وقد دخل شبتاي القدس في مايو عام 1665، وأعلن أنه المتصرف الوحيد في مصير العالم كله، وركب فرساً (كما هو متوقع من الماشيَّح) وطاف مدينة القدس سبع مرات هو وأتباعه، وقد عارضه الحاخامات وأخرجوه من المدينة. ولكن تسفي أعلن عام 1666 أنه سيذهب إلى تركيا ويخلع السلطان. وقد زاد ذلك حدة التوقعات المشيحانية بين يهود أوربا وزاد حماسهم. وقد وصلت الأنباء إلى لندن وأمستردام وهامبورج. وصارت الجماهير اليهودية تحمل بيارق الماشيَّح في بولندا وروسيا. ومما يجدر ذكره أن أهم مؤسسة يهودية في العالم آنذاك، وهي مجلس البلاد الأربعة، اكتسحتها الحمى المشيحانية فأرسلت مندوبين عنها للحديث معه والاعتراف به (ولم تُصدر هذه المؤسسة قرّاراً بطرده إلا عام 1670 بعد تردُّد طويل). بل إن بعض الأوساط المسيحية بدأت تؤمن بأن تسفي سيُتوَّج ملكاً على فلسطين. وحينما حاول حاخامات أمستردام الاعتراض على رسائل تسفي وما جاء فيها، كادت الجماهير تفتك بهم. ولقد باع بعض الأثرياء كل ما يملكونه استعداداً للعودة، واستأجروا سفناً لتنقل الفقرّاء إلى فلسطين، واعتقد البعض الآخر أنهم سيُحمَلون إلى القدس على السحاب. وسيطرت الهستريا على الجماهير، فكان أتباعه يُغشَى عليهم ويرونه في رؤاهم ملكاً متوجاً. وانقسم كثير من الجماعات اليهودية بصورة حادة. وقد سمى الحاخامات أتباع تسفي بأنهم الكفار (بالعبرية: كوفريم). ولكن تسفي تمادى في دوره، وبدأ في توزيع الممالك على أتباعه، وألغى الدعاء للخليفة العثماني الذي كان يُتلى في المعبد اليهودي، ووضع بدلاً من ذلك الدعاء له هو نفسه كملك على اليهود ومخلِّص لهم. وأخذ تسفي يضفي على نفسه ألقاباً يوقع بها رسائله. ومن هذه الألقاب: « ابن الإله البكر » و« أبوكم يسرائيل » و« أنا الرب إلهكم شبتاي تسفي ». وتوجَّه تسفي إلى إستنبول في فبراير عام 1666 حيث أُلقي القبض عليه.
ويبدو أن السلطات العثمانية التي اعتادت عدم التجانس الديني في الإمبراطورية الشاسعة، لم تكن تريد أية مواجهات مع أتباعه، ولذلك تم سجنه في قلعة جاليبولي المخصصة للشخصيات المهمة. وقد تحوَّل السجن بالتدريج إلى بلاط ملكي لشبتاي تسفي (فكان يحتفظ بعدد كبير من الحريم، ومع هذا كانت له تصرفات تنم عن ميول نحو الشذوذ الجنسي، أي أنه كان مخنثاً). وكان الحجاج يأتونه من كل بقاع الأرض، وكُتبت الأناشيد الدينية تسبيحاً بحمده، وأُعلنت أعياد جديدة وطقوس جديدة. فألغى صيام اليوم السابع عشر من تموز من التقويم اليهودي، كما ألغى صيام التاسع من آب وجعله عيداً لميلاده. وقد أعلن نيثان أن التغييرات الحادة التي تطرأ على مزاج الماشيَّح تعبير عن الصراع الدائر داخل نفسه بين قوى الخير والشر.
وفي سبتمبر من ذلك العام، جاء الحاخام القبَّالي نحميا (من بولندا) لزيارة شبتاي، وقضى ثلاثة أيام في الحديث معه رفض بعدها دعواه بأنه الماشـيَّح، بل أخـبر السـلطات التركية بأنه يحرض على الفتنة، فقُدِّم للمحاكمة وخُيِّر بين الموت أو أن يعتنق الإسلام، فأشهر إسلامه وتعلَّم العربية والتركية ودرس القرآن. وأسلمت زوجته من بعده، ثم حذا حذوه كثير من أتباعه الذين أصبح يُطلَق عليهم اسم «دونمه». ولكنه، مع هـذا، لم يقطـع الأمل في أن يستمر في قيادة حركته، وظل كثير من أتباعه على إيمانهم به، لأن الماشيَّح في التصور القبَّالي « سيكون خَيِّراً من داخله، شريراً من خارجه »، وهذه مواصفات تنطبق على تسفي تمام الانطباق. ويتضح هنا تأثر تسفي بتفكير يهود المارانو بشأن ضرورة أن يُظهر المرء غير ما يُبطن. وقد نقل العثمانيون تسفي في نهاية الأمر إلى ألبانيا حيث مات بوباء الكوليرا عام 1676.
وظهور شبتاي تسفي تعبير عن الأزمة العميقة التي كانت تخوضها اليهودية الحاخامية بسبب تَآكُل العالم الوسيط في الغرب بل ونهايته، وهو العالم الذي نشأت فيه اليهودية الحاخامية التي فشلت في التعامل مع العالم الجديد. ويشبه شبتاي تسفي في هذا معاصره إسبينوزا، فكلاهما تعبير عن أزمة واحدة، وكلاهما تَحدَّى الشريعة (هالاخاه) وطرح رؤية ذات جوهر علماني تركِّز على هذا العالم المادي. وبينما تحداها تسفي من الداخل، تحداها إسبينوزا من الخارج. وكلاهما كان يؤمن بنسق حلولي يَصدُر عن رؤية حلولية كونية واحدية (أخذت طابعاً دينياً عند تسفي وطابعاً فلسفياً لا دينياً عند إسبينوزا).
ويمكن القول بأن تسفي يمثل وحدة الوجود الروحية، أي أن يحل الإله في الطبيعة والتاريخ ويظل محتفظاً باسم الألوهية، أما إسبينوزا فيمثل مرحلة وحدة الوجود المادية، حيث يصبح الإله هو قوانين الحركة، ولكنه مع هذا كان من الدهاء بحيث أبقى اسم الإله ولكنه قال إن الإله هو الطبيعة. ولذا يُشار إلى إله إسبينوزا بأنه الإله/الطبيعة.
وتُعتبَر حركة شـبتاي تسـفي أهـم الحركات المشـيحانية على الإطلاق، فقد هزت اليهودية الحاخامية من جذورها، حتى لم تقم لها قائمة بعد ذلك. وانتشر أتباع تسفي في كل مكان، وانتشر معهم الفكر الشبتاني حتى بين بعض القيادات الحاخامية، ويتضح ذلك في المناظرة الشبتانية الكبرى التي ظهر خلالها أن الحاخام جوناثان إيبيشويتس، وهو من أهم العلماء التلموديين في عصره، كان شبتانياً. وبعد ذلك، ظهرت الحركتان الحسيدية والفرانكية اللتان رفضتا القيادة التقليدية التلمودية، وأخيراً ظهرت الصهيونية التي ورثت كثيراً من النزعات المشيحانية. وثمة رأي يذهب إلى أن تسفي بهجومه على اليهودية الحاخامية التقليدية مهد الطريق للصهيونية التي ترفض القيود الدينية، كما ترفض الأوامر والنواهي وتُعلِّي الذات القومية على كل شيء. كما أن تَوجُّه تسفي للعمل على العودة الفورية إلى فلسطين يشبه، في كثير من النواحي، المشيحانية الصهيونية العلمانية التي ترفض الموقف الديني التقليدي الذي ينصح اليهود بالانتظار، بل تبادر إلى الإسراع بالنهاية ليبدأ العصر المشيحاني دون انتظار مشيئة الإله. وقد كان تيودور هرتزل معجباً للغاية بتسفي وكان يفكر في كتابة أوبرا عنه لتمثيلها في الدولة الصهيونية بعد إنشائها.
نيثـان الغــزاوي (1643-1680) Nathan of Gaza
الداعية الأول لشبتاي تسفي وأهم المبشرين به، وهو من أصل إشكنازي. درس القبَّالاه، واستقر في غزة، ثم أعلن أن شبتاي تسفي هو الماشيَّح. وبعد أن أسلم تسفي، تجوَّل نيثان في شبه جزيرة البلقان، وطوَّر الفكر الشبتاني مستنداً إلى القبَّالاه اللوريانية، فقال إن روح الماشيَّح عليها أن تنزل إلى عالم الظلمات التي هي القشرة الخارجية (قليبوت) لهذا العالم، لتخلص الشرارات الإلهية (نيتسوتسوت) التي التصقت بها ويتحقق إصلاح الخلل الكوني (تيقون) فيستعيد حالته الأصلية. وبذلك، حل نيثان مشكلة أساسية واجهها أتباع تسفي وهي اعتناقه الإسلام، فقد فسَّر مسلك شبتاي على أنه نزول إلى عالم الظلمات. وقد استخدم الشبتانيون هذه الفكرة فيما بعد لتفسير الانحلال الأخلاقي عند زعمائهم.
جيكوب قويريدو (؟ -1690) Jacob Querido
أحد أتباع شبتاي تسفي ووريثه الأساسي. أظهر الإسلام، وأبطن اليهودية منذ عام 1683، هو وثلاثمائة أسرة من أتباعه، واستمروا في ممارسة الطقوس الشبتَّانية سراً. وهو مؤسس طائفة الدونمه.
الحركة الشبتَّانية Shabbateanism
«الشبتَّانية» مصطلح يُطلَق على الحركات المشيحانية الدينية الباطنية (الغنوصية) اليهودية التي ظهرت في الغرب وأطراف الدولة العثمانية بعد أن أسلم شبتاي تسفي. وكلها هرطقات ضد الدين اليهودي، وضد الصياغة التلمودية على وجه الخصوص. وتُعَدُّ الشبتانية شكلاً من أشكال الثورة ضد الدين اليهودي، وتعبيراً عن أزمة اليهودية. وقد ساهمت القبَّالاه اللوريانية وانتشارها في خلق التربة الخصبة لانتشار الأفكار الشبتانية.
والواقع أن المفهوم القبَّالي الخاص بإصلاح الخلل الكوني (تيقُّون) قد غيَّر كثيراً من المفاهيم اليهودية التقليدية تماماً. فقد كان الخلاص يعني العودة إلى أرض الميعاد، أما التيقون فقد جعل الخلاص هو إصلاح الخلل الكوني وإنهاء حالة النفي التي تَسم الكون بأسره. والنفي ليس وضعاً خارجياً كامناً في وجود اليهود خارج فلسطين، وإنما هو وضع داخلي كامن في الطبيعة البشرية نفسها ويتمثل في ابتعادها عن الإله وعدم التصاقها به (ومن هنا أهمية الأوامر والنواهي والوصايا لكل من اليهود والأغيار). وتبدأ عملية الخلاص في هذا العالم الداخلي الباطني، أي في عقل الإنسان وقلبه، استعداداً للخلاص الخارجي، بمعنى أن الحالة العقلية النفسية أكثر أهمية من اللحظة التاريخية. وبذلك، فقد مزجت القبَّالاه اللوريانية النزعة القبَّالية الباطنية (الذاتية) بالنزعة المشيحانية الخارجية، وجعلت الثانية تعتمد على الأولى، ومهدت الطريق بذلك لظهور شبتاي تسفي والشبتانية ككل.
ولكن أتباع شـبتاي تسـفي قامـوا بتعديل التصور اللورياني وتعميقه، فالقبَّالاه اللوريانية، مثلها مثل قبَّالاة الزوهار (برغم حلوليتها المتطرفة وهرطقتها)، كانت تحوي داخلها إمكانية تعميق الولاء للشريعة وممارسة شعائرها، وبالفعل جعلت الخلاص المشيحاني وإصلاح الخلل الكوني (تيقون) مرتبطاً بممارسة اليهود للشعائر وتنفيذهم الأوامر والنواهي. أما شبتاي تسفي وأتباعه، فقد كان موقفهم معادياً للشريعة والشعائر بشكل واضح وصريح، بل تعمدوا خرق قوانينها وإبطال أوامرها ونواهيها. وإذا كان الشعب اليهودي يشغل في التصور اللورياني مركز عملية الخلاص، فإن شخصية الماشيَّح تشغل هذا المركز في التصورات الشبتانية. فالمؤمن هو من يؤمن بالأفعال الصوفية الخارقة التي يأتي بها شبتاي تسفي كماشيَّح مخلِّص. ولعل التأكيد على شخصية الماشيَّح، بدلاً من الشعب اليهودي، يعود إلى وجود اليهودية إما في تربة مسيحية (بولندا وروسيا) أو على مقربة منها (في شبه جزيرة البلقان). وقد قضى يهود المارانو عشرات السنين يعانون من الاضطهاد الناجم عن قولهم إن المسيح عيسى بن مريم ليس هو الماشيَّح الحقيقي، وأن الماشيَّح اليهودي سيأتي لينقذ شعبه. وهكذا تحوَّلت النزعة المشيحانية إلي إيمان بشخصية الماشيَّح.
وكان من الممكن أن يؤدي ظهور شبتاي تسفي إلى سد الفجوة بين الظاهر والباطن. ولكنه، كما هو متوقع، فشل في ذلك تماماً، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور الحركة الشبتانية برؤيتها للكون. ويُعدُّ نيثان الغزاوي أهم مفكري الشبتانية وأبرز دعاتها، فقد أعاد تفسير كثير من الأفكار اللوريانية، وأضاف إليها حتى خَلَق نسقاً فكرياً يُعدُّ تنويعاً جديداً على النسق اللورياني. وأهم أفكار نيثان هي فكرة "النور الذي لا عقل له" مقابل " النور العاقل". وحسب هذا التصور، يحوي الإين سوف (الإله الخفي أو العدم) النورين داخله. أما الأول، فهو قوة مدمرة هائلة لا عقل لها، وهي لا تكترث كثيراً بعملية الخلق بل تعاديها فهي قوة العدم. وأما النور العاقل، فهو النور الذي يفكر في عملية الخلق ويقوم بها في نهاية الأمر. وقد حدثت عملية الانكماش الإلهي (تسيم تسوم) ليس في الوجود الإلهي بنوريه العاقل والمعادي للعقل وإنما حدثت في النور العاقل وحده استعداداً لعملية الخلق، فانفصل النور العاقل عن النور الذي لا عقل له فصار هذا النور العدمي قوة نابعة من الإين سوف (الإله الخفي) مستقلة عنه، وبذلك فقد أصبح قوة الشر، أي أن الشر الماثل في الدنيا إن هو إلا جزء من الإله. ويقوم هذا النور بتدمير كل ما ينتجـه النـور العاقل الذي اخترق، رغـم هذا، الفضاء العلوي وشيَّد العالم. ومع هذا، فقد ظل النصف السفلي، أو الهوة الكبرى (الهيولي السفلي)، مظلماً بعيداً عنه وعن سلطانه. ويصبح جدل الكون هو محاولة النور العاقل الوصول إلى العالم السفلي، وقيام النور غير العاقل بصد الإشعاعات (وهذا تعبير عن الثنوية القوية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي). ولا يمكن في الواقع أن تصل هذه الإشعاعات إلا من خلال شخصية الماشيَّح، فهو وحده القادر على توصيلها وعلى إعادة تشكيل الهيولي السفلي. بل إن روح الماشيَّح توجد في هذا العالم السفلي، فهو إحدى الشرارات الإلهية التي التصقت بالقشرة (قليبوت)، ولذا فهو ليس خاضعاً لسلطان التوراة أو القانون، وهو وحده القادر على بدء عملية التيقون.
والبشر جميعاً خاضعون لسلطة الشريعة، التي هي تعبير عن النور العاقل والأرواح المتصلة به، على عكس الماشيَّح الذي لا يخضع لسلطانه. فهو يحوي النورين، وله من الرخص ما لم يُمنَح لبشر. وقد مكَّنت هذه الفكرة نيثان الغزاوي من أن يفسر تلك الأعمال الغريبة التي صدرت عن الماشيَّح. وقد وصفه بأنه البقرة الصغيرة الحمراء التي ورد ذكرها في العهد القديم (عدد 19)، فهو يطهر المدنَّسين ولكنه هو نفسه مدنَّس، وهو أيضاً الثعبان المقدَّس الذي سيُخضع ثعابين الهوة (والواقع أن كلمة «ناحاش» العبرية، أي ثعبان، لها القيمة الرقمية نفسها التي لكلمة «ماشيَّح»، ولذا فإنه مقدَّس مهما أتى من أفعال قد تبدو مُدنَّسة).
وتستند هذه الرؤية للماشيَّح إلى فكرة شبتانية أساسية، وهي فكرة التوراتين: توراه دي أتسليوت، أي توراة العالم العلوي أو توراة الفيض والخلاص، وتوراه دي بريئاه، أي توراة الخلق أو توراة الظاهر والعالم الحسي أو السفلي. فحسب التصور الشبتاني (وهو مجرد تطوير وتعميق للفكر القبَّالي)، هناك معنىان للتوراة؛ أحدهما ظاهري والآخر باطني. ويرتبط المعنى الظاهري بهذا العالم، عالم الخير والشر والحياة والموت والزوال والدنس والشتات والنفي. ولذا، فإن هذه التوراة، توراة الخلق والخليقة، تحوي الوصايا والأوامر والنواهي التي يجب على اليهودي اتباعها ليساعد الشخيناه (المنفية مع اليهود) في محنتها. ويُشار إلى توراة الخلق هذه بأنها رداء الشخيناه في سبيها. أما المعنى الباطني للتوراة، فيرتبط بالعالم السامي، عالم الخير والحياة الأزلية، وهو عالم ثابت لا نفي فيه ولا شتات، وتوراته هي توراة الخلاص، ولا يدرك كنهها سوى القديسين، والماشيَّح المخِّلص. وبرغم التشابه بين التوراتين في المحتوى والألفاظ، فإن طريقة فهم كل منهما مختلفة لأن تفسير كل توراة يتم وفقاً للعالم الذي نزلت من أجله. فالتوراة في العصر السابق على الخلاص (العصر الشبتاني أو المشيحاني)، تُقرأ في ضوء من الوصايا والنواهي والتحريمات المعروفة لدينا. أما توراة الخلاص والفيض فتسمح بالمحرمات، بل إن انتهاك توراة الخليقة لينهض دليلاً على مجيء العصر الجديد الذي بشَّر به شبتاي تسفي.
ويستند كل هذا إلى مفهوم محوري في الفكر الشبتاني، هو مفهوم قداسة الرذيلة. فالأفعال المدنَّسة هي في الواقع أفعال مقدَّسة، شـكلها الخارجي وحسـب هو المدنَّس (ويظهر هنا تأثير المارانو مرة أخرى). ويصبح العقل المدنَّس مقدَّساً إن عمل بحماس ديني. وقد وجد الشبتانيون تبريراً لرأيهم هذا في التلمود الذي ورد فيه أن الخطيئة التي تُقتَرف لذاتها هي أعظم من وصية لا تُؤدَّى لذاتها. كما أن المختارين لا يمكن أن يُحكَم عليهم بالمقاييس العادية، فهم ينتمون إلى قانون مختلف هو قانون الفيض، وهم فوق الخير والشر (مثل الإنسان الأعلى عند نيتشه). فمن المستحيل على الذين يعيشون في عالم التيقون أن يرتكبوا الخطيئة، لأن الشر بالنسبة إليهم فَقَد معناه لأنهم وصلوا إلى الخلاص الداخلي الكامل.
وقد بشَّر باروخيا روسو أتباعه بأن الست والثلاثين خطيئة القاطعة التي تنص الشريعة اليهودية على قتل من يرتكبها، هي خطايا من وجهة نظر توراة الخلق فقط. أما وقد تم الوصول إلى مرحلة الخلاص، مرحلة توراة الفيض، فإن تلك الخطايا قد أصبحت من المحللات. وأصبح الشبتانيون يتحللون من كل الأوامر ويترخصون في كل النواهي، بل أصبحوا يرون أن من واجبهم انتهاك الشريعة وتدنيس الأخلاقيات الشائعة باسم المعاني الباطنية والمبادئ السامية. وصار شعارهم الأساسي عبارة شبتاي تسفي: "الحمد لك يارب، يا من تُحلِّل المحرمات".
والمعنى الباطني للتوراة هو المعنى الحقيقي بالنسبة إلى المبشرين بعالم الخلاص، وبالنسبة إلى الذين وصلوا إليه. ومن العلامات الحقة لإيمانهم أنهم يخفون دينهم الحقيقي ويبقونه سراً خفياً عن عيون البشر. بل يجب على المؤمن الحق أن يدخل كل الأديان وينتمي إليها بصورة ظاهرة، على أن يبطن دينه الحقيقي. وهو بذلك سـيتمكن من أن يهـدم الأديان كلهـا التي سيرتديها فقط كغطاء خارجي. ويبدو أن يهود المارانو الذين كانوا يعتنقون اليهودية سراً والمسيحية علناً، قد لعبوا دوراً أكيداً في إشاعة هذه الأفكار وفي قبولها. ويرى بعض الدارسين أن ثمة تأثراً بالتراث الديني المسيحي في الفكر الشبتاني، يتبدى في مركزية فكرة الماشيَّح الفرد الذي يُصلَب (والصلب في حالة الفكر الشبتاني قد يكون حقيقياً وقد يأخذ شكل الارتداد والتدنس). كما يتبدى الفكر المسيحي في تأكيد الخلاص الداخلي، والحرية الباطنية. بل يذهب الدارسون إلى وجود ثالوث شبتاني: الإله الخفي وإله جماعة يسرائيل والشخيناه، أو تنويعات على هذا الثالوث. وقد تأسست بعد موت تسفي مراكز شبتانية في أطراف الدولة العثمانية في البلقان، وفي كلٍّ من إيطاليا وبولندا وليتوانيا.
وأهم الحركات الشبتانية هي حركة جيكوب فرانك. ولقد كانت الحركة الشبتانية منتشرة بشكل عميق في أوربا إذ ظل الشبتانيون داخل اليهودية الحاخامية، وأبطنوا آراءهم، وقاموا بالدعوة لها سراً، حتى أن أحد عُمُد اليهودية الحاخامية (الحاخام إيبيشويتس) كان من دعاتها. وقد أصبح الشبتانيون من أهم العناصر الثورية والعدمية في أوربا واحتفظوا بآرائهم داخل أنفسهم، حتى ظهرت الثورة الفرنسية، فصار كثير منهم من دعاتها ورسلها. وكان موسى دوبروشكا، أحد المرشحين لرئاسة حركة فرانك، من زعماء الثورة الفرنسية ممن أُعدموا مع دانتون عام 1794.
والحركة الشبتانية واحدة من الحركات اليهودية المشيحانية الحديثة التي تعبِّر عن بؤس اليهود، وعن أزمة اليهودية التي انتهت بظهور الحسيدية ثم الصهيونية، وكلها حركات شعبية هروبية ترفض الزمان والمكان وتطالب بالانتقال من وضع تاريخي متعين متأزم إلى مجتمع جديد مثالي يُشيَّد على أرض فلسطين. وقد اتخذت حركة الهروب هذا الشكل المشيحاني، بسبب الحلولية الكامنة في النسق الديني اليهودي، التي تشكل واحداً من أهم طبقاته الجيولوجية.
ويرى أحد المفكرين اليهود أن الحركة الشبتانية هي بداية اليهودية الحديثة، فظهورها تعبير عن ضعف اليهودية المعيارية، أي اليهودية الحاخامية. وهي، بإسقاطها كل النواميس، تشبه في كثير من النواحي الحركات اليهودية المعاصرة، أي اليهودية التي تحاول أن تطرح جانباً القيود المتزمتة التي فرضتها اليهودية الحاخامية على اليهود. وبالتالي، فإن الوريث الحقـيقي للشـبتانية هـو اليهودية الإصلاحية. فهذه، هي الأخرى، ثورة على التقاليد التلمودية الحاخامية، ويُقال إن أحد أهم زعماء اليهودية الإصلاحية في المجر (أرون كورين) كان شبتانياً في شبابه.
وثمة رأي آخر يرى أن الوريث الحقيقي للحركة الشبتانية هو الصهيونية، فهي ترفض الأوامر والنواهي، ولا تقبل الانتظار حتى يشاء الإله أن يأتي الماشيَّح. ولكن الطبقة الحلولية اليهودية هي التي تجمع بين كل هذه الحركات التي تُعدُّ مجرد تجليات لهذه الطبقة التي تنكر وجود الإله المفارق، وتبحث عن المطلق والركيزة النهائية في المادة نفسها، ولذا يحل الإله تماماً في الطبيعة والتاريخ وتتقدس المادة، ومن ثم تصبح كل الأمور متساوية (نسبية) وتَسقُط المطلقات الأخلاقية لتصبح الرذائل فضائل والفضائل رذائل.
الدونمــه
Donmeh الدونمه» كلمة تركية بمعنى «المرتدين»:
1 ـ كلمة «دونمه» مكوَّنة من كلمتين تركيتين مدغمتين «دو» بمعنى «اثنين» و«نمه» بمعنى «عقيدة» فهم أصحاب عقيدتين واحدة ظاهرة وهي الإسلام، والثانية مبطنة وهي اليهودية.
2 ـ يُقال إن الكلمة مشتقة من كلمة «دونماك» بمعنى «العائدين»، أي يهود المارانو الذين هاجروا من شبه جزيرة أيبريا إلى الدولة العثمانية.
وقد أُطلق هذا الاسم على جماعة يهودية تركية شبتانية من اليهود المتخفين استقرت في سالونيكا وأشهرت إسلامها تشبُّهاً بشبتاي تسفي (الماشيَّح الدجال). فقد اعتقد كثيرون من أتباعه المؤمنين به أن ارتداده عن دينه واعتناقه الإسلام تلبية لأمر خفي من الرب وتنفيذ للإرادة الإلهية، فحذوا حذوه، ولكنهم ظلوا متمسكين سراً بتقاليد اليهودية. وهم يختلفون عن يهود المارانو في أنهم اعتنقوا الإسلام طواعية دون قسر، فلم تكن الدولة العثمانية تُكره أحداً على اعتناق الإسلام. وعقيدة الدونمه عقيدة حلولية غنوصية متطرفة فهم يؤمنون بألوهية شبتاي تسفي، وأنه الماشـيَّح المنتظر الذي أبطل الوصايا العـشر وغـيرها من الأوامر والنـواهي. وهم يرون أن التوراة المُتداوَلة (توراة الخلق) فارغة من المعنى وأنه أحل محلها توراة التجليات، وهي التوراة بعد أن أعاد تسفي تفسيرها.
وكان مركز الجماعة في بادئ الأمر في أدرنة ثم انتقل إلى سالونيكا. ويحمل كل عضو من أعضاء الدونمه اسمين: اسم تركي مسلم وآخر عبري يُعرَف به بين أعضاء مجتمعه السري. وكانوا يعتبرون أنفسهم يهوداً، فكانوا يتدارسون التلمود مع بقية اليهود ويستفتون الحاخامات فيما يقابلهم من مشاكل، كما كانوا يحتفلون بجميع الأعياد اليهودية ويقيمون شعائرهم عدا شعيرة الكف عن العمل يوم السبت حتى لا يلفتوا النظر إلى حقيقتهم. وقد أضافوا إلى الأعياد عيداً آخر اعتبروه أقدس الأعياد على الإطلاق وهو عيد ميلاد شبتاي تسفي. ويدفن الدونمه موتاهم في مدافن خاصة بهم، ولكن كل فريق منهم يتعبد في معبده الخاص الذي يُسمَّى «القهال» (الجماعة أو جماعة المصلين)، والذي يوجد عادةً في مركز الحي الخاص بهم مخبأً يخفيهم عن عيون الغرباء. وكانت صلواتهم وشعائرهم تُكتَب في كتب صغيرة الحجم حتى يَسهُل عليهم إخفاؤها، ولهذا لم يطلع عليها أحد حتى عام 1935. وكانت كتب الصلوات بالعبرية أصلاً، لكن اللادينو حلت محل العبرية سواء في الأدب الديني أم الدنيوي، ثم حلت التركية محل اللادينو في منتصف القرن التاسع عشر. وقد اتُهمت هذه الجماعة، أو على الأقل إحدى فرقها، بالاتجاهات الإباحية وبالانحلال الخلقي والانغماس في الجنس، وذلك بسبب تحليل الزيجات التي حرمتها الشريعة اليهودية وبسبب الحفلات التي كانوا يقيمونها ويتبادلون خلالها الزوجات (وهذا أمر شائع في أوساط الجماعات الحلولية التي تُسقط كل الحدود، بمعنى حدود الأشياء والعقاب). وللدونمه صيغة خاصة من الوصايا العشر لا تُحرِّم الزنى، بل إنها تُحوِّل عبارة «لا تزن» إلى ما يشبه التوصية بأن يتحفظ الإنسان فقط في ارتكاب الزنى وليس أن يمتنع عنه تماماً. والموعظة الطويلة التي تركها أحد زعمائهم تحتوي على دفاع قوي عن إسقاط التحريمات الخاصة بالجنس في «توراة الخلق». وتؤكد الموسوعة اليهودية أنهم يعقدون احتفالات ذات طابع عربيدي داعر في عيد من أعيادهم الذي يُسمَّى «عيد الحمل» (22 مارس/آدار) وهو عيد بداية الربيع. وإن كان يبدو أن مثل هذه الاحتفالات مقصورة أساساً على فرقة القنهيليه، وهي على كل حال أكبر فرق الدونمه عدداً.
وتنقسم الدونمه إلى عدة فرق:
1 ـ اليعقوبلية: بعد موت تسفي، أعلنت آخر زوجاته أن روح زوجها قد حلت في أخيها يعقوب فيلسوف (أو يعقوب قويريدو، أي المحبوب)، وأن تسفي تجسَّد مرة أخرى من خلاله. وقد اعتنق أتباع يعقوب الإسلام بل أدَّى هو فريضة الحج عام 1690 ومات أثناء عودته. وقد تبعه ما يقرب من ثلاثمائة أسرة انقسمت عن جماعة الدونمه ككل. وقد سُمِّي أتباع يعقوب «اليعقوبلية» أي «اليعقوبيون»، وهم يسمون باللادينو «أرابادوس»، أي «الحليقون النظفاء» لأنهم يحلقون شعور رؤوسهم تماماً، وإن كانوا يرسلون لحاهم. وكان الأتراك يسمونهم «الطربوشلوه» أي «لابسو الطرابيش» لأنهم كانوا يرتدون الطرابيش. ويضم هذا الفريق أساساً أفراداً من الطبقات الوسطى أو الدنيا من الموظفين الأتراك. وهم مندمجون في المجتمع التركي تماماً، على الأقل من الناحية الشكلية.
2 ـ الأزميرليه: وقد أُطلق على بقية الدونمه اسم «الأزميرليه»، ولكنهم ما لبثوا أن انقسموا إلى قسمين:
أ) القنهيليه («القونيوسوس» باللادينو، و«كاركاشلر» بالتركية). وقد حدث انقسام آخر في صفوف هؤلاء عام 1700 حين ظهر قائد جديد هو باروخيا روسو الذي أعلن أنه تجسُّد جديد لشبتاي تسفي وأعلن أتباعه أنه التجسد أو التجلي المقدَّس وأنه ربهم. وكان باروخيا روسو (وكان اسمه التركي مصطفى شلبي، كما كان يُعرَف باسم الحاخام باروخ فونيو) أكثر الدونمه راديكالية. فقد قام بتعليم التوراة المشيحانية الخفية، أو توراة التجليات التي تطالب بقلب القيم، فطالب على سبيل المثال بإيقاف العمل بالستة والثلاثين حظراً التي وردت في التوراة والتي تُعرَف باسم «القاطعة» (بالعبرية: كيريتوت)، وقد كانت عقوبة من يخالفها هو اجتثاث الروح من جذورها وإبادتها تماماً، بل وحوَّلها إلى أوامر واجبة الطاعة. وقد كان ذلك يتضمن العلاقات الجنسية، ومن ذلك العلاقات بين المحارم. وأعضاء هذه الفرقة من الدونمه هم أساساً من الحرفيين، مثل الحمالين والإسكافيين والجزارين، ويُقال إن جميع الحلاقين في سالونيكا كانوا من أتباع هذه الفرقة. وكانوا يرسلون لحاهم ولا يحلقون شعر رأسهم (وهذا مثل جيد لجماعة وظيفية تَتبنَّى الرؤية الحلولية). وتُعَدُّ فرقتهم أكثر الفرق تطرفاً نظراً لعدميتهم الدينية. وقد قام هذا الفريق من الدونمه بنشاط تبشيري كثيف بين أعضاء الجماعات اليهودية، وأُسِّست جماعات تابعة له في أماكن عدة. وقد ظهرت الحركة الفرانكية من أحد هذه الأماكن.
ب) القبانجي: بعد موت باروخيا، انفصلت مجموعة أخرى سُمِّيت «القبانجي»، وهي كلمة تركية تعني «القدماء» أو «القائمون على حراسة الأبواب» (باللادينو: «كافاليروس»)، رفضوا الاعتراف بقويريدو، كما رفضـوا الطبيعة المشـيحانية لباروخيا، ولم يعترفوا إلا بشبتاي تسفي، وأصبح اسم «الأزميرلية» يُطلَق عليهم وحدهم، وأصبحوا أرستقرّاطية الحركة الشبتانية. وتضم هذه الفرقة المهنيين (من أطباء ومهندسين) وأصحاب المهن الحرة وأثرياء اليهود. وهؤلاء كانوا يحلقون رؤوسهم ولا يطلقون لحاهم.
وكان كل فريق من الدونمه يعيش بمعزل عن الآخر. وقد لعب الكثير من أعضاء الدونمه دوراً قيادياً في الثورة التركية سنة 1909، وخصوصاً داود بك الذي أصبح فيما بعد وزيراً للمالية، وكان من نسل باروخيا رئيس الجماعة القنهيلية المتطرفة. ويُشاع بين يهود سالونيكا أن كمال أتاتورك نفسه كان من الدونمه.
ولا تُعرَف أعداد الدونمه إلا على وجه التقريب. ويُقال إن عددهم وصل إلى مـا بين عشـرة آلاف وخمسة عشر ألفاً قبل الحرب العالمية الأولى. وقد تَفرَّق شملهم على أثر اتفاقية تبادل السكان التي وقعتها تركيا واليونان بعد الحرب عام 1924 بسبب اضطرار أعضائها، باعتبارهم مسلمين اسماً، إلى ترك مقرهم في سالونيكا والاستقرّار في جهات متفرقة في تركيا، خصوصاً إستنبول. وقد حاولوا أن ينضموا مرة أخرى إلى الجماعة اليهودية، ولكن طلبهم رُفض لأن أولادهم يُعتبَرون غير شرعيين (مامزير). وتم أخيراً إزاحة النقاب عن سر هذه الجماعة بعد أن نجحت طويلاً في إخفاء حقيقة أمرها عن المسلمين واليهود على السواء، فقد ظهرت وثائق ومخطوطات كشفت عن عدميتهم المتأصلة وبعدهم التام عن الإسلام وعن اليهودية. وقد فشلت جميع المحاولات التي بُذلت لإقناعهم بالهجرة إلى إسرائيل، ولم يكن بين المهاجرين الأتراك غير أفراد قلائل من الدونمه. وثمة دلائل تشير إلى أن القنهيليه استمرت موجودة حتى الستينيات، وأنها لا تزال تبقي على إطارها التنظيمي، وأن رئيس الجماعة أستاذ في جامعة إستنبول. ويبدو أن أعضاءها تربطهم علاقة وثيقة بالحركات الماسونية في تركيا ويلعبون دوراً نشيطاً في عملية علمنة تركيا، وهو ما يُعطي الحركة الماسونية طابعاً خاصاً.
المناظـــرة الشــــبتَّانية Shabattean Controversy
نشبت معركة فكرية بين يعقوب أمدن وجوناثان إيبيشويتس، وكلاهما كان من كبار العلماء التلموديين في عصرهما، حين قام أمدن باتهام إيبيشويتس بأنه مؤمن بالأفكار الشبتانية سراً رغم تحريمه إياها علناً. وقد أثبت أمدن، بالأدلة القاطعة، صدق اتهامه. وقد هزت المعركة المؤسسة الحاخامية، وأضعفت هيبتها وبينت مدى تغلغل الأفكار القبَّالية (أساس الشبتانية) داخل المؤسسة التلمودية.
جـوناثــان إيبيشويتـس (1690-1764) Johnathan Eybeshuetz
واحد من أكبر العلماء التلموديين والقبَّاليين في عصره. وُلد في بولندا وتَعلَّم في براغ حيث استقر عام 1715. صادق بعض العلماء غير اليهود، من بينهم الكاردينال هاسباور الذي استصدر له رخصة لطبع التلمود شريطة أن يستبعد العبارات المعادية للمسيحية. ولكن المشروع لم يتحقق بسبب معارضة زعماء الجماعة اليهودية. وكان إيبيشويتس أحد القضاة الذين حكموا بتحريم المذهب الشبتاني. وقد عُيِّن حاخاماً لمتز وثلاث مدن أخرى عام 1750.
ويرتبط اسم إيبيشويتس بالمناظرة الشبتانية الكبرى حين اتهمه جيكوب أمدن بأنه يروج للشبتانية سراً. وقد وقف إلى جانبه حاخامات بولندا (وطنه الأصلي) ووقف ضده حاخامات ألمانيا (الوطن الذي استقر فيه). وقد استعرت المعركة بين الفريقين، فاضطر إلى اللجوء إلى السـلطات غـير اليهودية التي وقفـت في صفـه. وظهرت المشكلة مرة أخرى، حينما تبين وجود عدد من أتباع الاتجاه الشبتاني بين تلامذته، كما أعلن ابنه ديفيد أنه نبي شبتاني، الأمر الذي أدَّى إلى إغلاق المدرسة التلمودية التي كان يدرِّس فيها إيبيشويتس الأب.
وتعود أهمية إيبيشويتس إلى أنه كان من أهم علماء اليهودية الحاخامية، ومن كبار المعارضين العلنيين للشبتانية. ولذا، فإن اتهامه باتباعها، وإثبات ذلك، يدل على مدى تَجذُّر الشبتانية وهيمنتها. وفي عام 1724، ظهرت مخطوطة كتبها إيبيشويتس، وهي شبتانية النزعة دون جدال. كما قام يعقوب أمدن بحل طلاسم بعض الأحجبة التي كتبها إيبيشويتس، وبين أنها تحوي صيغاً شبتانية.
جيكوب أمـدن (1697-1776 ) Jacob Emden
عالم تلمودي من أصل ألماني، قاد معركة ضارية ضد النزعة الشبتانية، وهو معروف بمعركته مع جوناثان إيبيشويتس التي سُمِّىت «المناظرة الشبتانية الكبرى».
هولجـر بولـي (1644-1714 ) Holger Paulli
تاجر دنماركي من غلاة البروتستانت، وصاحب ادعاءات مشيحانية يهودية. وُلد في الدنمارك في مدينة كوبنهاجن، ودرس اللاهوت في جامعتها، ثم اشتغل بعد ذلك في تجارة العبيد في جزر الهند الغربية فحقق ثروة طائلة. وفي عام 1694، عاد إلى الدنمارك. ثم انجذب بشكل حاد نحو الدين، فهجَّر أسرته وترك بلده وسافر إلى فرنسا ثم إلى أمستردام حيث أصدر أول منشور ديني له عام 1697 دعا فيه إلى دمج اليهودية والمسيحية، وأعلن نفسه المسيح الجديد وملك اليهود الذي اختاره الإله لكي يعيد بناء الإمبراطورية اليهودية في فلسطين. وفي عام 1700، كتب منشوراً آخر موجهاً إلى ملوك أوربا أبلغهم أن المملكة اليهودية ستقام مرة أخرى عام 1720، كما طالب ملك فرنسا بالتخلي عن العرش والانضمام له لتنصير اليهود بالقوة.
وقد قامت السلطات في أمستردام بسجن بولي عام 1701 بتهمة التحريض على أعمال الشغب. وقد أُفرج عنه بفضل وساطة أسرته وأصدقائه الذين التمسوا له العذر بحجة جنونه. وقد انتقل بعدها إلى ألمانيا ثم عاد إلى الدنمارك حيث منعته السلطات منعاً باتاً من التدخل في الشئون الدينية أو الاتصال باليهود.
والواقع أن قصة بولي تبين بكل جلاء التداخل الواضح بين الأجنحة المتطرفة في البروتستانتية واليهودية (وعلى أية حال، فقد كان كثير ممن ادعوا أنهم مشحاء، مثل تسفي وفرانك، يتحولون عن اليهودية وينخرطون في دين آخر). كما تبين هذه القصة أن النزعة المشيحانية بين اليهود ليست مرتبطة بالنسق الديني اليهودي، وإنما هي مرتبطة بعناصر في الحضارة الغربية، وأن تَفجُّرها لا يمكن تفسيره إلا بالعودة لآليات وحركيات هذه الحضارة. ويمكن القول بأن النزعة المشيحانية الصهيونية (مسيحية كانت أم يهودية) هي في واقع الأمر تعبير عن اتساع أطماع الإنسان الغربي وتَفتُّح أفقه وشهيته وظهور الرؤية المعرفية الإمبريالية حيث قرَّر هذا الإنسان غزو العالم وتسخيره، ويبدو أن الخطاب المشيحاني هو الوسيلة الدينية لهذه الرؤية الإمبريالية.
والذي حدث بعد ذلك هو أن هذه النزعة المشيحانية تمت علمنتها وتجريدها من أية رواسب أو ديباجات دينية، إلى أن نصل إلى الدعوة الاستعمارية الصريحة في القرن التاسع عشر. ومع هذا، لا يعدم الأمر وجـود شـخصية مثل بلفور، وهو وزير إنجليزي ذو توجُّه استعماري واضـح، يظـل يُدافع عن مشروعه الصهيوني في فلسطين من منظور ديني.
الحركــة الفرانكــية Frankist Movement
الحركة الفرانكية نسبة إلى جيكوب فرانك، التي تعود نشأتها إلى عام 1759 حين تَنصَّر فرانك هو ومجموعة من أتباعه على الطريقة المارانية، أي أظهروا المسيحية وأبطنوا عقيدتهم الغنوصية. ويمكن القول بأن منظومة فرانك الحلولية هي منظومة يصل الحلول فيها إلى منتهاه إذ يحل الإله في المادة ويموت وتصبح وحدة وجود مادية كاملة، المادة فيها مقدَّسة تماماً، والإنسان فيها إله، ومن ثم فهي أيضاً النقطة التي تَسقُط فيها كل الحدود ويتساوى فيها المطلق والنسبي والمقدَّس والمدنَّـس والمُحـرَّم والمُـباح وتنقلب القيم رأساً على عقب ويتسـاوى الخـير والشر والوجـود والعـدم، ولـذا فـإن منظومـة فرانك أكثر حداثة وجذرية من منظومة نيتشه على سبيل المثال.
ويتحدد إسهام فرانك في أنه خلَّص القبَّالاه من رموزها الكونية المترابطة المركبة، ووضعها في مصطلح شعبي مزخرف، وفي إطار أسطوري، بل طَعَّمها بصور مسيحية مألوفة لدى يهود شرق أوربا الذين اختلطوا بالفلاحين السلاف في الريف، وابتعدوا عن مراكز الدراسة التلمودية في المدن. وقد تأثر الفرانكيون بالفرق الأرثوذكسية الروسية المنشقة، وخصوصاً الدوخوبور والخليستي.
يتبع إن شاء الله...