تفسير سورة النمل (27)
بسم الله الرحمن الرحيم
{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ {1} هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {3} إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ {4} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ {5}}
شرح الكلمات:
{ طس }: هذا أحد الحروف المقطّعة، يقرأ: طا. سين.
{ تلك }: أي الآيات المؤلفة من هذه الحروف آيات القرآن.
{ هدى وبشرى }: أي أعلام هداية للصراط المستقيم، وبشارة للمهتدين.
{ زيّنا لهم أعمالهم }: أي حببناها إليهم حسب سنتنا فيمن لا يؤمن بالبعث والجزاء.
{ فهم يعمهون }: في ضلال بعيد وحيرة لا تنتهى.
{ لهم سوء العذاب }: اي في الدنيا بالأسر والقتل.
معنى الآيات:
قوله تعالى { طس } لقد سبق أن ذكرنا أن السلف كانوا يقولون في مثل هذه الحروف المقطعة: الله أعلم بمراده بذلك، وهذه أسلم، وذكرنا أن هناك فائدة قد تقتنص من الاشارة بتلك أو بذلك، وهي أن القرآن المعجز الذي تحدى به مُنَزله عز وجل الإنس والجن قد تألف من مثل هذه الحروف العربية فألفوا أيها العرب مثله سورة فأكثر فإن عجزتم فآمنوا أنه كلام الله ووحيه واعملوا بما فيه ويدعو إليه.
وقوله { تلك آيات الكتاب } أي المؤلفة من مثل هذه الحروف آيات القرآن { وكتاب مبين } اي مبين لكل ما يحتاج إلى بيانه من الحق والشرع في كل شؤون الحياة.
وقوله: { وهدىً وبشرى للمؤمنين } أي هاديٍ إلى الصراط المستقيم الذي يفضي بسالكه إلى السعادة والكمال في الدارين، { وبشرى } أي بشارة عظمى للمؤمنين أي بالله ولقائه والرسول وما جاء به، { الذين يقيمون الصلاة } بأدائها في أوقاتها في بيوت الله تعالى مستوفاة الشروط والأركان والواجبات والسنن والآداب { ويؤتون الزكاة } عند وجوبها عليهم { وهم بالآخرة } أي بالدار الآخرة { هم يوقنون } بوجودها والمصير إليها، وبما فيها من حساب وجزاء.
وقوله تعالى: { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي بالبعث والجزاء { زينا لهم أعمالهم } أي حببناها إليهم حتى يأتوها وهي أعمال شر وفساد، وذلك حسب سنتنا فيمن أنكر البعث واصبح لا يرهب حساباً ولا يخاف عقاباً انغمس في الرذائل والشهوات وأصبح لا يرعوي عن قبيح { فهم } لذلك { يعمهون } في سُلُوكِهم يتخبطون لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً.
وقوله تعالى: { أولئك الذين لهم سوء العذاب } أي في الدنيا بالأسر والقتل، وهم في الآخرة هم الأكثر خساراً من سائر أهل النار أي اشد عذاباً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إعجاز القرآن إذ آياته مؤلفة من مثل طس، وحم وعجز العرب عن تأليف مثله.
2- بيان كَوْن القرآن، هدى وبشرى للمؤمنين الملتزمين بمتطلبات الإِيمان.
3- إِنكار البعث والدار الآخرة يجعل صاحبه شر الخليقة وأسوأ حالاً من الكلاب والخنازير
4- وجوب قتال الملاحدة وأخذهم أسراً وقتلاً حتى يؤمنوا بالله ولقائه لأنهم خطر على أنفسهم وعلى البشرية سواء.
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ {6} إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {7} فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {8} يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {9} وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ {10} إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ {11}}
شرح الكلمات:
{ وإنك لتلقى }: أي تلقنه وتحفظه وتعلمه.
{ من لدن حكيم }: اي من عند حكيم عليم وهو الله جل جلاله.
{ آنست ناراً }: أي أبصرت ناراً من بعد حصل لي بها بعض الأنس.
{ سآتيكم منها بخبر }: أي عن الطريق حيث ضلوا طريقهم إلى مصر في الصحراء.
{ بشهاب قبس }: أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها.
{ لعلكم تصطلون }: أي تستدفئون.
{ أن بورك من في النار }: اي بارك الله جل جلاله من في النار وهو موسى عليه السلام إذ هو في البقعة المباركة التي نادى الله تعالى موسى منها.
{ وسبحان الله رب: أي نزه الرب تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله من العالمين } صفات المحدثين.
{ يا موسى إنه أنا لله }: أي الحال والشأن أنا الله العزيز الحكيم الذي ناداك وباركك.
{ تهتز كأنها جان }: أي تتحرك بسرعة كأنها حية خفيفة السرعة.
{ ولم يعقب }: أي ولم يرجع إليها خوفاً وفزعاً منها.
{ ثم بدل حسناً بعد سوء }: أي تاب فعمل صالحاً بعد الذي حصل منه من السوء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } يخبر تعالى رسوله بأنّه يلَقّنُ القرآن ويحفظه ويعلمه من لدن حكيم في تدبيره عليم بخلقه وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه.
وقوله تعالى { إذ قال موسى } اذكر لمنكري الوحي والمكذبين بنبوتك إذ قال موسى إلى آخر الحديث، هل مثل هذا يكون بغير التلقي من الله تعالى. والجواب: لا إذاً فأنت رسول الله حقاً وصدقاً { إذ قال موسى لأهله } امرأته وأولاده رإني آنست ناراً } أي أبصرتها مستأنساً بها. { سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون } أي تستدفئون إذ كانوا في ليلة شاتية باردة وقد ضلوا طريقهم.
وقوله تعالى { فلما جاءها } أي النار { نودي } أي ناداه ربه تعالى قائلاً: { أن بورك من في النار ومن حولها } أي تقديس من في النار التي هي نور الله جلا جلاله. وهو موسى عليه السلام ومن حولها من ارض القدس والشام، والله أعلم بمراده من كلامه وإنا لنستغفره ونتوب إليه إن لم نوفق لمعرفة مراده من كلامه وخطابه فاغفر اللهم ذنبنا وارحم عجزنا وضعفنا إنك غفور رحيم، وقوله تعالى { وسبحان الله رب العالمين } نزه تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله وقوله { يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم } أي الذي يناديك هو الله ذو الألوهية على خلقه العزيز الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده الحكيم في قضائه وتدبير وتصريف ملكه بعد أن عرفه بنفسه وأذهب عنه روع نفسه، أمره أن يلقي العصا تمريناً له على استعمالها فقال { وألق عصاك } فالقاها فاهتزت كأنا جان أي حية خفيفة السرعة { فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً } اي رجع القهقهرى فزعاً وخوفاً { ولم يعقب } أي لم يرجع إليها خوفاً منها فناداه ربه تعالى { يا موسى لا تخف } من حية ولا من غيرها { إني لا يخاف لدي المرسلون } { إلا من ظلم } اي نفسه باقتراف ذنب من الذنوب فهذا يخاف لكن إن هو تاب بعد الذنب ففعل حسنات بعد السيئات فإنه لا يخاف لأني غفور رحيم فأغفر له وارحمه.
وطمأن تعالى نفس موسى بهذا لأن موسى كان شاعراً بأنه أذنب بقتل القبطي قبل نبوته ورسالته، وإن كان القتل خطأ إلا أنَّه تجب فيه الكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية.
2- مشروعية السفر بالأهل والولد وجواز خطأ الطريق حتى على الأنبياء والأذكياء.
3- قيامة الرجل على النساء والأطفال.
4- تجلي الرب تعالى لموسى في البقعة المباركة ومناجاته وتدريبه على العصا والسلاح الذي يقاوم به فرعون وملأه فيما بعد.
5- الظلم بسبب الخوف والعقوبة إلا من تاب منه وأصلح فإن الله غفور رحيم.
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ {12} فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ {13} وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {14}}
شرح الكلمات:
{ في جيبك }: أي جيب ثوبك.
{ من غير سوء }: أي برص ونحوه بل هو (البياض) شعاع
{ في تسع آيات }: أي ضمن تسع آيات مرسلاً بها إلى فرعون.
{ مبصرة }: مضيئة واضحة مشرقة.
{ وجحدوا بها }: أي لم يقروا ولم يعترفوا بها.
{ واستيقنتها أنفسهم }: أي أيقنوا أنها من عند الله.
{ ظلماً وعلواً }: أي ردوها لأنهم ظالمون مستكبرون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع موسى في حضرة ربه عز وجل بجانب الطور إنه لما أمره بإلقاء العصا فألقاها فاهتزت وفزع موسى لذلك فولى مدبراً ولم يعقب خائفاً فطمأنه ربه تعالى بأنه لا يخاف لديه المرسلون أمره أن يدخل يده في جيبه فقال { وأدخل يدك في جيبك } أي في جيب القميص { تخرج بيضاء من غير سوء } أي من غير برص بل هو بياض إشراق يكاد يذهب بالأبصار في تسع آيات أي ضمن تسع آيات مرسلاً بها إلى فرعون وقومه، وبين تعالى علة ذلك الإرسال فقال: رإنهم كانوا قوماً فاسقين } اي خارجين عن الاعتدال إلى الغلو والإسراف في الشر والفساد وقوله تعالى: رفلما جاءتهم آياتنا } يحملها موسى مبصرة مضيئة واضحة دالة على صدق موسى في دعوته، رفضوها فلم يؤمنوا بها، { وقالوا هذا سحر مبين } ، اي الذي جاء به موسى من الآيات هو سحر بين لا شك فيه قال تعالى { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } اي جحدوا بالآيات وكذبوا وتيقنتها أنفسهم أنها آيات من عند الله دالة على رسالة موسى وصدق دعوته في المطالبة ببني إسرائيل وقوله ظلماً وعلوا أي حملهم على التكذيب والإِنكار مع العلم هو ظلهمهم واستكبارهم فإنهم ظالمون مستكبرون. وقوله تعالى: { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } أي انظر يا رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم كيف كان عاقبة المفسدين وهي إهلاكهم ودمارهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- آية اليد هي إحدى الآيات التسع التي أوتي موسى عليه السلام دليلاً على وجود الآيات التي كان الله تعالى يؤيد بها رسله فمن أنكرها فقد كفر.
2- التنديد بالفسق واستحقاق أهله العذاب في الدارين.
3- الكبر والعلو في الأرض صاحبهما يجحد الحق ولا يقربه وهو يعلم أنه حق.
4- عاقبة الفساد في الأرض بالمعاصي سوء، والعياذ بالله تعالى.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ {15} وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ {16} وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ {17} حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ {18} فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ {19}}
شرح الكلمات:
{ علمنا }: هو علم ما لم يكن لغيرهم كمعرفة لغة الطير إلى جانب علم الشرع كالقضاء ونحوه.
{ وقالا الحمد لله }: أي شكراً له.
{ على كثير من عباده المؤمنين }: أي بالنبوة وتسخير الجن والإنس والشياطين.
{ وورث سليمان داوود }: أي ورث أباه بعد موته في النبوة والملك والعلم دون باقي أولاده.
{ علمنا منطف الطير }: أي فهم أصوات الطير وما تقوله إذا صفرت.
{ وأوتينا من كل شيء }: أوتيه غيرنا من الأنبياء والملوك.
{ وحشر لسليمان }: أي جمع له جنوده من الجن والإِنس والطير في مسير له.
{ فهو يوزعون }: أي يساقون ويرد أولهم إلى آخرهم ليسيروا في نظام.
{ لا يحطمنكم سليمان }: أي لا يكسرنكم ويقتلنكم.
{ وهم لا يشعرون }: أي بكم.
{ أوزعني أن اشكر }: أي الهمني لأن أشكر نعمتك التي أنعمت علي.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص داوود وسليمان عليهما السلام ذكر بعد أن أخبر تعالى أنه يلقن رسوله محمداً ويعلمه من لدنه وهو العليم الحكيم ودلل على ذلك بموجز قصة موسى عليه السلام ثم ذكر دليلاً آخر وهو قصة داوود وسليمان، فقال تعالى { ولقد آتينا } أي أعطينا داوود وسليمان { علماً } أي الوالد علماً خاصاً كمعرفة منطق الطير وصنع الدروع وإلانة الحديد زيادة على علم الشرع والقضاء، وقوله تعالى { وقالا الحمد لله } أي شكرا ربهما بقولهمات { الحمد لله } أي الشكر لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين بما آتاهما من الخصائص والفواضل. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (14) وأما الآية الثانية (15) فقد أخبر تعالى فيها أنّ سليمان ورث أباه داوود وحده دون باقي أولاده وذلك في النبوة والملك، لا في الدرهم والدينار والشاة والبعير، لأن الأنبياء لا يورثون فما يتركونه هو صدقة. كما أخبر أن سليمان قال في الناس { يا أيها الناس علمنا منطق الطير } فما يصفر طير إلا علم ما يقوله في صفيره، وأوتينا من كل شيء أوتيه غيرنا من النبوة والملك والعلم والحكمة { إن هذا لهو الفضل المبين } أي فضل الله تعالى البين الظاهر. وقوله تعالى { وحشر لسليمان جنوده } اي جمع له جنوده { من الجن والإِنس والطير فهم يوزعون] هو إخبار عن مسير كان لسليمان مع جنده { فهم يوزعون } اي جنوده توزع تساق بانتظام. بحيث لا يتقدم بعضها بعضاً فيرد دائماً أولها إلى آخرها محافظة على النظام في السير، وما زالوا سائرين كذلك حتى أتوا على واد النمل بالشام فقالت نملة من النمل { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنده وهم لا يشعرون } قالت هذا رحمة وشفقة على بنات جنسها تعلم البشر الرحمة والشفقة والنصح لبني جنسهم لو كانوا يعلمون، واعتذرت لسليمان وجنده بقولها وهم لا يشعرون بكم وإلا لما داسوكم ومشوا عليكم حتى لا يحطمونكم.
وما إن سمعها سليمان وفهم كلامها حتى تبسم ضاحكاً من قولها { وقال رب } اي يا رب { أوعني } ألهمني } { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحاً ترضاه } أي ويسر لي عملاً صالحاً ترضاه مني، { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } اي في جملتهم في دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الشكر على النعم.
2-وراثة سليمان لداؤود لم تكن في المال لأن الأنبياء لا يورثون وإنما كانت في النبوة والملك.
3- آية تعليم الله تعالى سليمان منطق الطير وتسخير الجن والشياطين له.
4- فضل النمل على كثير من المخلوقات ظهر في نصح لأخواتها وشفقتها عليهن.
5- ذكاء النمل وفطنته مما أضحك سليمان متعجباً منه.
6- وجوب الشكر عند مشاهدة النعمة ورؤية الفضل من الله عز وجل.
7- تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا الحديث لا يتأتى له غلا بالوحي الإِلهي.
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ {20} لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ {21} فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ {22} إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ {23} وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ {24} أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ {25} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {26}}
شرح الكلمات:
{ وتفقد الطير }: أي تعهدها ونظر فيها.
{ مالي لا أرى الهدهد }: أعرض لي ما منعني من رؤيته أم كان من الغائبين؟
{ لأعذبنه عذاباً شديداً }: أي بِنَتْفِ ريشه ورميه في الشمس فلا يمتنع من الهوام.
{ بسلطان مبين }: أي بحجة واضحة على عذرة في غيبته.
{ فمكث غير بعيد }: أي قليلاً من الزمن وجاء سليمان متواضعاً.
{ أحطت بما لم تحط به }: أي اطلعت على ما لم تطلع عليه.
{ وجئتك من سبأ }: سبأ قبيلة من قبائل اليمن.
{ إني وجدت امرأة }: هي بلقيس الملكة.
{ ولها عرش عظيم }: أي سرير كبير.
{ فصدهم عن السبيل }: أي طريق الحق والهدى.
{ ألا يسجدوا لله }: أصلها أن يسجدوا أي فهم لا يهتدون ان يسجدوا لله.
وزيدت فيها " لا " وأدغمت فيها النون فصارت ألاَّ نظيرها لئلا يعلم أهل الكتاب من آخر سورة الحديد.
{ يخرج الخبأ في السموات }: أي المخبوء في السموات من الأمطار والأرض من النباتات والأرض.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصص سليمان عليه السلام قوله تعالى { وتفقد الطير } أي تفقد سليمان جنده من الطير طالباً الهدهد لأمر عنَّ له أي ظهر وهو يتهيأ لرحلة هامة، فلم يجده فقال ما أخبر تعالى به عنه: { مالي لا أرى الهدهد } ألعارضٍ عَرَض لي فلم أره، { أم كان من الغائبين } أي بل كان من الغائبين، { لأعذبنه عذاباً شديداً } بأن ينتف ريشه ويتركه للهوام تاكله فلا يمتنع منها { أو لأذبحنه } بقطع حلقومه، { أو ليأتيني بسلطان مبين } اي بحجة واضحة على سبب غيبته. قوله تعالى الآية (21) { فمكث } أي الهدهد { غير بعيد } اي زمناً قليلاً، وجاء فقال في تواضع رافعاً عنقه مرخياً ذنبه وجناحيه { أحطت بما لم تحط به } أي اطلعت على ما لم تطلع عليه { وجئتك من سبأ بنبأ يقين } وسبأ قبيلة من قبائل اليمن، والنبأ اليقين الخبر الصادق الذي لا شك فيه. وأخذ يبين محتوى الخبر فقال { إني وجدت امرأة } هي بلقيس { تملكهم وأوتِيتْ من كل شيء } من أسباب القوة ومظاهر الملك، { ولها عرش عظيم } أي سرير ملكها الذي تجلس عليه وصفه بالعظمة لأنه مرصع بالجواهر والذهب، وقوله { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله } أخبر أولاً عن أحوالهم الدنيوية وأخبر ثانياً عن أحوالهم الدينية وقوله { وزين لهم الشيطان أعمالهم } أي الباطلة الشركية { فصدهم } بذلك { عن السبيل } أي سبيل الهدى والحق فهم لذلك لا يهتدون لأن يسجدوا لله الذي يخرج الخبء أي المخبوء فهو من إطلاق المصدر وغرادة اسم المفعول في السموات منأمطار والأرض من نباتات، ويعلم سبحانه وتعالى ما يخفون في نفسوهم، وما يعلنون عنه بألسنتهم الله لا إله هو رب العرش العظيم. وصف الرب تعالى بالعرش العظيم ليقابل وصف بلقيس به، وأين عرش مخلوقة وإن كانت ملكة بنت ملك هو شراحيل من عرش الله الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية استعراض الجيوش وتفقد أحوال الرعية.
2- مشروعية التعزير لمن خالف أمر السلطان بلا عذر شرعي.
3- مشروعية اتخاذ طائرات الاستكشاف ودراسة جغرافية العالم.
4- تحقيق قول الرسول صلى الله عليه وسلم قوم ولوا اتمرهم امرأة إذ لم يلبثوا أن غلب عليهم سليمان.
5- بيان أن هناك من كانوا يعبدون الشمس إذ سجودهم لها عبادة.
6- بيان أن الأحق بالعبادة الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
7- مشروعية السجود لمن تلا هذه الآية أو استمع إلى تلاوتها: { الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم }.
{قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {27} اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ {28} قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ {29} إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {30} أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {31}}
شرح الكلمات:
{ سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين }: أي بعد اختبارنا لك.
{ فألقه غليهم }: أي إلى رجال القصر وهم في مجلس الحكم.
{ ثم تول عنهم }: أي تنح جانباً متوارياً مستتراً عنهم.
{ فانظر ماذا يرجعون }: أي ماذا يقوله بعضهم لبعض في شأن الكتاب.
{ يا أيها الملأ }: أي يا أشراف البلاد وأعيانها وأهل الحل والعقد فيها.
{ ألقي إلي كتاب كريم }: أي ألقاه في حجرها الهدهد.
{ ألا تعلوا علي }: أي لا تتكبروا انقياداً للنفس والهوى.
{ وائتوني مسلمين }: أي منقادين خاضعين.
معنى الآيات:
{ قال سننظر } أي قال سليمان للهدهد بعد أن أدلى الهدهد بحجته على غيبته سننظر باختبارنا لك { أصدقت } فيما ادعيت وقلت { أم كنت من الكاذبين } أي من جملتهم.
وبدأ اختباره فكتب كتاباً وختمه وقال له { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم } أي تنح جانباً مختفياً عنهم { فانظر ماذا يرجعون } من القول في شأن الكتاب أي ما يقول بعضهم لبعض في شأنه، وفعلاً ذهب الهدهد بالكتاب ودخل القصر من كوة فيه وألقى الكتاب في حجر الملكة بلقيس فارتاعت له وقرأته ثم قالت { يا ايها الملأ } مخاطبة أشراف قومها { إني القي إلي كتاب كريم } وصفته بالكرم لما حواه من عبارات كريمة، ولأنه مختوم وختم الكتاب كرمه ونصّ الكتاب كالتالي [من عبد الله سليمان بن داوود إلى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا علي وائتوني مسلمين].
ومضمونه ما ذكرته الملكة بقولها: { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وائتوني مسلمين } ومعنى إنه من سليمان أي صادر منه وأنه مكتوب ومرسل بسم الله الرحمن الرحيم أي بإذنه وشرعه الا تعلوا علي أي لا تتكبروا على الحق فإني بسم الله أطلبكم وائتوني مسلمين اي خاضعين منقادين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الاختبار وإجراء التحقيق مع المتهم.
2- مشروعية استخدام السلطان أفراد رعيته لكفاية المستخدم.
3- مشروعية إرسال العيون للتعرف على أحوال العدو وما يدور عنده.
4- مشروعية كتابة بسم الله الرحمن الرحيم في الرسائل والكتب الهامة ذات البال لدلالتها على توحيد الله تعالى وأنه رحمن رحيم، وأنَّ الكاتب يكتب بإذن الله تعالى له بذلك.
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ {32} قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ {33} قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ {34} وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ {35}}
شرح الكلمات:
{ افتوني في أمري }: بينوا لي فيه وجه الصواب، وما هو الواجب اتخاذه إزاءه.
{ ما كنت قاطعة أمراً }: أي قاضيته.
{ حتى تشهدون }: اي تحضروني وتبدوا رأيكم فيه.
{ وأولوا باس شديد }: أي اصحاب قوة هائلة مادية وأصحاب باس شديد في الحروب.
{ إذا دخلوا قرية }: أي مدينة وعاصمة ملك.
{ أفسدوها }: اي خربوها إذا دخلوها عنوة بدون مصالحة.
{ وكذلك يفعلون }: أي وكالذي ذكرت لكم يفعل مرسلو هذا الكتاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم عن حديث قصر الملكة بلقيس وها هي ذي تقول لرجال دولتها ما حكاه تعالى عنها بقوله { قالت يا أيها الملأ افتوني في أمري } أي اشيروا علي بما ترونه صالحاً { ما كنت قاطعة أمراً } أي قاضية باتَّةً فيه { حتى تشهدون } أي تحضروني وتبدوا فيه وجهة نظركم. فأجابها رجالها بما أخبر تعالى به عنهم { قالوا نحو أولوا قوة } عسكرية منسلاح وعتاد وخبرة { وأولوا بأس شديد } عند خوضنا المعارك { والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين } به فأمري ننفّذْ إنا طوع يديك.
فأجابتهم بما حكاه الله تعالى عنها { قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية } اي مدينة عنوة بدون صلح. { أفسدوها } اي خربوا معالمها وبدلوا وغيروا فيها، { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } بضربهم وإهانتهم وخلعهم من مناصبهم. { وكذلك } أصحاب هذا الكتاب { يفعلون } { وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون } اي الذين نرسلهم من قبول الهدية ورفضها وعلى ضوء ذلك نتصرف فإنهم إن قبلوا الهدية المالية فهم اصحاب دنيا، وإن رفضوها فهم أصحاب دين، وعندها نتخذ ما يلزم حيالهم، ولا شك أن هذه الهدية كانت فاخرة وثمينة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ الشورى في الحكم.
2- مشروعية إبداء الراي بصدق ونزاهة ثم ترك الأمر لأهله.
3- مشروعية إعداد العدة وتوفير السلام وتدرب الرجال على حمله واستعماله.
4- دخول العدو المحارب الغالب البلاد عنوة ذو خطورة فلذا يتلافى الأمر بالمصالحة.
5- بيان حسن سياسة الملكة بلقيس وفطنتها وذكائها ولذا ورثت عرش أبيها.
{فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ {36} ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ {37} قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ {39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ {40}}
شرح الكلمات:
{ فلما جاء سليمان }: أي رسول الملكة يحمل الهدية ومعه أتباعه.
{ فما آتاني الله خير مما آتاكم }: أي أعطاني النبوة والملك وذلك خير مما أعطاكم من المال فقط.
{ بهديتكم تفرحون }: لحبكم للدنيا ورغبتكم في زخارفها.
{ إرجع إليهم }: أي بما أتيت به من الهدية.
{ بجنود لا قبل لهم بها }: اي لا طاقة لهم بقتالها.
{ ولنخرجنهم منها }: اي من مدينتهم سبأ المسماة باسم رجل يقال له سبأ.
{ أذلة وهم صاغرون }: أي إن لم يأتوني مسلمين أي منقادين خاضعين.
{ قبل أن يأتوي مسلمين }: فإنَّ لي أخذه قبل مجيئهم مسلمين لا بعده.
{ قال عفريت من الجن }: اي جني قوي إذ القوي الشديد من الجن يقال له عفرين.
{ قبل أن تقوم من مقامك }: أي من مجلس قضائك وهو من الصبح إلى الظهر.
{ وإني عليه لقوي أمين }: أي قوي على حمله أمين على ما فيه من الجواهر وغيرها.
{ وقال الذي عنده علم من الكتاب }: أي سليمان عليه السلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع سليمان ومكله سبأ إنه لما بعثت بهديتها تختبر بها سليمان هل هو رجل دنيا يقبل المال أو رجل دين، لتتصرف على ضوء ما تعرف من اتجاه سليمان عليه السلام، فلما جاء سليمان، جاءه سفير الملكة ومعه رجال يحملون الهدية قال لهم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله: { قال أتمدونني بمال؟ فما آتاني الله خير مما آتاكم } آتاني النبوة والعلم والحكم والملك فهو خير مما آتاكم من المال { بل أنتم بهديتكم تفرحون } وذلك بحبكم الدنيا ورغبتكم في زخارفها.
وقال رسول الملكة إرجع إليهم } اي بما أتيت به من الهدية، وعلمهم أنهم إن لم يأتوا إلي مسلمين { فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها } أي لا قدرة لهم على قتالهم، { ولنخرجنهم منها } اي من مدينتهم سبأ { أذلة وهم صاغرون } اي خاضعون منقادون. ثم قال سليمان عليه السلام لأشراف دولته وأعيان بلاده { يا أيها الملأُ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين } فإني لا آخذه إلا قبل مجيئهم مسلمين لا بعده.
فنطق عفريت من الجن قائلاً بما أخبر تعالى عنه به { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } أي مجلس قضائك والذي ينتهي عادة بنصف النهار، { وإني عليه لقوي أمين } اي قادر على حمله والإِتيان به في هذا الوقت الذي حددت لكم وأمين على ما فيه من جواهر وذهب لا يضيع منه شيء.
وهنا { قال الذي عنده علم من الكتاب } وهو سليمان عليه السلام { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك إليك طرفك } فافتح عينيك وانظر فلا يعود إليك طرفك إلا والعرش بين يديك، وسأل ربه باسمه الأعظم الذي ما دعي به إلا أجاب وإذا العرش بين يديه { فلما رآه مستقرا } بين يديه لهج قائلاً { هذا من فضل ربي } أي علي فلم يكن لي به يد أبداً { ليبلوني } بذلك { أأشكر } نعمته علي { أم أكفرها } { ومن شكر } فلنفسه أي عائد الشكر يعود عليه بحفظ النعمة ونمائها ومن كفر اي النعمة { فإن ربي غني } أي عن شكره وليس مفتقراً إليه، كريم قد يكرم الكافر للنعمة فلا يسلبها كلها منه أو يبقيها له على كفره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أهل الآخرة يفرحون بالدنيا، وأهل الدنيا لا يفرحون بالآخرة.
2- استعمال أسلوب الإِرهاب والتخويف مع القدرة على إنفاذه مع العدو أليق.
3- تقرير أن سليمان كان يستخدم الجن وأنهم يخدمونه في اصعب الأمور.
4- استجابة الله تعالى لسليمان فأحضر له العرش من مسافة شهرين أي من اليمن غلى الشام قبل ارتداد طرف الناظر إذا فتح عينه ينظر.
5- وجوب رد الفضل إلى أهله فسليمان قال { هذا من فضل ربي } والجهال يقولون بثورتنا الخلاقة، وأبطالنا البواسل.
6- وجوب الشكر، وعائدته تعود على الشاكر فقط، ولكرم الله تعالى قد لا يسلب النعمة فور عدم شكرها وذلك لحلمه تعالى وكرمه.
{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ {41} فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ {42} وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ {43} قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {44}}
شرح الكلمات:
{ قال نكروا لها عرشها }: أي غيروا هيأته وشكله حتى لا يعرف إلا بصعوبة.
{ أتهتدي }: أي إلى معرفته.
{ أهكذا عرشك }: شبهوا عليها إذ لو قالوا هذا عرشها لقالت نعم.
{ قالت كأنه هو }: فشبَّهت عليه فقالت كأنه هو.
{ وصدها ما كانت تعبد: أي صرفها عن عبادة الله مع علمها وذكائها ما كانت تعبد من دون الله } من دون الله.
{ ادخلي الصرح }: أي بهو الصرح إذ الصرح القصر العالي وفي بهوه بكرة ماء كبيرة مغطاة بسقف زجاجي يرى وكأنه ماء.
{ فكشفت عن ساقيها }: ظانة أنها تدخل ماء تمشي عليه فرفعت ثيابها.
{ حسبته لجة }: أي من ماء غمر يجري.
{ صرح ممرد من قوارير }: أي مملّس من زجاج.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما دار من أحاديث بين سليمان عليه السلام وبلقيس ملكة سبأ لقد خرجت هي في موكبها الملكي بعد أن احتاطت لعرشها أيّما احتياط.
إلا أن العرش وصل قبلها بدعوة الذي عنده علم من الكتاب، وقبل وصولها أراد سليمان أن يختبر عقلها من حيث الحصافة أو الضعف فأمر رجاله ان يغيروا عرشها بزيادة ونقصان فيه حتى لا يعرف غلا بصعوبة كما قال عليه السلام { ننظر أتهتدي } إلى معرفته { أم تكون من الذين لا يهتدون } لضعف عقولهم.
فلما جاءت { قيل لها أهكذا عرشك } فشبهوا عليها في التغيير وفي التعبير، إذ المفروض أن يقال لها هذا عرشك ومن هنا فطنت لتشبيههم { فقالت: كأنه هو } إذ لو قالت: هو لقالوا كيف يكون هو والمسافة مسيرة شهرين ولو قالت ليس هو لقيل لها كيف تجهلين سريرك فكانت ذات ذكاء ودهاء ومن هنا قال سليمان لما أعجب بذكائها { وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين } فحمد الله وأثنى عليه ضمن العبارة التي قالها.
وقوله { وصدها ما كانت تعبد من دون الله } اتباعاً لقومها إذ كانوا يعبدون الشمس من دون الله. { إنها كانت من قوم كافرين } فهذا سبب عدم إيمانها وتوحيدها وهو ما كان عليه قومها، وجلس سليمان في بهو صرحه وكان البهو تحته بركة ماء عظيمة فيها اسماء كثيرة وللماء موج، وسقف البركة مملس من زجاج، ومع سليمان جنوده من الإِنس والجن يحوطون به ويحفونه من كل جانب وأمرت أن تدخل الصرح لأن سليمان الملك يدعوها { فلما رأته حسبته لجة } ماء { فكشفت عن ساقيها } فقال لها سليمان إنه صرح ممرد } اي مملّس { من قوارير } زجاجية وهنا وقد بهرها الموقف وعرفت أنها كانت ضالة وظالمة نطقت قائلة { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وبهذا أصبحت مسلمة صالحة. ولم يذكر القرآن عنها بعد شيئاً فلنسكت عما سكت عنه القرآن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز اختبار الفراد إذا أريد إسناد أمر لهم لمعرفة قدرتهم العقلية والبدنية.
2- بيان حصافة عقل بلقيس ولذا أسلمت ظهر ذلك في قولها { كأنه هو }.
3- مضار التقليد وما يترتب عليه من التنكر للعقل والمنطق.
4- حرمة كشف المراة ساقيها حتى ولو كانت كافرة فكيف بها إذا كانت مسلمة.
5- فضيلة الإِئتساء بالصالحين كما ائتست بلقيس بسليمان في قولها { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين }.
يتبع إن شاء الله...