سِلْسِلَة مُحَاضَرَات: الحِسْبَة
المجلس الأول من سلسلة الحسبة
فَضِيْلَة الْشَّيْخ: أَبِي إِسْحَاق الْحُوَيْنِي (حَفِظَه الْلَّه)
مقدمة
إن الْحَمْد لِلَّه تَعَالَى نَحْمَدُه وَنَسْتَعِيْن بِه وَنَسْتَغْفِرُه وَنَعُوْذ بِاللَّه تَعَالَى مِن شُرُوْر أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَات أَعْمَالِنَا مَن يَهْدِى الْلَّه تَعَالَى فَلَا مُضِل لَه وَمَن يُضْلِل فَلَا هَادِى لَه وَأَشْهَد أَن لَا إِلَه إِلَّا الْلَّه وَحْدَه لَا شَرِيْك لَه وَأَشْهَد أَن مُحَمَّداً عَبْدُه وَرَسُوْلُه.
أَمَّا بَعــــــد.
فَإِن أَصْدَق الْحَدِيْث كِتَابُ الْلَّه تَعَالَي وَأَحْسَن الْهَدْي هَدْي مُحَمَّدٍ -صَلَّي اللَّهُ عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم-، وَشَّر الْأُمُور مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدَعِه وَكِلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي الْنَّار، الْلَّهُم صَلّى عَلَى مُحَمّدٍ وَعَلَى آَل مُحَمِّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيْم وَعَلَى آَل إِبْرَاهِيْم فِي الْعَالَمِيْن إِنَّك حَمِيْدٌ مَجِيْد، وَبَارِك عَلَى مُحَمدٍ وَعَلَى آَل مُحَمِّد كَمَا بَارَكْت عَلَى إِبْرَاهِيْم وَعَلَى آَل إِبْرَاهِيْم فِي الْعَالَمِيْن إِنَّك حَمِيْدٌ مَجِيْد.
الْمَجْلِس الْأَوَّل مِن سِلْسِلَة الحِسْبَة
آدَابِهَا وَضَوَابِطُهَا:
لَا يَتِم تَوْحِيْد الْلَّه- عَز وَجَل- إلا بالْأَمْر بِالْمَعْرُوْف وَالْنَّهْي عَن الْمُنْكَر:
دَرْسُنَا هَذَا الْمَسَاء يَتَعَلَّق بِمَوْضُوْع مَن الْأَهَمِّيَّة بِمَكَان، وَلَا يَتِم تَوْحِيْد الْلَّه -عَز وَجَل- وَلَا يَتِم الْمَقْصُوْد مِن إِرْسَال الْرُّسُل وَلَا إِنْزَال الْكُتُب إِلَا بِهَذَا الْمَوْضُوْع الْكَبِيْر الْخَطِيْر أَلَا (وَهُو الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف وَالْنَّهْي عَن الْمُنْكَر).
الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف وَالْنَّهْي عَن الْمُنْكَر, الْمَقْصُوْد الْأَعْظَم مِن الْدِّيْن وبه بُعِثَ الرُّسُل:
وَهَذَا الْمَوْضُوْع هُو الْمَقْصُوْد الْأَعْظَم مِن الْدِّيْن وَهُو الَّذِي بَعَث الْلَّه بِه جَمِيْع الْمُرْسَلِيْن ، وَقَد ذَلَّت فِيْه أَقْدَام وَضَلَّت فِيْه أَفْهَام وَتَاهَت فِيْه أَوْهَام بِسَبَب دِقَّة هَذَا الْمَوْضُوْع وَتَشَعُّبِه وَأَنَّه يَحْتَاج إِلَى ضَبْطٍ لِلْمَصَالِح وَالْمَفَاسِد ، وَهَذَا لَا يَكُوْن إِلَّا بِالْعِلْم.
وَكَان بِسَبَب الْجَهْل بِهَذَا الْمَوْضُوْع ، حَدِّثْت مَشَاكِل كَثِيْرَة فِي بِلَاد الْمُسْلِمِيْن نَظَراً لِكَثْرَة الْمُخَالَفَات الَّتِي يَرَاهَا الْمَرْء فِي الْطُّرُقَات ، وَفِي الْحَوَانِيْت ، بَل وَوَصَل الْأَمْرُ إِلَى دَوْر الْعِبَادَة ، فَتَجِد فِي الْمَسَاجِد أَشْيَاء مِن الْبِدَع وَالْحَوَادِث الَّتِي نَصَّ كَثْيَر مِن أَهْل الْعَلِم عَلَى بِدْعِيَّتِهَا ، فَإِذَا رَأَى الْمَرْءُ مِثْل هَذَا الْتَفَشِّي ، وَلَم يَكُن عِنْدَه مِن الْعِلْم مَا يَتَعَامَل بِه مَع هَذِه الْمَنَاكِيْر قَلَّ صَبْرُه وَضَاق صَدْرُه وْعَطْنّه ، فيَتَصَرَّف عَلَى حَسَب مَا يَرَاه سَوَاء كَان بِعِلْمٍ أَو بغَيْر عِلْم لِذَلِك أَرَى أَن هَذَا الْمَوْضُوْع وَإِن كُنَّا تَكَلَّمْنَا فِيْه قَبْل ذَلِك ، وَلَكِنَّنِي أُجَدِّدُ الْكَلَام فِيْه بِطَرِيْقَةٍ أَوْسَع وَأَشْمَل وَأَكْثَر عَائِدَةً إِن شَاء الْلَّه تَعَالَي.
وَقَد رَأَيْتُ أَن يَنْتَظِم حَدِيْثِي مَعَكُم فِي مُحَاوِر سِتَّة:
الْمُحَاوِر الْرَّئِيْسِيَّة الَّتِي سَيَتَحَدَّث عَنْهَا الْشَّيْخ حَفِظَه الْلَّه:
الْمِحْوَر الْأَوَّل:
مَاهِيَّةُ الْمَوْضُوْع وَحَقِيْقَتُه وَذِكَر الْأَدِلَّة عَلَى وُجُوْبِه وَذِكَر فَضْلِه وَمَا أَعَدَّهُ الْلَّه -عَز وَجَل- لِمَن قَام بِه.
الْمِحْوَر الْثَّانِي:
أَرْكَان الْمَوْضُوْع ، أَرْكَان الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف وَالْنَّهْي عَن الْمُنْكَر وَهِي ثَلَاثَة أَرْكَان.
الْمِحْوَر الْثَّالِث:
الْشُّرُوْط الَّتِي وَضَعَهَا الْعُلَمَاء لِهَذِه الْأَرْكَان الثَّلَاثَة، أَرْكَان الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف وَالْنَّهْي عَن الْمُنْكَر الْثَّلاثَة، المحور الأول: ( الْمُحْتَسِبُ ، أَو الْآَمِر ، أَو الْمُنْكِرُ ، وَالْمِحْوَر الْثَّانِي الْمُحْتَسَبُ عَلَيْه ، أَو الْمُنْكَر عَلَيْه ، وَالْمِحْوَر الْثَّالِث: مَوْضُوْع الْإِنْكَار نَفْسِه فَهَذِه محَاوِر ْثَّلاثَة ، كُل مِحْوَر مِن هَذِه الْمُحَاوِر لَهَا شُرُوْط ، سَنَذْكُر شُرُوْط كُل رُكُن مِن هَذِه الْأَرْكَان الْثَّلاثَة .
الْمِحْوَر الْرَّابِع:
الْشُّرُوْط.
الْمِحْوَر الْخَامِس:
دَرَجَات الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف وَالْنَّهْي عَن الْمُنْكَر الْأَرْبَعَة وَمَا يَلْحَقُ كُل دَرَجَة مِن الْدَّرَجَات مَن الْأَحْكَام الْجُزْئِيَّة .
الْمِحْوَر الْسَّادِس:
هَل يُنْكِر فَي مَسَائِل الْخِلَاف أَم لَا؟
تَعْرِيْف مَوْضُوْع الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف وَالْنَّهْي عَن الْمُنْكَر:
فَنَبْدَأ إِن شَاء الْلَّه تَعَالَي بِذِكْر تَعْرِيْف هَذَا الْمَوْضُوْع، الْمَوْضُوْع كُلِّه يَتَلَخَّص فِي أَرْبَع كَلِمَات (الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف وَالْنَّهْي عَن الْمُنْكَر)، الْكَلِمَات الْأَرْبَع مُتَقَابِلَات، أَمَرٌ يُقَابِلُه نَهْيٌ، وَمَعْرُوْفٌ يُقَابِلُه مُنْكَر فَالأَمْر بِالْمَعْرُوْف سَابِقٌ دَائِماً فِي الْذِّكْر سَوَاءٌ فِي الْقُرْءَان أَو فِي الْسُّنَّة عَلَى الْنَّهْي عَن الْمُنْكَر لِأَن هَذَا يُدُّلُنا عَلَى أَن الْلَّه -عَز وَجَل- لِّمَا خَلَق الْخَلْق خَلَقَهُم عَلَى الِاسْتِقَامَة لَا اعْوِجَاج وَلَا انْحِرَاف، كَمَا قَال -صَلَّي اللَّهُ عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم- فِي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَة قَال: " كُلُّ مَوْلُوْدٍ يُوْلَد عَلَى الْفِطْرَة فَأَبَوَاه إِمَّا يُهَوِّدَانِه أَو يُنَصِّرَانِه أَو يُمَجِّسَانِه ".
لِمَاذَا لَم يَقُل الْرَّسُوْل -صَلَّي اللَّهُ عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم- أَو يُسَلِّمَانِه، وَلَم يَقُل (أَو يُسَلِّمَانِه)؟
لِأَن الْفِطْرَة هِي الْإِسْلَام فَيَكُوْن كُل مَوْلُوْدٍ يُوْلَد عَلَى الْفِطْرَة: (أَي كُل مَوْلُوْد يُوْلَد عَلَى الْإِسْلَام)، فَأَبَوَاه إِمَّا يُهَوِّدَانِه فَنَقَلُوه عَن أَصْل الْخِلْقَة، وَهَذَا هُو الْمُنْكَر الَّذِي حَدَث، فَالْمَعْرُوْف مُتَقَدِّم وَهُو أَن الْلَّه -عَز وَجَل- خَلْق الْنَّاس عَلَى الْتَّوْحِيْد، لَيْس فِيْهِم شِرْك، كَمَا قَال رَبُّنَا -عَز وَجَل-: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172).
أَقْدَم الْمَوَاثِيْق الَّتِي أُخِذْت عَلَى بَنِي أَدَم مِيْثَاق الْعُبُوْدِيَّة, وَهُم فِي عَالَم الذَّر:
كَمَا قَال -صَلَّي اللَّهُ عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم- مُوَضِّحا هَذِه الْآَيَة: "إِن الْلَّه -عَز وَجَل- لَمَّا خَلَقَ أَدَم مَسَح ظَهْرَهُ بِيَدِه فَاسْتَخْرَج مِن ظَهْرِه كُلَّ نَسَمَة هُو خَالِقُهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثُم خَاطَبَهُم أَلَسْت بِرَبِّكُم قَالُوْا بَلَى جَمِيْعاً" لَم يَشُذ عَنْهُم أَحَد. ﴿شَهِدْنَا﴾ أَي أَنَّك رَبُّنَا، فَقَال الْلَّه -عَز وَجَل- لَهُم: ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ الْعِلَّة الَّتِي مِن أَجْلِهَا تَقَدَّم الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف وَالْنَّهْي عَن الْمُنْكَر: أَي لِئَلَّا تَقُوْلُوْا: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ فَأَشْهَدَهُم عَلَى أَنْفُسِهِم أَنَّهُم عِبَاد لِلَّه -تَبَارَك وَتَعَالَى-.فَإِذاً الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف مُتَقَدِّم عَلَى ذِكْر الْنَّهْي عَن الْمُنْكَر لِأَجْل هَذِه الْعِلَّة، أَمَّا الْمُنَافِقُوْن فَيَعْكِسُون، ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ (التوبة: 67)، وَسَنَذْكُر هَذَا فِي جُمْلَة كَلَام يَأْتِي بَعْد ذَلِك إِن شَاء الْلَّه تَعَالَى الْأَمْر.
الْدِّيْن كُلِّه أَمَر وَنَهْي:
وَالْنُّصُوص الْشَّرْعِيَّة كُلُّهَا فِي الْقُرْءَان وَالْسُّنَّة تَدُوْر عَلَى خَمْسَة مُحَاوِر لَيْس لَهُم سَادِس ، إِلَا مَا كَان مُصْطَلَحاً لِلأَحْنَاف وَهُو مُصْطَلَح ، أَي لَن نَتَعَرَّض لَه لِأِن هَذَا لَيْس مَجَالُه.
دَرَجَات الْأَوَامِر وَالَنَّوَاهِي:
وَالْأَمْر يَنْتَظِم تَحْتَه ثَلَاث دَرَجَات:
* الدرجة الأولي إِمَّا أَن يَكُوْن أَمْر إِيْجَاب.
* الدرجة الثانية أَو أَمْر اسْتِحْبَاب.
* الدرجة الثالثة أَمْر إِبَاحَة.
هَذِه أَصْنَاف الْأَوَامِر الَّتِي هِي تَأْتِي بِصِيَغَة افْعَل.
وَالْنَّهْي يَنْتَظِم تَحْتَه دَرَجَتَان:
*حَرَامٌ.
* وَمَكْرُوْه.
فمَعْنَى ذَلِك أَن الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف وَالْنَّهْي عَن الْمُنْكَر تَشْمَلُه الْأَحْكَام الْشَرْعِيَّة الْخَمْسَة (فَقَد يَجِب أَحْيَاناً، وَقَد يُسْتَحَب أَحْيَاناً وَقَد يُبَاح أَحْيَاناً وَقَد يَحْرّمُ أَحْيَاناً، وَقَد يُكْرَه أَحْيَاناً)، وَهَذَا الْكَلَام إِنَّمَا يَرْتَبِط بِالْمُنْكِرِين أَنْفُسِهِم وَمَا عِنْدَهُم مِن الْعِلْم كَمَا سَنُفَصِّلُه بَعُد ذَلِك إِن شَاء الْلَّه تَعَالَي.
تَعْرِيْف أَمَر الْوُجُوْب:
مَا طَلَب فَعَلَه مِن الْمُكَلَّف عَلَي سَبِيِل الْحَتْم وَالْإِلْزَام، أَمَرَك الْلَّه -عَز وَجَل-، أَمَرَك الْنَّبِي -صَلَّي اللَّهُ عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم-، أَمْرِك مَن فَوْقَك، فَهَذَا أَمْر إِيْجَاب لَا اخْتِيَار لَك فِيْه.
الْأَوَامِر مِن جِهَة الْآمِر عَلَى ثَلَاثَة أَنْحَاء:
وَكَمَا قُلْنَا قَبْل ذَلِك الْأَوَامِر تَكُوْن عَلَى ثَلَاثَة أَنْحَاء مِن جِهَة الْآمِر:-
*أَمْرٌ مِن فَوْق إِلَى تَحْت.
*وَأَمَرٌ مِن تَحْت إِلَى فَوْق.
*وَأْمُرٌ الْنَّظِيْر مَع الْنَّظِيْر، أَو الْنَّد مَع الْنَّد.
طَبِيْعَة الْأَوَامِر الَّتِي مِن فَوْق إِلَى تَحْت:
طَبِيْعَتِهَا الْإِلْزَام وَالْوُجُوْب لِأَن الَّذِي يَأْمُر الْجِهَة الْعُلْيَا وَأَنْت لَا اخْتِيَار لَك، فَإِذَا أَمَرَك الْلَّه -عَز وَجَل- بِأَمْرٍ، أَو أَمَرَك الْنَّبِي -صَلَّي اللَّهُ عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم- بِأَمْرٍ فَالْأَصْل فِي الْأَمْر أَنَّه يُفِيْد الْحَتْم وَالْإِلْزَام لَا اخْتِيَار لَك فِيْه لَا تَسْتَطِيْع أَن تَقُوْل لَا، لِأَن الْأَمْر جَاء مِن فَوْق، مِثَال ذَلِك: (وَأَقِيْمُوْا الْصَّلاة) (وَآَتُوا الْزَّكَاة)، هَذَا أَمْر إِيْجَاب.
طَبِيْعَة الْأَوَامِر الَّتِي مِن تَحْت إِلَى فَوْق:
أَو الْأَمْر مِن تَحْت إِلَى فَوْق، مِثَال ذَلِك: عِنْدَمَا نَدْعُوَا الْلَّه -عَز وَجَل- فَأَقُوْل: (رَبِّي اغْفِر لِي) مِثْل: (أَقِم الصَّلَاة) (أَقِم): فِعْل أَمْر (وَاغْفِر) فِعْل أَمْر، لَكُن الَّذِي قَال لِي: أَقِم الْصَّلاة رَب الْعَالَمِيْن -تَبَارَك وَتَعَالَى- الْجِهَة الْعُلْيَا الَّتِي فَوْق، فَكَان الْأَمْر عَلَى سَبِيِل الْوُجُوْب، لَيْس لَك اخْتِيَار فِيْه لَابُد أَن تُنَفِّذ فَأَنَا لمَّا اسْتخْدِمَت فَعَل الْأَمْر وَأَنَا مِن تَحْت أَدْعُوْ رَب الْعَالَمِيْن، هَل هَذَا فِعْل أَمْر آَمُر رَبَّنَا -سُبْحَانَه وَتَعَالَى-؟ لَا، هَذَا عَلِي سَبِيِل الْتَّضَرُّع وَالتَّذَلُّل.
وَالْأَمْر مِن الْنَّد لِلْنَّد:
الْطَّلَب. فَنَحْن لِمَا نَأْتِي وَنَرَى جِهَة الْآمِر، نَقُوُل الْأَمْر مِن الْلَّه -عَز وَجَل- وَمِن الْرَّسُوْل -صَلَّي اللَّهُ عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم- يُفِيْد الْوُجُوْب، أَو يُفِيْد الِاسْتِحْبَاب إِن كَان فِيْه قَرِيْنَة.
مَالَّذِي يَدُل عَلَي أَن الْأَمْر يُفِيْد الِاسْتِحْبَاب مَع الْدَّلِيل:
أَو يُفِيْد الِاسْتِحْبَاب إِن كَان فِيْه قَرِيْنَة, الدليل: كَمَا قَال الْلَّه -عَز وَجَل-: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ (النور: 33)، فَخَيْر أَو جَعَل الْمَسْأَلَة مَنُوْطَة بِعِلْمِك أَنْت، إِن عَلِمْت فِيْهِم خَيْرا كَاتِبَهُم، وَإِن لَم تُعْلَم خَلَاص وَكَقَوْلِه -صَلَّي اللَّهُ عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم-: "صَلُّوْا قَبْل الْمَغْرِب، صَلُّوْا قَبْل الْمَغْرِب، صَلُّوْا قَبْل الْمَغْرِب، ثُم قَال: لِمَن شَاء"، فَجَعَل الْمَسْأَلَة مَنُوْطَة بِالْمُكَلَّف، وَهَذِه الْمَسْأَلَة دَاخِلَة فِي بَاب الاسْتِحْبَاب أَو الْمَشْرُوْعِيَّة.
الْدَّرَجَة الْثَّالِثَة مِن الْأَمْر الْإِبَاحَة:
أَن يَسْتَوِي طَرَفَاه ، تَفْعَل أَو لَا تَفْعَل .
الْخُلَاصَة أَن دَرَجَات الْأَمْر ثَلَاثَة:
الْدَّرَجَة الْأَوَّلِي: الْوُجُوْب لَازِم تَفْعَل وَإِلَا تُعَاقِب.
الْدَّرَجَة الْثَّانِيَة: الِاسْتِحْبَاب يُسْتَحَب لَك أَن تَفْعَل فَإِن لَم تَفْعَل لَا تُعَاقب.
الْدَّرَجَة الْثَّالِثَة: مَا اسْتَوَي طَرَفَاه اسْتَوَي الْفِعْل مَع الْتَّرْك، وَهُو الَّذِي يُسَمُّوْنَه الْجَوَاز، يَقُوْل هَذَا جَائِز، ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ (البقرة: 187)، هَذَا أَمْر إِبَاحَة.
الْحَرَام عَكْس الْوُجُوْب، مَا طُلِب تَرَك فَعَلَه مِن الْمُكَلَّف عَلَى سَبِيِل الْحَتْم وَالْإِلْزَام ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ (الإسراء: 32)، ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ﴾ (الأنعام: 151)، وَهَكَذَا, إِذاً الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف أَمْر بِمَعْرُوْف، عَرَفْنَا مَا هُو الْأَمْر، وَعَرَّفَنَا مَا هُو الْنَّهْي.