القاعدة التاسعة:
كل عبادة مطلقة ثبتت في الشرع بدليل عام فإن تقييد إطلاق هذه العبادة بزمان أو مكان معين أو نحوهما بحيث يوهم هذا التقييد أنه مقصود شرعًا من غير أن يدلّ الدليل العام على هذا التقييد فهو بدعة [1].
والأمثلة على هذه القاعدة تنظر في التوضيح الآتي وفي القاعدة التاسعة عشرة.
توضيح القاعدة:
هذه القاعدة خاصة بالعبادات الثابتة من جهة أصلها، المخترعة من جهة وصفها، وذلك من جهة مخالفة ما فيها من إطلاق وتوسعة.
ويتصل بيان هذه القاعدة ببيان قاعدة أخرى وهي:
أن الأمر المطلق لا يمكن امتثاله إلا بتحصيل المعين، كالأمر بعتق الرقبة في قوله تعالى: "فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ".
فإن الامتثال للأمر بالإعتاق -وهو مطلق- لا يمكن إلا بإعتاق رقبة معينة هي زيد أو عمرو.
قال ابن تيمية:
... فالحقيقة المطلقة هي الواجبة، وأما خصوص العين فليس واجبًا ولا مأمورًا به، وإنما هو أحد الأعيان التي يحصل بها المطلق؛ بمنزلة الطريق إلى مكة، ولا قصد للآمر في خصوص التعيين [2].
إذا عُلمت هذه القاعدة، وهي أن الأمر المطلق لا يتحقق إلا بتحصيل المعين فإن هنالك قاعدة أخرى مبنية عليها، وهي أن إطلاق الأمر لا يدل على تخصيص ذلك المعين بكونه مشروعًا أو مأمورًا به، بل يُرجع في ذلك إلى الأدلة؛ فإن كان في الأدلة ما يكره تخصيص ذلك المعين كُره، وإن كان فيها ما يقتضي استحبابه استحب، وإلا بقي غير مستحب ولا مكروه [3].
وقد عبَّر ابن تيمية عن القاعدة الأخيرة بقوله: شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعًا بوصف الخصوص والتقييد [4].
ثم بين رحمه الله أن هذه القاعدة إذا جُمعت نظائرها نفعت ، وتميز بها ما هو من البدع من العبادات التي يشرع جنسها [5].
مثال ذلك:
أن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشرع بوقت دون وقت ، ولا حدَّ فيه زمانًا دون زمان، ما عدا ما نهى عن صيامه على الخصوص كالعيدين، وندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء، فإذا خص المكلَّف يومًا بعينه من الأسبوع كيوم الأربعاء، أو أيامًا من الشهر بأعيانها كالسابع والثامن لا من جهة ما عينه الشارع فلا شك أن هذا التخصيص رأي محض بغير دليل، ضاهى به تخصيص الشارع أيامًا بأعيانها دون غيرها، فصار التخصيص من المكلف بدعة؛ إذ هي تشريع بغير مستند [6].
ومن ذلك:
تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصًا، كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذ من الركعات، أو بصدقة كذا وكذا، أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة، أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك [7].
إذا عُلمت هاتان القاعدتان فالواجب -كما سبق- إتباع الشارع في إطلاقه وتعيينه.
ذلك أن الشارع إذا أطلق الأمر بعبادة من العبادات.
فينبغي أن يفهم من هذا الإطلاق:
التوسعة، ولهذا فإن من خصص عبادة مطلقة بوقت معين أو بمكان معين فقد قيَّد ما أطلقه الشارع ، وهذا التقييد مخالفة واضحة لمعنى التوسعة المستفاد من أمر الشارع المطلق.
قال أبو شامة:
ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع ، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان، ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضَّله الشرع وخصَّه بنوع من العبادة، فإن كان ذلك؛ اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها، كصوم يوم عرفة، وعاشوراء ، والصلاة في جوف الليل، والعمرة في رمضان [8].
وقد بيَّن ابن تيمية المفسدة المترتبة على مثل هذا التخصيص فقال:
... من أحدث عملاً في يوم؛ كإحداث صوم أول خميس من رجب... فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب.
وذلك لأنه لا بد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله ، وأن الصوم فيه مستحب استحبابًا زائدًا على الخميس الذي قبله وبعده مثلاً...
إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه، أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة؛ فإن الترجيح من غير مرجع ممتنع [9].
من هنا يُعلم أن هذا التخصيص يسوغ متى خلا من هذه المفسدة، وذلك بأن يستند التخصيص إلى سبب معقول يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط ، كتخصيص يوم الخميس لصلاة الاستسقاء لكونه يومًا يفرغ الناس فيه من أعمالهم، فهو أيسر لاجتماع الناس، وكقصر المرء نفسه على ورد محدد من العبادة يلتزمه في أوقات مخصوصة، كل ليلة أو كل أسبوع، لكون ذلك أدعى لديمومة العمل وأقرب إلى الرفق، فمثل هذا التخصيص موافق لمقصد الشارع.
أما إذا صار التخصيص ذريعة إلى أن يعتقد فيه ما ليس مشروعًا فيمنع منه لأمرين:
أولاً:
لأجل الذريعة.
وثانيًا:
لكونه مخالفًا لمعنى التوسعة.
قال الشاطبي:
ثم إذا فهمنا التوسعة فلابد من اعتبار أمر آخر، وهو أن يكون العمل بحيث لا يوهم التخصيص زمانًا دون غيره، أو مكانًا دون غيره، أو كيفية دون غيرها، أو يوهم انتقال الحكم من الاستحباب -مثلاً- إلى السنة أو الفرض [10].
وبهذا يتبين أن تخصيص العبادة المطلقة يسوغ بشرطين:
الأول:
ألا يكون في هذا التخصيص مخالفة لمقصود الشارع في التوسعة والإطلاق.
والثاني:
ألا يوهم هذا التخصيص أنه مقصود شرعًا.
وسيأتي الكلام مفصلاً على هذا الإيهام في القاعدة التاسعة عشرة.
وفي هذا المقام تنبيهات:
1- أن في تخصيص العبادة المطلقة مخالفة لإطلاق الدليل وعمومه.
2- أن في هذا التخصيص فتحًا للذرائع حيث يوهم ما ليس مشروعًا.
3- أن في هذا التخصيص معارضة لسنة الترك، وذلك من جهة دلالة السنة التركية على المنع من هذا التخصيص، وقد سبق في القاعدة الرابعة التنبيه على أن سنة الترك دليل خاص مقدم على الأدلة العامة المطلقة.
4- أن في هذا التخصيص مخالفة لعمل السلف الصالح حيث كانوا يتركون السنة لئلا يعتقد أنها فريضة كما سبق نقل ذلك عنهم في الأصل الثالث، وهو الذرائع المفضية إلى البدعة.
5 - أن في هذه القاعدة ردًا على الذين يتمسكون في الأخذ ببعض البدع بعمومات الأدلة وإطلاقتها.
6 - وبذلك يظهر أن هذه القاعدة خاصة بالبدع الإضافية ، التي لها متعلق بالدليل العام من جهة، لكنها مخالفة لمعنى التوسعة -المستفاد من العموم- من جهة أخرى.
7 - وبذلك أيضًا يُعلم أن الابتداع الواقع من جهة هذه القاعدة دقيق المأخذ ، يندر التفطن له.
قال ابن تيمية:
واعلم أنه ليس كل أحد ، بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذا النوع من البدع ، لا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة ، بل أولوا الألباب هم يدركون بعض ما فيه من الفساد [11] .
-------------------------------
[1]) انظر الباعث 47 – 54)، والاعتصام 1/ 229 – 231 ، 249 – 252 ، 345 ، 346)، 2/11) ، وأحكام الجنائز 242).
[2]) مجموع الفتاوى 19/300).
[3]) المصدر السابق 20/196).
[4]) مجموع الفتاوى 20/196).
[5]) انظر مجموع الفتاوى 20/198).
[6]) انظر الاعتصام 2/12).
[7]) الاعتصام 2/12).
[8]) الباعث 51).
[9]) اقتضاء الصراط المستقيم 2/600).
[10]) الاعتصام 1/251).
[11]) اقتضاء الصراط المستقيم 2/600).