لطائف من خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي (13)
1- ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا... ) التوبة 28
عندما يحرّم سبحانه وتعالى دخول المشركين إلى البيت الحرام، فهو يعلم أن أهل الحرم ساعة يسمعون هذا الحكم سيتذكرون مكاسبهم من التجارة، فيقولوا في أنفسهم: وكيف نعيش ونصرف بضائعنا؟
فيتابع سبحانه: ( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ) التوبة 28
والعيلة: الفقر، فيكشف الحق أمام النفوس خواطرها الدفينة؛ فهو خالقهم والعليم ماذا سيحدث في أذهان سامعيه؛ فلا يكون لأحد بعدها من تعليق!
2- ( حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) التوبة 29
الجزية: هي مقابل منفعة أداها الإسلام لهم؛ إبقاءً على حياتهم وإبقاء على دينهم الذي اختاروه. وقرر الحق أن يعطوا الجزية عَن يَدٍ، واليد هي الجارحة التي تُؤدَّي بها الأعمال، ويشترط في اليد ثلاثة ملاحظ:
الملحظ الأول: أن يكونوا موالين لا نافضين لأيديهم منا ومن حكمنا.
والملحظ الثاني: أن يأتي بها بنفسه لا أن يرسل بها رسولاً من عنده.
والملحظ الثالث: أن لا بد أن يأتي بها وهو ماش وأن يعطيها وهو واقف ومن يأخذ الجزية قاعد، وهذا هو معنى وَهُمْ صَاغِرُونَ ولماذا يعطونها عن صَغار؟
لأن الحق عز وجل أراد للإسلام أن يكون جهة العلو، وقد صنع فيهم الإسلام أكثر من جميل، لذلك فعليهم أن يتعاملوا مع المسلمين بلا كبرياء ولا غطرسة وأن يؤدوا الجزية عن انكسار، حتى إنَّ من يُعطي لا يظن أنه يعطي عن علو، ونقول له: لا، إن اليد الآخذة هنا هي اليد العليا.
3- (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) التوبة 30
هذا الادّعاء فيه مساس بجلال الله تعالى، فالإنسان يتخذ ولداً لعدة أسباب:
إمَّا لأنه يريد أن يبقى ذِكْره في الدنيا بعد أن يرحل، والله سبحانه دائم الوجود.
وإمَّا لكي يعينه ابنه عندما يكبر ويضعف، والله سبحانه وتعالى دائم القوة.
وإما ليرث ماله وما يملك، والله تبارك وتعالى يرث الأرض ومن عليها.
وإما ليكون عزوةً له، والله جل جلاله عزيز دائماً.
وهكذا تنتفي كل الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى هذا الادّعاء.
ولا يعقل أن يرسل الله سبحانه رسولاً ليبين للناس منهج الحق فإذا به يقول للناس: إنَّه ابن الله. إذن فهم الذين حرفوا ولم يؤمنوا بالله الإيمان الكامل.
4- (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) التوبة 35
لماذا خَصَّ الله هذه الأماكن بالعذاب؟
لأن كل جارحة من هذه الجوارح لها مدخل في عدم إنفاق المال في سبيل الله، كيف؟ مثلاً: الوجه هو أداة المواجهة، فإذا رأيت إنساناً فقيراً متجهاً إليك ليطلب صدقة فإن كان أول ما تفعله حتى لا تؤدي حق الله أن تشيح بوجهك عنه، أو تعبس ويظهر على وجهك الغضب، عندها يحس هذا الفقير بالمهانة والذلة؛ فإذا لم تنفع إشاحة الوجه واستمر الفقير في تقدمه من الغني، فإنه يعرض عنه بأن يدير له جنبه ليحس بعدم الرضا، فإذا استمر الفقير واقفاً بجانبه فإنه يعطي له ظهره.
إذن: فالجوارح الثلاث قد تشترك في منع الإنفاق في سبيل الله، وهي الوجه الذي أداره بعيداً، ثم أعطاه جانبه، ثم أعطاه ظهره. لذلك لا بد أن تُعذَّب فَتُكْوى الجباه والجنوب والظهور.
ثم يقول الحق: { هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } أي: هذا ما منعتم فيه حق الله، فإن كنز الإنسان مالاً كثيراً فسيكون عذابه أشد ممن كنز مالاً قليلاً؛ أما إذا كان صاحب المال قد أدى حق الله فيه فلا يُعَدُّ كنزاً.
5- (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ... ) التوبة 36
الشهر: كما هو معلوم هو دورة القمر، ونحن نعرف أن الكون فيه شمس وقمر وفيه نجوم،
والحق تعالى يسمي الشمس سراجاً وهَّاجاً، والسراج فيه حرارة وفيه ضوء.
أما القمر فسماه منيراً؛ لأن أشعة الشمس تنعكس عليه فينير.
وجعل من هذين الكوكبين آلات موازين الزمن، وأساس الزمن هو اليوم والليلة.
وأساس اليوم هو صباح وظهر وعصر ومغرب وعشاء.
فأنت تعرف بداية اليوم بشروق الشمس وبداية الليل بغروبها. إذن فالشمس معيار اليوم ولكنك إن نظرت إليها لا تعرف هل أنت في أول الشهر أو في منتصفه أو في آخره. ولكنك إذا نظرت إلى القمر عرفت، ففي أول الشهر يكون القمر هلالاً، وفي منتصفه يكون بدراً، وفي آخره المحاق. والشهور عند الله اثنا عشر شهراً.
فمهمة الشمس أن تحدد لنا اليوم، ومهمة القمر أن يحدد لنا الشهر.
وهكذا نرى أن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الإنسان، خلق له كوناً مُعَدَّا إعداداً حكيماً لاستقباله.
والإنسان جعله الله خليفة في الأرض وله حركة، وهي الأحداث التي تقع منه أو تقع فيه أو تقع عليه، والأحداث تتطلب زماناً ومكاناً، ولذلك خلق الله لها الزمان والمكان.
وكما أعدَّ الله سبحانه وتعالى للإنسان في كونه مقومات حياته اليومية... أنزل له القيم التي تحفظ له معنويات حياته، وأراد بها الحق سبحانه وتعالى أن تتساند حركة الإنسان في إيجاد النافع لمزيد من الإصلاح في الأرض ويسود السلام والأمن والاطمئنان.
وأراد الحق سبحانه أن يضع للسلام ضماناً، وهو أن توجد قوة وحراس للمنهج من البشر تقف أمام الفساد في الأرض، لذلك شاء الحق أن يكون للحرب وجود في هذا الكون؛ لتتصارع الإرادات، بحيث إذا انحرف إنسان ضربوا على يده حتى يعود إلى الطريق السليم؛ فتبقى الحياة المطمئنة الآمنة. ولكن إن عَمَّ الفساد والظلم، ولم يوجد في المجتمع من يقف ضده تعاندت حركات الحياة وتعب الناس في حياتهم وأرزاقهم.
كما وضع الحق سبحانه في الزمان والمكان حواجز أمام طغيان النفوس؛ عَلَّها تفيق وتعود إلى الحق، فجعل في الزمان أشهراً حُرماً يمتنع فيها القتال، ويسود فيها السلام بأمر منه، وهذا السلام القسري فرصة تجعل هؤلاء المتحاربين يفيقون إلى رشدهم وينهون الخلاف بينهم، كذلك خصَّ الله بعض الأماكن بتحريم القتال فيها، فإذا التقى الناس في هذه الأماكن كانت هناك فرصة لتصفية النفوس وإنهاء الخلاف.
وبهذا يحتفظ كل طرف من الأطراف المتحاربة بكرامته؛ فيسهل الصلح وتسلم الأرواح.
6- ( وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً...) التوبة 36
أي كما أن الباطل يجتمع مع بعضه البعض فاجمعوا أنتم أيها المؤمنون وأصحاب الحق قوتكم لتواجهوا باطل الكفر والشرك.
ويقول الإمام علي كرم الله وجهه: " أعجب كل العجب من تضافر الناس على باطلهم وفشلكم عن حقكم "
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ: إذن: فالله يأمر المؤمنين بأن يجتمعوا على قتال الكافرين، وعندها يكون معهم.
ولقد أوجد سبحانه في الكون سُنَّة، هي أنه إذا ما التقى حق وباطل في المعركة فالباطل ينهزم في وقت قصير لأن الباطل زهوق بطبيعته. وإن رأيت معركة تطول سنوات طويلة فاعرف أنه بين باطل وباطل فيترك سبحانه هذا الصراع لأسبابهم مما يطيل أمد الحرب، ولا تقوم معركة بين حَقَّيْن أبداً؛ لأن الحق في الدنيا كلها واحد فلا يوجد حقان.
7- (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) التوبة 47
التساؤل: هل كانوا سيخرجون معهم أو فيهم؟
هم كانوا سيدخلون في الفُرج بين المؤمنين ليبلبلوا أفكارهم وعندما تسمع كلمة
" فيكُم " اعلم أنها تدل على التغلغل؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالَى في موضع آخر
{ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } طه 71
هل كان فرعون سيصلب السحرة في داخل الجذوع أم على الجذوع؟
معناه: أن عملية الصَّلْب ستتم بقوة بحيث تدخل أجزاء من جسم المصلوب في المصلوب فيه، وتصبح هذه الأجساد وجذوع النخل وكأنها قطعة واحدة، دليل قسوة الصلب وقوته.
وقوله الحق تعالى أيضاً:{ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ }الأنبياء 90
دليل أن عملهم في الخير أولاً ثم يستزيدون في فعل الخير.
{ مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } الخبال: (نقول مثلاً: فلان مخبول) هو مرض عقلي ينشأ معه اختلال موازين الفكر، ، أي: أنهم لو خرجوا معكم للقتال لن يكونوا إلا مصدراً لبلبلة الأفكار، فلا تستطيعون اتخاذ القرار السليم.
{ ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} " أوضع " تعنى: أسرع بدرجة بين الإبطاء والسرعة،
ولو نظرتَ إلى حالة هؤلاء المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للقتال، لرأيتهم وهو يزينون لهم الفساد، ويعملون على أن تصاب عقول المقاتلين بالخبل، ولوجدتَ أن حركتهم
تحتاج إلى البطء في الوسوسة؛ وسرعة في الانتقال من مؤمن لآخر. وهذا أدقُّ وصف ينطبق على ما كان سيحدث.
وأنهم كانوا سيُحْدثون فُرْقة بين صفوف المؤمنين ويُفرِّقونهم، وسيتغلغلون بينهم للإفسَاد؛ لأن الخلال هو الفُرْجة بين الشيئين أو الشخصين، فيدخل واحد منهم بين فريق من المؤمنين فيفسد، وآخر يفسد فريقاً آخر، فينالوا من وحدة المؤمنين وقوتهم.
8- (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ) التوبة 59
كيف يقول الحق: { مَآ آتَاهُمُ } مع أنهم لم يأخذوا شيئاً، بل إنهم قد سخطوا؛ لأنهم لم يأخذوا شيئاً؟ نقول: إن الله يريد أن يلفتهم إلى أن له عطاء في المنح وعطاء في المنع، ولكن الناس لا يلتفتون إلى ذلك.
فلو أنهم رَضُوا بقسمة الله، والرِّضا هو عمل القلب كان عليهم وترجموه بكلام نزوعي هو: { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ } فاحتسبوا أمرهم عند الله، فالله هو الذي يرعى أمورهم.
9- لفتة في سورة يونس
السورة تضم ثلاثاً من الرسالات: رسالة نوح، ورسالة موسى وهارون، ورسالة يونس: وهو الرسول الذي سُمِّيت السورة باسمه.
ولسائل أن يقول: ولماذا جاء بهؤلاء الثلاثة في هذه السورة؟
وأقول: لقد تعبنا كثيراً ومعنا كثير من المفسرين حتى نتلمَّس الحكمة في ذلك، هذه الحكمة فيما تجلى لنا أن الذين ذكرهم الله سبحانه هنا قد أهلكوا إهلاكاً متحداً بنوع واحد في الجميع، فإهلاك قوم نوح كان بالغرق، وكذلك الإهلاك لقوم فرعون كان بالغرق، وكذلك كانت قصة سيدنا يونس لها علاقة بالبحر، فقد ابتلعه الحوت وجرى في البحر.
إذن فمَنْ ذُكِر هنا من الرسل كان له علاقة بالماء، أما بقية الموكب الرسالي فلم تكن لهم علاقة بالماء.
10- (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يونس 25
هذه الدنيا تزهو وتتزخرف ثم تنتهي إلى حطيم؛ لذلك يدعو الله تعالى إلى دار أخرى هي دار السلام تختلف عن دار الدنيا المليئة بالمتاعب، دار خالية من المنغِّصات والأرق لأن الإنسان في الدّنيا قد يأخذ حظاً من الجاه والمال والصحة، لكنه في أرق من أمرين:
الأول خوفه من أن يفوته هذا النعيم، والثاني أن يفوت هو النعيم.
وإذا كنا نعيش في الدّنيا بأسباب الله، حيث تختلف قدرات الناس فيها مع أخذهم بالأسباب، فنحن في الآخرة نعيش بالله سبحانه وتعالى ومع عطاءه دون جهد أو أسباب، فكل ما يخطر على بالك تجده.
لأن دار السلام هي دار الله تعالى، والداعي هو الله السلام.
ولله المثل الأعلى، فأنت إذا دعاك ولي أمرك إلى داره، فهو يُعدّ لدعوتك على قدره هو، وبما يناسب مقامه، فما بالك حين يدعوك خالقك سبحانه وقد اتبعت منهجه.
وهذا السلام ليس من البشر؛ لأن من البشر من يعطيك السلام وهو يُكِنُّ لك غيره، أو قد يعطيك السلام وهو يريده بك لكنه لا يقدر أن يحققه لك، لكن إذا ما جاء السلام من الله تعالى، فهو سلام من رب لا يعجزه شيء، ولا يُعوزه شيء، ولا تلحقه أغيار.