الباب السادس: الخطاب الصهيوني المـراوغ
سمات الخطاب الصهيوني المراوغ Charactaristics of the Evasive Zionist Discourse
كلمة «خطاب» العربية هي ترجمة لكلمة «ديسكورس discourse» الإنجليزية. وكلمة «خطاب» كلمة مركبة وخلافية ولها معان عديدة إذ تطوَّر حقلها الدلالي بشكل ملحوظ منذ الخمسينيات مع ظهور البنيوية وما بعدها. وقد عُرِّف الخطاب (بالمعنى المعجمي المباشر) بأنه "كل كلام تجاوز الجملة الواحدة سواء كان مكتوباً أو ملفوظاً". ولكن للكلام دلالات غير ملفوظة يدركها المتحدث والسامع دون علامة معلنة واضحة. ولذا عُرِّف الخطاب بأنه نظام من القول له قواعده وخواصه التي تحدِّد شكل الجمل وتتابعها والصور المجازية والخواص اللفظية ونوع الأسئلة التي تُسأل والموضوعات الأساسية الكامنة، وما يُقال وما يُسكت عنه، أي تحدِّد الاستدلالات والتوقعات الدلالية. ويتم إنتاج المعرفة الإنسانية من خلال الخطاب، وكثيراً ما تستمد هذه المعرفة مصداقيتها من القواعد التي تحكمها وليس من مطابقة تلك المعرفة لما هو حاصل أو واقع. ولذا فإنتاج الخطاب وتوزيعه ليس حراً أو بريئاً، كما قد يبدو من ظاهره.
ولكل مجتمع خطابه إذ تتآلف الجمل لتشكل نصاً مفرداً، وتتآلف النصوص لتُشكل نصاً شاملاً، أي نسقاً فكرياً متكاملاً ورؤية للكون. ومن ثم فالخطاب (من منظور فوكوه) هو مجموعة من المنظومات التي تنتمي إلى تشكيل واحد، يتكرر على نحو دال في التاريخ، بل على نحو يغدو معه الخطاب جزءاً من التاريخ، جزء هو بمنزلة وحدة وانقطاع في التاريخ نفسه. والمحرك الأساسي وراء شكل الخطاب (عند فوكوه وغيره) هو الرغبة في الاستئثار بالقوة من قبَل فئات اجتماعية (وهو تفسير دارويني نيتشوي للإنسان ولسلوكه ودوافعه).وتحليل الخطـاب هو اسـتنباط القواعـد التي تحكم التوقعات الدلالية، ولذا يتشابك تحليل الخطاب بالسيموطيقا أو علْم العلامات من حيث هو أيضاً بحث في القواعد أو الأعراف التي تحكم إنتاج الدلالة (البازعي والرويلي).
والخطاب الصهيوني له سمات محددة أهمها المراوغة النابعة من تَعدُّد الجهات التي يتوجَّه لها هذا الخطاب:
1 ـ الصهيونية حركة تابعة يدعمها ويمولها الاستعمار الغربي، ولذا فإن الخطاب الصهيوني يتوجَّه إلى الدول الاستعمارية الراعية.
2 ـ لا تتوجه الصهيونية لهذه الدول وحسب أو لنخبها وحسب وإنما للرأي العام غير اليهودي فيها الذي قد لا يدرك الأبعاد الإستراتيجية للتحالف بين إسرائيل والحضارة الغربية.
3 ـ لابد أن يتوجه الخطاب الصهيوني للمادة البشرية المُستهدَفة، أي تلك الجماعات اليهودية في العالم التي تنتمي إلى تشكيلات ثقافية وحضارية واجتماعية مختلفة.
4 ـ تعـود الصهيونيـة إلى أصـول ثقافية ودينية واجتماعية وطبقية متباينة، وهو ما يجعل لكل فريق صهيوني رؤية وأولويات مختلفة. ومما يجدر ذكره أن التيارات الصهيونية تركت بعض القضايا الأساسية دون اتفاق. فلم يتم الاتفاق على هوية اليهودي، بل لم يتم الاتفاق على هوية الصهيوني. كما لم يتحدد التوجه الاجتماعي أو الاقتصادي للعقيدة الصهيونية.
والمشكلة التي واجهها الخطاب الصهيوني هي كيف يمكن التوجه لكل هذه القطاعات في وقت واحد، إذ كان على الدولة الصهيونية أن تُقدم نفسها باعتبارها: دولة ديموقراطية تنبع من أيديولوجية ليبرالية وتنتمي إلى الحضارة الغربية العقلانية، وتقوم في الوقت نفسه بطرد الفلسطينيين وهَدْم قراهم وديارهم وخوض حروب توسعية تُذكِّر الإنسان بدولة مثل إسبرطة أو بروسيا لا بأثينا. وكان على الدولة الصهيونية أن تُقدِّم نفسها باعتبارها: دولة علمانية متطرفة في علمانيتها، ولكنها في الوقت نفسه دينية متطرفة في تديُّنها، ورأسمالية مغالية في رأسماليتها، واشتراكية مغالية في اشتراكيتها. والحركة الصهيونية تقبل اندماج اليهود في غرب أوربا (حتى لا تثير حفيظة يهود هذه البلاد أو حكوماتها) ولكنها في الوقت نفسه تطالب بتهجير يهود شرقها.
ولإنجاز هذا، ولتحقيق هدفها في اغتصاب فلسطين وطَرْد أهـلها وتجنيد يهــود العالم لدعم مشروعها ومده بالمادة البشرية المطلوبة، طوَّرت الصهيونية خطاباً هلامياً مبهماً غير متجانس بشكل متعمد يتسم بدرجة عالية من عدم الاتساق ويحتوي على فجوات كثيرة بهدف تغييب الضحية وتشويه صورته. وقد كتب هرتزل قائلاً إنه "حقق شيئاً يكاد يكون مستحيلاً: الاتحاد الوطيد بين العناصر اليهودية الحديثة المتطرفة [أي اليهود المندمجين في غرب أوربا واليهود غير اليهود]، والعناصر اليهودية المحافظة [أي يهود شرق أوربا واليهود المتدينين] ـ وقد حدث ذلك بموافقـة الطـرفين دون أي تنازل من الجــانبين ودون أية تضحية فكرية". كما تَباهَى هرتزل بمصالحة أخرى أجراها بين الحضارة الغربية ويهود العالم.
وهرتزل كان محقاً تماماً فيما يقول، فالخطاب الصهيوني المراوغ (الذي وضع هو أساسه) نجح في إخفاء كل التناقضات وفي التوجه إلى كل القطاعات المعنية، إلى كل قطاع بصوت يرضيه. كما أنه تجاهل العرب تماماً، فلم يذكرهم بخير أو شر. وقد احتفظ هذا الخطاب بتوجُّهه الأساسي من خلال التمسك بالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (والمهوَّدة) وإخفائها إلى حدٍّ كبير في آن واحد، على أن تعبِّر عن نفسها من خلال تنويعات عليها تخبئها سحابة كثيفة من الإستراتيجيات والحيل البلاغية المتنوعة التي سندرسها حتى يمكننا أن نفك شفرة الخطاب الصهيوني.
1 ـ محاولة تجاهل الأصول التاريخية أو تزييفها:
من الحيل الأساسية في الخطاب الصهيوني محاولة عزل الظواهر والدوال عن أصولها التاريخية والاجتماعية والثقافية بحيث يبدو الواقع كما لو كان مجرد عمليات وإجراءات ليس لها تاريخ واضح ولا سياق تاريخي محدَّد، ومن ثم فليس لها سبب معروف أو اتجاه محدَّد. فالصراع العربي الإسرائيلي، على سبيل المثال، ليس ثمرة العقد الصهيوني الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، والذي قامت الدول الإمبريالية بمقتضاه بغرس كتلة بشرية غريبة في وسط العالم العربي والإسلامي، وتحوَّلت هذه الكتلة إلى دولة وظيفية تحتفظ بعزلتها وتقوم بضرب السكان الأصـليين وجيــرانها لصالح الراعي الإمبريالي. إذ يتم تناسي كل هذا، ويُقدَّم الصراع العربي الإسرائيلي باعتباره نتيجة رفض العرب قرار التقسيم وهجومهم "الغاشم" على "اليهود" المسالمين، دون سبب واضح ومفهوم. وتُقدَّم الصهيونية لا باعتيارها حركة استعمارية استيطانية إحلالية وإنما باعتبارها تعبيراً عن الحلم اليهودي المشيحاني الخاص بالعودة إلى صهيون أو أرض الميعاد، أو باعتبارها حركة إنقاذ يهود العالم من هجوم الأغيار.
داخل هذا الإطار، تصبح المقاومة شكلاً من أشكال الإرهاب غير العقلاني وغير المفهوم، بينما تصبح هجمات إسرائيل على العرب مجرد دفاع مفهوم ومشروع عن النفس. ومن ثم، فإن الجيــش الإسـرائيلي هو "جيش الدفاع الإسرائيلي". وقد سُمِّيت هذه الحيلة «الأكاذيب الصادقة» (بالإنجليزية: ترو لايز true lies)، فهي صادقة بمعنى أن هجوم العرب هو حقيقة مادية لا مراء فيها، فهي واقعة قد وقعت بالفعل. ولكنها أكاذيب بلا شك باعتبار أن هجوم العرب على إسرائيل ورَفْضهم قرار التقسيم ليس نتيجة عناد لاعقلاني وإنما هو دفاع مشروع عن الحقوق الثابتة التي أقرتها المواثيق الدولية والقيم الأخلاقية.
وفي هذا الإطار، يمكن أن نفهم بعض الحيل الصهيونية البلاغية الأخرى. فالإصرار على "المفاوضات وجهاً لوجه" باعتبارها الحل الوحيد والناجع للصراع العربي الإسرائيلي هو إصرار على إجراءات دون أية مرجعية أخلاقية أو تاريخية، وكأن الصراع أمر غير مفهوم ليس له أصل؛ وكأنه ليس هناك حالة من التفاوت والظلم ناتجة عن الغزو.
وقل الشيء نفسه عن دعوة الأمريكيين لكل من العرب والصهاينة إلى أن يظهروا ضبط النفس والاستعداد لتقديم التنازلات. ويُضرَب المثل بقرار التقسيم. فقد أظهر الصهاينة الاعتدال بقبول أكثر من نصف فلسطين، أما الفلسطينيون فقد أظهروا تطرُّفهم برفضهم ما قُدِّم إليهم. فالاعتدال والتطرف في هذا السياق قد عُرِّفا في إطار تجاهل الأصول التاريخية وهو أن المستوطنين الصهاينة مغتصبون جاءوا إلى أرض فلسطين يحملون السلاح واحتلوا أجزاء منها، وما فعله قرار التقسيم هو قبول حادثة الاغتصاب بل منحهم المزيد من الأرض ليؤسسوا دولتهم فيها.
ومنذ إنشاء دولة إسرائيل، استمر استخدام هذه الحيلة إلى أن وصلنا إلى شعار "الأرض مقابل السلام" الذي يمكن ترجمته ببساطة إلى "بعض القرى والمدن التي كان قد تم الاستيلاء عليها بقوة السلاح الغربي تُعاد مقابل السلام الذي يعني وقف المقاومة ويعني الاستسلام". وهذا يعني ببساطة "أرض بلا شعب حي قادر على المقاومة وبلا ذاكرة تاريخية"، أي أنها تعني "نسيان الظلم الذي وقع في الماضي وفرض السلام حسب الشروط الصهيونية".
ويرتبط بهذا الاتجاه نحو إنكار التاريخ تغليب عنصر المكان على عنصر الزمان فتتحول "فلسطين" إلى "أرض" و"الوطن العربي" إلى "منطقة" وتبحث إسرائيل عن "الحدود الآمنة" الجغرافية التي لا تأبه بالتاريخ. وتُعبِّر نظرية الأمن الإسرائيلية عن هذا التحيز الشديد للجغرافيا والتجاهل الكامل للتاريخ. ولذا، فإن أية حركة من العرب تذكر الصهاينة بوجود عنصر الزمان (كماض وتراث ومخزون للذاكرة وكحاضر وصراع وكمستقبل وإمكانية ومجال للحـرية والحـركة) تولِّد الذعر الشـديد في قلـوب المســتوطنين الصهاينة، وتُسمَّى مثل هذه الحركة "إرهاب".
2 ـ استخدام مصطلحات محايدة هي في جوهرها عمليات تغييب للعرب وللواقع وللتاريخ العربي:
من الحيل الصهيونية البلاغية استخدام مصطلحات تبدو كما لو كانت بريئة محايدة تحل محل المصطلحات ذات المضمون التاريخي والإنساني العربي. ولعل أهم هذه المحاولات بطبيعة الحال هو الإشارة إلى فلسطين باعتبارها "أرض بلا شعب". فهذه عبارة محايدة للغاية، ففلسطين ليست "فلسطين" أساساً وإنما هي مجرد "أرض" والسلام. وتتبدَّى نفس الظاهرة في الخلاف بشأن قرار مجلس الأمن رقم 242 فينص في مقدمته على مبدأ عدم "جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة" ويتعامل مع الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967 ويدعو إلى الانسحاب منها، وهنا طرح الإسرائيليون إشكالية الأراضي المعنية وهي «أراض» كما في النص بالإنجليزية، أو «الأراضي» كما في النص بالفرنسية. وكانوا يفضلون بطبيعة الحال النص الإنجليزي لأنه يحيِّد الأرض ويفقدها حدودها فتصبح كلها قابلة للتفاوض بشأنها. وقد تدهور (تطور) الأمر حين قرر الإسرائيليون أن "الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 في الضفة والقطاع «أراض متنازع عليها» (بالإنجليزية: دسبيوتيد disputed) وليست «محتلة» (بالإنجليزية: أوكيوبايد occupied) وقد وافقهم الأمريكيون على ذلك. وقد حاولت الدعاية الإسرائيلية أن تشير إلى "الانتفاضة" باعتبارها "أحداث الشغب" أو مجرد "عصيان مدني" ولكن الانتفاضة نجحت في اختراق المعجم الصهيوني واسـتقرت (كالنجم السـاطع) داخل الكلمات العبرية والإنجليزية.
وتظهر عملية التحييد في حديث الصهاينة عن "التقدم" في المنطقة وتحويل الصحراء إلى مزارع خضراء.. إلخ، دون أن يُحدَّد لحساب مَنْ وعلى حساب مَنْ سيتم هذا التقدم. وقد لجأ مارتن بوبر لحيلة مماثلة في خطاب أرسل به لغاندي إذ كتب له محاولاً تبرير الغزو الصهيوني قائلاً إن الأرض لمن يزرعها، وكأن المستوطنين الصهاينة مجرد فلاحين مسالمين وجدوا أرضاً فقاموا بحرثها وزرعها في صبر وأناة بينما يقوم العرب [اللئام] بالتنغيص عليهم! وفي هذا إلغاء كامل لأصول الصراع واستخدام لمصطلحات محايدة تُلغي التاريخ.
3 ـ استخدام مصطلحات دينية يهودية في سياقات تاريخية زمنية:
هذه الحيلة البلاغية مُتضمَّنة في كل الحيل السابقة، ولكنها من الأهمية بمكان بحيث قد يكون من المفيد معالجتها بشكل مستقل. والخطاب اليهودي الحلولي الكموني لا يُفرِّق بين التاريخ الزمني والتاريخ المقدَّس ولا بين المطلق والنسبي. وهذا ما يفعله الخطاب الصهيوني حين يشير إلى فلسطين باعتبارها «الأرض المقدَّسة» أو «أرض الميعـاد» أو «إسـرائيل» (وهو اسـم يعقوب بعـد أن صارع الرب). واستخدام المصطلحات الدينية في سياق زمني يخلق استمرارية لا زمنية، فالعبرانيون الذين خرجوا من أرض المنفى في مصر وصعدوا إلى أرض كنعان لا يختلفون كثيراً عن اليهود السوفييت أو يهود الفلاشاه الذين خرجوا من بلادهم (المنفى) وصعدوا إلى أرض كنعان (دولة إسرائيل). ومن هنا تُسمَّى الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين «عالياه»، من العلو والصعود، بينما الهجرة منها هي «يريداه» بمعنى «الارتداد والكفر». ويؤدي استخدام المصطلحات الدينية إلى خلع القداسة اليهودية على الأرض الفلسطينية، الأمر الذي يعني تحويل اليهود إلى عنصر مرتبط بها عضوياً، أما العرب، فيتم تهميشهم، فهم يقعون خارج نطاق دائرة القداسة.
4 ـ إخفاء دال معيَّن تماماً أو محوه من المعجم السياسي والحضاري أو استخدام دوال تؤدي إلى تغييب العرب:
يلجأ الصهاينة لمحو بعض الدوال تماماً من المعجم السياسي والحضاري حتى يمكن محو المدلول وإخفاؤه من الخريطة الإدراكية. وهذه الإستراتيجية تضرب بجذورها في الخطاب الاستعماري الاستيطاني الغربي الذي يستخدم ديباجات توراتية. فالمستعمرون الاستيطانيون هم «عبرانيون» أو «الشعب المختار»، والبلاد التي يفتحونها (سواء في أمريكا الشمالية أو جنوب أفريقيا أو فلسطين) هي «صهيون» أو «إسرائيل»، ويُشار إلى سكان هذه البلاد بـ «الكنعانيين»، ولذا فمصيرهم الإبادة. ثم تمت علمنة هذا الاتجاه وأصبح المسـتعمرون الاسـتيطانيون "حمـلة مشعل الحضارة الغربية والاستنارة" وسكان البلاد المغزوة هم «السكان الأصليون» أو «البدائيون» أو «الهمجيون» أو «المتخلفون» أو «الهنود الحمر». وفقدت بلادهم أسماءها فزيمبابوي أصبحت، على سبيل المثال، «روديسيا» ولم تَعُد بلاد الأباشي والتشيروكي تُسمَّى بأسمائها وإنما أصبحت «أمريكا» نسبة إلى "مكتشف" هذه البلاد (أميريجو فيسبوتشي). وقد حدث شيء مماثل في الخطاب الصهيوني، فالمستوطنون الصهاينة هم «العبرانيون» (و«الحالوتسيم» في المعجم العلماني، أي الرواد الذين وصلوا إلى الأرض فاكتشفوها) أما سكان البلاد الأصليون فقد أصبحوا إما «كنعانيين» أو «إشماعيليين» (وفي الصياغة البلفورية العلمانية «الجماعات غير اليهودية»). وتمت إعادة تسمية فلسطين فأصبحت «إسرائيل» وأصبحت عملية الاستيلاء على فلسطين هي مجرد «إعلان استقلال إسرائيل». واستمرت هذه العملية بعد عام 1948، فأصبحت أم الرشراش «إيلات» وأصبحت الضفة الغربية «يهودا والسامرة». وقد اتسع نطاق هذه العملية في الوقت الحاضر بحيث بدأ الاتجاه نحو تغييب العالم العربي بأسره وليس الفلسطينيين وحدهم. ومن هنا الحديث عن «السوق الشرق أوسطية» بدلاً من الحديث عن «العالم العربي». فالسـوق الشـرق أوسـطية تعـني أن هناك بلداناً مختلفة في هذه «المنطقة» وأن عروبتها مسألة وهمية أو هامشية ليست ذات قيمة تفسيرية أو تصنيفية عالية.
ويبدو أن هناك اتجاهاً في هذه الأيام لمحو كلمة «مقاومة» من المعجم السياسي بحيث يهيمن دال واحد هو كلمة «إرهاب»، وتصبح أعمال المقاومة التي لها جذور تاريخية ومعنى محدد مجرد «إرهاب» أو «هجمات انتحارية» ليس لها سبب واضح ولا اتجاه مفهوم. ولذا، نجد أن مؤتمر شرم الشيخ حاول تعريف «الإرهاب» ولم يأت أي ذكر لكلمة «مقاومة». ومن هنا يمكن إدراك حجم الإنجاز الذي حققته اتفاقية وقف إطلاق النار بين لبنان (حزب الله) وإسرائيل، فهي اتفاقية قد نصت على حق الدفاع عن النفس، أي حق المقاومة.
5 ـ الخلط المتعمد بين بعض الدوال وفرض نوع من الترادف بينها:
يعمـد الصهـاينة إلى الخلـط بين بعـض الدوال التي لها حـدود معروفة. ومن أهم هذه العمليات محاولة الخلط بين مصطلحات «يهودي» و«صهيوني» و«إسرائيلي» وأحياناً «عبراني»، وذلك على الرغم من أن كل مصطلح له مجاله الدلالي الواضح. وقد جرى الخلط بينها لتأكيد مفهوم الوحدة اليهودية الذي يشكل جوهر الرؤية الصهيونية. وقد شاع الاستخدام الصهيوني في العقول حتى أصبح الحديث عن «الدولة اليهودية» و«دولة اليهود» و«الدولة الصهيونية» ممكناً باعتبارها عبارات مترادفة.
6 ـ استخدام اسم يشير إلى مسميات مختلفة:
يُستخدم اسم مثل «الشعب اليهودي» دون تعريف هذا الشعب اليهودي، و«إرتس يسرائيل» دون التحدث عن حدودها. وحيث إن لكل صهيوني تعريفه الخاص، فإن الاسم هنا يشير إلى مسميات مختلفة تختلف باختلاف من يستخدم الدالّ: توطينياً كان أم استيطانياً، علمانياً كان أم متديناً؟ وهذا الإبهام يعني أن الصهيوني يمكن أن يكون معتدلاً إن شاء (فيُصرح بأن الشعب اليهودي هو من هاجر بالفعل إلى إسرائيل)، ويمكنه أن يكون متطرفاً إن ذكر عكس ذلك (الشعب اليهودي هو كل يهودي أينما كان)، وحدود إرتس يسرائيل هي حدود 1948 أو 1967 أو من النيل إلى الفرات، والأمر متروك دائماً للاعتبارات البرجماتية. والشيء نفسه ينطبق على مصطلح «صهيوني» نفسه، فهو مصطلح مطلق يشير إلى كل من يرى نفسه كذلك بغض النظر عما يفعله بعد ذلك. فاليهودي، الذي يجعل الولايات المتحدة وطنه ويقود سيارته مكيفة الهواء ويدفع بضعة دولارات للمنظمة الصهيونية، يمكن أن يعتبر نفسه صهيونياً (إن كان ذلك يروق له)، ومن ينتقل إلى الضفة الغربية ويحمل السلاح ضد أهلها هو صهيوني كذلك.
ويمكننا هنا الإشارة إلى الصورة المجازية العضوية الحلولية الكمونية المتواترة في الخطاب الصهيوني، فهي صورة مجازية تفترض أن الأرض والشعب متوحدان من خلال روح تحل فيهما هي مصدر التماسـك العضوي بينهما. وهـذه الروح تُسمَّى «الإلـه» في الخطاب الديني، وهي «روح الشعب» في الخطاب العلماني. وداخل هذا الإطار، يمكن أن يشير الدالّ الواحد (الروح) إلى مدلولين. وأثناء إعداد وثيقة إعلان الدولة الصهيونيـة التي يُقال لها «وثيقة إعـلان استقلال إسرائيل»، نشب خلاف بين الصهاينة الإثنيين الدينيين والصهاينة العلمانيين حول عبارة «واضعين ثقتنا في الإله» حيث أصر الدينيون على تضمينها في ديباجة الوثيقة. وقد حُلَّ الخلاف عن طريق تبنِّي عبارة «تسور يسرائيل» والتي تعني حرفياً «صخرة إسرائيل» ولكنها تعني أيضاً «الإله». ومعنى هذا أن دالاًّ واحداً وهو «صخرة إسرائيل» يمكن أن يؤدي معنىً إلحادياً للعلمانيين ومعنى دينياً للمتدينين، فالصخرة قد تكون الإله وقد تكون روح الشعب وقد تكون أساساً مادياً متيناً لتأسيس الدولة الصهيونية.
7 ـ اسـتخدام أسماء مختلفة تشير إلى مسمَّى واحد أو إلى مسميات مختلفة توجد رقعة عريضة مشتركة بينها:
يستخدم الصهاينة اصطلاحات كثيرة مثل «الصهيونية السياسية» و«الصهيونية التصحيحية» و«الصهيونية العمالية» و«الصهيونية الدينية»... إلخ، وهي تيارات صهيونية عديدة يمكن اختزالها في نوعين اثنين: صهيونية استيطانية وصهيونية توطينية. كما يُشار إلى فلسطين المحتلة باعتبارها «اليشوف» أو «إرتس يسرائيل» أو «إسرائيل».
والأسلوبان السابقان في التعامل مع الدوال مسألة تضرب بجذورها في طريقة استخدام المصطلحات في التراث الديني اليهودي حيث نجد أن كلمة مثل «التوراة» لها عدة مسميات.
8 ـ استخدام مصطلحات لكل منها معنيان؛ معنى معجمي مباشر ظاهر ومعنى آخر حضاري كامن:
يستخدم الصهاينة عبارات تبدو بريئة وساذجة إن عُرِّفت حسب مجالها الدلالي المعجمي المباشر وحسب، ولكن معناها الحقيقي يتضح إن عُرِّف مجالها الدلالي من خلال المعجم الحضاري، فتعبيرات مثل «القانون الدولي العام» أو «القانون العام» أو «قانون الأمم» تعني في المعجم اللفظي دلالاتها الحرفية، ولكنها في المعجم الحضاري الغربي في القرن التاسع عشر تعني «قانون الدول الغربية الاستعمارية» أو «القانون الاستعماري الدولي». وينطبق الوضع نفسه على عبارة مثل «شركة ذات براءة»، فمعناها الحرفي أنها "شركة" حصلت على براءة لا أكثر ولا أقل ولكنها في المعجم الحضاري والسياسي الغربي تعني «شركة استيطانية تشبه الدولة تقوم بنقل كتلة بشرية غربية وتوطِّنها منطقة في آسيا أو أفريقيا لاستغلالها اقتصادياً». ولذا، فإن المعنى الحقيقي (الاستعماري) لكثير من الدوال الصهيونية تتم تخبئته بعناية وراء الكلمات البريئة. ويمكننا أن ندرج مصطلح «السلام» أو «عملية السلام» تحت هذا التصنيف، فكلمة «السلام» قد تُركت مبهمة عامة، وهي يمكن أن تعني: «السلام الدائم» ـ «السلام العادل» ـ «السلام المؤسس على العدل»، ولكنها يمكن أن تعني أيضاً «السلام حسب الشروط الصهيونية/ الأمريكية». وسلوك الإسرائيليين وحلفائهم الأمريكيين يدل على أن المعنى الأخير هو المعنى المقصود.
9 ـ استخدام دوال تعبِّر عن مدلولات هي دون الحد الأدنى الصهيوني المعلن ولكنها تشير إليه:
لعل أهم الأمثلة على هذا الدال الذي استُخدم في مؤتمر بازل للإشارة للدولة اليهودية، فالصيغة الصهيونية الأساسية تم تعديلها في مرحلة هرتزل وبلفور وأصبحت الصيغة الشاملة بحيث أصبحت الدولة (الوظيفية) جزءاً من هذه الصيغة وهي الإطار المفترض لعملية نَقْل اليهود وتوطينهم وتوظيفهم. وهذا ما عبَّر عنه شعار المؤتمر الصهيوني الأول (1897): "تأسيس الدولة هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية". وكان هرتزل قد دوَّن في مذكراته: "اليوم وضعت أساس دولة اليهود". ومع هذا، عند مناقشة القرارات، حاول المجتمعون أن يبتعدوا قدر الإمكان عن استخدام كلمة «دولة» في الإعلان النهائي كيلا يثيروا مخاوف السلطات العثمانية. كما أدرك واضعو البرنامج أن أكثرية اليهود لم تكن موافقة في ذلك الوقت على فكرة أمة يهودية ومن ثم كانت ترفض فكرة الدولة اليهودية. ولذا، فقد اقترح الزعيم الصهيوني ماكس نوردو كلمة «هايمشتات Heimstatte»، وهي كلمة ألمانية مبهمة قد توحي بمعنى «الاستقلال» ولكنها لا تعني بالضرورة «دولة». ويقول نوردو نفسه إنه استخدم طريقة المواربة أو الدوران حول المعنى واقترح الكلمة المذكورة (ومعناها: بيت ـ دار ـ ملاذ ـ مأوى ـ موطن ـ منزل) كمرادف لكلمة «دولة»، ثم أضاف نوردو قائلاً: "ولكننا جميعاً فهمنا المقصود بها. وقد دلت آنذاك بالنسبة لنا على دولة يهودية كما هي الآن".
وكتب هرتزل في دي فيلت في 9 يوليه يقول: "الاحتمال الوحيد أمامي هو إنشاء «بيت» (ملجأ) بحماية «قانون الأمم» أو «قانون الشعوب» (فولكرشتليخ Volkerrechtlich) لهؤلاء اليهود الذين لا يمكنهم الحياة في مكان آخر". وحين وردت عبارة «قانون الأمم» أثناء المؤتمر، أثارت العبارة كثيراً من النقاش، فالبعض أخذ على هذه العبـارة ما تتضمنه من الاعـتراف بفكرة تَدخُّل الـدول الغـربيـة العظمى. ولذا، اقترح نوردو كلمة «رختليخ Rechtlich»، أي «قانون» وحسب، فرُفض الاقتراح. وأخيراً، تم التوصل للصيغـة المراوغة «أوفينتليخ ريختليخ Offentlich Rechtlich» أي «القانون العام»، فهي أوسع من كلمة «قانون» التي قد يُفهَم منها قوانين بلدية أو مدنية ولكنها لا تحمل معنى السيادة القومية أو أي شكل منها.
ويرتبط هذا الجانب من الخطاب الصهيوني بمقدرة الصهاينة على قبول الدوال (أو الحلول) المعروضة عليهم حتى لو كانت دون الحد الأدنى الصهيوني مع تأكيد أن القبول أمر مرحلي مؤقت وأن المضمون الحقيقي للدال أو الحل يشير إلى الحد الأدنى الصهيوني الذي قد يكون من الخطر الإعلان عنه أو الإصرار عليه في مرحلة معيَّنة. وحينما أصدرت سلطات الانتداب عملة كانت هذه العملة تحمل كلمة «فلسطين» بالعربية وكلمة «بالستين Palestine» بالإنجليزية، ولكنها لم تحمل سوى حرفي إ. ي بالعبرية (وهما أول حرفين في عبارة «إرتس يسرائيل»)، فقد سُجل الحرفان تأكيداً لحقوق المستوطنين الصهاينة واكتُفي بهما دون العبارة كاملة حتى لا يتم استفزاز العرب. وقد قَبلت القيادة الصهيونية هذا الحل رغم اعتراض بعض "المتشددين"). وحينما عُرض على وايزمان قرار التقسيم (الذي أصدرته اللجنة الملكية عام 1937) فإنه لم يكن يشتمل على صحراء النقب، ولكنه قَبل القرار لأن النقب باقية في مكانها و"لن تجري" (وهو ما يعني إمكانية ضمها فيما بعد). وقد تكرَّر الموقف نفسه من قبل حين أصر بعض الصهاينة على رفض الكتاب الأبيض الأول وعلى عدم القبول إلا بميثاق يهودي، فقال وايزمان انطلاقاً من مبدأ العمل بما هو واقع بدلاً من الإلحاح على الحد الأدنى الصهيوني: "الكتاب الأبيض أمر واقع، ولكن الميثاق ليس كذلك".
وهـذه حيـل لفظية للمراوغة عمل بها الاسـتعماريون الإنجليز من قبل، فحين صدر وعد بلفور الذي ينص على أن فلسطين وطن قومي للشعب اليهودي، قَبله الصهاينة كتسوية مرحلية مع الإبقاء على الحد الأدنى. وهي حيلة قَبلها لويد جورج رئيـس الـوزارة البريطانية إذ قال: "حين يأتي الوقت لمنح فلسطين مؤسسات نيابية ويصبح اليهود الأكثرية المطلقة في السكان، فإن فلسطين ستصبح كومنولث يهودياً".
10 ـ تَرْك فراغات كثيرة ومساحات خالية بين العناصر المختلفة، وعدم رَبْط المقدمات بالنتائج:
يعمد الخطاب الصهيوني إلى ترك فجوات واسعة بين العناصر المختلفة وبين المقدمات والنتائج، فيذكر النتائج دون المقدمات والمقدمات دون النتائج. وقد تُركت هذه المساحات خالية وجرى التزام الصمت حيال بعض النقاط عن عمد لأن ملأها والإفصاح عنها قد يكشف أهداف الصهاينة في مرحلة مبكرة قد لا يَحسُن الكشف عنها مرحلياً (وهذا تكتيك معروف في عالم السياسة. فبعد أن ضمت بروسيا الألزاس واللورين، كان شعار أهل هاتين المنطقتين من الفرنسيين هو: "لا تتحدث عنهما قط، ولا تكف عن التفكير فيهما قط"). وكما قال بن هالبرن (مؤرخ فكرة الدولة اليهودية)، اتفق يهود اليديشية ويهود غرب أوربا على ضرورة الصمت بشأن فكرة السيادة اليهودية والطرق السياسية لتحقيقها. وكتب هرتزل في يومياته "يجب ألا يُكشَف كل شيء للجمهور، يجب كشف النتائج وحسب أو ما قد يحتاج المرء لكشفه في مناقشة ما"! وحذر آحاد هعام من الإفصاح العلني عن "آرائنا" بشأن مستقبل فلسطين، فلا يزال (حينذاك) يشكل خطراً ما دام مستقبل تركيا لم يتقرر بعد. وحينمـا نُوقـشت قضـية مصطلـح «الدولة» في المؤتمر الصـهيوني الأول، واستُخدم مصطلح «وطن قومي»، طمأن هرتزل الجميع قائلاً: "لا داعي للقلق فسوف يقرؤه الناس «دولة يهودية» على أية حال" و"لا داعي لتوخي الدقة لأن الكل يعرف المطلوب في الممارسة، ولا يوجد أي مبرر لجعل مهمة اللجنة التنفيذية أكثر صعوبة مما هي عليه بالإصرار على الدقة". ومعنى قوله هو: كلنا نعرف القصد الصهيوني الصامت، ونعرف الصيغة الصهيونية الأساسية الشـاملة المهوَّدة، وقد قررنا الالتزام بهمـا ولكن لا داعي للإفصاح عنهما.
ولا يلتزم بعض "المتطرفين" أحياناً بعملية الصمت وعدم الإفصاح كما حدث مع جابوتنسكي إبان فترة الانتداب حين أصر على أن يُكتَب اسم «إرتس يسرائيل» كاملاً على العملة، وكان لا يكف عن المطالبة بأن يُعلَن صراحةً أن هدف الصهيونية هو إنشاء دولة يهودية على ضفتي الأردن. ولكن القيادة العمالية الحصيفة اكتفت بالحرفين الأولين E.I. فهما يشيران إلى الحد الأدنى الصهيوني.
وهناك حادثة طريفة تبين التصادم نفسه بين من يلتزمون الصمت ومن يحاولون كشفه. ففي إحدى الحملات الانتخابية في إسرائيل، أشار إسحق نافون إلى العـرب باعتبـارهم "إخـوته" وهـو يعني في واقـع الأمـر أنهـم "أعداؤه"، وكل ما في الأمر أنه يحاول خداعهم حتى يحصل على أصواتهم الانتخابية. وحين اعترض بعض السامعين من الإسرائيليين على إشارته الأخوية للعرب صاح نافون: "أنتم عباقرة! أنتم دبلوماسيون! ألا تفهمون؟ إنها مسألة رياضية بسيطة، إن هدف البرنامج العمالي الصهيوني هو الحصول على أكبر قدر ممكن من الأرض وأقل عدد ممكن من العرب". وهكذا، فلابد من التخلـص مـن العـربي، هـذا ما يقـوله البرنامـج العمـالي دون إفصـاح، أمـا حكـاية الأخـوة هذه فهي دعاية انتخابية.
11 ـ التأرجح المستمر والمتعمد بين أعلى مستويات التعميم والتجريد وأدنى مستويات التخصيص:
يحاول الصهاينة أن يتحركوا من أعلى مستويات التعميم والتجريد إلى أدنى مستويات التخصيص حسبما تمليه عليهم الاعتبارات البرجماتية. فحين يكون الحديث موجهاً إلى اليهود وإلى الرأي العام في الغرب، فإنه يكون عن أرض الميعاد المقدَّسة وحق اليهود الأزلي فيها والوعد الإلهي الذي ورد في العهد القديم. وهناك الحديث عن النفي إلى بابل والعودة منها كنمط أزلي متكرر وعما لحق باليهود من اضطهاد... إلخ. ولكن، إلى جانب ذلك، هناك الحديث الموجه إلى العرب عن ضرورة تناسي الماضي ومحو الذاكرة والتركيز على الحاضر وعلى التفاوض وجهاً لوجه ودراسة التفاصيل المباشرة والإجراءات والعائد الاقتصادي. وبدلاً من الحديث عن صهيون، يكون الحديث عن سنغافورة كمثل أعلى يُحتذى، وبدلاً من الحديث عن رؤى الأنبياء يكون عن مشاريع الاستثمار، وبدلاً من الحديث عن البلاد والأوطان يكون الحديث عن الفنادق والكازينوهات، وبدلاً من ارتداء ثياب المعارك يكون التركيز على آخر الموضات والمايوهات.
وبطبيعة الحال، يمكن استخدام الخطاب النفعي الإجرائي حين يتوجه الصهاينة إلى الحكومات الغربية طلباً للمعونات إذ يسقط الحديث عن صهيون والأراضي المقدَّسة بطبيعة الحال، ويكون الحديث عن العائد الإسـتراتيجي العسـكري والاقتصـادي للدولة الصهيونية الوظيفية المملوكيـة. ويظهر هذا التأرجح بين أعلى درجات التعميم وأقصى درجات التخصيص في الطريقة التي يُنفَّذ بها شعار "الأرض مقابل السلام"، فرغم أن الأرض أمر محدد إلا أنها تدريجـياً تحوَّلت إلى مفـهوم شديد العمومية، على عكس السلام، الذي تحوَّل من كونه مفهوماً عاماً إلى مجموعة محددة من الإجراءات الاقتصادية والأمنية المادية الصارمة.
12 ـ أيقنة بعض الدوال والعبارات:
من الحيل الصهيونية الأساسية ما نسميه «أيقنة» المصطلح أو العبارة، أي تحويل المصطلح إلى ما يشبه الأيقونة، بحيث يصبح المصطلح مرجعية ذاته وتُختزل الحقيقة المركبة إلى مثل هذه الأيقونة، التي لا تقبل المناقشة أو المراجعة أو الدراسة أو التساؤل. وهذا ما حدث بعض الوقت لعبارة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ولعبارة "المفاوضات وجهاً لوجه". وفي الوقت الحاضر، ظهرت مصطلحات مثل» عملية السلام» و«السلام مقابل الأرض.«
ولعل من أهم العبارات المتأيقنة عبارة "ستة ملايين يهودي" التي يُفترض أنها تشير إلى عدد ضحايا الإبادة النازية من اليهود، وأصبح مجرد التساؤل عن مدى دقة هذا العدد شكلاً من أشكال الكفر يُسمَّى» إنكار الإبادة.«
13 ـ إشاعة بعض الصور التي تختزل الواقع:
وترتبط بالأيقنة محاولة إشاعة بعض الصور المجازية التي تختزل الواقع وتترجمه إلى أطروحة صهيونية. فرغم أن إسرائيل من أكثر الدول تسلُّحاً وشراسة وقوة عسكرية، إلا أن الصورة التي تُشـاع يجب أن تكون صورة إسـرائيل صاحبة الحق المسـالمة التي تدافع عن نفسـها. وقد تمت ترجمة هذا كله إلى صورة داود وجالوت المجازية، بحيث أصبحت إسرائيل داود الصغير الذي لا يوجد معه سوى مقلاع ضد جالوت المدجج بالسلاح والذي يُهاجم داود الصغير بشراسة (ومن الطريف أن الانتفاضة قلبت الأمور رأساً على عقب، إذ أن الفلسطينيين كانوا هم المسلحون بالمقاليع، أما الإسرائيليون فكانوا هم جالوت المدجج بالسلاح).
ومن الصور الأخرى التي تمت إشاعتها صورة إسرائيل باعتبارها واحة الديموقراطية الغربية (الأمر الذي يتطلب إخفاء كل ما تقوم به من عمليات قمع وإرهاب) ونموذجاً للإنتاجية والكفاءة (الأمر الذي يتطلب إخفاء المساعدات الغربية التي تصب في هذا المجتمع).
14ـ تغيير الاعتذاريات وتنويعها حسب تنوُّع الجمهور المُستهدَف: انظر المدخل التالي.
الاعتذاريات الصهيونية العنصرية ونظرية الحقوق اليهودية المطلقة
Racist Zionist Apologetics and the Theory of Absolute Jewish Rights
»الاعتذاريات» من «عَذَر» بمعنى «رفع عنه اللوم»، و«العُذر» هو «الحجة التي يُعتذَر بها» ويُقال «اعتذر المذنب» أو «اعتذر عن الشيء» بمعنى «أبدى عذره» و«احتج لنفسه». و«الاعتذاريات» هي الحجج التي يسوقها المرء ليرفع اللوم عن نفسه. والاعتذاريات تستند إلى رؤية للذات (الفاعلة) ورؤية الآخر (المفعول به). وفي حالة الاعتذاريات الاستعمارية، نجد أنها في جوهرها نظرية للحقوق يحاول الكيان الغازي أن يبرر عن طريقها عدوانيته وأن يضفي شيئاً من المعنى على فعلته. وتنطلق الاعتذاريات الصهيونية من الافتراض المحوري في الفكر القومي العضوي والعنصري الغربي الذي يذهب إلى أن أعضاء الحضارة (الغربية) الغازية أكثر تفوقاً من الناحيتين الحضارية والعرْقية من أعضاء الحضارات (الشرقية) المغزوة، وأن تخلُّف هذه الحضارات الشرقية أمر وراثي حتمي، ومن ثم تكون الغزوة الإمبريالية مسألة منطقية وحتمية بل يحتمها منطق التقدم!
وقد تم الغزو الصهيوني لفلسطين مثلما تم أي استعمار استيطاني إحلالي آخر، أي عن طريق العنف واغتصاب الأرض من أصحابها. لكن المادة البشرية الغازية في حالة فلسطين كانت متنوعة غير متجانسـة وكان لها انتـماءات حضارية ودينية وثقافية وسياسية مختلفة، كما أن الصهيونية كان عليها أن تبيع صورتها للاستعمار الغربي وللدول الاشتراكية وليهود العالم، ومن ثم تنوعت الاعتذاريات والتبريرات التي يستند إليها الغزو الصهيوني بشكل يفوق الاعتذاريات الاستعمارية المألوفة.
يتبع إن شاء الله...