فتاوى إسلامية
للشيخ: عبد الرحيم الطحان
حكم ارتياد المرأة للمسجد من أجل طلب العلم الشرعي
أبدأ بسؤال وصل من قبل الأخوات الصالحات، ولعل هذا عجيب في المسلك أن يقال: لم بدأ بالإجابة على أسئلة النساء، مع أنه ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه في معجم الطبراني الكبير، ومصنف عبد الرزاق عليهم جميعاً رحمة الله بسند صحيح كما قال الحافظ في الفتح، و الهيثمي في المجمع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أخروهن حيث أخرهن الله.
نعم إذا اجتمع النساء مع الرجال يؤخرن، فإذا حصل الاجتماع بالأبدان كما هو الحال في الصلوات وفي غيرها يؤخرن ويفصلن، وما عدا هذا فمن مروءة الرجال أن يقدموا النساء عليهن في قضاء الحاجات، وفي المعونة، وفي الرفق، وفي المساعدات.
وقد أخبرني شيخنا المبارك الشيخ محمد المختار الشنقيطي عليه رحمة الله، أنه لما كان في بلاد موريتانيا، يقول لي: يستحيل أن تمشي امرأة في الطريق وتحمل شيئاً، وإذا كانت تحمل متاعاً فيجب على كل رجل صادفها أن يأخذ المتاع منها وأن يحمله وأن يمشي بجوارها دون أن يحصل كلام أو شيء من الأشياء، فإن أوصلها إلى المكان الذي تريده يضع ذلك المتاع في ذلك المكان وينطلق، فالنساء يؤخرن إذا اجتمعن مع الرجال، لكن في موضوع قضاء الحوائج يقدمن على الرجال، وهذا السؤال أرسلنه، فأبدأ بالإجابة عليه.
السؤال: تقول الأخت السائلة:
هل من الأفضل ذهاب المرأة إلى مجالس العلم أم بقاؤها في المنزل للعبادة في شهر رمضان المبارك؟
الجواب:
أن الأخت الكريمة فيما يظهر خفي عليها معنى العبادة، فليس معنى العبادة ما يفهمه كثير من الناس في هذه الأيام، أن يعتكف الإنسان في بيته أو في مصلاه، وأن يقبل على الصلاة وعلى الذكر وعلى قراءة القرآن، لا، إن الأمر أعم من ذلك وأشمل بكثير، فكل مطيع لله جل وعلا فهو عابد ذاكر، أي عمل قام به على حسب شرع ربه يريد به التقرب إلى الله جل وعلا يعتبر ذلك العمل عبادة.
وعليه فالذهاب إلى مجالس العلم عبادة، والجلوس في البيت لذكر الله جل وعلا، وقراءة القرآن، والتنفل من الصلوات عبادة، وهكذا سائر الطاعات عبادة، لكن إذا تزاحمت العبادات واجتمعت فينبغي على الكيس الفطن أن يقدم أهمها وأقربها إلى الله جل وعلا، وحقيقة إن دروس العلم إذا كانت نافعة ينبغي على المسلم من ذكر وأنثى أن يقدمها على ما سواها من العبادات، فكل العبادات بإمكانه أن يحصلها عندما يجد متسعاً من وقته في ليل أو في نهار، وأما هذه العبادة الجليلة فربما فاتته، ولا يقول الإنسان: إنه يعلم نفسه بمجلس علم يحضره فقط، ربما علق قلبه بربه جل وعلا وأنقذه من ضلالات وبدع وخرافات، ولذلك مجالسة العلماء تحيي القلوب كما تحيا الأرض الميتة بماء المطر.
نعم إخوتي الكرام!
أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا في الحديث الذي رواه الشيخان عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( مَن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله، ولن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خالفهم ولا مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله )، وثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مَن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )، وهذا عام للصنفين الذكور والإناث، وفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. فحضور مجالس العلم ضرورية للصنفين، قال مرة الشياطين لرئيسهم اللعين إبليس: نراك تفرح بموت العالم كثيراً، ولا تبالي بموت العابد؟! أي: عندما يموت كأنه لم يمت، فلماذا تبتهج لموت العالم؟ فقال: إن العالم يفسد مخططاتنا، ما نحكمه من حيل لإضلال الناس يفسده علينا بكلمة واحدة، فعندما يبين شريعة الله جل وعلا، والناس يهتدون للتي هي أقوم، ثم قال: تعالوا حتى أريكم كيف نلعب بالعباد، ويلعب بنا العلماء، فذهبوا إلى عابد وسوس له الشيطان قائلاً: هل يستطيع الله جل وعلا أن يُدخل هذه الدنيا وأن يوجدها في بيضة، فقال العابد: لا، لا يستطيع هذا، فقال الشيطان: كفر من حيث لا يدري، أرأيتم كيف نفعل بالعباد، ثم ذهب إلى العالم فقال له: هل يستطيع الله أن يُدخل هذه الدنيا على سعتها في بيضة؟ قال: ومَن يمنعه، قال: وكيف سيُدخلها، قال: يُكبر البيضة ويُصغر الدنيا، ويقول لها: كوني فتكون، فهو على كل شيء قدير، فقال: أرأيتم كيف يفعل بنا هذا العالم.
وسوس الشيطان لعابد خرج إلى الصلاة، فرأى فأرة ميتة، فوسوس له الشيطان أن يرحمها وأن يضعها في جيبه، ولا يدري أنها نجسة، وأنه إذا صلَّى وهو يحملها لا تقبل صلاته، هذا حال العباد، فلابد من البصيرة في دين الله جل وعلا، لكن دروس العلم التي ينبغي على الصنفين أن يحضروها مجالس العلم النافعة لا مجالس القصاص الفارغة التي عمت بها المساجد في هذه الأيام إلا ما رحم ربك.
حضرت البارحة لا أقول من بعيد، وكلما أحضر موعظة في هذه البلاد يفرى كبدي من الهم والغم، حضرت البارحة بعد العصر موعظة في أحد المساجد في المعمورة، الدرس من أوله لآخره تخريف، وكذب على الله اللطيف، من أوله لآخره، يشرح قول الله جل وعلا: "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا" [البقرة: 38]، مَن المعني بهذا الخطاب؟ آدم وحواء على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، وإبليس، والحية، ومن انفعالي قلت: اللهم سلط عليه حية وأرح الأمة منه، حية، آدم، وإبليس، وحواء؛ اهبطوا منها جميعاً، ثم كيف دخل إبليس الجنة وقد طرده الله منها قبل أن يحصل لآدم ما حصل من الأكل في الجنة؟
فيقول: إنه دخل في جوف الحية، جاءت الحية ودخل إبليس فيها فدخل إلى الجنة! هذه حيل على الله؟! إذاً بإمكان إبليس أن يدخل في جوف حية ويدخل إلى بيتي ولا أراه، هل سيخفى على مَن لا تخفى عليه خافية وهو على كل شيء قدير؟!
فدخل إبليس في جوف الحية إلى الجنة، فوسوس بعد ذلك لآدم فأكل منها، والدرس كله يدور حول هذا، ثم طردهم الله جل وعلا وقال: اهبطوا منها جميعاً، هل نزلوا في بقعة واحدة أو في بقاع مختلفة؟
الدرس ثلث ساعة كله -كما قلت لكم- سخيف وكذب على الله، أورد الأقوال فقال: قيل: نزلوا دفعة واحدة في مكان واحدة، لكن المعتمد أنهم نزلوا متتابعين، أول ما نزل آدم في بلدة سرنديب من بلاد الهند، وعلى تحليله الجغرافي هو يقول: سرنديب كانت تسمى من قريب بسيلان، أي: بلد الشاي، سيلان التي هي سريلانكا الآن، يقول: في سريلانكا، ثم علّق على هذا وقال: وإنما غيّروا اسمها سرنديب لأمر مقصود؛ لأن الشيطان له مدخل في تغيير الاسم، أي مدخل؟
قال: ليطمس المعالم الإسلامية، كما هو الحال يقول في مصر، لما حصل بينها وبين سوريا وحدة سموها الجمهورية العربية المتحدة ليطمسوا اسم مصر الذي ذكره الله في القرآن، يعلم الله هذا من التخريف في بيوت الله، ثم قال: تغيير الأسماء هذا وراءه الشيطان، فلما كان اسم مصر مباركاً زين لهم الشيطان أن يسموها بالجمهورية العربية المتحدة.
هذا آدم، ثم علق تعليقاً بعد ذلك يتناسب مع تخريفه؛ لأنه لما نزل معه أربعة أعواد من الجنة، وأنتم تحضرون البخور من الهند وما شاكل هذا، لا إله إلا الله! وأما أمنا حواء فمسكينة هضمها حقها ولا تكلم عليها إلا أنه قال: نزلت في جدة فقط، وأما الحية فقال: نزلت.. هذا على حسب ما سمعته البارحة، أقول ما سمعت فقط، وأما الحية فيقول: نزلت في بيسان، يقول: بيسان يوجد في بلاد الشام وبلدة في إيران، المعتمد أنها بلدة في إيران يقول: فيها حيايا كثيرة، وما يمكن العيش فيها، لولا أن سلط الله حيواناً اسمه العرفط يأكل الثعابين والحيايا، وإلا ما استطاع أحد أن يعيش في تلك البلاد.
وأما إبليس فنزل في البصرة، قال: ولذلك رأيتم الحرب والضرب فيها، لا إله إلا الله! يقول هو: وهذا من قديم الزمان البصرة فيها هذه المشاكل؛ لأن إبليس فيها، فإذا كان الدرس بهذه الصورة فحقيقة يحرم على الإنسان من ذكر أو أنثى أن يستمع لذلك الهذيان، ونعجب حقيقة غاية العجب، افرض أن هذا الكلام صحيحاً فما فائدة تحديث العامة به في هذا الوقت، أليس من الواجب أن ترشدهم إلى أحكام الصيام وبيان شريعة الرحمن، وما هم فيه من تقصير، وأن تحذرهم من ذلك؟ تخريف فيما يتعلق بالهند وفي جدة، وفي بيسان، وفي البصرة، ما لنا ولهذا؟ فإذا كانت دروس العلم كذلك تجب مقاطعتها، ويحرم الجلوس إليها.
ولذلك كان أئمتنا يقولون:
من نعمة الله على الحدث -الشاب في أول عمره- أن يوفقه الله إلى شيخ من أهل السنة والجماعة ليتعلم على يديه عقيدة أهل الحق، وليغرس في قلبه حب الله وحب رسوله عليه الصلاة والسلام على يدي ذلك الشيخ الصالح، حتى بعد ذلك إذا كبر أسس القلب على تقوى، فلا يضره شيء بإذن الله جل وعلا.
فالأخت الكريمة عندما تقول:
هل الذهاب إلى مجالس العلم أفضل أم بقاؤها في المنزل أفضل للعبادة؟ أقول: لو علمت معنى العبادة التي يحبها الله جل وعلا لما سألت هذا السؤال، ولعل الجواب ظهر، فمجالس العلم من أفضل العبادات وأقربها لله جل وعلا، وينبغي أن يحضرها الذكور والإناث، نعم إذا كان يترتب على خروج المرأة فتنة أو مشكلة أو تقصير في حق واجب فتمتنع عن هذا وتُكَلف مَن ينقل هذا من محارمها، والأشرطة في هذه الأيام لعلها تسد هذا الفراغ عند النساء.
ولا أقول: يحرم عليهن المجيء إلى دروس العلم من أجل وجود الأشرطة، لا، فحقيقة المرأة عندما تحضر إلى بيت الله جل وعلا، هذا بيت سيدها وبيت ربها، ولها حق في دخوله، كما للرجل حق، ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )، كما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وإذا استأذنت المرأة زوجها للذهاب إلى المسجد فما ينبغي أن يمنعها، فكما أنه هو يذهب إلى بيت سيده ومالكه وخالقه ومدبر أمره، هي تذهب أيضاً لتجد الأنوار والبركات في ذلك البيت الذي أسس لذكر الله جل وعلا، ولتعلم شرع الله جل وعلا.
يضاف إلى هذا أن المرأة عندما تجتمع مع أخواتها الصالحات، وتراهن في بيت رب الأرض والسماوات، يحصل في قلبها من النور والبهجة والحبور، ويحصل عندها من الجد والنشاط في طاعة الله جل وعلا ما لا يحصل لو كانت منفردة، وإذا كان أهل الفساد راعوا هذا في دور فسادهم، فما اقتصروا على إفساد المرأة في بيتها فيما جعلوه في البيوت من غزو عن طريق وسائل الحرام ووسائل الإجرام.
ما اقتصروا على هذا، إنما أسسوا لإفساد النساء أندية يُصرف عليها أكثر مما يُصرف على المساجد، دورات في أندية النساء لتعليم السباحة، ويؤتى بكافرة لتعلمهن هذا، وليس المقصود تنشيطهن على الإطلاق، إنما المقصود القضاء على حيائهن وعفتهن، دورة لتعليم اللغة الإنجليزية والفرنسية، دورة لتعليم الغناء والموسيقى والرقص، وحقيقة كل واحدة تتشجع بالفاسدة الأخرى، فإذا كان جند الشيطان يطبقون هذا لإفساد بنات المسلمين، فينبغي على جند الرحمن أن يضعوا طريقة لتحصين النساء المسلمات، فعندما يجتمعن ببعضهن يحصل لهن كما قلت من النشاط والالتزام والمعنويات، وكل واحدة تشد أزر أختها ما لا يكون لو جلست منفردة في قعر بيتها. فإذاً: لو أمكنها أن تحصل هذه العلوم عن طريق الشريط تفوتها تلك الفائدة التي أشرت إليها، وقد أذن نبينا عليه الصلاة والسلام لها بأن تذهب، وما ينبغي أن يمنعها من ذلك مانع، وينبغي للرجال القيمون على النساء في هذا الأمر أن يتقوا ربهم، وأن يحثوا النساء على الذهاب فضلاً عن الإذن لهن إذا استأذن، فمطلوب أن تحضر المرأة وأن يحضر الرجل مجالس العلم، فهي من أعلى وأفضل العبادات، وأعظم القربات عند رب الأرض والسماوات.
حكم العطور المحتوية على الكحول
السؤال:
ما حكم العطر الذي يحوي بعض الكحول في نهار رمضان، وهو يسمى في هذه الأيام بالكالونية، باللسان الدارج، عطور طيب فيها كحول، ما حكم التطيب بها؟
الجواب:
التطيب بها لا أثر له على الصيام، كما لو تطيب بها أو بغيرها، لكن لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُنجس بدنه بالطيب الذي يحوي شيئاً من الكحول، فالكالونية نجسة، وحكمها حكم البول، ومَن وضع شيئاً منها على جسمه فقد تنجس عضوه، لا تصح صلاته إلا بعد أن يغسل ذلك المكان، وإذا أصاب الثوب فهو نجس، فكونوا على علم بهذا الأمر الذي فشا في هذه الأيام، ولعل كثيراً من الناس يذهبون لصلاة الجمعة ويتطيبون بالكالونية، وهذا كما قلنا هو أثر الجهل الذي حصل في الأمة، ولذلك لا تقبل العبادة، ولا يحصل خشوع فيها، عبادة لا تقبل كيف سيكون حالها؟!
وأحياناً يقف الإنسان بالصف بجوار من ينجس نفسه بالعطور الفرنسية أو البريطانية، فيشم رائحة حقيقة إن رائحة الحمام أطهر وأطيب منها، وهو يرى أنها عطور شرقية أو غربية اشتراها ونجس بدنه بها، هذه الكحول مُسكرة، وكل مُسكر خمر، والخمر نجسة بنص القرآن.
يقول شيخنا المبارك عليه رحمة الله في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن في الجزء الثاني صفحة (129) عند آية المائدة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [المائدة:90]، يقول الشيخ المبارك بعد أن بين أن كلمة رجس تفيد النجاسة المغلظة، وعلى هذا فالمُسكر الذي عمت البلوى اليوم بالتطيب به، وهو المعروف في اللسان الدارجي بالكولانيا، نجس لا تجوز الصلاة به.
ويؤيده أن قوله تعالى في المُسكر: فاجتنبوه، يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المُسكر، وما معه في الآية بوجه من الوجوه كما قاله الإمام القرطبي وغيره، قال مقيده عفا الله عنه، يعني: الشيخ محمد الأمين، جعل الله قبره روضة من جنات النعيم: لا يخفى على منصف أن التضمخ بالطيب المذكور والتلذذ بريحه واستطابته واستحسانه مع أنه مُسكر، والله يصرح في كتابه بأن الخمر رجس فيه ما فيه، فليس للمسلم أن يتطيب بما يحرم شربه، يقول فيه: إنه رجس كما هو واضح، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة الخمر، فلو كانت فيها منفعة أخرى لبينها كما بين جواز الانتفاع بجلود الميتة ولما أراقها.
واعلم أن ما استدل به سعيد بن الحداد القروي على طهارة عين الخمر بأن الصحابة رضي الله عنهم أراقوها في طرق المدينة، ولو كانت نجسة لما فعلوا ذلك، ولنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما نهاهم عن التخلي في الطرق، لا دليل له فيه، فإنها لا تعم الطرق، بل يمكن التحرز منها؛ لأن المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر كثيرة جداً، بحيث تكون نهراً أو سيلاً في الطرق يعمها كلها، وإنما أريقت في مواضع يسيرة، يمكن التحرز منها، قاله الإمام القرطبي وغيره، وهو ظاهر.
إخوتي الكرام!
وهذه المسألة كنت أجبت عنها في كلية التربية للبنات في أبها، عندما سألني عنها أخواتي الطالبات، وقلت: إن الكالونيا نجسة، ولا يجوز للمسلم أن يُنجس بدنه وأن يُضمخ جسمه بها، فدخل بعض العميان ممن يدرسون مادة الفقه، والبلاء عندما يأتي من أهله، لو كان يدرس مادة أخرى لربما خفت الوطأة، فذكروا له هذا الحكم، وهو ليس له شيء من الالتزام بأمور الشرع، يلبس البنطلون والقميص نصف الكم مع أنه أعمى ولا لحية ولا شارب، ويدرس الفقه في كلية التربية، فقال له الطالبات هذا، قال: مَن يكون هذا، هذا جاهل، الكالونيا نجسة؟!
ثم في المحاضرة التي بعدها أحضر زجاجة من الكالونيا ورشها على نفسه، أعمى الله بصيرته كما أعمى بصره، رشها على نفسه من رأسه إلى رجليه، قال: الآن أنا تطيبت وسأصلي بكن صلاة الظهر هناك في الكلية، والجامعة تمتنع عن الصلاة ورائي، ثم أخبرت المسئولين، وقلت: إذا وصل الانحطاط إلى هذا الحد هو عما قريب سيُطيب البنات، إذا طيب نفسه الآن وأقر وترك سيُطيب البنات بعد ذلك.
غاية ما فعل به أنه نقل من مكان إلى مكان فقط، من غربية إلى شرقية، ليذهب يفسد في مكان آخر، وأنا والله لأن أخر من السماء إلى الأرض أيسر وأحب عليَّ من أن أكذب في دين الله أو أن أقول في شريعة الله ما لم يُقره أئمتنا الكرام.
والخمر نجسة نجاسة مغلظة عند الفقهاء الأربعة، ولما ذكرت هذا كان بعض طلبة العلم معنا في أبها، قال: لا دليل على التنجيس، قلت: رفقاً بنفسك أيها الإنسان، قال: إن معها الأنصاب والأزلام وليست بنجسة، قلت: كما قال القرطبي والمفسرون: خرجت من فيك بدليل الإجماع على أنها طاهر؛ لأن الحجر إذا نحت صنماً، فالأصل أنه حجر ليس بنجس، فخرج بقاء على الأصل؛ لأنه هو في الأصل طاهر، خرج من دليل التنجيس بدليل الإجماع، وبقي ما عداه -وهو الخمر- نجساً نجاسة مغلظة، فقال: أنا لا أقتنع بهذا، قلت: إذا لم تكن الخمر نجسة نجاسة مغلظة، إذاً: الذي يحرم شربها فقط، فإذا اقتناها الإنسان وأراد أن يدهن بدنه كل يوم منها ليشم ريحها ينبغي أن يكون فعله على مذهبك جائزاً، قال: لو وضعها على بدنه لا يتنجس بدنه، قلت له: الخمر لا تنجس بدنه؟ قال: نعم.
قلت له: رحمة الله على الإمام ابن تيمية عندما أدرك مقصود الشارع فقال: الخمر إذا كانت مائعة فهي كالبول، والمُسكر إذا كان جامداً فهو كالعذرة، ولذلك يقول: الحشيش والأفيون حكمه حكم العذرة، كما لو حمل الإنسان غائطاً، والخمر وهكذا المُسكر من كالونيا وغيره الذي فيه كحول حكمه حكم البول، فهو يستدل بما أجاب عنه أئمتنا، يقول: لو كانت نجسة لما أراقوها في طرق المدينة لتتنجس، قلت: اذهب إلى المدينة وأنا أذهب معك، ونأتي بالخمور ثم تصبها، إذا بقي منها قطرة على وجه الأرض خلال خمس دقائق خذ ما تريد، الأرض رملية، وعندما ينزل فيها أمطار السماء الغزيرة ما يبقى المطر في الأرض الرملية دقائق، ليست أرضاً مزفتة مثل الآن وبلاط إن صببت الخمر يقف عليها، بل هي أرض رملية، والإنسان عنده تنكة خمر أو عكة من خمر، فنزل تحريم الخمر فشقوها وأراقوها في الطرق، يعني: بقيت متجمعة، والناس يمشون عليها يخوضون فيها بأرجلهم، فهذا يدل على أنها طاهرة؟ لن تلبث إلا دقائق وإذا بها قد غارت، وما بقي منها قطرة ظاهرة، فانتبهوا لهذا إخوتي الكرام.
هذا السؤال الذي يسأل على الكالونيا، إذا تطيب الصيام باق كما هو، وليس هذا شيئاً دخل لجوفه، لكنه عصى الله عندما تطيب بشيء نجس، والطيب الذي عم في هذه الأوقات كونوا على حذر منه، إما طيب لا كحول فيه من الأدهان الطبيعية، وإما لا داعي للتطيب، وإما خذ زيت الزيتون وتطيب به، وهو أحسن أنواع الطيب، زيت الزيتون خذ وامسح به لحيتك، رائحة طيبة، وبعد ذلك يعطيها لمعاناً، ويقوي الشعر، ورخيص وحلال، لا إله إلا الله!
وإذا أردت أيضاً لا هذا ولا ذاك، كان العرب يقولون: أطيب الطيب الماء، اغتسل كل يوم مرتين أو ثلاث لتذهب عنك الروائح الكريهة، ولا داعي لأن تضع هذا الطيب على رائحة العرق التي تفوح منك، أطيب الطيب الماء.
تسوية الصفوف في الصلاة.. بين الإفراط والتفريط
السؤال:
في الصلاة بعض الناس يضيق ذرعاً بإلصاق القدم بالقدم، وربما اشتد في النكير على مَن أراد فعل ذلك، فهل الأفضل أن لا يتحرى الإنسان ذلك أم ماذا؟
الجواب:
إخوتي الكرام! يسن للمصلين إذا كانوا في جماعة أن يلصقوا المنكب بالمنكب، والمنكب هو مكان مجتمع العضد والكتف، فكل واحد يلصق منكبه بمنكب الذي بجواره، عن يمينه وعن شماله، ويسن إلصاق الكعب بالكعب، فتلصق كعبك بكعب الذي عن يمينك، وهكذا عن شمالك، وقد بوب الإمام البخاري على هذا باباً في كتاب الأذان في الجزء الثاني صفحة (211) بشرح الحافظ ابن حجر فقال: باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف، ثم روى معلقاً عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه.
وهذا الأثر المعلق رواه الإمام أبو داود و ابن خزيمة في صحيحه، وهو صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أقيموا صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم، قال النعمان بن بشير: فكان الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكب صاحبه )، هذه السنة، فإذا صلى يلصق ويلزق المنكب بالمنكب، والكعب بالكعب، والكعب معروف، هو العظم الناتئ في جنب القدم، هذا إذا ألزق الإنسان منكبه بمنكب من هو عن يمينه وشماله، وفرج رجليه تفريجاً طبيعياً فسيلتصق وسيلتزق الكعب بالكعب.
لكن بعض الناس في بعض الوقت يريدون أن يمسكوا الأمر من ذنبه كما يقال، بين المناكب ذراع، ثم يأتي يريد أن يفرج بين رجليه كأنه بعير، في الحقيقة هذا لا يجوز بل ينبغي أن تشد صاحبك إليك في بدء الصلاة ليلتصق المنكب بالمنكب، أما أن تكون المسافة بعيدة بينك ومَن بجوارك حتى أنك لو أردت أن تدخل شيئاً كبيراً وصندوقاً يدخل بينك وبين الذي بجوارك، وتريد فقط أن تشد عن طريق رجليك، فهذا خلاف السنة.
فالذي يريد أن يُحافظ على السنة، تضبط السنة بجميع جهاتها، ما يحصل تفريج في الصف، كل واحد ممتد هكذا، إذا سجدتم بعد ذلك سيبقى بينك وبين صاحبك فرجة رغم أنفك، إذا وسعت رجليك في القيام كيف ستمسك نفسك في حال السجود والقعود.
فإذاً: السنة تضبط كما شرعها نبينا عليه الصلاة والسلام، يلصق المنكب بالمنكب، والكعب بالكعب، فإذا فرط الناس في هذا لا داعي أن تجهد نفسك وتأتي بعد ذلك تفرج رجليك، هذا لا داعي له، نعم من البداية احتط واضبط الكيفية الشرعية، ولذلك كان النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن أفعل هذا مع أحدكم ينفر كأنه بغل شموس.
حقيقة إذا جررت إنساناً إليك يبتعد، وعندما تريد أن تقرب رجلك برجله يشدها، لكن كما قلت: إلصاق الكعب بالكعب، وهذا المسلمون كأنهم في غفلة عنه، يظنون أن المراد من تسوية الصلاة أن يجعلوا رؤوس الأقدام متحاذية، وهذا غلط، مَن الذي قال: تتحاذى رؤوس الأقدام؟ هذا قدمه طويلة وهذا قصيرة، الذي يلتصق فقط هو الكعب بالكعب، قدمك بعد ذلك أصابعك أطول من أصابعه تقدمت، ما لنا ولهذا.
ولذلك انظروا في مساجد المسلمين وانحطاطهم يضعون خطاً، لم الخط؟ ليلصق عليه الأصابع، ويضيع سنة إلصاق الكعب بالكعب، ما لنا وللخطوط، فاجعل كعبك مع الكعب الذي عن يمينك وعن شمالك ملتصقان، فإذا التصق الكعب يكون ما بين القدمين فرجة مستطيلة.
أما الناس الآن من يريد أن يلصق تراه يلصق رؤوس الأقدام، تبقى أيضاً الأرجل مفتوحة كأنها زاوية منفرجة، خلاف السنة، فالصق الكعب بالكعب، والمنكب بالمنكب، الاعتدال سيكون طبيعياً، والصف كأنه بنيان مرصوص، فإذا فرط الناس في هذا ماذا نفعل؟ أحوالنا كلها بدع وخلاف السنة، في صلاتنا وفي غيرها، ماذا يفعل الإنسان إذا وجد ذلك هل يشترط أن يُفرج؟.
لا تُفرج رجليك، ولا تجهد نفسك، ولا داعي أن تكون بهذه الصورة المبتذلة في الصلاة، فهو يجر نفسه وأنت تفرج رجليك، حتى أحياناً يتحامل على نفسه بحيث يتكلف، حقيقة هذا خلاف السنة، فلا بد من وعي عند تطبيق السنة.
وبعض الناس ويعلم الله فعلوا هذا معي مراراً، ووالله لو وضع رجله على رأسي لتحملته، وأمكنه من رجلي، وأراه يدوس عليها أضعها تحته بزيادة حتى يضع قدمه على قدمي إن شاء، تراه يضع أصابعه فوق أصابعي، هذه السنة أم هذه بدعة؟ ما دخل الأصابع على الأصابع، تريد أن تجعل رجلك فوق رجلي، وتراه ليته يقف طول الصلاة يحك برجلك، ويريد أن يطبق السنة، يا عبد الله! ليست هذه سنة.
لذلك لا بد من تطبيق السنة كما ثبتت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، من بداية الصلاة يعدل المسلمون هيئتهم يلصقون ويلزقون المنكب بالمنكب، والكعب بالكعب، طبيعي بعد ذلك طول الصلاة ستبقى هذه الحالة سوية، إلا إذا واحد منهم طرأ عليه حدث وخرج فيتقاربون، لكن ما عدا هذا انتهى، هم التصقوا، أما في البداية بين المنكب والمنكب والكتف والكتف -كما قلت- مقدار رمح، كيف إذاً أنت تلصق الكعب بالكعب، والقدم بالقدم، وإذا فرطت في الأعلى فرطت في الأسفل، وانتهى الأمر.
فالسنة لا بد من أن تُطبق -كما قلت- بالصفة الشرعية، فإذا حصل التفريق ماذا نفعل، كما تُصلي أحياناً بجوار مَن يشرب دخاناً، أما يقتلنا في الصلاة؟ والله يقتلنا قتلاً، كأن الإنسان في بيارة في حال وجوده في المسجد عندما يتنفس ذلك التنفس الخبيث من أثر رائحة الدخان، يوجد مثل هذا فماذا نعمل؟.
هذه أحوال المسلمين الرديئة، كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام إذا شم من صحابي رائحة بصل -ليس رائحة دخان- يطردونه إلى البقيع، الآن تدخل للمسجد ورائحة الدخان وعلبة الدخان، وبعضهم يريد يسجد يضعها أمامه حتى على السجود، فضلالات وبدع، طيب ابتلينا بهذا العصر الهابط ماذا نعمل؟ نفوض أمرنا إلى الله، فأنت من البداية إذا وجد مَن بجوارك فيه خير، وأنست منه الرشد، ويصلي صلاة شرعية اسحبه بحيث يلتصق منكبك بمنكبه، وكعبك بكعبه، ما حصل هذا ماذا تعمل؟ التفريط الذي يقع فيه الناس ما أكثره.
يتبع إن شاء الله...