5. خصائص الشورى
أ. الشورى استجابة لله
حينما قرر الإسلام مبدأ الشورى، قضى بذلك على الاستبداد بالحكم والرأي، واحتكار التشريع، والتصريف، والإدارة، وحقق للفرد كرامته الفكرية، وللجماعة حقها الطبيعي في تدبير شؤونها.
والقرآن لا يريد من (الشورى)، حين يضعها بين عبادتي الصلاة والإنفاق في سبيل الله، تلك الصورة الهزيلة، التي ألفتها الأمة في الماضي، وإنما يريدها القرآن حقيقة نقية في واقعها.
فالإسلام رفع الشورى إلى الحد، الذي اعتبرها فيه من دعائم الإيمان، وصفة من الصفات المميزة للمسلمين، فسوى الله بينها وبين الصلاة والإنفاق في قوله: ]وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[ (سورة الشورى: الآية 38).
فجعل للاستجابة لله نتائج، بين أبرزها وأظهرها، وهي: إقامة الصلاة، والشورى، والإنفاق.
ب. الشورى فريضة إسلامية
وعلى ذلك، تكون الشورى فريضة إسلامية، واجبة على الحاكمين والمحكومين.
فعلى الحاكم أن يستشير في أمور الحكم، والسياسة وكل ما يتعلق بمصلحة المسلمين.
وعلى المحكومين أن يشيروا على الحاكم، بما يرونه في هذه المسائل كلها، سواء استشارهم الحاكم أو لم يستشرهم.
وقد تنبه فقهاء الإسلام، إلى هذا كله، فقرروا أن الشورى من أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها، ومن عزائم الأحكام، التي لا بد من نفاذها.
ورتبوا على ذلك، أن من ترك الشورى من الحكام، فعزله واجب من دون خلاف.
ج. الشورى من طبيعة نظام الحكم الإسلامي
إن طبيعة نظام الحكم، الذي يقرره الإسلام لابدّ أن يكون نظاماً شورياً.
فقد أوجب الله تعالى الشورى في القرآن الكريم، كما التزم بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في كافة أموره، وجعلها الخلفاء الراشدون مبدأ لازما من مبادئ الخلافة.
ولم يخل كتاب من الكتب، التي تبحث في أمور الحكم والولاية، مما ألفه علماء المسلمين، في أي عصر بعد ذلك، من التحدث عن الشورى، والتنويه بفضائلها، ومحاولة إقامة الأدلة على وجوب اتباعها، والدعوة لأن تكون هي القاعدة في كل حكم إسلامي.
د. الشورى ملزمة
ذهب فريق من الفقهاء إلى أن الشورى غير ملزمة للحكام، وسندهم في ذلك أنه لا يوجد في القرآن الكريم، ولا في السنة الشريفة، نص يلزم الحاكم بالأخذ بالرأي، الذي يشير به أهل الشورى.
فالآية الكريمة التي أمر الله فيها رسوله عليه الصلاة والسلام بالشورى: ]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[ (سورة آل عمران: الآية 159)، يعقبها قوله تعالى: ]فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[ (سورة آل عمران: الآية 159)، فمن هذه الآية يتبين أن على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يمضى ـ بعد المشورة ـ في تنفيذ الرأي، الذي عزم عليه، لا ذلك الذي أُشير عليه به.
وبعبارة أخرى، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير ملزم بإتباع رأي أهل الشورى، إذا هو لم يقتنع به.
وفي ذلك يقول القرطبي:
(الشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر في أقربها قولا إلى الكتاب والسنة، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما يشاء منه عزم عليه، وأنفذه متوكلاً عليه، ثم نقل بعد هذا عن قتادة أنه قال في تأويل قوله تعالى: ]فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه[ (سورة آل عمران: الآية 159)، أنه قال: أمر الله تعالى نبيه، إذا عزم على أمر أن يمضى فيه، ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم.
ثم يقول القرطبي: (والعزم هو الأمر المَرْوي المنقح، وليس ركوب الرأي دون روية عزماً).
وقال الطبري في: (فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك، فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفه، وتوكل فيما تأتى من أمورك وتَدَعْ، وتحاول أو تزاول، على ربك، فثق به في كل ذلك، وارض بقضائه في جميعه دون آراء سائر خلقه ومعونتهم).
ويضيف أحد القائلين بهذا الرأي إلى ما تقدم، أنه:
إذا رجعنا إلى صدر الإسلام لنستعرض الحالات، التي التجأ فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون إلى الشورى، فإننا نجد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يأخذ برأي أصحابه في حادثة أسرى بدر، وإنما أخذ برأيه الذي كان يشاركه فيه أبو بكر.
كما أن أبا بكر، لم يأخذ برأي الجماعة في مسألتين:
أحدهما: المسألة الشهيرة المعروفة بقتال المرتدين، أو أهل الردة.
وكان ذلك في بداية عهد الخلافة، حيث أعلن أبو بكر عزمه على قتالهم، فقالوا: نصلي ولا نؤدي الزكاة.
فطلب المسلمون من أبى بكر أن يقبل منهم ذلك، وطلبوا من عمر أن يخلو بأبي بكر ليثنيه عن عزمه.
ولكن أبا بكر صمم على قتالهم ونفذ ما صمم عليه، ولم يحتج عليه أحد بأنه خالف الرأي، الذي أشار به المسلمون، بما يقرب من الإجماع.
أمّا المسألة الثانية، التي خالف فيها أبو بكر رأي الجماعة؛ فهي الخاصة بإنفاذ بعث أسامة بن زيد.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أعد الجيش وجعل أسامة على قيادته؛ فلما توفي الرسول -صلى الله عليه وسلم-
أنف الناس من قيادة أسامة للجيش بسبب صغر سنه، وظنوا أن أبا بكر سيعين بدلاً منه قائداً آخر.
وينتهي أصحاب هذا الرأي من ذلك إلى القول، بأن الشورى ليست ملزمة للحكام.
ويرى علماء آخرون، أن ما أورده هؤلاء العلماء من حجج، لا تساعدهم على ذلك، بل المتأمل في تلك الوقائع، التي استشهدوا بها، يرى أنه جرى الالتزام بالشورى، ولم يخرج عنها المستشير في أي منها.
أمّا واقعة أسرى بدر، فإنهم لم يتفقوا على رأي يشيرون به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن الأغلبية، وعلى رأسهم أبو بكر، أشاروا بما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ به.
أمّا واقعة حروب الردة وبعث الشام، فإن تفاصيل الواقعة تدل على أن أبا بكر لم يمض لأمره، حتى حاجّهم، وظهر لهم صواب رأيه، فاجتمعوا عليه، فأمضاه أبو بكر بعد ذلك.
وذهب رأي وسط إلى أن الرجوع إلى سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسيرة الخلفاء الراشدين، يبين أن المشورة، التي قدمها لهم المسلمون، اتبعوها، والتزموا بها بصفة عامة، وأنه في الحالات النادرة، التي لم يتبع فيها الخلفاء هذه المشورة، كان لديهم الأسباب الجدية، التي تبرر ذلك.
فأبو بكر حين أصر على قتال المرتدين، على خلاف رأي أهل الشورى، استند في ذلك إلى حجة شرعية.
وينتهي أصحاب هذا الرأي إلى القول بأن الخليفة ـ كمبدأ ـ ملتزم بإتباع مشورة المسلمين، ما لم يكن لديه سبب جدّي يحمله على خلاف ذلك.
ويعاب على هذا الرأي، أنه لا يبين متى يلتزم الخليفة برأي المسلمين، ومتى لا يلتزم! فقد ترك المسألة، من دون أن يضع لها ضابطاً محدداً وهذا يؤدي إلى أن يُترك الأمر لرئيس الدولة، ليحدد بنفسه ـ ووفق هواه ـ متى يلتزم، ومتى لا يلتزم برأي المسلمين؛ فكأن الالتزام وعدمه متروك له إن شاء التزم، وإن شاء لم يلتزم.
وهكذا، فإن هذا الرأي يمكن أن يؤدي إلى النتيجة نفسها، التي انتهي فيها الرأي السابق، وهي أن الحاكم لا يلتزم برأي المسلمين.
وذهب فريق ثالث إلى أن الشورى ملزمة للحكام.
ويأخذ بعض الباحثين على هذا الفريق، أنهم لا يناقشون تفسيرات كبار المفسرين للآية القرآنية، التي نزلت بأمر الرسول بالشورى، تلك التفسيرات التي تذهب إلى عدم إلزام الشورى.
كما أن هذا الفريق، لا يقدم أسانيد معقولة تؤيد رأيهم.
ولاستدراك ما فات هذا الفريق، قال العلماء:
(1) إن المفسرين، الذين تعرضوا لتفسير آية ]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر[ (سورة آل عمران: الآية 159)، ومنهم الطبري والقرطبي وغيرهما، إن كانوا قد استخلصوا من الآية أن الشورى غير ملزمة، فقد كانوا يقصدون أنها غير ملزمة للرسول -صلى الله عليه وسلم- فقط، باعتباره يوحى إليه، ومؤيد من الله تعالى، وليس ذلك شأن خلفائه والحكام من بعده.
فهي إذن خاصية له، لا يشاركه فيها غيره. ويؤيد هذا النظر عبارة الطبري، في تفسيره لهذه الآية، مع ملاحظة أن الخطاب موجه إلى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: (فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك، وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك، وما أشاروا به عليك أو خالفه ..) الخ.
والذي يلفت النظر عبارة القرطبي (فامض لما أمرناك به)، فإذا كان رأي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الواقعة هو ما أمره الله به، فمن المنطقي، بل من الواجب عليه ألاّ يلتزم ـ وهو ينطق بما أمره الله به ـ برأي غالبية المسلمين، بل ولا بإجماعهم.
إذن فالخطاب في آية ]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[ (سورة آل عمران: الآية 159)، موجه للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإذا كان الفقهاء قد استخلصوا من الشق الثاني، وهو قوله تعالى: ]فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير مقيد بالشورى، فإن ذلك لأنه رسول يوحى إليه، وليس ذلك لأحد من بعده، وعلى هذا فلا يصح قياس خلفائه، ولا غيرهم من الحكام عليه.
ولم يَدْعِ ذلك أحد من الخلفاء الراشدين، ولم يصنعه، بل سيرتهم تدل على خلاف ذلك.
وإضافة إلى ما تقدم، فإن التفسير الذي قال به الطبري والقرطبي، ليس هو التفسير الوحيد لآية ]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[ .
فقد أخرج ابن مردويه عن على كرم الله وجهه قال: سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العزم أي قوله تعالى: ]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (مشاورة أهل الرأي ثم إتباعهم)، فقوله تعالى: ]فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه[، أي: فإذا عزمت بعد المشاورة في الأمر على إمضاء ما ترجحه الشورى، وأعددت له عدته، فتوكل على الله في إمضائه.
ويستدل على ذلك بمناسبة النص، وهو ما كان من استشارة الرسول أصحابه في الخروج يوم أحد، ونزوله على رأي أغلبية المشيرين.
فالعزم هو ثمرة المشاورة.
فالشورى إذا جُرِدَت من ثمرتها، وهو القرار والعزم، كانت عقيماً.
وهذا يدل على أن الحاكم، يتعين عليه أن يلتزم برأي أهل الشورى.
(2) على الرغم من أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، مؤيد بالوحي، إلاّ أنه التزم برأي أصحابه في كل الأمور، التي استشارهم فيها.
ففي غزوة بدر استشار -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فأشاروا بالخروج لملاقاة قريش، فوافق على ذلك.
وفي الغزوة نفسها قبل التحام الجيشين، قَبِل مشورة الحباب بن المنذر بشأن موقع جيش المسلمين.
وفي غزوة أحد نزل -صلى الله عليه وسلم- على رأي المسلمين بالخروج من المدينة للقتال عند جبل أحد، مع أنّ ذلك كان مخالفاً لرأيه، إذ كان يفضل عدم الخروج من المدينة.
فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما يتبين من تلك الأمثلة، قد التزم برأي المسلمين، وهو رسول، أفلا يلتزم بهذا الرأي خلفاؤه من بعده، وسائر حكام المسلمين من باب أولى.
(3) غير صحيح ما ذهب إليه بعضهم، من أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لم يأخذ برأي أصحابه في حادثة أسرى بدر، وأنه إنما أخذ برأيه الذي كان يشاركه فيه أبو بكر.
ذلك أن الثابت تاريخياً أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد موقعة بدر، استشار أصحابه بشأن الأسرى، وقبل الفداء من أسرى بدر، برأي أكثر المؤمنين بعد استشارتهم.
فالواقع أن الذين طلبوا منه، -صلى الله عليه وسلم-، اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الروايات أبو بكر لأنه أول من استشارهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأول من أشار بذلك، كما كان أكبرهم مقاماً، ويؤيد ذلك ما رواه ابن المنذر عن قتادة قال في تفسير آية (ما كان لنبي أن يكون له أسرى): أراد أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر الفداء.
فقد ذكر أن الذي أراد ذلك هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وليس فقط أبو بكر.
(4) أما بالنسبة لما يقرره بعض الباحثين من أن أبا بكر لم يأخذ برأي الجماعة في مسألتين:
(أ) قتال المرتدين ومانعي الزكاة.
(ب) وإنفاذ بعث أسامة بن زيد.
فإنه بالنسبة إلى المسألة الأولى، فإن أبا بكر كان يستند إلى أصل شرعي، فلم تكن المسألة اجتهاداً ليغلب رأي هذا أو ذاك، وإنما كان أصلا شرعيا ذكره أبو بكر، فخضع له الجميع، فلم يستبد أبو بكر برأيه، بل حاججهم حتى تبين الصواب للكل.
وقد عبر أبو بكر عن هذا الأصل الشرعي بقوله: (والله لو منعوني عقال بعير كانوا يعطونه لرسول الله لحاربتهم عليه).
وكذلك الأمر بالنسبة لإنفاذ بعث أسامة بن زيد.
فقد كان رسول الله هو الذي بعثه، وكان وهو على فراش الموت يقول (أنفذوا بعث أسامة)، فرأى أبو بكر أنه لا يحق له، ولا لجماعة المسلمين، ولا للأمة مجتمعة أن تخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو تنقض أمراً قرره.
وهذا المسلك من أبى بكر يجد سنده في قول الله تبارك وتعالى: ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا[ (سورة الأحزاب: الآية 36).
ولهذا سرعان ما رأي أصحاب الشورى صواب رأي أبي بكر، فأمضوه، ولم يستبد أبو بكر دونهم بالأمر.
(5) إن الإسلام، الذي رفع الشورى إلى الحد، الذي اعتبرها فيه من دعائم الإيمان، وصفة من الصفات المميزة للمسلمين، فسوى بينها وبين الصلاة والإنفاق، لا يمكن أن يريد من الشورى فقط (محمدة اختيارية)، يُقصد بها تأليف القلوب، وتطييب النفوس دون التزام بها، كما يذهب إلى ذلك بعض الحكام، وإلاّ كانت شكلاً فارغاً من أي مضمون.