبك؟ فيقول العبد: اهدنا.
واعلم! ان "اهدنا" بسبب تعدد مراتب معانيه - بناء على تنوّع مفعوله الى الهادين والمستهدين والمستزيدين وغيرهم - كأنه مشتق من المصادر الاربعة لفعل الهداية. فاهدنا باعتبار معشر "ثبّتنا"، وبالنظر الى جماعة "زدنا"، وبالقياس الى طائفة "وفّقنا" والى فرقة "اَعْطنا".. وأيضا ان الله تعالى بحكم (أعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) 1 هدانا بإعطاء الحواس الظاهرة والباطنة، ثم هدانا بنصب الدلائل الآفاقية والأنفسية، ثم هدانا بارسال الرسل وانزال الكتب، ثم هدانا أعظم الهداية بكشف الحجاب عن الحق فظهر الحق حقا والباطل باطلا.
اللَّهُمَّ اَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اِتِّبَاعَهُ وَاَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ.
_____________________
1 سورة طه: 50.
إشارات الإعجاز - ص: 32
يتبع إن شاء الله...