السياحة في الإسلام
(حكمها – فوائدها - ضوابطها).
الأستاذ الدكتور: عبد الحي الفرماوي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين.
وبعد:
فنحن -العرب- أبناء أمة كانت مطبوعة على: الرحلة ومولعة بالسفر كثيراً ويتنقلون من بلد إلى أخرى إما للعمل وطلب الرزق أو للتجارة وقد ورد في القرآن الكريم ذكر هذه السياحة التجارية التي كان العرب يمارسونها قبل الإسلام والمتمثلة في رحلتين عظيمتين منتظمتين إلى بلاد اليمن تارة وإلى بلاد الشام تارة أخرى فقال سبحانه «لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ . إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ».
كما كان العرب في عصر ما قبل الإسلام يسافرون ويسيحون بهدف الصيد أو للقتال والغارة.
فجاء رسولنا الكريم بديننا الإسلامي العظيم فزكى مبدأ السياحة وقواه وسما به، وجعلهم يسافرون للدعوة والوعظ والإرشاد، والعمل البناء وطلب العلم.
فما أعظم هذا الدين الإسلامي الذي حول الأعرابي الذي كان يتنقل ويسافر قطعاً للطريق وسلباً للقوافل والأموال، فأدبه وهذبه وجعله عالماً وفقيهاً صالحاً وحكيماً، وجعله سائحاً مسافراً يدعو إلى دين الله بالحسنى والموعظة الحسنة، يبني ويعمر ويبحث عن منابع العلم لينهل منها.
لقد استبدل الإسلام عادات العرب القديمة السيئة بعادات جعلها عبادة وسياحة تعود بالأجر والثواب، فهذا سفر الحج والعمرة والهجرة والجهاد أكبر دليل على ذلك.
نعم.. جاء الإسلام ليجعلها سياحة وسفراً ورحلة تعتبر بملكوت الله جل وعلا وتنظر في آياته البينات.
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ...).
(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).
ونبينا الكريم محمد –صلى الله عليه وسلم– سافر وانتقل وساح في الأرض إبان شبابه قبل البعثة النبوية للرعي والتجارة وبعد نبوته ما بين حج وعمرة وجهاد وتجارة.
كانت السياحة من هذا القبيل.
ولكن أهل هذا العصر من أصحاب الشهوات: ارتكبوا ما ارتكبه أسلافهم الأوائل من تغيير للحقائق، وتلبيس للمفاهيم، وعبث بالمبادئ، فغيروا ما يريدون تغييره لإشباع غرائزهم، وسموا الأشياء بغير اسمها، ووصفوها بغير صفتها اللائقة بها، فالخمر عندهم شراب روحي، والربا في نظرهم فائدة مالية، ودعامة اقتصادية، والسياحة في منطقهم متعة وترفيه، هكذا قالوا، وبئس ما قالوا.
وسنحاول في ورقتنا هذه أن نرد الأمر إلى نصابه، وذلك في النقاط التالية:
نقاط البحث
مقدمة.. وهي ما تقدم.
معنى السياحة
السياحة في القرآن
السياحة في السنة
السياحة في فهم السلف الصالح
أشكال وأنواع السياحة
أهداف السياحة في الإسلام
ضوابط السياحة وشروطها في الإسلام
خاتمة
الفهرس
================
معنى السياحة
جاء الإسلام ليرتقي بمفهوم السياحة، ويربطه بالمقاصد العظيمة، والغايات الشريفة.
حيث وردت السياحة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تحمل معانٍ سامية، وصنفت السائحين ضمن فئات ومجموعات من الناس وعدها الله سبحانه وتعالى بالجنة، حيث يقول الخالق العزيز الجليل «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» "سورة التوبة: 113".
وقد تعددت تعريفات الفقهاء لمعنى السياحة.
- فقال بعضهم بأن السياحة: هي الصيام .. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في سورة التحريم «آية 5» في وصف نساء النبي « عابدات سائحات».
- أما البعض الآخر من الفقهاء فقالوا: السائحون هم المجاهدون .. ودليلهم على صحة هذا التعريف ما ورد في الحديث الصحيح: قول الرسول الكريم: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى».
- وقيل: السائحون هم المهاجرون الذين غادروا بلدانهم سعياً لكسب الرزق والعمل في بلدان أخرى.
- وقيل بأن السائحين: هم الذين يسافرون في طلب العلم.
- وقيل بأنهم العابدون المتفكرون في عبادة وتوحيد وتعظيم رب العالمين وملكوته، وما خلق في السماء والأرض من المخلوقات والآيات العظيمة التي تدل على الاله الواحد الأحد لاشريك له الفرد الصمد.
- وعلى كل فهي:- السير للمطلوب الشرعي والبحث عنه عبادة لله، كالحج، وزيارة المساجد الثلاثة، أو الغزو في سبيل الله، أو طلب العلم الشرعي والدراسة، أو العلاج، أو التجارة، أو الدعوة، أو التزاور في الله وصلة الأرحام، أو التفكير والاعتبار، أوطلب الرزق الحلال.
كما ثبت عند الترمذي في جامعه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزوة أو حج أو عمرة كان مما يقوله في دعائه " آيبون تائبون عابدون سائحون لربنا حامدون " الحديث.
================
وهي في تعريفات المعاصرين:
"التنقل في البلاد للتنزه أو للاستطلاع والبحث والكشف ونحو ذلك، لا للكسب والعمل والإقامة".
وقد عرف أحد الباحثين السائح بأنه: "الفرد الذي ينتقل من مكان إقامته الدائمة إلى منطقة خارج إقامته العادية أو مكان عمله؛ بهدف تحقيق غرض معين من أغراض السياحة أو الزيارة المتعارف عليها ماعدا العمل ، وبشرط ألا تقل مدة الزيارة عن 24 ساعة ولا تزيد عن ثلاثة أشهر".
السياحة في القرآن الكريم
================
وردت السياحة في القرآن الكريم على النحو التالي:
أولا: بلفظها..
وذلك: في ثلاثة مواضع، وبثلاث صيغ:
أ – بصيغة الأمر: وذلك في قوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ) [التوبة: 2].
ب – بصيغة جمع المذكر السالم: وذلك في قوله تعالى (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) [التوبة: 112].
ت - بصيغة جمع المؤنث السالم: وذلك في قوله تعالى (..أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ) [التحريم :5].
ويلاحظ: أن لفظ (السائحون) ولفظ (السائحات) قال فيها: ابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة وعائشة رضي الله عنهم: [أنهم: الصائمون] وهو التفسير الصحيح الذي عليه جمهور السلف.
ولكن قال فيها عكرمة: أنهم طلبة العلم رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (7 / 429)، وانظر "فتح القدير" (2 / 408).
================
ثانيا : بلفظ السير والنظروالتفكر والتعقل.
وذلك في أربعة عشر موضعا.
أ – بصيغة الاستفهام الإنكاري لعدم سيرهم ونظرهم وتفكرهم وتعقلهم.
وذلك في سبعة مواضع.. وهي:
1 – قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 109].
2 – وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46].
3 – قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) [الروم: 9].
4 – وقوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) [فاطر: 44].
5 – وقوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ) [غافر: 21].
6 - وقوله تعالى: (أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [غافر: 82].
7 - وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) [محمد: 10].
ب – بصيغة الأمر ليسيروا وينظروا ويتفكروا ويتعقلوا.
وذلك في سبعة مواضع.. وهي:
1 – قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ) [آل عمران: 137].
2 – وقوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ) [الأنعام: 11].
3 – وقوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ) [النحل: 36].
4 – وقوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ) [النمل: 69].
5 – وقوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [العنكبوت: 20].
6 – وقوله تعالى: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ) [الروم: 42].
7 - وقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15).فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ(18)) [سبأ].
يقول القاسمي –رحمه الله– في معنى هذه الآيات الكريمة: هم السائرون الذاهبون في الديار لأجل الوقوف على الآثار؛ توصلا للعظة بها والاعتبار، ولغيرها من الفوائد.
"محاسن التأويل" (16/ 225).
================
السياحة في السنة النبوية
جاء في الحديث عن أَبِي أُمَامَةَ: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ؟! قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم: إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى".
رواه أبو داود ( 2486 ) وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" وجوَّد إسناده العراقي في "تخريج إحياء علوم الدين" (2641).
================
السياحة في فهم السلف الصالح
(أ) قال عطاء: السائحون: "هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله" [تفسير البغوي: التوبة: 112].
(ب) وهذا الإمام ابن تيمية يقول: (ما يفعل أعدائي بي؟! إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن حبسوني فسجني خلوة، وإن نفوني فنفيي سياحة).
(ت) وهذا: الإمام الشافعي في قوله: "إن في الأسفار خمس فوائد هي: تفريج هم، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد.
ومن أقواله أيضاً في شأن السياحة والحض عليها:
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والتبر كالترب ملقى في أماكنه والعود في أرضه نوع من الحطب
ففي هذه الأبيات: يحرض الإمام على السفر والرحلة.
ففيها من الخير ما فيهما حيث يتعرف الإنسان إلى الآخرين وربما يكونون خيراً ممن يعرفهم ويفارقهم.
وفيها النصب والكد والتعب الذي يجعل للحياة طعماً مقبولاً طيباً.
ثم يسوق أمثلة من الواقع الملموس والشاهد المحسوس.
(ث) وهذه رحلات الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين والسلف الصالح للجهاد والتجارة والأغراض العلمية، التي طبقت شهرتها الآفاق.
(جـ) وكذلك أخبارالرحالة المسلمين مثل: ابن بطوطة ، وابن جبير، وغيرهما.
(حـ) وقد سيرت أعظم وأقوى الرحلات السياحية في صدر الإسلام لغرض طلب العلم ونشره، حتى ألف الخطيب البغدادي كتابه المشهور "الرحلة في طلب الحديث"، وقد جمع فيه من رحل من أجل حديث واحد فقط!
فالسياحة في الإسلام إذا: لاتعني العزلة عن الناس والاعتكاف في المساجد أو مفارقة المجتمع وسكن الكهوف والجبال والبراري والتفرغ للعبادة، وترك العلم والجمعة والجماعة، بل إن السياحة هي السعي في الأرض طلباً للرزق والعلم واكتساب المعارف والخبرات.
وعلى هذا: فالإسلام لايحرم السياحة، بل يدعو إليها، ويشجع عليها، كما فهم ذلك السلف الصالح مما ذكرنا نماذج منهم.
نعم في الإسلام سياحة: ولكنها سياحة التأثير لا التأثر والاعتزاز لا الابتزاز والفضيلة لا الرذيلة والثبات لا الانفلات.
================
أشكال وأنواع السياحة
وهي كثيرة.. نذكر منها ما يلي:
1 ـ السياحة التأملية: وتكون بالتأمل والمشاهدة•
2 ـ السياحة الجغرافية: من أجل اكتشاف الكون حول الإنسان للاستفادة والانتفاع
3 ـ السياحة الترفيهية: وتكون للترويح عن النفس من إرهاق العمل مثلا.
4 ـ السياحة الثقافية: وتكون لمشاهدة المعالم التاريخية الحضارية•
5 ـ السياحة الفكرية الإيمانية: وتكون للأماكن المقدسة والبقاع الطاهرة•
6 ـ السياحة العلاجية: وتكون من أجل الاستشفاء•
7 – السياحة الدعوية: التي يقوم فيها الداعية بنشر هدي الإسلام والتعريف به.
================
أهداف السياحة في الإسلام
وهي عديدة.. ومنها ما يلي:
1 – السير في أرض الله تعالى للتأمل والعظة واستخلاص الدروس والعبر.
حيث إن من مفهوم السياحة في الإسلام: السفر لتأمل بديع خلق الله تعالى، والتمتع بجمال هذا الكون العظيم؛ ليكون ذلك باعثا للنفس البشرية على قوة الإيمان بوحدانية الله، وليكون عونا لها أيضا على أداء واجبات الحياة، فإن ترويح النفس ضروري لأخذها بالجد بعد ذلك.
يقول سبحانه وتعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت: 20.
2 - اكتساب الفوائد التي ذكرها الإمام الشافعي في قوله:
"إن في الأسفار خمس فوائد هي:
تفريج هم، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد.
وفي شعره السابق.
3 - وأجمل الأهداف وأجلها: تأدية الرسالة التي شرُفت بها هذه الأمـة.. ألا وهي الدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125].
حيث يأتي السائح بمحض إرادته إلى ديار الإسلام ليزور آثارها، ويتعرف على تاريخها، وبالطبع يعايش في زيارته أهل الإسلام، ويرى بأم عينه عاداتهم وتقاليدهم، ويلمس بنفسه واقعهم.
وهي فرصة ذهبية لنعرض الإسلام على حقيقته النضرة، وهيئته السمحة.
كما يجب على أصحاب المحلات السياحية أن يعرضوا في محلاتهم كتبا باللغات الحية عن التعريف بالإسلام وإعجازه العلمي، كالكتب التي يعرضونها عن تاريخ الأمم البائدة.
ولقد استمعت إلى المرحوم الداعية العظيم الشيخ أحمد ديدات خلال زيارته لمصر، قوله بحق: "لو أن كل مصري عرف سائحا –واحدا كل عام- بالإسلام ودعاه إلى الاهتداء بنوره: لدخل أغلب سكان الدنيا في دين الله الحق خلال سنوات قليلة ؛ لأنهم يبحثون عنه بفطرتهم.
4 - تفريج الهم: فإن الله أجرى العادة أن الملازم لمكان واحد، أو طعام واحد، يسأم منه، لا سيما إذا كان الإنسان عنده هم كثير، فإذا انتقل عن تلك الحالة أو تشاغل بغيرها انجلى عنه الهم بالتدريج.
- والذي ينصح به الأطباء النفسيون لمن به هم أو غم أن يسافر.
- وقد قيل: لا يُصلح النفوس إذا كانت مدبرةً، إلا التنقل من حال إلى حال.
5 - ومما لا يدع مجالاً للشك: أن السياحة صناعة مهمة لها تأثير اقتصادي ودور مهم في زيادة فرص العمل ومصدر رزق مهم ، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15]
واكتساب المعيشة: لا يكون إلا بالتحرك، واتخاذ الوسائل المشروعة.
- والله عز وجل أمر مريم بهز النخلة، ولو شاء الله أن ينزل عليها الرطب لفعل: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [مريم: 25].
6 - 7: حصول العلم والآداب: فلقد كان السلف يرحلون في طلب العلم، فتجد الواحد منهم يسافر من أجل حديث واحد يطلبه.
- فهذا ابن مسعود –رضي الله عنه– يقول: (ولو أعلم مكان واحدٍ أعلم منى بكتاب الله، تناله المطايا لأتيته) [رواه مسلم].
- وها هو جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما– يرحل مسيرة شهر، إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد (رواه البخاري).
- وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة" (رواه مسلم).
وقال الشعبي –رحمه الله-: "لو سافر رجل من الشام إلى اليمن، في كلمةٍ تدله على هدى، أو ترده عن ردى، ما كان سفره ضائعاً".
8 - صحبة الأمجاد: إن صحبة الأمجاد والأخيار ترفع المنقوص، وترقيه إلى رتبه أهل الخصوص، وتدخله في زمرتهم، وتنسجه في لحميتهم.
ولله در القائل:
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه ففيه دليلٌ عنه بالطبع تهتدي
ولا بدع في وفق الطباع إذا اقتدت فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي
9 - زيارة الأحباب من الأقارب والأرحام والأصحاب.
ففي الحديث: أن رجلاً زار أخاً في قريةٍ أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال أريد أخاً لي في هذه القرية، قال هل لك من نعمة تربها عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه (رواه مسلم).
10 - أن المسافر يرى من عجائب الأمصار، ومن بدائع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى، وشكرا على نعمه.
وعلى هذا: يضع الإسلام الضوابط والشروط، ويحدد الأهداف التي لابد وأن تراعى في هذه الأنواع كلها.
وبيانها بإيجاز في النقاط التالية:
================
ضوابط السياحة في الإسلام وشروطها
أولا: ضوابط عامة.
1 - صدق النية وإخلاص العمل لله -عز وجل.
وذلك حينما نجعل هذه السياحة -في بلادنا أو في الخارج- وسيلة للدعوة إلى الله فنقدم للناس صورة مشرقة لديننا، وبلادنا، فنوضح لهم الحقيقة، ونفضح أمامه أكاذيب الإعلام الغربي الذي يشوه صورة الإسلام والمسلمين.
2 – أن تكون هناك: خطط موضوعة ، وأهداف محددة، وإرشادات معلومة، لكل رحلة سياحية -فردية أو جماعية- في الداخل أو في الخارج.
على أن تكون هذه الخطط والأهداف والإرشادات: مأخوذة من تعاليم الإسلام.
3 - عمل دورات تدريسية في الإسلام وكيفية الدعوة إليه باللغات الأجنبية، للمرشدين السياحيين؛ ليقوموا بالتعريف بديننا العظيم ، كما يعرفون بتراثنا، سواء بسواء.
4 - هناك الكثير من دول العالم العربي والإسلامي حباها المولى عز وجل طبيعة خلاَّبة وكنوزاً إسلامية كثيرة ومناخاً مستقرا ًطوال العام.
وحيث إن الإسلام يدعو إلى تشجيع السياحة المشروعة: فإن الأمر يستدعي من الرجال المخلصين في هذه الدول من المهتمين بشؤون السياحة السعي الجاد إلى إقامة صناعة سياحية كرافد من روافد الدخل القومي الذي يسهم في تنمية موارد تلك الدول مما يعود على شعوبها بالخير الوفير.
================
ثانيا: ضوابط مع السائح في بلادنا.
1 - عدم التعاون معه على فعل المنكر كتقديم الخمور ونحو ذلك• وذلك يقتضي: تنقية النشاط السياحي مما علق به من محرمات،
والابتعاد التام به عن إشاعة الفاحشة وإثارة الغرائز والشهوات، ومنع ما حرمه الله من خمر وميسر واختلاط.
2 - التعامل -في ذات الوقت- مع السائحين بصورة الإسلام المشرقة لينقلوها إلى غيرهم عند عودتهم إلى بلادهم•
3 - أن يكون هناك –كما ذكرنا سابقا- دعاة يجيدون اللغات المختلفة وبخاصة الدينية كمرشدين: لتعريف السائحين بحقيقة الإسلام، وإظهار الوجه الحقيقي له كدين تسامح وسلام وعدالة، وتحريره من الشبهات المنسوبة إليه ظلماً•
4 – العمل على: حماية السائح الأجنبي وتوافر أمنه واستقراره خلال مدة زيارته لبلادنا.
وهذا المبدأ: دعا إليه الإسلام•
وذلك في قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) التوبة: 6•
وفي الحديث الشريف: الذي رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن ابن أمي -علي- يريد أن يقتل رجلاً أجرته -ابن هبيرة- فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"•
وإذا كان الزائر من بلد معاد: يمنع منعا باتا من دخول بلادنا.
5 - وعلى السائح الأجنبي: الالتزام التام بأحكام الإسلام واحترام القيم والعادات والتقاليد الإسلامية في البلد محل الزيارة.
فلا يدخل أماكن العبادة المحرمة عليه شرعاً.
وأن يلتزم بالاحتشام في الملبس والتصرفات.
ولا يدعو إلى منكر، أو القيام بأي عمل ضد الإسلام والمسلمين.
6 - على شرطة السياحة: التعاون مع الجهات المعنية بشؤون السياحة، لتقديم جميع الإرشادات اللازمة للسائح في هذا المجال ومتابعة تنفيذها، والترحيل الفوري للمخالف.
وذلك: حتى يتحقق الأمل من إقامة سياحة إسلامية•
ثالثا: ضوابط للسائح المسلم في البلاد الأجنبية.
1- التخلق بأخلاق الإسلام والتزام مبادئه والسير على منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسنته -كما هو شأن المسلم دائما- ليكون عنواناً جيداً للإسلام وأهله.
2- عدم السياحة في أماكن الفتن والفسق والبدع؛ حتى لا يتعرض المسلم للفتنة في نفسه ودينه.
3 – أن لا يخرج بسياحته –أو خلالها– عن أهداف السياحة المشروعة في الإسلام.
================
خاتـمـــــــــــــــــــــــــــــــــة:
وفي ختام بحثنا -هذا- نقولها بكل صراحة ووضوح إن السياحة في عصرنا الذي نعيشه أصبحت تعني في المفهوم العالمي المعاصر –كما يقول بعض الباحثين، وهو المشاهد كذلك-: " الانفتاح المطلق بلا قواعد مرعية، ولا ضوابط شرعية"..!!.
فلا دين يردع، ولا وازع يمنع، يفعل الإنسان ما يشاء، ويصنع ما يريد، فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبة، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور.. وهذه –كذلك– هي السياحة في عصر العولمة..!!
================
فهل يرضى مسلم أن تكون السياحة –أو أن تظل في بعض بلادنا– على هذا الحال..؟؟
خاصة: وأن الإسلام جاء ليغير كثيراً من المفاهيم المشوهة التي تحملها عقول البشر القاصرة، ويربطها بمعالي الأمور ومكارم القيم والأخلاق!!
================
وهل نأمل في أن نرى هذا التغيير الإسلامي المنشود..؟؟!!
أدعو الله تعالى: أن نرى ذلك قريباً، على أيدي المخلصين من أبناء هذه الأمة الغيورين.
================
ألقي هذا البحث ضمن فعاليات:
(ملتقى الإسلام والسياحة الأول 2009م)
الجمهورية اليمنية - وزارة السياحة -صنعاء- من يوم الأحد 11 حتى 15 أكتوبر 2009م.