إقراء القرآن الكريم شروطه وضوابطه
للدكتور. محمد فوزان العمر 1
ملخص البحث:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فيتألَّف البحث الموسوم بـ «إقراء القرآن الكريم: شروطه وضوابطه» من مقدمة، وتمهيد، وفصلين، وخاتمة، وفهرس للمصادر والمراجع، وفهرس للموضوعات.
ففي المقدمة تحدَّث الباحث عن أسباب اختيار الموضوع، ومنهج البحث وخطته، وفي التمهيد أشار إلى المقصود بشروط إقراء القرآن الكريم وضوابطه، وتعريف المقرئ وشروطه، وفي الفصل الأول تحدث عن شروط إقراء القرآن الكريم وهي سبعة إجمالاً: الإخلاص لله تعالى، والتلقي والمشافهة من أفواه المشايخ الـمُتْقنين، والفقه بالدين، ومعرفة المقرئ باللغة العربية، ورسم المصحف وضبطه، والوقف والابتداء والعد، وحفظ المقرئ لكتابٍ شامل لما يُقرئ به أصولاً وفرشاً، وفي الفصل الثاني كان الحديث عن ضوابط إقراء القرآن الكريم، وهي أربعة إجمالاً: عدد الآيات المعتبرة حال الإقراء، والتدرج في التلقي، والأحق بالتقدم في القراءة، والحذر من إقراء أكثر من شخص في وقت واحد، وفي الخاتمة أشار الباحث إلى أهم النتائج والتوصيات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المقدمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستهديهِ، ونعوذُ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مُضلَّ لهُ، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (سورة آل عمران، الآية: 102).
"{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (سـورة النساء، الآية: 1).
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" (الأحزاب: 70، 71).
أما بعد:
فإن إقراءَ القرآن الكريم وتعليمه للمسلمين فضل لا يُعادلُه فضل، وخير لا يوازيه خير، كيف لا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيرُكم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمه)2.
وتعليمُ القرآن الكريم وإقراؤه له شروطُه وضوابطُه ذكرها أهلُ العلم في كتبهم مبثوثةً ومنثورةً تحتاجُ إلى جَمع وترتيب فضلاً عن استنباط بعضها، من خلال تضمينها لكتبهم المختصة في هذا الفنِّ.
أسباب اختيار الموضوع:
ترجعُ أسباب اختياري لهذا الموضوع إلى عدة أُمور من أهمها:
1- طُرفةُ هذا الموضوع وحيويته، فلم يسبق –حسب علمي– طَرْقُه من قبلُ في بحث أو كتاب منشور.
2- حاجة المُتصدِّر للإقراء لتلك الشروط والضوابط ممَّا يُسهم –بإذن الله تعالى– في رفع مستواه؛ إذ ليس كل من تصدَّر للإقراءِ مُقْرِئاً.
كما قال أبو مزاحم الخاقاني:3.
فما كُلُّ من يتلو الكتاب يُقيمُهُ
وما كلُّ مَن فِي الناس يُقرئُهُم مُقرِي4.
3- وقوف المقرئ على تلك الشروط والضوابط ممَّا يُسهم –بإذن الله تعالى– في رفع مستوى تعليم القرآن الكريم وإقرائه في المساجد والكليات والمعاهد وغيرها من دُور العلم.
4- وَضْع لبنةٍ في صرح إقراء القرآن الكريم وتعليمه تكونُ بدايةً لكمال ذلك الصرح واستوائه.
منهج البحث:
1- خرَّجتُ الأحاديث النبوية من مصادرها الأصيلة.
2- رجعتُ إلى بعض كتب أصول الإقراء والقراءات القرآنية والتجويد وتراجم القُرَّاء.
3- عرَّفتُ بالأعلام عدا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- رجعتُ إلى بعض كتب المعاجم اللُّغوية عنـد ذكر تعريف أو بيان لفظة غريبة.
5- ذكرتُ ما وقفتُ عليه من شروط وضوابط الإقراء التي يحتاجُ إليها كُل مُتصدِّر له.
6- ذكرتُ في الخاتمة أهم نتائج البحث والتوصيات.
خُطَّةُ البحث:
تتكون خطةُ البحث من مقدمةٍ وتمهيد وفصلين وخاتمة.
وهي كما يلي:
الفصل الأول: شروط إقراء القرآن الكريم، وهي:
الشرط الأول: الإخلاص لله تعالى.
الشرط الثاني: التلقي والمشافهة من أفواه المشايخ المُتقنين.
الشرط الثالث: الفقهُ في الدِّين.
الشرط الرابع: معرفة المقرئ اللُّغةَ العربية.
الشرط الخامس: معرفة المقرئ رسمَ المصحف وضبطه.
الشرط السادس: معرفة المقرئ علمَ الوقف والابتداء والعدِّ.
الشرط السابع: حفظُ المقرئ كتاباً شاملاً لما يقرئُ به من القراءات أصولاً وفرشاً.
الفصل الثانـي: ضوابط إقراء القرآن الكريم، وهي:
الضابط الأول: عددُ الآيات المعتـبرة حال الإقـراء، يتناسب مع قدرة الطالب وإتقانه قوةً وضعفاً.
الضابط الثاني: التدرُّج في التلقِّي سبيل الترقي في الأداء.
الضابط الثالث: الأحق بالتقدم في القراءة عائد إلى تقدير الشيخ وحكمته.
الضابط الرابع: الحذر من إقراء المقرئ لعدة أشخاصٍ في وقتٍ واحد.
الخاتمة: وفيها أبرز النتائج والتوصيات.
الفهارس: فهرس المصادر والمراجع ، والموضوعات.
التمهيد:
المقصود بشروط إقراء القرآن الكريم: هي الأمور التي يلزم المقرئ الإتيان والاتصاف بها.
والمقصود بضوابط إقراء القرآن الكريم: هي الأمور التي يلزم القارئ والمقرئ الإتيان بها حال العرض والسماع.
يُعرَّفُ المُقرئ: بأنهُ من عَلِم القراءات أداءً، ورواها مُشافهةً. 5).
وشرطُ المقرئ:
أن يكون عاقلاً مُسلماً مُكلَّفاً ثقةً مأموناً ضابطاً، خالياً من أسباب الفسق ومُسقطات المروءة. 6.
وبيان هذه الشروط:
أولاً: إنَّ إقراءَ المجنون والكافر لا يُقبل، ولا يَصِحُّ منهما. 7.
ثانياً: إنَّ إقراءَ الصبي للقرآن الكريم يُشترط لهُ إتقان وضبط الجُزء أو السُّور أو الآيات المقروءة.
وَيتأكد ذلك إذا كان إقراؤُهُ برواية وسند، لما جاء في ترجمة أبي اليُمن الكِندي8 .، أنه تلقن القرآن على سِبْط الخيَّاط9 . وله نحو من سبعِ سنين، وقرأ القراءاتِ العشر وهو ابنُ عشر سنين.
ثالثاً: أن يكون ثقةً في الحرف الذي يُؤدي والرواية التي يُقرئُ بها. 10.
رابعاً: أن يكون أميناً فلا يُقرئُ إلا بما قرأَ أو سمِع، ولا يُقدِّم رأيه، أو وجه إعراب أو لغة على رواية. 11.
خامساً: أن يكون ضابطاً: أي حافظاً لكتاب شاملٍ لما يُقرئ به من القراءات أُصولاً وفرشاً.
يقول ابنُ الجزري 12. في «منجد المُقرئين»:
«ويلزمُهُ (أي المقرئ) أيضاً أن يحفظ كتاباً مشتملاً على ما يُقرئُ به من القراءات أُصولاً وفرشاً، وإلا داخلَهُ الوهْم والغلطُ في كثير، وإنْ أقرأَ بكتابٍ وهو غير حافظ له، فلا بُدَّ أن يكون ذاكراً كيفية تلاوته به حال تلقِّيه من شيخه، مُستصحباً ذلك، فإن شكَّ في شيء، فلا يستنكف أن يسألَ رفيقَه، أو غيره مِمَّن قرأ بذلك الكتاب، حتى يتحقَّق بطريق القطع أو غلبة الظن.13.
ويدخلُ في ضبـط المُقرئ أيضاً معرفتُهُ وتحصيلُه للعلـوم الشرعية والعربية14.
سادساً: أن يكون خالياً من أسباب الفسق ومُسقطات المُروءة.
وأسباب الفسق هي ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر. 15.
وقد أشار إلى جملة من تلك الشروط أبو عمرو الداني 16). في الأرجوزة المنبهة بقوله:
وقيّد الجميعَ بالمعــاني
وبَذَلَ المجهـود في البيـانِ
عن كل أصلٍ ظاهرٍ جلِي
وكلِّ فرعٍ غـامضٍ خفـي
من غير إطنابٍ ولا إكثارِ
ولا تكلُّـفٍ ولا تَكــرارِ
على الذي رواهُ عن أيمَّته
من مُدُنِ المشرقِ وقتَ رحلتهِ
من مُقرئٍ منتصـبٍ إمامِ
وعـالمٍ بالنحـو ذي تـمامِ
وماهرٍ في العلم بالتأويـلِ
وقدوةٍ في مُحكم التنـزيلِ
وفي العُقُودِ وأصولِ الدينِ
والفقهِ والحديثِ ذي تمكيـنِ
وباصرٍ بالنقـلِ والرواية
مُشـهَّر بالفهـم والدرايـة
وضابطٍ للأحرفِ المشهورةِ
وحافظٍ للطـرق المنشـورة
وصادقِ اللهجةِ غيرِ مُتَّهمْ
لسُنن الماضينَ قبلُ ملتـزِمْ 17.
ويقول مكي بنُ أبي طالب القيسي 18:
«يجبُ على طالب القرآن أن يتخيَّر لقراءته ونقله وضبطه أهل الدِّيانة والصيانة والفهم في علوم القرآن والنفاذ في علم العربية والتجديد بحكاية ألفاظ القرآن وصحة النقل عن الأئمة المشهورين بالعلم، فإذا اجتمع للمقرئ صحةُ الدِّين، والسَّلامةُ في النقل، والفهمُ في علوم القرآن، والنفاذ في علوم العربية والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن، كَمُلت حالُه ووجبت إمامتُه 19.
الفصل الأول:
شروط إقراء القرآن الكريم
تقدمت الإشارة إلى المقصود بشروط الإقراء.
وهذه الشروطُ يلزم المقرئ الإتيان والاتصاف بها حتى يصح إقراؤه والأخذ عنه، وقد جعلتُ هذه الشروط على سبعة مباحث، وهي:
الشرط الأول: الإخلاص لله تعالى:
الإخلاصُ لله تعالى، هو أوَّلُ وأهمُّ شرط في الإقراء، وفي غيرها من الأعمال، إذ إن إقراءَ القرآن الكريم وتعليمَهُ عبادةٌ لله تعالى يُشترط لها إخلاصُ النيَّة له سبحانه، يقولُ سبحانه وتعالى: "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ" (سورة الزمر، الآية: 3).
ويقول تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" (سورة البينة، الآية: 5).
ويقول تعالى: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" (سورة المائدة، الآية: 27).
يقولُ مكِّيُّ بن أبي طالب القيسي:
«ولا يَنتفعُ بشيء مما ذكرنا حتى يُخلص النيَّة فيه لله – جلَّ ذِكرهُ – عند طلبه أو بعد طلبه، فقد يبتدئ الطالبُ للعلم يُريد به المباهاة عند طلبه، والشرفَ في الدنيا، أو لا يعتقدُ به شيئاً من ذلك، فلا يزالُ به فهمُ العلم حتى يتبيَّن له أنهُ على خطأ في اعتقاده فيثوبُ من ذلك، ويخلصُ النيَّة لله تعالى، فينتفعُ بذلك ويحسُنُ حالُه، فقد قال بعضُ العلماء: «لقد طلبنا العلم لغير الله فما زال العلمُ بنا حتى ردَّنا إلى الله تعالى»، أو كلاماً هذا معناه» 20.
الشرط الثاني: التلقِّي والمشافهة من أفواه المشايخ المتقنين:
التلقي والمشافهة من أفواه المشايخ المتقنين هو السبيلُ الأمثل والأوحد لإتقان قراءة كتاب الله تعالى.
بل إن التلقي والمشافهة هو الشرط الأهم لتصدُّر المقرئ وإقرائه غيرَه.
يقول مكيُّ بنُ أبي طالب في كتابه «الرعاية»:
«والمقرئُ إلى جميع ما ذكرناه في كتابنا هذا أحوجُ من القارئ؛ لأنهُ إذا علِمه علَّمه، وإذا لم يعلمه لم يُعَلِّمْه، فيستوي في الجهل بالصواب في ذلك القارئ والمقرئُ، وَيضِلُّ القارئُ بضلال المقرئ، فلا فضل لأحدهما على الآخر.
فمعرفةُ ما ذكرنا لا يسعُ من انتصب للإقراء جهلُه، وبه تكمُل حالُه، وتزيد فائدةُ القارئ الطالب، ويلحق بالمقرئ، وليس قولُ المقرئ والقارئ: «أنا أقرأ بطبعي، وأجدُ الصواب بعادتي في القراءة لهذه الحروف من غير أن أعرف شيئاً مما ذكرتَه» بحجة، بل ذلك نقص ظاهر فيهما؛ لأن من كانت هذه حُجَّته يُصيب ولا يدري، ويُخطئ ولا يدري، إذ علمُهُ واعتمادهُ على طبعه، وعادة لسانهِ يمضي معه أينما مضى به من اللفظ، ويذهب معه أينما ذهب، ولا يبني على أصل ولا قرأ على علم، ولا يُقرئُ عن فهم، فما أقرَبه من أن يذهب عنه طبعُه، أو تتغيَّر عليه عادتهُ، وتستحيل عليه طريقته، إذ هو بمنـزلة من يمشي في ظلامٍ في طريق مُشتَبه، فالخطأُ والزَّللُ منهُ قريب، والآخر بمنـزلة من يمشي على طريق واضح معهُ ضياءٌ؛ لأنهُ يبني على أصلٍ وينقُل عن فهمٍ، ويلفظ عن فرعٍ مستقيم، وعلةٍ واضحة، فالخطأ منهُ بعيد، فلا يرضينَّ امرؤ لنفسه في كتاب الله – جلَّ ذِكرُه – وتجويد ألفاظه، إلا بأعلى الأُمور وأسلمها من الخطأِ والزَّلل، والله المُوفِّق للصواب» 21.
ويقول أبو عمرو الداني:
«وكذلك أيضاً كل مقرئ متصدر، إذا اعتمد فيما يقرئُ به على ما يحفظهُ من الصُّحُف المبتاعة في الأسواق من غير أن يرويها، ولا يدري حقائق ما فيها من جليِّ العلم وخفيِّه، ولم يجالسِ العلماء، ولا ذاكرَ الفقهاء، ولا أكثرَ العَرْض على القراء، والمُتصدِّرين من أهل الأداء، ولا سأل عمَّا يجبُ السؤالُ عنه، مما يدقُّ ويعزُب من الأُصول والفُروع، مما لا بُدَّ لمن تَعرَّض للتصدُّر ورواية الحرف من السؤال عنه، والكشفِ عن حقيقته، ولم يكن معه من الإعراب مما يُقيم به لسانه، ويعرفُ به خطَأه من صوابه، فليس بمقرئ في الحقيقة، وإن كان لقبُ الإقراء جارياً عليه، واسم التصدُّر موسوماً به، لغلبةِ الجهل على العامة، وأكثر الخاصة، وهو عن ذلك بمعزلٍ عند من يُقتدى بعلمهِ، ويُعتمدُ على قوله، وإن أطراه أهلُ الغباوة، ورفع منـزلته الأصاغرُ من الطلبة، فليتقِ الله من كانت هذه صفتَه، ولا يتعرض لما ليس له بأهل ولا موضع، حتى يقفَ على يقين من اللازم له، والواجبِ عليه، فيأخذَ نفسَه باستعماله، ويُجهدَها في وعايته، فإن أهمل ذلك وأضرَب عنه، وقَنِع بجهله، واكتفى بدرايته، وبأن يقال فلانٌ مقرئُ بلده، وقارئُ أهل مِصرهِ، دون ما قدَّمناه وألزمناه إياه، فقد نبَذ العلم وراء ظهرِه، وخالف ما ورد عنه من أمره قراء القرآن بتلاوته على ما عُلِّموه، والتمسُّك في ذلك بما أُقرئوه دون غيره، لقوله: (اقرؤوا كما عُلِّمتم) 22، وصار من جملة المُصْحَفيِّين 23 الذين وردت الأخبارُ عنهم بألاَّ يُقرأَ عليهم القرآن، ولا يُؤخذ عنهمُ العلمُ» 24.
وقال أيضاً:
«عرضُ القرآن على أهل القرآن المشهورين بالإمامة، المُخْتصين بالدراية، سُنَّةٌ من السُّنن التي لا يسعُ أحداً تركُها رغبةً عنها، ولا بُدَّ لمن أراد الإقراء والتصدُّر منها» 25 في «لطائف الإشارات» في بيان أهمية الأخذ عن الشيخ والأستاذ: «ولا مرية أنه كما يُتعبَّد بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده، يُتعبَّد بتصحيح ألفاظه، وإقامة حروفه على الصفة المُتلقَّاة عن أئمة القُرَّاء، ومشايخ الإقراء، المتصلة بالحضرة النبوية، الأفصحية العربية، التي لا يجوز مخالفتها، ولا العدولُ عنها، فمن أَنِفَ عن الأخذ عن أستاذٍ يُوقفُه على حقيقة ذلك مع تماديه على تحريف ألفاظ القرآن فهو عاصٍ بلا شـكٍّ، وآثمٌ بلا ريب؛ إذ صيانة جميع حروف القرآن عن التبديل والتحريف واجبة» 26.
قلت:
يُؤخذ من النصوص السابقة أهمية التلقي والمشافهة والعَرض والسَّماع على المقرئين المُتقنين الضابطين، وأنَّ من أقرأَ بدون علمٍ ولا فهم صحيح عرضةٌ بلا شكٍّ إلى التصحيف والتغيير والتبديل، لأن من كانت هذه حاله كان قارئاً للقرآن وليس مقرئاً، ولربما كان حافظاً للقرآن كما هو الحال عند بعض العامَّة، لكنه ليس مُتقناً للتجويد، ولا عارفاً بالأسانيد.
يقول الإمام الذهبـي 27 في ترجمة حسن بن عبد الله الراشدي 28:
«وقال الإمام أبو حيَّان: كان الشيخُ حسن حافظاً للقرآن، ذاكراً للقصيد، يشرحُه لمن يقرأ عليه، ولم يكن عارفاً بالأسانيد ولا المُتقن للتجويد، لأنه لم يقرأ على مُتقن» 29 .30.
وقلتُ أيضاً:
ويدخل في هذا الشرط أعني شرط التلقي والمشافهة عدم إقراء المقرئ إلا بما أُقرئ به فقط، ممَّن توفَّرت فيه شروط الإقراء، أو سمع بقراءة غيره على شيخ وهو مُصغ له، قادرٌ على تأدية ما سمعه.
يقولُ الصفاقسِيّ 31 في «غيث النَّفع»:
«ولا يجوز لهُ أن يُقرئ إلا بما سمعَ مِمَّن توفَّرت فيه هذه الشروط أو قرأه عليه وهُو مصغٍ لهُ أو سمعه بقراءة غيره عليه 32».
ويقول الجَعْبريُّ 33:
«واعلمْ أنهُ لا يجوزُ له أن يقرأ إلا بما أُجيز له قراءته لقول عليٍّ: إن رسول الله يأمركم أن تقرؤوا كما عُلِّمتم» 34.
وتجدر الإشارة إلى أن التلقي والمشافهة من أفواه المشايخ لا تُعفي الطالب من معرفة مسائل علم التجويد وتحصيله.
يقول المَرْعشيّ 35 في «جهد المُقل»:
«تجويد القرآن قد يُحصِّلُه الطالبُ بمشافهة الشيخ المُجوِّد دون معرفة مسائل هذا العلم، بل المشافهةُ هي العمدةُ في تحصيله، لكَنْ بذلك العلم يسهُلُ الأخذُ بالمشافهة، ويزيد به المهارةُ ويُصانُ به المأخوذُ عن طَريان الشكِّ والتحريف كما صرَّح به في الرعاية» 36.
الشرط الثالث: الفقه في الدِّين:
يشملُ هذا الشرط جميع أنواع الفقه في الدين من العلم بأصول الدين أي: التوحيد والتفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله وغيرها.
يقول مكيُّ بن أبي طالب القيسي:
«ينبغي لطالب القرآن أن يتعلَّم أحكام القرآن، فيفهم عن الله ما فُرض عليه ويلقن عنه ما خاطبَه به، فينتفع بما يقرأ ويعمل بما يتلو، وأن يتعلَّم الناسخ والمنسوخ، فيعلم ما فُرض عليه وما لم يُفرض عليه، وما سقط العملُ به مما العمل به واجب، وأن يتعلَّم الفرائضَ والأحكامَ؛ فما أقبح حامل القرآن أن يتلوَ فرائضَه وأحكامَه عن ظهر قلب وهو لا يعلم ما يتلو، فكيف يعملُ بما لا يفهمُ معناه، وما أقبح به أن يسأل عن فقه ما يتلو فلا يدريه، فما مَنْ هذه حالتُه إلا كمثل الحمار يحملُ أسفاراً، وينبغي لطالب القرآن أن يعرف المكيَّ من المدنيِّ، فيفهم بذلك ما خاطب الله به عباده في أول الإسلام وما ندبَهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض عليهم في أول الإسلام وما زاد عليهم من الفرائض في آخره، ويقوى بذلك على معرفة الناسخ والمنسوخ، لأن المدنيَّ هو الناسخ للمكيِّ في أكثر القرآن ولا يُمكن أن يَنسخ المكيُّ المدنيَّ؛ لأن المنسوخ هو المتقدم في النـزول قبل الناسخ له» 37.
قلتُ:
كلام مكيٍّ هذا في محلِّه، ويسعى كل مقرئ إلى تحقيقه، ولكنَّ الإحاطة بجميع العلوم أمر قد لا يتحقق لكل أحد، ولكن يكفي المقرئ معرفة أهم أمور دينه، ولا يلزمُه الإحاطة بها كلِّها.
يقول ابنُ الجزري في «منجد المقرئين»:
«وليس الشرطُ أن تجتمع فيه جميع العلوم؛ إذ الشريعةُ واسعةٌ والعُمرُ قصير، وفنون العلم كثيرةٌ، ودواعيه قليلة، والعوائق معلومة تشغل كُلَّ فريق بما يعنيه» 38.
الشرط الرابع: معرفةُ المُقْرئ اللُّغةَ العربيةَ:
معرفةُ المقرئ للُّغة العربية أعني علم النحو والصرف أو مبادئ اللُّغة العربية ولا يلزم منه الإحاطة بجميع أوجه اللغة وعلومها وفنونها.
ومعرفةُ المقرئ لِلغةِ العربيةِ يُعينُه على فهم كتاب الله تعالى وتدبُّره، وإبصار المعاني، وتوجيه القراءات القرآنية، والوقف والابتداء وغيرها من العلوم المترتبة على هذا الفن.
يقول الصفاقسيُّ في «غيث النفع»:
«وأهم شيء عليه بعد ذلك (أي: بعد تعلُّمه لأمور عقيدته والفقه في دينه)، أن يتعلَّم من النحو والصَّرف جملةً كافيةً يستعينُ بها على توجيه القراءات ويتعلَّم من التفسير والغريب ما يستعينُ به على فهم القرآن، ولا تكون همَّتُه دنيئةً فيقتصرُ على سماع لفظ القرآن دون فهم معانيه، وهذا أعني علم العربية أحد العلوم السَّبعة التي هي وسائل لعلم القراءات» 39.
ثم إن المُتصدِّرين للإقراء العارفين للُّغة أقسام:
فمنهم العالم المُعْرِبُ لوجوه الإعراب والقراءات، ومنهم المُعرِبُ للقراءة غير اللاحن فيها، ومنهم المُؤدِّي لما سمع ممن أخذ عنه ليس عنده إلا الأداء لما تعلَّم، ومنهم المُعربُ قراءته، المُبصر بالمعاني، العارف باللغات لكن لا علم له بالقراءات واختلافها والآثار التي فيها، هؤلاء هم الأقسام الأربعة الذين قَسَّمهم ابنُ مجاهد 40 في كتابه «السبعة» بقوله: «فمِنْ حملة القرآن المُعربُ العالمُ بوجوه الإعراب والقراءات، العارفُ باللُّغات ومعاني الكلمات، البصيرُ بعيب القراءات، المنتقدُ للآثار، فذلك الإمام الذي يفزعُ إليه حفَّاظُ القرآن في كل مِصرٍ من أمصار المسلمين.
ومنهم من يُعْرِبُ ولا يلحنُ ولا علم له بغير ذلك، فذلك كالأعرابيِّ الذي يقرأُ بلغته ولا يقدرُ على تحويل لسانه فهو مطبوع على كلامه.
ومنهم من يُؤدِّي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلا الأداءُ لما تعلَّم، لا يعرف الإعراب ولا غيره، فذلك الحافظُ، فلا يلبث أن ينسى إذا طال عهدُه، فيُضيِّع الإعرابَ لشدة تشابهه وكثرةِ فتحه وضمِّه وكسرهِ في الآية الواحدة، لأنه لا يعتمد على علمٍ بالعربية ولا بصرٍ بالمعاني يرجعُ إليه، وإنما اعتمادُه على حفظه وسماعه.
وقد ينسى الحافظُ فيضيع السَّماعُ، وتشتبه عليه الحروف، فيقرأ بلحنٍ لا يعرفُهُ، وتدعوه الشُّبهةُ إلى أن يرويه عن غيره ويُبرِّئَ نفسه، وعسى أن يكون عند الناس مُصدَّقاً فيُحمل ذلك عنهُ، وقد نسيَه ووهم فيه، وجَسرَ على لزومه والإصرار عليه، أو يكون قد قرأ على من نسِي، وضيَّع الإعراب إلى أن يقرأَ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين، فيكون بذلك مبتدعاً، وقد رُويت في كراهة ذلك وحظره أحاديث 41».
الشرط الخامس: معرفةُ المقرئ رسمَ المصحف وضبطه:
معرفةُ المقرئ لرسم المصحف الذي هو أحد أركان القراءة القرآنية وأحد مداراتها، مُهمٌ جداً، إذ إن موافقة القراءة القرآنية لرسم المصحف شرط رئيس في قبول القراءة أو ردِّها 42.
يقول الإمام المُحَقِّق ابن الجزري:
«كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، وصحَّ سندُها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردُّها، ولا يحلُّ إنكارُها، بل هي من الأحرف السبعة التي نـزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولُها، سواء أكانت عن السبعة أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختلَّ ركنٌ من هذه الثلاثة أُطْلِقَ عليها أنها ضعيفةٌ أو شاذة أو باطلة، سواء أكانت عن السبعة أم عمَّن هو أكبر منهم» 43.
ومعرفةُ المقرئ لرسم المُصحف أيضاً يُذهب عنه الوقوعَ في اللَّبْس والخطأ، فإذا ما وافق المنطوقُ أو الملفوظُ به الرَّسمَ كانت الموافقةُ تحقيقاً كقوله تعالى: "مَلِكِ" (سورة الفاتحة، الآية: 4)، بدون ألف 44.
وإذا خالف المنطوقُ أو الملفوظُ به الرَّسم ووافق قراءةً أُخرى متواترةً كانت الموافقةُ تقديراً كقوله: "مَالِكِ" (الفاتحة: 4) بالألف 45.
وتنحصرُ مخالفة الرَّسم العثماني للرسم القياسي في ستِّ قواعد 46 لا سابع لها، وهي: الحذفُ، والزيادةُ، والهمز، والإبدالُ، والوصلُ والفصلُ، وما فيه قراءتان فكُتِبَ على إحداهُما.
وتجدرُ الإشارة إلى أن معرفة المقرئ لرسم المصحف وضبطه لا يُغنيه عن التلقِّي والمشافهة؛ لأنه إذا لم يأخذه عن طريق التلقِّي والمشافهة كان عُرضةً ولابُدَّ للَّحن والتصحيف.
يقول أبو داود سليمانُ بنُ نجاح 47:
«إذ لا غنى عن هذا الحرف من مشافهة العالم فيه؛ إذ لا يقدر على اللَّفظ به من الكتاب» 48.
ويقول أيضاً:
«لأنهُ لا يُتوصَّلُ إلى حقيقة اللَّفظ بها إلا بالمشافهة من فمِ المقرئ دون الضبط والخط» 49.
وقد قيل:
«لا تـحملوا العِلم من صَحَفي، ولا تأخُذوا القرآنَ من مُصحفي» 50.
ويجب التنبيه على أن مما يدلُّ على أهمية الرسم وصلته الوثيقة بالقراءة ما ورد عن حمزة 51 أنه كان يتبع في الوقف على الهمز ما وافق خط المصحف العثماني المجمـع على اتّباعـه بشـرط أن يصـحَّ وجهُه في العربيـة، وإن كان ما خالفه أقيس 52.
بل:
إن بعض المؤلِّفين في القراءات القرآنية لم تَخْلُ كُتُبُهم من الكلام على الرسم، فعقدوا للوقف عليه باباً 53، وما ذاك إلا لبيان أهمية الرسم وتعلُّقه الكبير بالقراءة، والحاجةُ إليه ضرورية وشديدة، لا تَقِلُّ عن سائر علوم القرآن الكريم.
يقول أبو العباس المهدوي 54 في كتابه: «هجاء مصاحف الأمصار»:
«لما كانت المصاحف، التي هي الأئمة، إذ قد اجتمعت عليها الأمةُ، تلزم موافقتُها ولا تسوغُ مخالفتُها، وكان كثير من الخط المثبت فيها يخرجُ عن المعهود عند الناس، مع حاجتهم إلى معرفته، لتكتب المصاحفُ على رسمه، وتجري في الوقف على كثير منه لكل قارئ من القراء على منهجه وحُكمه، وكانت الحاجة إليه كالحاجة إلى سائر علوم القرآن بل أهمُّ، ووجوب تعليمه أشملُ وأعمُّ، إذ لا يصحُّ معرفة بعض ما اختلف القُراء فيه دون معرفته، ولا يسعُ أحداً اكتتاب مُصحفٍ على خلاف خطِّ المُصحف الإمام ورُتبته» 55.
الشرط السادس: معرفةُ المقرئ علمَ الوقف والابتداء والعدِّ:
لا يخفى على مقرئ أهمية علم الوقف والابتداء والعدِّ بالنسبة للإقراء؛ إذ إن صلتَهما وثيقةٌ جداً بعلم التجويد 56 والقراءات كما سيأتي –إن شاء الله–، فلا يتحصَّلُ الإقراءُ الصحيحُ والتصدُّر السَّليم إلا بربط هذه العلوم بعضها ببعض.
يقولُ أبو عمرو الدَّاني:
«اعلموا أن التجويد لا يتحصَّلُ لقراء القرآن إلا بمعرفة الوقف ومواضع القطع على الكلم، وما يُتجنَّب لبشاعته وقُبحه» 57.
ويقولُ ابنُ الجزري:
«وصحَّ بل تواتر عندنا تعلُّمه والاعتناء به من السَّلف الصالح كأبي جعفر يزيد بن القعقاع إمام أهل المدينة الذي هو من أعيان التابعين، وصاحبِه الإمام نافعِ بنِ أبي نُعيم، وأبي عمرو بنِ العلاء، ويعقوب الحضرمي، وعاصم بن أبي النجود وغيرهم من الأئمة» 58.
ويقول أبو بكر المرعشي:
«وينبغي أيضاً لمُعلِّم الأداء أن يعرف مواضع الوقف المُؤكَّد استحبابه وهو الوقفُ اللازمُ فيما قسَّمه السجاونديُّ لينبه المُتعلِّم عليها» 59.
ومِمَّا يدلُّ على صلة باب الوقف والابتداء بعلم القراءات واختلاف القراء في قراءاتهم أمران:
أولهُما: إفراد باب خاص به يُعرف بـ «باب وقف حمزة وهشام 60»، وباب «الوقف على مرسوم الخط» 61.
ثانيهما: أن الوقف يختلف باختلاف القراءة، فالكلمةُ تصلُح أن تكون وقفاً على قراءة، ولا تصلُح أن تكون وقفاً على قراءة أخرى 62.
يقولُ طاهرُ بن غَلْبون 63 في «التذكرة» ما نصُّه:
«وقرأ المُفضَّل «وتلْكَ حُدُودُ اللهِ نُبَيِّنُهَا لِقَومٍ يَعْلَمُون» (سورة البقرة، الآية: 230) بالنون 64، وقرأ الباقون بالياء.
ومن قرأهُ بالياء لم يبتدئ به؛ لأنه راجع إلى اسم الله تعالى المُتقدِّم عليه، فهو متعلق به.
ومن قرأه بالنون جاز له أن يبتدئ به، لأنه استئناف إخبار من الله تعالى، بالبيان لحدوده بلفظ الجماعة للتفخيم» 65.
وأمّا أهمـية علم العدِّ فتـتأكَّد بالنسبة للمقرئ في عِدَّة أمور، من أهمِّها:
أولاً: أن الوقف على رؤوس الآي سُنةٌ أغلبية 66 جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أُمِّ سلمة قالت: «كان رسول الله يُقطِّع قراءتهُ يقولُ: "الحَمدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ" ثم يقف: "الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ" ثُمَّ يقف، وكان يقرؤها "مَالِكِ يَومِ الدِّينِ» 67.
وهذا الحديـث أصل في هذا الباب أعني، باب الوقـف والابتداء وعلاقته بعلم العَدِّ والفواصل. وأن الوقف على رؤوس الآي هو السُّنـة، وإن تعلَّق ما بعدها بها تعلُّقاً لفظـياً، على الصحيـح من أقوال أهل العلـم 68. 76.
يقولُ ابن الجزري في «النشر»:
«وإن كان التعلُّق من جهة اللَّفظ فهو الوقف المُصطَلح عليه بالحسَن؛ لأنه في نفسه حسنٌ مفيد يجوز الوقف عليه دون الابتداء بما بعده، للتعلُّق اللَّفظي، إلا أن يكون رأس آيةٍ، فإنهُ يجوز في اختيار أكثر أهل الأداء لمجيئه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أُمِّ سَلمة» 69.
ويقول ابن القيِّم 70 في «الزاد»:
«وهذا هو الأفضلُ، الوقوف على رؤوس الآيات وإن تعلَّقت بما بعدها، وذهب بعض القُرَّاء إلى تتبع الأغراض والمقاصد، والوقوف عند انتهائها، واتِّباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أولى» 71.
ثانياً: أن الوقـف على رؤوس الآي هو مذهب الإمام ابن كثير 72 وأبي عمرو البصري 73. 74.
ثالثاً: أن الوقف على رؤوس الآي له ارتباط بياءات الزوائد والإمالة وتغليظ اللامات وترقيقها؛ لذا لزم المقرئ معرفة هذه الأمور واستيعابها قبل تصدُّره وإقرائه.
يقول البقاعيّ 75:
«وأمَّا علم العدِّ فلأن بعض القُرَّاء زاد على رسم الخط ستين ياءً في رؤوس الآي، وبعضهم أمال رؤوس الآي من بعض السُّور، وبعض من أصحاب الأزرق عن ورش رقَّق ما غلَّظه من اللامات الواقعةِ في رؤوس الآي الممالة، فاحتيج إلى معرفة الفواصل من غيرها من موطنه إذ كان أمراً توقيفياً لا مجال للاجتهاد فيه» 76.
الشرط السابع: حفظُ المقرئ كتاباً شاملاً لما يُقرئُ به من القراءاتِ أصولاً وفرشاً:
هذا الشرطُ خاص بمن يُقرئ القراءات القرآنية، إذ يلزمُه حفظ كتاب مشتملٍ على ما يُقرئ به من القراءات أصولاً وفرشاً، وإلا داخلَه الوَهْم والغلط، فإن لم يكن حافظاً لما يُقْرِئُ به فلا أقلَّ من أن يكون مستوعباً لمُضمَّن الكتاب المقروء به.
يقولُ ابن الجزري في «مُنجد المُقرئين»:
«ويلزمُه أيضاً (أي المقرئ) أن يحفظ كتاباً مشتملاً على ما يقرئُ به من القراءات أصولاً وفرشاً، وإلا داخله الوهمُ والغلطُ في كثير، وإن أقرأ بكتابٍ وهو غيرُ حافظٍ له، فلا بُدَّ من أن يكون ذاكراً كيفية تلاوته به حال تلقِّيه من شيخه، مُستصحباً ذلك، فإن شكَّ في شيء فلا يستنكف أن يسألَ رفيقَه أو غيره مِمَّن قرأ بذلك الكتاب، حتى يتحقَّق بطريقِ القطع أو غلبةِ الظن 77…»
قلت:
وأمَّا مقرئ القرآن الكريم لرواية أهل بلده فلا يلزمُه ذلك أي حفظ كتاب مُشتمل لما يُقرئُ به، ولكن يلزمُه معرفة ضوابط تلك الرواية وطريقة أدائها، مع معرفة أحكام التجويد، والوقف والابتداء، ورسم المصحف وضبطه، وغير ذلك ممَّا له علاقة بتعليم القرآن الكريم وطرق تدريسه وآداب حملته.
وبهذا الشرط تمَّ الحديث عن شروط المقرئ، ولله الحمد والمنَّة.
يتبع إن شاء الله...