الدليل والبرهان على الجزاء بالحياة الدنيا:
1/ أصبحت الجنتين صعيداً زلقا في حياة صاحبها وأمام ناظريه.
2/ الندم على ظلمة وعدم قبول النصح بقوله تعالى الآية (42) (( يا ليتني لم أشرك بربي أحدًا )).
3/ قول الصاحب الناصح قال تعالى الآية (39): (( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة الا بالله إن ترن أنا أقل منك مالاً وولدًا )).
وقولة تعالى الآية (44): (( هنالك الولاية لله الحق هو خير ثواباً وخير عقبا )) أي أن يرجع الانسان كل ما يكتسبه من علم وعمل إلى الولي الحق الله.
العمود الثالث:
قال تعالى: (( فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا )) الآية ( 65)
لقد أوتي هذا العبد الذي ذكرته الآية الكريمة وأجتمع به نبي الله موسى عليه السلام ( خاصيتان ) أو ( أداتان ) أو أي وسيلتان او معجزتان ( اطلاقة ) تناسب ما آتاه الله وبالتأكيد لا نقول أن آتاه الله ( أسمان ) أبداً ولو كان ذلك لوجدنا اختلافاً شديداً بأحداث القصة ونتائجها وكذلك لوجدنا شيئاً غير الذي أرادته هذه الآية أو هذه الايات.
ولو افترضنا افتراضاً أن الرحمة التي أوتيت لهذا العبد اسماً مجرداً لكان اسم هذا العبد ( رحمن ) وحاشى أن يكون باسم الرحمن الذي هو أحد اسماء الله الحسنى ولذا كان ذكر الآية لهاتين الخاصيتين أو الاداتين أو كما قلنا ذكراً لغوياً منكراً بدون الـ التعريف وبذات الوقت تعطي دلالة أنها ( بضع من ).
أو جزء من وتكون على الشكل التالي:
1. آتاه الله ( رحمة ) غير معرفة مجهولة التحديد وهي بضع أو جزء أو كمية أو عدد أو حالات معينة.
2. ونحن لا نزيد في الكلام أكثر مما ذكرته أحداث القصة وهي مخصصة بالحديث وضرب المثل لثلاث حالات:
- لأصحاب السفينة. ( مساكين يعملون في البحر ).
- لأهل الغلام. ( أبواه مؤمنين ).
- لأصحاب الجدار. ( الغلامين يتيمين ).
ويجب أن يتكون لدينا يقيناً ونحن في خضم استعراض الأحداث في هذه القصهالمجيده وهذا اليقين هو ترادف الرحمة مع العلم والترادف يعني التلازم بالوجود الزمني والتلازم بالغاية والعبر والأهداف وكذلك والتلازم بالمثل أيضاً وإذا خلا أحدهما دون الآخر أصبح هناك اختلالاً واضطراباً.
والغاية السامية من ورود وذكر أحداث القصه التي جاء ذكر تلازم الرحمة بالعلم ولو كان ذلك التلازم محدوداً مؤقتاً أنيناً فهو الذي يشكل أو يجسد العمل الصالح الذي هو ( عمود الرحمة ) وهذا سؤال أو طلب الحكمة مباشرة وليس أي علم هو رشيد والعلم الرشيد كما طلبة النبي موسى عليه السلام كان هذه بمعرفة سابقة متكونة أصلا وهناك فرق فالذي يطلب التعلم ويقضي في تحصيلة سنين وسنين من عمرة ومن ثم بعد جهد وخبره ومعرفة واسعة يتكون لدية الحكمة أي الرشد.
ومثل هذا التلازم قد تردد ورود ذكرها كثيراً في القرآن العظيم فمثلاً:
في سورة الانبياء الآية (79) قال تعالى (( ففهمناها سليمان وكلاً أتينا حكماً وعلماً وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين )).
فالحكم الرشيد هو الذي يتلازم به العلم مع الحكم وهو بالتالي عمود رحمة يرتفع إلى أعالي السماء وهكذا من مثل هذه الآية الكريمة نعود إلى أحداث موضوعنا ونرى بترتيب تفصيلها المتتالي ترجمه دقيقه للحكم الرشيد الذي تقوم الرحمة على أرجائه وما سؤال النبي موسى عليه السلام من عبد الله إلا بداية عامه ومدخلاً للأحداث المتوالية المتلاحقة.
قال موسى يطلب من عبد الله بصيغه السؤال قال تعالى الآية (66): (( قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا )).
نلاحظ أن طلب موسى كان واضحاً بينناً حريصاً حرص نبي على تقصي العصمة في كل شيء مخافة الجهل حاشاه الله فكان طلبه ذو اتجاهين:
الاتجاه الاول: الاتباع من أجل أخذ العلم.
الاتجاه الثاني: أن يكون العلم راشداً وهذا شرطه.
وكذلك نجد أن طلب موسى عليه السلام فيه ( إصرار ) وذلك تأكيداً لما أوحي إلية من الله عز وجل أن العبد قد أوتي ( رحمة وعلمًا ) فالكلمتان جاءتا ذكراً ورواية من رب العرش في الآية ( 65 ). وأما موسى عليه السلام فجمعهما في صيغة شاملة شرعية ( صيغة أو لغة البشر ) فكان قوله تعالى (( مما علمت رشدا)) لتأكد العلم المبين من أن هذا ستظهر آثار تطبيقه على الحياة مباشرة ليقام به عمود رحمة وهذا ما سوف نجده بالتفاصيل يقام عمود الرحمة.
أولاً: خرق السفينة
فالذي قام بخرق السفينة وهي عائمة على الماء هو من آتاه الله ( رحمة وعلما ) وإذا سألنا نحن ( فأين الرحمة وأين العلم ) ؟ ( من هذا العمل المفاجئ المريب ).
وقبل أن نجيب أو نستبق مجريات الحدث كما سبقنا بذلك رسول الله موسى عليه السلام ولم يتجلد بالصبر فإننا نحن هنا بعيدون كل البعد عن مجريات الحدث فلا يحل لنا إلا أن نقرأ ونتدبر لنصل إلى الحكمة والموعظة الحسنة.
ولنا فيه حسنة إن شاء الله تعالى:
فالحادث هنا كما قال عنه موسى عليه السلام ( لقد جئت شيئاً إمرا) فيه ( ريبة ) ويحدث أمراً يترتب عليه تخريب وغرق وموت فالحادثة: قضائية والجرم قائم فيه فاعل بين وقائم عليه موسى عليه السلام شاهداً بين فلا بد هنا من قيام محكمة ولو كانت ذهنية افتراضية تقضي بحيثيات وأحداث الجريمة أولاً بأول وتصدر حكماً عادلاً يناسب ما انتهت إلية من أفعال أي يجب أن يكون القرار بالحكم ( عادلاً رشيداً ).
كما قال النبي سليمان عن الهدهد في سورة النمل قال تعالى: (..... أولياتيني بسلطان مبين )... ولكن:
1. الفاعل كان مكلفاً ينفذ ما أمر به.
2. السفينة لم تغرق.
3. لم يترتب على عيبها موت أحد من الركاب.
4. انحصرت القضية أو الفعله بإحداث العيب فلم تعد صالحة للإبحار وبالتالي لم يعد لها قيمة أو نفع يذكر وقد خفت أحداث الجرم كثيراً مع هذه ظل قائمًا بالعيب البسيط الذي أحدث.
وكما ورد في آيات الله أن كلاً من الفاعل والشاهد من عباد الله الخاصين المصطفين وهما رسولان معصومان مكلفان بأداء رسالة ومهمة معينة بتوقيت وزمن واحد ولكننا نحن الذين نقرأ ونتحرى ونتدبر ما كانا يقولانه ويفعلانه.
ومن خلال نص آيات الله التي جاءتا بالخبر نكتب ونتحرى التالي:
فكان لا بد أن يصدر الحكم فوراً وأن يتوضح سبب الخرق وإحداث العيب فالوقت لا يتسع (والصبر) ينفذ فالريب الذي ظهر لا بد أن يزول بظهور السلطان وبيان سبب الفعله ( الجرم ) وهنا لا بد لنا من وقفه للرجوع إلى آيات الله في القرآن العظيم لنقرأ ما جاءت به من جلاء هذا الريب.
إن جلاء الريب في الآيات جاء بعد أن قضى موسى عليه السلام مع عبد الله الذي آتاه الرحمة والعلم ( القصص أو الاحداث الثلاث ) أي أننا نحن الذين نقرأ القرآن نعيش بأحداث القصص الثلاث ثم ننتهي إلى الآيات التي تذكر أسباب الافعال وزوال الريب والتعجب إلا أننا هنا وفي كتابنا نقوم بربط القصة الواحدةباحداثها كاملة بعضها ببعض، الافعال والأسباب والعلل وبشكل منفصل لتحقيق أهداف وغايات ما نريده وذلك بتفصيل وترتيب فقرات الموضوع أولاً بأول ( عن القصة الثانيه والثالثة وهكذا.
أولاً: ونبدأ النظر والتحليل بالقصة الاولـى: السفينة وأصحابها المساكيـن...
قال تعالى الآية (71) (( فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال اخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمرا )).
وقال تعالى الآية (79) (( وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا )).
العلم الذي آتاه الله للعبد يتفرع إلى جهتين:
الجهة الاولى: بأصحاب السفينة كانوا مساكين.
الجهة الثانية: الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبًا
وهنا ينجلي (دور) النبي موسى عليه السلام وذلك على الشكل الذي نشير إلية ونؤمن به وإن كان ذلك من علم الماضي الذي طوى التاريخ أحداثه إلا أن سيرة حياته الشريفة كما جاءت في آيات الله تبارك وتعالى تعطينا دلائل لا ريب فيها أنه كان عليه السلام قوياً لا يخاف أبداً كما وصفه ربه تعالى وكان شريعة نافذة لا صبر لدية مع الظلمة والملوك الجبابرة ولذلك كان يقول له العبد الذي آتاه الله رحمة وعلما (( إنك لن تستطيع معي صبرا )).
اولاً: لا يستطيع النبي موسى صبراً أمام من يأتي الأفعال المريبة والظاهرة بمخالفة شرع الله.
ثانياً: لا يستطيع النبي موسى صبراً إذا علم أن هناك ملكاً ظالماً يجور بملكة وسلطانه على المساكين ويحرمهم أسباب رزقهم وعيشهم.
وهنا: يبدأ عمود الرحمة ينهض ويقام ما بين العلم بالشيء علماً واضحاً بيناً تنجلي به أسباب الجهل بالأفعال وما بين إقامة الحق ومحاربة الظلم وأي صبر يتجلد به نبي الله وكليمه وصنيعه موسى وها قد علم وها قد عرف كل سبب
الرحمة بالمساكين في الحيلولة دون أخذ سفينتهم غصبا ولو كان ذلك بإحداث العيب فيها عنوة والرحمة بمنع جور الملك أن يمتد ظلمة على عامة الناس المساكين وأين كان الأمر الرشيد في هذا الفعل الأمر الرشيد هو بهذا الفعل الدقيق الذي يتجه إلى التضحية والإيثار وتحمل الأذى بالصبر والابتعاد عن التصادم فتخريب السفينة فعل رشيد وهو عند الله رحمه مما اذا امتنع عن اعطاء السفينة الى الملك أو التصادم معه وهم لا حول لهم ولا قوة.
ثانياً: احداث قصة قتل الغلام
لقد مرت بحياة النبي موسى عليه السلام عدة حوادث ( قتل ) ذكرتها آيات الله في محكم تنزيله متفرقات في سورة عدة وقد ذكرت كل حادثة قتل مترادفة مع ذكر اسبابها مباشرة وكل منها كانت بوقت وظرف مختلف عن الاخرى وكل منها كذلك احيطت بعناية خاصة من مراحل نبوته وبعثته عليه السلام بحيث كانت كل واحدة منها عبرة ودرس في الايمان والتصديق بنبوته وكذلك تكون آية لمن حوله ولمن خلفه ولعلنا وقبل الدخول لموضوع حديثنا نأتي إلى ذكر تلك الحوادث من دون ذكر الآيات كاملة.
وهي مرتبة زمنياً مع سيرة حياته عليه السلام وهي كالتالي:
1. قتل الرجل القبطي وهو في مصر قبل بعثته عليه السلام.
2. قتل فرعون لزوجه وللسحرة الذين آمنوا بموسى.
3. خسف الارض بقارون وبداره وبملكه.
4. غرق فرعون وجنده.
5. حادثة قتل النفس من بني اسرائيل ( في سورة البقرة ) وذلك من أجل فرض الشريعة والقضاء العادل بإقامة الحدود.
6. حادثة قتل الغلام التي نحن بصدد الحديث عنها من سورة الكهف قال تعالى الآية (74).
(( فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكرا)).
لقد توضحت في هذه الآية الكريمة عدة بيانات جلية ساطعة لا غموض حولها أبداً وعلى أساس هذه البيانات بنى كل فريق موقفه مباشرة من حادثة القتل:
أولاً: بيانات الآية
1. الفاعل ( القاتل ) رجل بالغ بل هو راشد بل هو عبد لله مبعوث لأداء رسالة لنبي مبعوث.
2. المقتول (غلام ) أو هو صغير السن لم يبلغ الحلم أو هو طفل لا يمتلك من القوة أو الفتوه شيئاً.
3. من لفظ الآية تحديداً يدل على وجود شريعة وحدود مشرعة بين يدي نبي وهو موسى عليه السلام وخاصة فيما يخص قتل النفس مهما كانت صغيره أم كبيرة.
4. جاء كلمة ( نكرا ) التي قالها نبي الله على عجل ولم يصبر على القتل العمد أولاً كما ظن موسى وثانياً لكون المقتول غلاماً كما رأى بأم عينية.
هذه بيانات ساطعة جاءت بها الآية الكريمة (74) وهي بيانات شرعية تكون ركناً أساسياً وفاعلاً في تنظيم شريعة الحدود وقيام القضاء العادل بتطبيقها وتنفيذها فكيف حدثت كل هذه البيانات في زمن قصير جداً وتواترت أبعادها في ساعة حدوثها فكان ما كان من أمر عدم صبر النبي موسى عليه السلام وعدم تريثه والنظر بها والحكم عليها.
إننا ونحن نقرأ وندرس ونستنبط هذه البيانات الساطعات يحكمنا أمران حتميان لا نزاع في التسليم المطلق بهما.
الأمر الاول: التسليم المطلق بالحادثة ومن قام بها وبكل أبعادها وكما حدثت في زمنها سواء كان لها تفسير بائن لاحق أم لم يكن وكان أمر الله مفعولا مقدرًا.
الامر الثاني: نحن الذين نقرأ ونتدبر آيات الله في القرآن العظيم ونؤمن بما جاء فيها ونمتثل لشريعة الدين الاسلامي وكما جاء بها نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ننظر إلى الحادثة فيما إذا حدثت مثيلتها ولو كان ظاهراً أمام أعيننا أو بين ظهرانيتنا ضمن حدود الشريعة لا زيادة ولا نقصان وليس هناك من يدعي أو لا يدعي وليس هناك من يعلوا أو ينخفض فكل يحاسب بذنبه وبفعلته والله أعلم.
وبناء على هذا التسليم بهذين الامرين نعود ونلقي الضوء من خلال كل منهما على البيانات التي فصلنا ذكرها من الآية (74) ونقول:
ثانياً: إدعاء الفريق الاول ( عبد الله )
1. قال عبد الله بادعائه مبعداً أي شبهة عن نفسه مبرئً ذمته الطاهرة أصلاً مقدماً براءته من كل ما حصل وكان ذلك من كل من الضرورة بمكان حيث هو أمام حضره نبي الله موسى والفائدة العظيمه المرجوة من هذه الحادثة هي مخصصه ومقدرة له مسبقاً.
قال تعالى: الاية (82) (( ... وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليها صبرًا )).
2. إن كل تفاصيل الحادثة ارتبطت بكون المقتول كان غلاماً وموته بهذه السن من عمره كان درءاً لمفسدة عظيمة كانت ستحل بوالديه المؤمنين فيما إذا كبر هذا الغلام وقد أصبح أبواه طاعنين في السن فالآية التالية (80) قدمت تفسيراً أو تأويلا أو سبب لقتل الغلام وكان ذلك احتساباً لزمن قادم لا يعلمه إلا الله وهما كبيرين عاجزين عن الدفاع عن نفسيهما فقد يعمل على ارهاقهما طغيانا منه وكفرا وسواء كان موت هذا الغلام بالقتل كما حدث أمام ناظري النبي موسى أم لم يكن كذلك وربما كان عبد الله هنا محجوباً عن انظار بقية الغلمان والناس الذين كانوا موجودين آنذاك مع الغلام فيكون الموت مفاجئاً عادياً ليس فيه آثار قتل ابداً.
ولكن العبرة ظلت قائمة على اركانها وتحضرنا هنا آيات محكمات من القرآن العظيم تلف في معانيها جوانب عدة من هذه القضية ولعل ذكرها يساعدنا على الاحاطة بتأويل الآية (74): جاء في سورة لقمان قال تعالى الآية (13) (( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )).
وأول ما نسجله في هذه الساعة عندنا هو أن نقوم بربط الآيتين السابقتين ببعضهما نجد ذاك الخطر المحدق بالوالدين فيما إذا أشرك هذا الغلام فهو سيظلم نفسه بإقرار عذابها في الدنيا والآخرة ومن ثم سيمتد ظلمه على أقرب رحمه وهما الوالدين فالموت في الآية (74) من الكهف جاء بقطع دابر الظلم العظيم وأن النصيحة والوعظ والقول الحسن كان غالباً ومحورياً في الآية (13) من سورة لقمان وحكمة الله سبحانه وتعالى كانت بالغه عندما أتى إلى الحادثة من وجهها الاجتماعي الآخر فكانت مقسطه بالغه في حكمتها في الآية (15) من سورة لقمان ((وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون )) فقول الله تعالى هنا بالمثل يعني فما بالك أيها الغلام المؤمن إذا وجدت والديك مشركين بالله فما أنت فاعل بهما ؟ هل تقتلهما ؟ هل تطيعهما في ما أشركا؟ والله تعالى يقدم المعروف بالصحبة على الطاعة وأما القتل فهو من الظلم أما القتل فلا يقوم عليه إلا من كان في حكم الله وحدوده عالماً عادلاً وهذا هو عمود الرحمة الذي أقامه عبد الله بقتل الغلام ولم يصبرعلى رؤيته نبي الله موسى عليه السلام فسارع إلى القول (( ... لقد جئت شيئاً نكرًا )).
ثالثاً: إدعاء الفريق الثاني ( نبي الله موسى ).
وكما حددنا وأشرنا على البيانات التي جاءت بالآية (74) فإن نبي الله موسى استنكر قتل الغلام وذلك من وجهتين (شرعيتين ) إذ لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
الوجهه الشرعية الأولى:
قيام رجل بالغ يمتلك من القوة البدنيه ما تجعله متفوقاً تفوقاً كاملاً بالفتك بغلام صغير ضعيف البنية لا حيلة له بالدفاع عن نفسه أبداً وهذا ما جعل الامر أكثر انكاراً بحيث يكون ميزان كفة القوة بالجسم وبالسن راجحة لا محالة أمام كفة الغلام ويكفي المقياس هنا أنه غلام والادعاء هنا يقام على أن العدوان باطل لا محالة وأن الحق يجاري جانب الضعيف والانتصار له واجب شرعي مهما كانت الاسباب الظاهريه وغير الظاهرية حتى ولو كان الاعلان عنها سابق لجرم القتل عمداً ومن غير عمد وهذا كله يعود إلى النصوص الشرعية أولها وآخرها على السواء وهي كذلك لا تفرق بتطبيق حدودها على أي من الطرفين بكون انتماء أحدهما لدين والآخر لغيره.
الوجهة الشرعية الثانية:
إن نبي الله موسى عليه السلام كان بحياته قائماً حاكماً على قومه ويحكم عليهم بما أنزل الله عليه من الحكمه والموعظة الحسنة وكان الخصوم يلجئون إلية لفض نزاعاتهم ولم يقتصر الأمر على بني قومه إذ يمتد قضاؤه على الاقوام المخالطه لهم في كل أحوالهم حتى أن هذه الواقعه التي نحن بصدد الحديث عنها كانت بقوم وبأرض تصفها آيات الله أنها بعيدة أو هي مجاورة أو هي متخطية لوجود وانتشار قومه من بني اسرائيل إلا أن صيته كان ممتداً بالآفاق حينها وكان يعرف عليه السلام بصفاته العظيمة التي منحها اياه رب العزة جل جلالة فكان مهاباً هيبة عظيمة.
والواقعة هذه التي وقعت أمام ناظريه عليه السلام واستنكرها مباشرة ولم يصبر حتى ينجلي سببها كانت ركناً من هذا الحكم الذي شرع بهفاقام عدله على اساسه بين الناس فكيف به يفاجأ بإنزال (حكم القصاص) بغلام حدث صغير من دون أن تكون هناك محاكمة تقام فيها كافة الأدلة وكافة الاسباب.
ولو حدثت كل هذه الاجراءات شرعية كاملة وصدر فيها حكم نهائي بالقصاص القتل بالقتل ( النفس بالنفس ) فالحكم هنا وبحالة الغلام هذه يكون غير نافذ أبداً لوقوع ( السن ) في طرفي النزاع فالسن هنا يكون عاملاً وحاجزاً في عدم تنفيذ حكم القصاص ولو كان مجانباً للحق والصواب وهذا يكون في حال فيما اذا كانت أمور الادعاء واضحة بينه ولكن ومرة أخرى يدخل عامل السن في ايقاف حكم القصاص ذلك لان الغلام بحداثة سنه وأي غلام كان لا يستطيع أي شرع أن يأخذ بكون هذا السن هو سن الرشاد للقيام بعملية قتل فإذاً يجب أن تُذكر أو تُعرف كل الاضطرابات العقلية التي لا تكون ناضجة وبالتالي لا تستطيع أن تتحكم بالإدارة والوعي العقلي للجسم في مثل سن الغلام هذا.
وعلى اساس هذه القاعده الشرعية يكون قتل الغلام ولو كان قصاصاً عادلاً يكون غير نافذ أبداً إلى أن تحين أو تتوفر شروط نفاذها وإن توفرت فإنها ستغير حتماً من أحكام القضاء ذاتها وهذه هي الرحمة بالعلم بالقصاص وبإفتراض أن هذا الرجل ( عبد الله ) كان هو منفذ الحكم باعتباره والداً أو وصياً أو نائباً أو أي تمثيل يمثله في الحياة الدنيا فإن الحكم الشرعي لا يبدل بواقع الأمر شيئاً فلا ينفذ الا إذا كان الامر محجوباً عن أعين الناس ولا يعرف كنهه إلا أنه وقد مات هذا الغلام ميته وبأي سبب إلا باستثناء القتل العمد فإن ذلك يرجعنا إلى ذلك العبد الذي آتاه الله رحمة وعلماً من علم الله وما نفاذ صبر النبي موسى إلا باستعجاله لعلمه وتطبيقه لشريعة الله وإرضائه.
فكان من أولي العزم والشدة في أمرة فكان رحمة أولا.
كان من أولي العزم والشدة كذلك في أمره الذي ينهيه عن المنكر ثانياً.
وكان رحمة في حكمه وعدله بقولة: (( لقد جئت شيئاً نكرا )) فقد كان بشراً حينها والعبد في مقابلته رسولاً خاصاً وكلاً منهما كانا يمتثلان لأمر الله في نشر حكمة وعدله وإقامة عمود رحمته على عباده والله أعلم.
ثالثاً: إقامة الجدار
قال تعالى في سورة الكهف الآية (77) (( فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبو أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا )).
قبل أن نخوض في أمر موسى عليه السلام وعبد الله فيما اتفقا عليه وقد وصلا إلى هذه القرية التي ذكرتها الآية الكريمة فأشكل اتفاقهما بإقامة الجدار فإننا نقرأ:
أولا: أمراً أخر كان في غاية العجب أوجزت وصفه ولخصت معانية كلمتان خفيفتان ولكنهما ثقيلتان فيما رمتاإلية بجملة من الخصال ذات الاهداف البعيدة في طريق الإيمان وهاتان الكلمتان هما:
(( استطعما.. و فأبوا.. )).
لقد كان في علم ( عبدالله ) أن يصل إلى هذه القرية كما كان في الرسالة التي يحملها وأهلها كما هم في معيشتهم وطباعهم وخصالهم والنبي موسى يصاحبه يسمع ويرى في بادئ الامر طلباً منهم طعاماً وأي طعام مهما كان نوعه فالغاية القريبة أن يكون طعاماً لسد الرمق وكفاية الجوع فمنذ بدء الرحلة والطعام قد نفذ منهم كما روت الآية باتخاذ الحوث طريقة إلى البحر سربا وكان هذا سبباً أولياً ومباشراً لطالب الطعام من هذه الحاضرة وأما الغاية الكبرى والبعيدة هو استكشاف خصال أهل هذه القرية وقد حصلوا أو وصلوا إليها وذلك بغلق الابواب في وجوههم وعدم الاستجابة لطلبهم من الطعام فكلمة ( فأبوا ) تعطي وتدل على الرفض للطلب أما بسبب خصلة البخل الشديد أو بسبب كراهيتهم وخوفهم من الغرباء والله أعلم.
إن عبد الله لم يقف حانقاً غاضباً من أهل القرية عندما رفضوا ضيافتهم فهو في حالته (والله أعلم ) لم يكن ليأكل طعام البشر أبداً وذلك لجهلنا بتكوين خلقه أهو ملاك أم غير ذلك فالموضوع يتصل مباشرة بالنبي موسى عليه السلام فهو المعني بما يرى ويسمع وهنا وبهذه الساعة الحرجه يدخل طرفاً ثالثاً غريباً بين الفريقين ألا وهو ( الجدار ).
فأصبح الأمر أكثر عجبا وأكثر غموضاً.
1- أهل القرية ( البخلاء ).
2- عبد الله والنبي موسى بحالة جوع شديد.
3- الجدار الذي يريد أن ينقص.
قال تعالى الآية (77) ((.... فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه......)).
لما رأى عبد الله ذلك الجدار وهو بحالته التي وصفتها الآية مائلاً آيلاً للسقوط بسبب قدمه وهشاشة بنيانه سارع إلى إعادة بنيانه فاعتدل الجدار وعاد إلى قوته واستقامته ونلاحظ تلازم الشبه بين حالة ( عبد الله ) من الارهاق والتعب والجوع وبين حالة الجدار المتشقق الآيل للسقوط كلاهما وصلا إلى لحظه الانهيار ولكن الدرس لم يقف عند هذا الحد.
والعبرة والفائدة ستبدأ بالظهور منذ هذه الساعة:
1. إن رفض الاطعام والضيافة لم يقابله الغضب والحنق والكراهية.
2. إن شدة الجوع يماثلها شدة التشقق وقرب السقوط في الجدار.
3. ولد الايثار بدل أن يولد الغضب.
4. حق العمل والأعمار يقابله حق طلب الاجر عليه.
قال تعالى في الآية (77) ((.... قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا )).
وكان هذا كلام موسى عليه السلام لأنه يسمع ويرى ما وصلت إلية حالتهما ولسان حاله وكأنه يستعرض كل وقائع الأحداث في هذه القرية بقولة وتعجبت يا عبد الله إنك لم تقابل رفضهم ضيافتنا بالغضب فالحق أصبح مشروعاً أن تطلب منهم الاجر على اقامتك للجدار فالأجر هنا سيعطينا فرصة سانحة لشراء الطعام أو مقايضتهم أي أن أهل هذه القرية سوف يقبلون اطعامنا بالأجر.
ولكن الطعام ليس هو الغاية أيها الصاحب فكلانا في وضع قد كفانا الله ربنا عن الحاجة إلية فالعبرة أعظم من ذلك وهي تأتي مشرعة كالآتي:
1. عجيب أمر هذه القرية ! فالظلم أصبح منتشراً بينهم الرغم من سكنهم مع بعضهم بعضا متقاربين متعارفين بينهم صلات إن لم يكونوا من أرحام بعضهم وهذا هو الصحيح والغالب عليهم ولكن حالة البخل الشديدة جعلتهم يظلمون بعضهم بعضا فالإيثار وإكرام الضيف من علائم التراحم وهذا غير موجود بينهم ودليل ذلك.
2. جدار البيت الآيل للسقوط فكم من السنين مرت عليه وهو بهذه الحالة ولا أحد من أهل هذه القرية تثار فيه الحمية أو صلة القربى أو الجوار ليقوم بإصلاحه ؟ فمن المؤكد أن من كان يحسب على جواره يعرف تماماً أنه يعود بملكيته لأيتام ومع ذلك فلا يوجد أحد منهم يتقدم بالأعمار أو الصيانة أو الرعاية.
3. والأمر الخطير الذي أشارات إلية الآيتان (77) و (82) هو المهم في ما ترميا إلية وهو الآتي:
* ذكرت الآية ( 77) أن الجدار في بيت من بيوت القرية.
* ذكرت الآية (82 ) أن ملكية الجدار تعود ليتيمين يعيشان في المدينة.
والسؤال الذي نطرحه هنا هو:
لماذا هذين اليتيمين يعيشان في المدينة ولماذا لم يبقوا ويترعرعوا مع اقرانهم وأقربائهم وعشيرتهم. وفي بيتهم آمنين مطمئنين إلى أن يكبرا حتى يبلغا سن الرشد؟
والجواب: وأي جواب مهما كان فإنه يعاضد ويساند ما جاءت به الآية ( 77) من رفض أهل القرية اطعام الضيفان والحال كذلك يخفي خصالاً أشد نكالاً حتى مع الايتام بعدم رعايتهما خوفاً من الانفاق عليهما ولو كانوا بصلات رحم أو جوار أو غير ذلك وهنا تتجلى الاسباب على أمتهان البخل الشديد.
4. ومن هنا جاء في الآية (82) قال تعالى ((... وكان أبوهما صالحا...)) وأي صلاح كان يتمتع به هذا الوالد الذي كان يعرف تماماً أهل قريته وكانوا يتصفون من الصفات المنفرة ما جعله يدفن ما كان يملكه من كنز مهما كان نوعه ومن خلال هذه المعاني يستدل القارئ على أنه كنز أموال متعددة الاجناس فأهل قريته ليس فيهم الآمين الذي يأتمنه حتى لودع مال ولدية وليس فيهم الكريم وليس فيهم المؤثر على نفسه حتى يصلح لهم الجدار.
5. وجاء الصاحبان: عبدالله الذي آتاه الله رحمة من عنده وعلمه علماً من لدنه والنبي موسى عليه السلام وقدما بإيضاح وضاح كل تلك المعاني وكشفا كل تلك الأحوال والخصال.
6. فأين الرحمة وأين العلم ولم كان صبر موسى عليه السلام ينفذ بسرعة فلنرى ذلك مع كل خطوة عمل عملاه هذين العبدين في تلك القرية.
أولاً: تجلى العلم الذي أوتي لعبدالله كما أخبرنا في الآية (65) في حادثة القرية:
1- أن الله عز وجل أخبره بخصال أهل القرية كما ذكرناها في الشرح.
2- أن الله عز وجل أخبره بقصة اليتيمين اللذان يعيشان في المدينة وكان أبوهما صالحاً.
3- أن الله عز وجل أخبره بحالة الجدار الذي يريد أن ينقض.
4- أن الله عز وجل أخبره بالكنز المدفون تحت الجدار.
وكل هذا العلم لا يعلمه موسى عليه السلام بل علمه من خلال ما قام به مع عبد الله:
1/ قدما إلى القرية واستطعما أهلها فأبوا ( خصال أهلها ).
2/ أقام الجدار ليعلم من ذلك ثلاثة أمور ( أن الجدار للغلامين اليتيمين، وأن اهل القرية لن يعطوهما الآجر إذا ما طالباهم بذلك، والثالث الآيثار ).
3/ وسبب إقامة الجدار حتى لا ينكشف أمر الكنز من جهة وحتى يحين بلوغ اليتيمين الشده في عمرهما فيستخرجا كنزهما بأيديهما.
4/ قال عبد الله لموسى عليه السلام قال تعالى: (( وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا )) الآية (82)
5/ محور وهدف كل هذه القصه كان إقامة الجدار مقابل ما كان يتصف به أهل القرية وهو ( رحمة من ربك ).
وعمود الرحمة كان العمل الصالح وهو إقامة الجدار والنهي عن المنكر وهو الذي كان يتصف به أهل القرية.
ثانياً: تجلى عدم صبر النبي موسى عليه السلام بما رآه في أمر أهل القرية:
1. قال تعالى في آخر سورة الكهف الآية (110) (( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا )).
2. وقال تعالى في سورة طه الآية (84) (( وعجلت إليك رب لترضى )).
3. وقال تعالى في سورة طه الآية (92) (( قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا )).
والآية (93) (( الا تتبعن أفعصيت أمري )).
4. وقال تعالى في سورة البقرة الآية (67) (( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين )).
5. وقال تعالى في سورة الكهف الآية (77) ((.... قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا )).
فإذا استعرضنا مجمل العبارات التي كان يرد بها النبي موسى عليه السلام على من كان يخاطبهم أو يجادلهم أو يأمرهم أو ينهاهم في الآيات ( الاربع ) الماضيات وكانت الآتي:
- عجلت... لترضى.
- ما منعك..... إذ رأيتهم ضلوا.
- أفعصيت أمري.
- أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
ثم تضيف إليها ما كان يرد به على عبدالله في بحثنا هذا.
- لقد جئت شيئاً امرا.
- لقد جئت شيئاً نكرا.
- لو شئت لاتخذت عليه أجرا.
وكذلك نزيد ذكر قول الله عز وجل في سورة القصص في الآية (14).
(( ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين )).
ولما لم يبعث بعد فقد كان في عين الله عز وجل عندما وكز القبطي فقضى عليه قال موسى عليه السلام قال تعالى في سورة القصص الآية (16) (( قال ربي إني ظلمت نفسي فاغفرلي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ))، وقولة الآية (17) (( قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين )).
يتبع إن شاء الله...