لطائف من خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي (23)
1- ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ) الفتح 1
ولنا أن ننتبه إلى كلمة " الفتح " وننتبه إلى المتعلق بها، أهو فتح عليك، أم فتح لك؟
إن فُتح عليك؛ فافهم أن النعمة جاءت لتطغيك،كقوله سبحانه { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } الأنعام 44
ولكن إن فُتح لك، فهذا تيسير منه سبحانه، فهو القائل: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً).
2- ( وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الحجرات 9
طائفة أي جماعة، لكن هذه الجماعة لها مواصفات خاصة هي التي تجمعها على فكرة واحدة كأنهم يطوفون حولها.
وحينما يقول: (وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقتتلوا) لماذا لم يقل اقتتلتا؟
انظر إلى الدقة البلاغية لأن كل طائفة مكونة من جماعة، ففي ساعة الاقتتال لا تقف الطائفة بسيف واحد وتضرب ضربة واحدة، بل كل فرد من الطائفة له عمل.
وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ { فماذا نفعل؟ } فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا؟ فلم يقل بينهم؟
لأننا عندما نصلح هل نأتي بكل فرد من هذه الطائفة وبكل فرد من الطائفة الأخرى،
بالطبع لا، بل نأخذ من هذه الطائفة ممثل عنها ومن الطائفة الأخرى ممثل عنها ونعقد الصلح بين الطائفتين.
3- ( لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً.. ) الواقعة 65
نقف في هذه الآيات على ملمح من ملامح الإعجاز ودِقَّة الأداء القرآني؛ لأن المتكلم ربٌّ يتحدث عن كل شيء بما يناسبه، ففي الحديث عن الزرع ـ ولأن للإنسان عملاً فيه مثل الحرْث والبذْر والسَّقْي وغيره ـ نراه يؤكد الفعل (باللام فقال لجعلناه) الذي ينقض هذا الزرع، فيقول حتى لا يراودك الغرور بعملك.
أما في الحديث عن الماء ـ وليس للإنسان دخل في تكوينه ـ فلا حاجةَ إلى تأكيد الفعل كسابقه، فيقول تعالى:{ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً.. } الواقعة 70 دون توكيد؛ لأن الإنسان لا يدعي أن له فضلاً في هذا الماء الذي ينهمر من السماء.
4- ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) الصف 2
هناك فرقاً بين القول والفعل؛ القول أداته اللسان، والفعل أداته بقية الجوارح
والقول والفعل كلاهما عمل، وعندما يقول الحق مثلاً ( إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) أي ساء قولهم وفعلهم.
5- ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ) الجمعة 9
فذكر طرفاً واحداً من عملية التجارة وهو البيع، ولم يقل: والشراء، قالوا: لأنه حين يُمنع البيع يُمنع الشراء في الوقت نفسه؛ ولأن الإنسان يحرص على البيع لكن قد يشتري وهو كاره، فشهوة الإنسان متعلقة بالبيع لا بالشراء، لأن الشراء يحتاج منه إلى مال على خلاف البيع الذي يجلب له المال.
إذن: قوله تعالى:{ وَذَرُواْ الْبَيْعَ } إنما ذكر قمة حركة الحياة وخلاصتها، فكل حركات الحياة من تجارة أو زراعة أو صناعة تنتهي إلى مسألة البيع، ثم إذا انتهتْ الصلاة يعيدنا من جديد إلى حركة الحياة.
( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ) الجمعة 10
6- ( إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ...)المنافقون 1
كلام المنافقين هنا قد طابق كلام الله، ولكن لماذا يقول الحق من بعد ذلك:
{ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } المنافقون 1
فقولهم: إنك لرسول الله نسبة صادقة؛ لأنها تطابق الواقع، إنما هل وافقتْ معتقدهم؟
لم توافق معتقدهم؛ أي أن الله يُكذِّب شهادتهم، لأن محمداً رسول الله بالفعل، ولكنهم كاذبون لأنهم لا يعتقدون ذلك، فالشهادة هي ما يوافق اللسان ما في القلب.
7- ( ما أنتَ بنعمةِ ربّكَ بمجنون...) القلم 2
فنفى الحق سبحانه عن رسوله هذه الصفة، وأثبت له مقابلها صفة الخُلق العظيم فقال:
(وإنّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم) القلم 4،هل مقابل الجنون يأتي الخلق العظيم؟؟
نعم لأن المجنون لا خُلقَ له ولا يُحاسَب على تصرفاته، يشتم هذا ويضرب هذا ويبصق في وجه هذا فتصرفاته غير متزنة، بينما صاحب الخلق تصرفاته تكون متزنة وثابتة.
8- عبس وتولّى...
العتاب في سورة عبس هو عتاب من الله لصالح الرسول صلى الله عليه وسلم
مثال: ولد يدرس عتب له، ولد لا يدرس عتب عليه
فالرسول في قصة الأعمى اختار الأصعب وهو هداية الكافر فقال له تعالى:
(وما عليك ألا يزّكى) وفي موضع آخر (...لِمَ تُحَرّم مَا أحَلَّ اللهُ لك...) فالعتاب لصالح الرسول لأنه يختار الأصعب. وتوصيل الرسول للعتاب هو دليل أمانة البلاغ.
9- ( وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) الليل1-4
ما علاقة الليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى؟ بموضوع الذكر والأنثى؟
خلق الله الليل والنهار وهما متكاملان؛ فراحة الليل إنما جُعلت لتصح حركة النهار، فأنت تنام وترتاح لتستأنف نشاطاً جديداً، ولو أن إنساناً استيقظ ليلة ثم جاء صباحاً لما استطاع أن يفعل شيئاً. إذن فما الذي أعان حركة النهار؟ إنه سكون الليل. وهذا أمر متفق عليه بين الناس جميعاً.
وكذلك خلق الله الإنسان بنوعين، الذكورة والأنوثة، وبينهما قدر مشترك يجمعهما كجنس، ثم بينهما اختلاف باختلاف نوعيهما لتتكامل حركة الحياة.
فكما أنّ لكلٌّ من الليل والنهار مهمة، وكذلك الرجل والمرأة، فإياكم أنْ تخلطوا هذه
المهام، وإلا فسدت الحياة وأتعبتكم الأحداث.
فإذا اختلفتم في أن الذكورة والأنوثة يجب أن يتحدا في العمل والحركة والنوع نقول لكم: لا، فخذوا ما اتفقتم عليه (بالليل والنهار) دليلاً على صحة ما اختلفتم فيه.
10- ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) الضحى 1ـ2
لكن، ما الحكمة في أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ أقسم في هذه المسألة بالضحى وبالليل إذا سَجَى؟ وما صلتهما بموضوع غياب الوحي عن رسول الله؟
يريد الله عز وجل أن يرد هؤلاء إلى ظاهرة كونية مُشَاهدة ومُعْتَرف بها عند الجميع، وهي أن الله خلق النهار وجعله مَحلاً للحركة والنشاط والسعي، وخلق الليل وجعله مَحَلاً للراحة والسكون، فيرتاح الإنسان في الليل ليعاود نشاطه في الصباح من جديد.
وهكذا أمر الوحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أجهده الوحي احتاج إلى وقت يرتاح فيه، لا لتنتهي المسألة بلا عودة، بل ليُجدِّد نشاط النبي، ويُشوِّقه للوحي من جديد؛ لذلك بشَّره بقوله:{ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى } الضحى 4
أي: انتظر يا محمد، فسوف يأتيك خير كثير، ستكون عودة الوحي خيراً لك من بدايته؛ لأنه جاءك أولاً فوق طاقتك فأجهدك، أما في الأخرى فسوف تستدعيه أنت بنفسك وتنتظره على شوق إليه، فطاقتك هذه المرة مستعدة لاستقباله، قادرة على تحمُّله دون تعب. فالحق سبحانه يُرجِعهم إلى ظواهر الكون، وإلى الطبيعة التي يعيشون عليها، فأنتم ترتاحون من عَناء النهار بسكون الليل، فلماذا تنكرون على محمد أن يرتاح من عناء الوحي ومشقته؟ وهل راحتكم في سكون الليل تعني دوام الليل وعدم عودة النهار؟
11- ( كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى )العلق 6- 7
أنت أيها الإنسان، اعلم أن الأسباب ستستجيب لك، فإياك أن تظن أن لك قدرةً عليها، أو أن لك جاهاً وعظمة، فتنسى أنك خليفة؛ لذلك يقول سبحانه احذر حين تتم لك الأمور وتطاوعك الأسباب{ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى }العلق 8 فسوف يقابلك من الأحداث ما لا تستطيع أسبابك أنْ تدفعَها، ولن تجد مرجعاً إلا إليَّ.
وكيف يطغى الإنسان وقد أعطاه الله فيضاً من فيض كماله، أعطاه قدرة من قدرته، وعلماً من علمه.
هذه ثلاث قضايا أو نصائح نقدمها لك قبل أنْ تحلَّ بك الأحداث والمصائب: إن استغنيت ستطغى، وأن إلى ربك الرجعى، وإذا مسَّك ضر، ولا حيلةَ لك في دفعه بأسبابك، فليس لك إلا الله تفزع إليه، والإله الذي يُنبِّهنا إلى المخاطر لنتلافاها إله رحيم.