الباب الثالث: الدولة العثـمانية وفارس بعد انتشار الإسلام
الدولـــة العثمانيـة
The Ottoman State
قام العثمانيون، وهم مجموعة من القبائل التركية، بقيادة زعميها عثمان الأول (1293 ـ 1326)، بتأسيس الدولة العثمانية. بدأ العثمانيون بتوحيد الإمارات التركية في آسيا الصغرى التي مدت سلطانها إلى جنوب أوربا والشرق الأدنى القديم. ومع حلول منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، كانت الدولة العثمانية الناشئة قد ضمت مناطق كبيرة من البلقان واليونان، وفتحت القسطنطينية عام 1453. وقد استولى العثمانيون على سوريا وفلسطين ومصر (1516 ـ 1517) ومعظم المجر (1526) والعراق (1530). ومع منتصف القرن السادس عشر الميلادي، حيث وصلت الإمبراطورية إلى أعلى قمة نفوذها، بسط العثمانيون نفوذهم على شبه الجزيرة العربية وضموا معظم شمال أفريقيا وكثيراً من الجزر في البحر الأبيض المتوسط. وكانت تحكم الإمبراطورية العثمانية نخبة عسكرية تركية مسلمة. وقد بدأ مد العثمانيين في التوقف عام 1683 حينما فشلوا للمرة الثانية في الاستيلاء على فيينا. وبعد ثلاثة أعوام فقدوا بودا (بودابست) ووقعوا أول معاهدة يقرون فيها بهزيمتهم. وبالتدريج، أخذ النفوذ العثماني في الانحسار، إذ بدأت روسيا في الزحف من الشمال، وظهرت الدولة الصفوية (الشيعية) التي ناصبت الدولة العثمانية العداء، وظهرت دول أوربا البحرية ومن بينها إسبانيا والبرتغال، ثم إنجلترا وفرنسا اللتان قلصتا نفوذ الدولة العثمانية واستولتا على بعض أرضها وعلى أجزاء من العالم الإسلامي إلى أن سقطت الخلافة العثمانية على يد ثورة تركيا الفتاة. وتمزقت الإمبراطورية العثمانية تماماً مع الحرب العالمية الأولى، واستقلت كل الدول التي كانت تابعة لها. وتاريخ يهود العالم الإسلامي (ابتداءً من القرن الخامس عشر الميلادي) هو تقريباً تاريخهم داخل الدولة العثمانية.
فقد ضمت الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف جماعات يهودية عديدة تتحدث لغات مختلفة ولها انتماءات إثنية ودينية متنوعة:
1 ـ الرومانيوت: حينما فتح العثمانيون آسيا الصغرى واليونان والبلقان، وجـدوا يهود الدولة الرومانية الشـرقية (البيزنطيـة) الذين كانوا يتحدثون اليونانية، وكان يُطلَق عليهم أيضاً «الجريجوس»، أي «اليونانيون».
2 ـ الإشكناز: مع بداية القرن الخامس عشر الميلادي، هاجرت جماعات من اليهود الإشكناز من ألمانيا وفرنسا إلى الدولة العثمانية.
3 ـ السفارد: مع طرد يهود شبه جزيرة أيبريا الذين كانوا يتحدثون اللادينو، هاجرت أعداد منهم إلى الدولة العثمانية، وكانت هجرتهم تفوق في أعدادها الهجرة الإشكنازية. وقد أصبح السفارد أهم العناصر اليهودية وطبعوا بقية الجماعات بطابعهم، حتى أن اللادينو أصبحت هي لغة اليهود الأساسية، تماماً مثل اليديشية في أوربا آنذاك.
4 ـ اليهود المستعربة: وهم اليهود العرب الذين يتحدثون العربية وينتمون إثنياً إلى الأمة العربية ويرتدون الزي العربي.
5 ـ اليهود الأكراد (في العراق): وكانوا يتحدثون الكردية. وكان منهم أيضاً من يتحدث الآرامية في القرى الجبلية البعيدة، كما كان سكان المدن منهم يتحدثون العربية.
6 ـ اليهود القرّاءون: وكان من بينهم من يتحدث العربية (في مصر) ومن يتحدث التركية (في شبه جزيرة القرم) وربما كان هؤلاء بقايا دولة الخزر اليهودية.
7 ـ اليهود السامريون في فلسطين.
8 ـ كانت هناك جماعات يهودية متناثرة تتحدث المجرية والرومانية وغيرها من اللغات الأوربية في المقاطعات التي ضمها العثمانيون.
وكانت توجد تجمعات يهودية في آسيا الصغرى واليونان، في إستنبول وسالونيكا وأدرنة وأزمير وبورصة، وكذلك في فلسطين والعراق ومصر واليمن وتونس والجزائر. وكان يُطلق على كل تجمُّع يهودي لفظة جماعة )بالعبرية: قهال). وكانت كل جماعة تُسمَّى حسب البلد الذي جاءت منه مثل: بروفنسال أو كورفو أو أراجون أو صقلية أو طليطلة أو قرطبة أو الأندلس. وكانت كل جماعة تنقسم عادةً إلى جماعتين، فالبروفنسال مثلاً تصير إلى بروفنسال القديمة والجديدة، وكانت كل جماعة تحتفظ باستقلالها، وعلى سبيل المثال كان يوجد في سالونيكا (في القرن السادس عشر) ثلاث عشرة جماعة يهودية مقسمة حسب البلد الأصلي يتحدثون اليونانية أو الإيطالية أو الإيطالية باللهجة الصقلية أو البرتغالية أو اللادينو. وكان يوجد في إستنبول ثلاثون جماعة يهودية، لكلٍّ معبدها وحاخامها ومحاكمها الخاصة التي لم تكن لها سلطة تنفيذية وجمعية الدفن المقصورة على أعضائها. ولم تكن العلاقات بين هذه الجماعات ودية بل كانت تتصارع فيما بينها. فالجماعات الكبيرة تضطهد الصغيرة، والجماعات التي تنتمي إلى أصل واحـد والمتناثرة في مدن مختلفـة تتعـاون فيما بينها ضد الجماعات الأخرى، كما كانت هذه الجماعات تشي ببعضها البعض لدى السلطات. فعلى سبيل المثال، حدث شجار في دمشق بين اليهود المستعربة والسفارد حول عمق الحمام الطقوسي، فوجَّه اليهود المستعربة بعض الاتهامات الظالمة إلى السفارد أمام السلطات التي قبضت على بعض منهم وألقت بهم في السجن.
وكان السفارد يشيرون إلى الرومانيوت بأنهم «التوشافيم»، أي «السكان الأصليين» بكل ما تحمل الكلمة من إيحاءات قدحية، كما كانوا يشيرون إليهم بلفظ «الجريجوس» وهي تسمية كانت هي الأخرى ذات دلالات سلبية. وكان الرومانيوت يشيرون بدورهم إلى السفارد باعتبارهم «مجوراشيم» أي «المطرودين» أو «المنبوذين». ولم تكن هناك سلطة يهودية مركزية أو منصب حاخام أكبر، وهو ما يجعل تجربة يهود الدولة العثمانية تشبه من بعض الوجوه تجربة يهود الولايات المتحدة الذين يتكونون من جماعات مختلفة لا يربطها رباط مركزي. وحينما نشأت وحدة بين هذه الجماعات، كانت ثمة وحدة فيدرالية ضعيفة. ولكن، مع هذا، تمت عملية الامتزاج بينها بالتدريج. وهذا يعود إلى أن الأجيال الجديدة من اليهود لم تَعُد تهتم بالبلد الأصلي، وبدأت تتحرك داخل إطار تجربتها العثمانية كما هي العادة مع الجيل الثالث من أبناء المهاجرين. ومما ساعد على مزج اليهود في الدولة العثمانية صدور الشولحان عاروخ الذي قبلته الجماعات اليهودية كافة باعتباره المرجع الأساسي للشريعة. ومع حلول القرن الثاني عشر الميلادي، كانت أغلبية الجماعات اليهودية تعتبر نفسها سفاردية وتتحدث اللادينو، وكانت هناك أقلية صغيرة إشكنازية يتحدث بعض أعضائها اليديشية، وأخرى قرّائية، وذلك بخلاف الأقليات الهامشية مثل السامريين والأكراد. وقد أخذ عدد يهود الدولة العثمانية في التزايد بسبب اتساع الدولة حيث كانت تضم جماعات يهودية جديدة كلما ازدادت توسُّعاً ، وكذلك عن طريق هجرة اليهود إليها، أو عن طريق التزايد الطبيعي.
ويتميَّز يهود الدولة العثمانية بانتمائهم لها. فأثناء الفتح العثماني لآسيا الصغرى وبعض أنحاء أوربا تعاون يهود بورصة (1354) وأدرنة والقسطنطينية (1433) وبودا (1526) ورودسي وأذربيجان وبلجراد (1543) مع القوات العثمانية الفاتحة. رحبت الدولة العثمانية بالمهاجرين من أعضاء الجماعات اليهودية فهاجرت أعداد كبيرة منهم وأصبحوا عثمانيين بمحض إرادتهم، أي أنهم هاجروا إليها واستوطنوا فيها وجعلوها وطنهم الوحيد واندمجوا في الحضارة الإسلامية. ولم تضم الدولة العثمانية عبر تاريخها سوى أقلية من يهود العالم إذ أن مركز اليهود السكاني كان قد انتقل إلى أوربا ابتداءً من القرن الرابع عشر الميلادي. وفي القرن التاسع عشر الميلادي، بلغ عدد اليهود في الدولة العثمانية، ثلاثمائة ألف، أي أقلية صغيرة للغاية بالقياس إلى يهود العالم الغربي الذين كانوا على عتبات الانفجار السكاني (حيث زاد عددهم إلى عشرة ملايين مع أواخر القرن التاسع عشر الميلادي)، وهو انفجار لم يكن له ما يناظره في الدولة العثمانية.
وقد رحب العثمانيون من جانبهم بالهجرة اليهودية من أوربا، فقد كتب الحاخام إسحق تسارفاتي عام 1479 إلى يهود ألمانيا والمجر لحثهم على الهجرة إلى الدولة العثمانية. وكان العثمانيون يرون أن العنصر اليهودي عنصر بشري مهم للإمبراطورية نظراً لخبرته المالية والعلمية ومعرفته باللغات الأجنبية، إلى جانب أنه يشكل كثافة بشرية كانت الإمبراطورية في أمس الحاجة إليها. ومن الكلمات المهمة في المصطلح السياسي العثماني كلمة «سورجون»، وهـي تعني النفـي أو الترحيل أو التهـجير أو النقـل الإجباري. وكان السورجون يطبق على فرد أو أسرة أو جماعة بشرية كاملة باعتباره شكلاً من أشكال العقاب أحياناً، ولخدمة مصلحة الدولة العثمانية في أحيان أخرى. وقد كانت الدولة تنظر إلى أعضاء الجماعات اليهـودية باعتبارهـم عنصراً بـشرياً يمكن أن يُطبَّـق عليه قانون السورجون، فكانوا يُوطَّنون في مكان ما لموازنة العنصر المسيحي كما حدث في قبرص، أو كان ينظر إليهم باعتبارهم عنصراً تجارياً يمكن أن يُنشِّط الحياة الاقتصادية فيتم توطينهم في المدن مثل إستنبول وأدرنة.
ومما شجع اليهود على الهجرة إلى الدولة العثمانية أنها منحتهم الحقوق كافة مثل الاشتغال بأية حرفة أو امتلاك الأراضي الزراعية والعقارات، ولقد وصلوا إلى أرفع المناصب. ولدراسة الوضع الاقتصادي والاجتماعي لليهود في الدولة العثمانية، لابد أن نقرر ابتداءً أن أعضاء الأقليات في المجتمعات التقليدية لم يكن بإمكانهم أن يشغلوا وظائف حربية أو إدارية أساسية أو إستراتيجية معيَّنة لأسباب أمنية، وأنهم في العادة يتركزون في وظائف ونشاطات اقتصادية مالية ومهنية وهو ما يحوِّلهم إلى جماعات وظيفية. وهذا ما حدث لأعداد من أعضاء الجماعات اليهودية في الدولة العثمانية، فكان منهم المترجمون، وكانت وظيفة ترجمان البلاط يشغلها دائماً يهودي. كما اشتغل اليهود بمهنة الطب، ولربما تفوقوا في هذا المجال لأنهم تعلموا في أوربا فنون الطب الذي كان مختلفاً عن الطب في العالم الإسلامي في القرن السادس عشر الميلادي وأكثر تطوراً. ويبدو أن اليهود أيضاً ساهموا في نقل بعض جوانب تكنولوجيا السلاح من الغرب، وهو ما سبب حنق المراقبين الغربيين عليهم لأنهم عدوهم مسئولين عن التفوق العسكري العثماني. كما أنهم نقلوا فن الطباعة، واشتغلوا بالصناعة فأسسوا كثيراً من مصانع النسيج، كما اشتغلوا بالتجارة الدولية وشكلوا جماعة وظيفية وسيطة بين الدولة العثمانية وأوربا. وعمل اليهود في الوظائف المالية مثل الإقراض بالربا كما أنهم، والسفارد منهم على وجه الخصوص، اضطلعوا بوظيفة المديرين الماليين للولاة العثمانيين ولكثير من الباشوات العثمانيين. ومن أهم الوظائف التي اضطلعوا بها تلك الوظائف المرتبطة بالضرائب سواء أكانوا جامعي أو مفتشي ضرائب أو موظفي جمارك أو ملتزمي ضرائب. وكانت أغلبية العاملين في الضرائب في الدولة العثمانية من أعضاء الجماعات اليهودية حتى أن الإيصالات كثيراً ما كانت تُكتَب بحروف عبرية.
ومن أهم الوظائف التي اضطلعوا بها أيضاً وظيفة أمين الإمدادات والتموين لقوات الإنكشارية، وهي وظيفة تختلف عن نظيرتها في العصر الحديث في أن من كان يضطلع بها لم يكن موظفاً حكومياً وإنما كان مموِّلاً يقوم بنشاط تجاري حر مثل شراء التموينات والزي العسكري للإنكشارية وتدبيرها لهم. وكانت الوظيفة وراثية محصورة في عدد محدود من الأسر اليهودية. وقد نشأت هذه العلاقة بين الإنكشارية والمموِّلين اليهود أينما وُجدت قوات الإنكشارية في إستنبول وسالونيكا ومعظم المدن التركية الأخرى. ونشأت حول المموِّلين شبكة تجارية صناعية مالية من اليهود، فكانت مصانع النسيج اليهودية تساهم في صناعة الأزياء العسكرية للإنكشارية. ولعل ارتباط اليهود بصناعة النسيج في كثير من البلاد، مثل الولايات المتحدة وغيرها، كان سبباً في أنهم يرتبطون بالمؤسسة العسكرية التي تحتاج إلى كميات كبيرة من المنسوجات الخاصة بالزي العسكري. واستمرت العلاقة بين الإنكشارية وأعضاء الجماعة اليهودية حتى عام 1826 عندما حُلَّت الإنكشارية.
وقد اتسمت العلاقة بين أعضاء الجماعة اليهودية والنخبة الحاكمة بكثير من الانسجام والتفاهم لأن العنصر اليهودي كان مكمِّلاً لنشاطات أعضاء النخبة الحاكمة لا متناقضاً معها، على عكس الوضع في كثير من بلاد أوربا. فأعضاء النخبة كانوا يشغلون الوظائف العسكرية والدينية والإدارية العليا وكانوا يديرون بعض المشاريع الاقتصادية الكبرى مثل النقل البحري والتجارة الدولية، وهي نشاطات مهنية واقتصادية لم يكن يطمح اليهود إلى الاضطلاع بها. كما أن أغلبية اليهود استوطنوا في الدولة العثمانية بعد أن كانت النخبة الحاكمة قد سيطرت على ناصية الأمور وعلى الهيكل الاقتصادي، وهم في هذا يشبهون يهود إنجلترا وفرنسا وهولندا عند استيطانهم ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي. كما يُلاحَظ أنه لم يكن يُوجَد تناقض بين السلطات من جهة والنبلاء وسكان المدن من جهة أخرى، كما كان الحال في أوربا. وهو التناقض الذي سقط اليهود ضحية له في أغلب الأحيان، إذ كان الملك يستخدم اليهود لصالحه كأداة لجمع الضرائب ولتقويض نفوذ المدن غير الملكية والنبلاء. أما في الدولة العثمانية، فقد كان اليهود أداة في يد جهاز الدولة ونخبتها الحاكمة ككل. ويمكن القول بأن يهود الدولة العثمانية ككل قد اندمجوا في سكانها. وحينما انتشرت دعوة شبتاي تسفي (1665)، تصدَّى لها حاخامات الإمبراطورية وساهموا في الحرب ضدها، وظهر يهود الدونمه في أعقاب إخفاق دعوة تسفي واعتناقه الإسلام. وقد أصبحت صفد مركزاً للدراسات اليهودية إذ اسـتوطن فيها جوزيف كارو، وفيها وضع مؤلفه المشهور الشولحان عاروخ، كما أصبحت صفد مركزاً للدراسات القبَّالية وبخاصة القبَّالاه اللوريانية.
وكما هو مُتوقَّع، كان مصير يهود الدولة العثمانية مرتبطاً بحركيات هذه الدولة وما تواجهه من مشاكل وأزمات. ويُلاحَظ أن تَراجُع الدولة العثمانية ترك أثره في الجماعات اليهودية أيضاً، فقد توقف تَدفُّق المهاجرين اليهود من أوربا إذ بدأت تستوعبهم المراكز التجارية في غرب أوربا ووسطها بدرجات متزايدة، وبالتالي تَوقَّف تَدفُّق رأس المال والخبرة والمعارف الغربية. بل إن معرفة أعضاء الجماعات اليهودية باللغات الأوربية تناقصت حتى أن معظمهم كان يكتب اللادينو بحروف عبرية لأنهم كانوا لا يعرفون الحروف اللاتينية. ورغم أن المؤسسة الحاخامية نجحت في أن تتصدى لدعوة شبتاي تسفي، فإن فشل هذه الدعوة نفسه وَلَّد يأساً عميقاً في قلوب أعضاء الجماعات اليهودية وزاد سيطرة المؤسسة الحاخامية عليهم. وكما أشرنا من قبل، كان ثمة ارتباط بين المموِّلين اليهود والإنكشارية. ولذلك، حينما حاولت الدولة العثمانية تحديث المؤسسة العسكرية عن طريق القضاء على الإنكشارية، تحالف هؤلاء المموِّلون مع الإنكشارية وقاموا بتمويل تمرُّدهم. وبعد أن تمكنت الدولة من حل الإنكشارية، تم القبض على رؤساء عائلات المموِّلين وتم إعدامهم، الأمر الذي ألحق ضرراً شديداً بالشبكة الاقتصادية اليهودية التجارية المالية الصناعية المرتبطة بهؤلاء المموِّلين.
ويمكن القول بأن الحقيقة الأساسية في تاريخ الدولة العثمانية، منذ نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، هو تَزايُد النفوذ الغربي وتَدخُّله في شئون الدولة العثمانية. وقد انعكس هذا في نظام الامتيازات الذي يعود إلى معاهدة 1521 التي عقدها السلطان سليمان القانوني مع قنصل البندقية وأصبحت نموذجاً لمعاهدات مشابهة وُقِّعت فيما بعد مع كل الدول الأوربية. وكان نظام الامتيازات يسمح للدولة المعنية بتعيين قناصل في الممتلكات العثمانية وبإعطائهم حق التشريع لرعاياهم في الأمور المدنية، وهو الأمر الذي جعل كل جالية أجنبية (ملة أو طائفة) تدير أمورها بنفسها وتتمتع بحماية قنصلها فيما يتعلق بالأمور الشخصية والمهنية.
وقد استفادت الدول الغربية من نظام الامتيازات الممنوح لها وحاولت أن تُوسِّع رقعة نفوذها. وبدأت كل دولة أوربية تبحث عن موطئ قدم لها داخل الدولة العثمانية عن طريق فرض حمايتها على أقلية دينية أو إثنية حتى تكون لها محمية بشرية أو جيب سكاني. وبذا، يمكننا أن نرى هذه العملية باعتبارها شكلاً من أشكال الاستعمار الاستيطاني أدَّى إلى تحويل أعضاء الأقليات إلى عنصر سكاني غريب. ففرضت روسيا حمايتها على الأرثوذكس وفرنسا على الكاثوليك، وهذا ما أعطاهما حق التدخل في أمور الدولة العثمانية كما هيأ لهما شبكة اتصالات هائلة داخل الدولة. وقد اندفعت الدول تبحث عمن « تحميه » من الأقليات فاكتشفت إنجلترا وبروسيا (ألمانيا) أنهما لا تتمتعان بالميزة التي تتمتع بها فرنسا وروسيا إذ كان العنصر البروتستانتي في الدولة العثمانية صغيراً للغاية وغير ذي أهمية، فحاولت إنجلترا في البداية فرض حمايتها على الدروز. ولكنها اكتشفت بعد قليل أن اليهود أقلية يمكن حمايتها، فأسست قنصلياتها في القدس عام 1838. وحاولت روسيا أن تحمي يهود القدس، في الوقت الذي كانت ترتب فيه المذابح ضد يهود روسيا. وهذا يتفق مع النمط البلفوري الغربي الذي يرى أن تتخلص أوربا من يهودها عن طريق ترتيب وطن لهم خارجها، أي ضربهم في الداخل وحمايتهم في الخارج. وأسس يهود العالم جمعيات لمساعدة إخوانهم اليهود، فتأسست الأليانس الفرنسية (1860) والرابطة الإنجليزية اليهودية (1871) وجمعية الإسرائيليتيش أليانس (1873)، والغوث الهيلفسفرين (1901) الألمانيتان، واللجنة اليهودية الأمريكية (1906).
وقد كان لتعَاظُم النفوذ الغربي آثار متضاربة على الجماعات اليهودية في الدولة العثمانية، إذ أدَّى تَدخُّل الدول العظمى في بداية الأمر إلى تَصاعُد نفوذ أعضاء الأقليات المسيحية داخل الدولة، وهو ما أدَّى إلى ظهورهم وحراكهم على حساب أعضاء الجماعات اليهودية، فبرز العنصر اليوناني والأرمني. ومما ساعد على هذا الاتجاه أن عدد المسيحيين كان أكبر وأنهم حصلوا على نصيب أكبر من التعليم، وخصوصاً أنهم أرسلوا أولادهم إلى جامعات أوربا وكانت تعاضدهم كنائسهم وكل أوربا. وقد أدَّى كل هذا إلى تَراجُع نفوذ أعضاء الجماعات اليهودية وإلى تَناقُص نصيبهم من التجارة الدولية ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي حتى انتهى تقريباً مع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. وقد تَزامَن هذا مع تَناقُص نفوذ يهود الأرندا في بولندا وتَناقُص نفوذ يهود البلاط في وسط أوربا. ولا ندري ما إذا كانت هناك علاقة بين الظاهرتين، ولكن المرجح أن ثمة علاقة إذ كانت هناك شبكة تربط الجماعات الاقتصادية الثلاث. وكان آخر مموِّل يهودي كبير هو يوسف الناسي الذي مارس نشاطه في النصف الثاني من القرن السادس عشر. وقد ظهر آخر كبار الأطباء اليهود في البلاط العثماني في أواخر القرن السابع عشر الميلادي.
وبدأ المسيحيون يشغلون وظائف الجمارك والضرائب، بل إن وظيفة الدراجمون (أي الترجمان) التي كان يشغلها اليهود بدأ يشغلها تركي من أصل يوناني. وتبدَّى تَزايُد النفوذ الغربي والنفوذ المسيحي في شكل آخر هو ازدياد ظاهرة توجيه تهمة الدم كما تجلَّى في حادثة دمشق حين اتهم مسيحيو سوريا (بتحريض من القنصل الفرنسي) العنصر اليهودي المرتبط بالإنجليز بأنهم ذبحوا أحد الرهبان واستخدموا دمه في خبز فطير الفصح. وحين ناشد يهود فرنسا دولتهم لم يجدوا آذاناً صاغية إذ كانت فرنسا تحمي كاثوليك الشام. أما في إنجلترا، فقد احتج بالمرستون وهدد محمد علي حاكم مصر الذي كانت تتبعه سوريا آنذاك بالعواقب الوخيمة إذ كانت إنجلترا تفكر في حماية يهود الدولة العثمانية.
وإذا كان نفوذ يهود الدولة العثمانية قد تراجع بسبب التدخل الغربي وتَعاظُم النفوذ الغربي، فإن الصهاينة الذين وضعوا أنفسهم تحت حماية بريطانيا استفادوا منه أيما استفادة. كما أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية حصلوا على جنسيات دول أوربية حتى يكونوا تحت حمايتها ويتمتعوا بالامتيازات. ومن هنا كان العثمانيون لا يمانعـون في أن يعـيش اليهود في فلسطين إذا كانوا مواطنين عثمانيين. وحاولت الدولة العثمانية أن تمنع اليهود غير العثمانيين، أي الذين تشملهم الحماية الغربية، من حق الاستيطان فيها.
وحاولت الدولة العثمانية، ابتداءً من حكم محمد الثاني (1808 ـ 1839)، إصلاح الإمبراطورية من الداخل. واستفاد اليهود من عمليات التحديث هذه، وصدرت القوانين الإصلاحية المعروفة باسم التنظيمات (عام 1839)، والخط الهمايوني (عام 1856)، التي ضمنت حقوق كل سكان الإمبراطورية من أعضاء الأقليات، وضمنها اليهود، واحترام الملكية وصيانة الحرية الشخصية. وأصبح لليهود الحق في ارتداء الزي التركي (الطربوش)، كما أصبح من حق الحاخامات أن يرتدوا العمامة مثل الشيوخ، فحقق هذا إعتاقاً سياسياً لليهود إن أردنا استخدام لغة العصر. وصدرت قوانين تحرِّم تهمة الدم وتجعلها تهمة خطيرة يحقق فيها حاكم المقاطعة بنفسه. وصدر فرمان خاص بإصلاح نظام الملة (مايو 1864). ويتلخص هذا الفرمان في أن الجماعة اليهودية يرأسها الحاخام باشي الذي أُسِّست وظيفته عام 1835، وهو يمثل كل اليهود في الإمبراطورية أمام الباب العالي، كما أنه مسئول عن جمع وتحديد الضرائب المفروضة على الجماعة اليهودية ويصادق على اختيار الرؤساء المحليين الذين يُنتخَبون من قبل ممثلين من الملة المحلية. وقد حدَّد الفرمان نظم المجالس الممثلة لليهود في مجلس عام يضم ثمانين عضواً، كانوا ينتخبون بدورهم سبع حاخامات في لجنة تُسمَّى «مجلس روحاني» وسبع يهود من خارج المؤسسة الدينية للأمور الدنيوية تُسمَّى «مجلس جسماني»، وكان يترأس اليهود حاخام باشي الذي كان يتم اختياره بالانتخاب.
وقد حاول الصهاينة الاستفادة من أزمة الإمبراطورية العثمانية في آخر أيامها، ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في الحصول على موافقة السلطان العثماني على مشروعهم الاستيطاني، واضطروا إلى الانتظار حتى تسقط فلسطين في يد الاستعمار البريطاني. وثمة رأي يذهب إلى أن اليهود عامة، ويهود الدونمه على وجه الخصوص، لعبوا دوراً مهماً وخطيراً في الثورة ضد الخلافة العثمانية، وأن الدوائر التي كان يتحرك فيها كمال أتاتورك كانت مليئة بالماسونيين والدونمه. وقد انتشرت شائعة بين اليهود أنفسهم أن أتاتورك نفسه كان من يهود الدونمه. ولكن مثل هذه الشائعات تنتشر دائماً بين اليهود باعتبارهم أقلية مستضعفة تنغمس في الخيال كمحاولة للتعويض. وقد سبق ليهود الغرب أن تصوروا أن مارتن لوثر من يهود المارانو إلى أن بدأت حملته عليهم.
وثمة رأي يذهب إلى أن دور اليهود كان في واقع الأمر صغيراً، فكان ضباط تركيا الفتاة من المسلمين ومعظمهم من الأتراك أو البلقان وبعضهم من العرب، كما كان بينهم أرمن ويونانيون وعرب مسيحيون ويهود. ولكن قيل إن دور اليهود قد ظهر واتضح لأنهم كانوا المتحدثين باسم الثورة في الخارج. كما أن اليهود كانوا يتمتعون بالحماية الأجنبية، ولذا لم تكن بيوتهم تخضع للتفتيش، وهو ما جعلها مكاناً ملائماً للضباط لأن يجتمعوا فيه. كما أن المحافل الماسونية كانت أيضاً متمتعة بالحماية الأجنبية، ولذا فإنها كانت إحدى الجيوب التي استخدمها ضباط تركيا الفتاة. وكان من أهم المشتركين في الثورة ألبرت قاراصو وهو يهودي من سالونيكا لعب دوراً بارزاً في الثورة، وكذلك الاقتصادي جويد باشا وزير المالية في حكومات تركيا الفتاة، ولكنه لم يكن يهوديا وإنما كان من الدونمه.
ومهما يكن حجم اشتراك اليهود في الثورة، فإن من الواضح أنهم كانوا مُمثَّلين داخل كل المعسكرات السياسية في الإمبراطورية العثمانية. وقام فريق من الأثرياء بتأييد اليمين أو الإنكشارية، وفريق ثان أيد الوسط أو المؤسسة الحاكمة وكان يضم عامة الشعب والحاخامات، وفريق ثالث من المثقفين اليهود والدونمه كان يؤيد الثورة. واليهود، في هذا، لا يختلفون عن بقية قطاعات الشعب في الإمبراطورية العثمانية. ومع استمرار عملية التحديث في تركيا، أُلغيت أشكال الإدارة الذاتية كافة وظهرت بورجوازية تركية (طبقة مالية تجارية محلية حلَّت محل الطبقات التي كانت تتكون من الأرمن واليونان والشوام واليهود والأوربيين). وهـاجرت أعـداد كبيرة من اليهود إلى المغرب فتناقص عددهم. وتبنَّى من تبقَّى من اليهود لغة وعادات الأتراك. ومعظم يهود تركيا المتبقين من طائفة الدونمه. وقد بلغ عدد يهود تركيا ثمانين ألفاً عام 1947 وتناقص إلى ستين ألفاً عام 1958 وإلى تسعة وثلاثين ألفاً عام 1969 وإلى 19.500 عام 1992. ويعود هذا التناقص إلى عدة عناصر من بينها الهجرة والاندماج وقلة الإنجاب.
العثمانيـــون
The Ottomans
انظر: «الدولة العثمانية».
المســـألة الشـــرقية ورجــــل أوربـــا المريـــض
The Eastern Question and the Sick Man of Europe
«المسألة الشرقية» ترجمة للعبارة الإنجليزية «إيسترن كويستشن Eastern Question» وهي مصطلح غربي إمبريالي يُجسِّد وجهة النظر الغربية تجاه الدولة العثمانية (التي كان يشار إليها أيضاً باعتبارها «رجل أوربا المريض»).
والمصطلح يحدد النطاق الدلالي ومحيط الرؤية بشكل مدهش:
1 ـ فالدولة العثمانية عبارة عن مسألة ومشكلة تستدعي الحل، وهذا هو الإجماع الغربي.
2 ـ والدولة العثمانية رجل مريض، وهو ما يعني أن هناك تركة لابد من تقسيمها وأنه يمكن توظيف هذا الرجل المريض العاجز لصالح من يملك زمام الأمور.
3 ـ يخبئ المصطلح المشروع الإمبريالي الغربي أو ما نسميه «رجل أوربا النهم» الذي كان قد التهم معظم أنحاء العالم بعد أن انفتحت شهيته في أعقاب اندلاع نيران الثورة الصناعية الرأسمالية (والإنتاجية الاستهلاكية).
4 ـ يخبئ المصطلح أيضاً احتمالات الإصلاح من الداخل كما حدث مع محمد علي الذي كان بإمكانه إجراء عملية جراحية لرجل أوربا المريض لشفائه أو لتقسيمه على ورثته الحقيقيين،أي شعوب المنطقة.
5 ـ لا يبين المصطلح أن رجل أوربا النهم قد اكتشف أن مصيره (أو على الأقل امتلاء معدته التي لا قرار لها) يتوقف على مدى ضعف الرجل المريض ونهايته.
ويمكن تقسيم علاقة الرجل المريض بالرجل النهم إلى عدة مراحل، وما يهمنا هو أواخر المرحلة الأولى حينما وصلت القوات العثمانية إلى فيينا عام 1529. ثم وقعت معركة لبانتو (1571) بين الأسطول العثماني والأسطول الإسباني (تسانده الدويلات البابوية والمدن الإيطالية) وتَحطَّم الأسطول العثماني تماماً. وقد شعرت الجماهير في أوربا بمغزى ذلك النصر وأُقيمت الاحتفالات في لندن التي لم تكن طرفاً في الموضوع. وفقدت القوات العثمانية زخمها وقوة اندفاعها للمرة الثانية والأخيرة عام 1683 حينما حاصرت القوات العثمانية فيينا وتم صدها، ويرى البعض أن المسألة الشرقية بدأت منذ هذا التاريخ فبعد هذا التاريخ بدأ التراجع العثماني (والإسلامي)، وبدأ التقدم الغربي ومحاولة الاسـتيلاء على ممتلكات الدولـة العثمانية وتقسـيم العـالم الإسلامي.
وقد أخذ هذا أربعة أشكال:
1 ـ محاولات الإمبراطورية الروسية والنمساوية توسيع نفوذها وسلطانها على حساب الدولة العثمانية.
2 ـ محاولات إنجلترا وألمانيا منع تفكك الإمبراطورية العثمانية حتى تبقى سداً أمام الأطماع الروسية التوسعية.
3 ـ ظهور القوميات المستقلة في شبه جزيرة البلقان وحولها ( العرب ـ اليونان ـ رومانيا ـ بلغاريا).
4 ـ محاولة استغلال الدولة العثمانية والنيل من سياستها عن طريق الامتيازات الأجنبية.
ومن منظور تَطوُّر الصهيونية، ما يهمنا في المسألة الشرقية هو مصير فلسطين. ومن ثم، فإن عام 1841 تاريخ حاسم تم فيه القضاء على محمد علي وفرض السلام الأوربي على الشرق!
مع ظهور محمد علي، طُرحت الإمكانية الحقيقية لإعادة العافية إلى رجل أوربا المريض أو لأن يقوم أصحاب المنطقة بحكمها (ملء الفراغ الناجم عن موت الرجل المريض)، وهو الأمر الذي لم يكن ليقبله رجل أوربا النهم. وقد تبلور المشروع الصهيوني غير اليهودي تماماً، وخرج من دائرة الديباجات الدينية المشيحانية ودخل عالم المشاريع الاستعمارية إذ اكتشف الاستعماريون الإنجليز أن بالإمكان توظيف المسألة الشرقية في حل المسألة اليهودية وتوظيف المسألة اليهودية في حل المسألة الشرقية. فقد اكتشف الإنسان الغربي أن من الممكن نقل المادة البشرية اليهودية (التي كانت تشكل المسألة اليهودية) إلى فلسطين لتصبح عنصراً منتجاً هناك، يشكل دولة وظيفية تابعة لإنجلترا تستوعب الفائض البشري وتساعد الدولة العثمانية على التماسك لتظل حاجزاً أمام الأطماع الروسية، فالحل الصهيوني للمسألة اليهودية هو نفسه الحل الغربي الاستعماري للمسألة الشرقية. وقد دارت المشاريع الصهيونية الغربية (غير اليهودية) في هذا الإطار.
ومن هذا المنظور، يمكن أن نرى أن التراجع المستمر للدولة العثمانية، واضطرارها لتقديم التنازلات القانونية الكثيرة (الامتيازات الأجنبية)، كان يعني اتساع الثغرة التي سمحت للفائض البشري اليهودي بالتسلل. ومن المعروف أن الدولة العثمانية كانت ترحب بهجرة اليهود إليها منذ عملية طردهم من إسبانيا. ومع تَزايُد تَدخُّل الدول الأجنبية، وتَزايُد الأطماع في فلسطين، بدأت الدولة العثمانية تحاول أن تمنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين (مع استمرار فتح الأبواب خارجها). بل فتحت باب الهجرة أمام اليهود إلى فلسطين شريطة أن يتجنسوا بالجنسية العثمانية، أي شريطة أن يتحولوا من عنصر استيطاني (قتالي) غريب إلى عنصر وطني محلي (وكانت هذه هي السياسة الرسمية حتى عام 1914). وكانت الدول الكبرى تتدخل لحمل الدولة العثمانية على السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين وملكية الأراضي فيها، فاضطرت الدولة العثمانية إلى إصدار قرار عام 1867 بمنح الأجانب حق ابتياع الممتلكات في فلسطين، وهو القرار الذي استفادت منه الجمعيات التبشـيرية المسـيحية والجماعات الاسـتيطانية المسيحية مثل فرسان الهيكل، كما استفاد منه المستوطنون الصهاينة في مراحل لاحقة. وحينما حاولت الدولة العثمانية منع اليهود من امتلاك العقارات في فلسطين (عام 1884)، ادَّعت الدول العظمى أن هذا خرق لنظام الامتيازات. وكان قناصل الدول الغربية يستخدمون نفوذهم لتسهيل عملية استيطان اليهود. وحين صدرت قرارات تحرِّم هجرة اليهود (غير العثمانيين) عام 1888 ثم عامي 1891 و1898، عبَّرت الدول الغربية عن استيائها وساعدت المهاجرين على التحايل على هذه القوانين.
ويمكن أيضاً أن نفهم كثيراً من تحركات الدول الغربية وموقفها من المشروع الصهيوني في ضوء علاقتها بالدولة العثمانية وتصورها لحل المشكلة اليهودية. وعلى سبيل المثال، كانت الدولة الألمانية ترى ضرورة دعم الدولة العثمانية في مواجهة الأطماع التوسعية الروسية، ولذا فإن حماس ألمانيا للمشروع الصهيوني كان فاتراً للغاية رغم التوجه الألماني القوي للمشروع الصهيوني، ورغم أن الزعماء الصهاينة الأوائل كانوا من الناحية الثقافية ألماناً (وهو على كلٍّ لا يختلف عن فتورهم تجاه المشروع الصهيوني الألماني غير اليهودي: مشروع فرسان الهيكل). ويمكن فهم سلوك إنجلترا في الإطار نفسه، فرغم تحمُّس إنجلترا للمشروع الصهيوني باعتباره آلية مهمة للتخلص من الفائض اليهودي، إلا أن الإمبراطورية الإنجليزية قدمت شرق أفريقيا للصهاينة في البداية (لا فلسطين) لأن السياسة الإنجليزية الرسمية كانت معارضة لتقسيم الدولة العثمانية. وحينما اتُخذ قرار التقسيم أثناء الحرب، اتخذ أيضاً القرار بتأييد تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين ومن ثم صدر وعد بلفور. وانتهت المسألة الشرقية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية. ولا تزال المسألة الشرقية مرتبطة تماماً في ذهن الإنسان الغربي بالمسألة اليهودية الصهيونية، ولا يزال رجل الغرب النهم يستخدم الدولة الصهيونية الوظيفية لحل مشاكله الشرقية. وقد قامت الدولة الوظيفية في مرحلة تَصاعُد المد القومي العربي بضرب النظم العربية التقدمية. وفي مرحلة النظام العالمي الجديد وتصاعد المد الديني، تطرح الدولة الوظيفية نفسها باعتبارها الآلية التي يمكن عن طريقها حل المسألة الشرقية (الإسلامية) الجديدة!.
يتبع إن شاء الله...