قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب):"لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين)فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُمِصْرَعلى سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض،والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحيفيلسوف العمارة ومهندس الفقراء:هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية،وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول،اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن،ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كوروناغير المتوقعة للبشريةأنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباءفيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض..فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي"رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي(رحمه الله)قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني،وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.
تقديم بقلم: عمر عبيد حسنه الحمد لله الذي جعل مقوم بناء الأمة المسلمة، آصرة الأخوة، فقال: (إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات: 10)، وجعل المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، فقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (التوبة: 71).
وسما برابطة الإيمان على جميع روابط اللون، والجنس، والأرض، والعرق، والطبقة الاجتماعية، والجغرافيا...إلــخ.
قال تعالى: (قل إن كان إباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة: 24).
وبذلك أصبح كل مسلم حيثما كان، عضوًا في أمة الإسلام العالمية، وأصبح بمقدور كل إنسان أن يختار هذا الدين، وبذلك يتمتع بالولاية الإسلامية أو بموالاة المسلمين جميعًا، أينما كانوا، كما يتمتع بحقوق الأخوة الإسلامية، الأمر الذي يحقق خلود هذا الدين وامتداده وعالميته، ويحول دون التعصب والانغلاق والتمييز بكل أشكاله.. ويجعل هذا الدين بخصائصه وقيمه ا لذاتية، مؤهلاً لقيادة العالم، والعطاء الحضاري والإنساني المستمر.. كما يجعل كل مسلم مسؤولاً عن حمل الأمانة، والقيام بمهمة الترقي الذاتي وأداء مسؤولية الدعوة والبلاغ المبين لهذا الدين.
والصلاة والسلام على من كانت سيرته وسنته تجسيدًا عمليًا لمبادئ الإسلام، وتحقيقًا واقعيًا لمجتمع الأخوة، نواة المجتمع الإسلامي العالمي الكبير، الذي ضم الفقير والغني، والأبيض والأسود، والعربي والعجمي، وبيَّن حقوق الأخوة الإسلامية، ليجيء المجتمع قويًا متماسكًا، يتحقق بالولاء والبراء، شعاره قول الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة)، وممارساته بيانُ الرسول صلى الله عليه و سلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذُلُه، ولا يَحْقِرُه، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئٍ من الشر أن يَحْقِرَ أخاه المسلم، كُلُّ المسلم على المسلم حرام، دَمُهُ ومَالُهُ وعِرْضُه) (رواه مسلم عن أبي هريرة).
وقوله: (المسلمون تتكافأُ دِماؤهم، وهُم يدٌ على مَن سواهم، يسعى بذمَّتِهم أدناهم، ويُرَدُّ على أقصَاهم) (رواه ابن ماجه والنسائي وأحمد، من حديث ابن عباس).
وبعد، فهذا كتاب الأمة الحادي والستون: (من فقه الأقليات المسلمة) للأستاذ خالد محمد عبد القادر، في سلسلة (كتاب الأمة)، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة الإحياء للقيم الإسلامية في النفوس، والاستيعاب النضيج لقضية الولاء والبراء، وتجديد مفهوم الأخوة الإسلامية الشاملة، بعيدًا عن تضييق مفهومها بسببٍ من التعصب والتحزب والتمذهب، وتغيبب حقوقها تحت شتى الذرائع والمعاذير والفلسفات والتلبيسات، حيث أصبح من المطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى، التخلص من حالة الوَهْن والركود والتخاذل الثقافي، وتأسيس الرؤية الثقافية على معرفة الوحي المعصوم في الكتاب والسنة، واستئناف دور العقل في النظر، وبيان أهمية الاجتهاد الفقهي والفكري لقضايا الأمة ومشكلاتها المعاصرة في ضوء هدايات الوحي، ومكتسبات العقل وإبداعاته.
كما هو مطلوب أيضًا، محاولة التدليل على خلود القيم الإسلامية وتجردها عن حدود الزمان والمكان، وذلك بقدرتها على إنتاج النماذج الإسلامية المتميزة في كل عصر، وقدرتها على إيجاد الحلول والأوعية الشرعية لحركة الأمة ومشكلاتها، في النظر إلى الواقع وتقويمه بقيم الوحي المعصوم، والاجتهاد في تنزيل القيم الإسلامية على الواقع، بحيث ينطلق النظر والاجتهاد، من خلال الواقع ومشكلاته وحاجاته ومعاناته.
إن تحقيق هذا الخلود لا يمكن أن يتحصل إلا بإشاعة روح التخصص في فروع المعرفة المختلفة، وإحياء مفهوم الفروض الكفائية، والتأكيد على أن العصر بثورته المعلوماتية وضخه الإعلامي والمعرفي، لم يعد يسمح بوجود الرجل الملحمة العارف بكل شيء، القادر على الاجتهاد والفتوى في كل شيء، وإنما لابد من التخصص وتقسيم العمل الذي يؤدي إلى تكامله وإتقانه، وإعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، أو النسيج الاجتماعي للأمة بشكل متماسك كالبنيان المرصوص، الذي يشدّ بعضه بعضًا.
إن إشاعة روح الاختصاص، وإحياء مفهوم فروض الكفاية، يستلزم شحذ فاعلية المسلم في المواقع المختلفة، ليستأنف دوره في حمل الأمانة وإلحاق الرحمة بالناس، مستثمرًا طاقاته الروحية والمادية والتخصصية المعرفية، لنصرة الحق والدعوة إليه، وإثارة الاقتداء، والتدليل على أن المسلم ليس جسمًا غريبًا في أي مجتمع، وإنما هو عنصر خير وعطاء وتخصص، قادر على التكيف والاندماج لمصلحة الدعوة، مستعص على الذوبان والانحلال.
ومن القضايا الأساسية في هذا المجال، إحياء مفهوم الارتكاز الحضاري، والانتماء الثقافي لرسالة الإسلام والأمة الأم، وعلى الأخص بالنسبة للمسلمين المهاجرين، لسبب أو لآخر، إلى مجتمعات غير إسلامية، قد تكون مشبعة بأحقاد تاريخية وعداوات عنصرية ضد الإسلام والمسلمين، والمساهمة بطرح رؤية واقعية لكيفيات التعامل معها، وإيصال الخير لها.
ولعل القضية التي تستدعي التأمل والنظر باستمرار -نظرًا لتبدل الظروف وتطور الأحوال- قضية الاجتهاد، التي تعني فيما تعني خلود هذا الدين، وقدرته على معالجة مشكلات الحياة المتجددة، ووضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، وإنتاج النماذج التي تحمل الرسالة، وتحول دون الفراغ الذي يعني تمدد (الآخر).
الاجتهاد بمفهومه العام هو محاولة لتنزيل النص الشرعي، مصدر الحكم في الكتاب والسنة على الواقع، وتقويم سلوك الناس ومعاملاتهم به.. ومحله دائمًا المكلف وفعله، وهذا يتطلب أول ما يتطلب -بعد فقه النص- النظر إلى الواقع البشري وتقويمه، من خلال النظر للنص، وكيفيات تنزيله في ضوء هذا الواقع البشري.
وهذه الأحكام المستنبطة من النص لتقويم الواقع والحكم عليه، هي أحكام اجتهادية، قد تخطئ وقد تصيب، حسبها أنها اجتهادات بشرية يجري عليها الخطأ والصواب، لا قدسية لها، ومهما بلغت من الدقة والتحري لا ترقى إلى مستوى النص المقــــدس في الكتــاب والسنة، ولا تتحول لتحل محل النص، فتصبح معيارًا للحكم.. هي حكم مستنبط يعاير ويقوّم بالنص، ويستدل عليه بالنص.
وقد نقول: إن دقة وتحري الحكم وصوابيته في عصر معين، له مشكلاته وقضاياه، أو في واقع معين أثناء تنزيله عليه، لا يعني بالضرورة صوابيته لكل واقع متغير، ذلك أن فقه المحل (الواقع) بكل مكوناته وتعقيداته واستطاعاته هو أحد أركان العملية الاجتهادية، إلى جانب فقه النص المراد تنزيله على هذا الواقع.
فتغير الواقع وتبدل الحال، يقتضي بالضرورة إعادة النظر بالاجتهاد أو بالحكم الاجتهادي، ولا ضير في ذلك، بل الضرر والضير في الجمود على الأحكام الاجتهادية، مهما تغيرت وتبدلت الظروف، وبذلك تتحول الأحكام الاجتهادية من كونها حلاً للمشكلات، ليصبح تطبيقها وتنزيلها على غير محلها هو المشكل الحقيقي.
ومن هنا نقول: إن الكثير من الأحكام الاجتهادية التي وردت لمعالجة مشكلات عصر معين، ليست ملزمة لسائر العصور، إذا تبدلت تلك المشكلات، وأنها في معظمها قابلة للفحص والاختبار، والنظر في مدى ملائمتها للواقع الذي عليه الناس، حيث لابد من العود ة والتلقي من النص الأصلي الخالد المجرد عن حدود الزمان والمكان، والنظر في كيفية تنزيله على الواقع والحال..
وهذا الذي نقوله هو من سنن التطور الاجتماعي والفقه الشرعي، حيث غيّر الكثير من الفقهاء من أحكامهم نفسها، وليس من حكم غيرهم، عندما تغير الزمان أو تغير المكان، فكان لهم جديد، وكان لهم قديم، أو عندما اطلع على نصوص ووقائع جديدة لم يكن يعرفها مسبقًا، أو عندما أدرك حكمة الحكم وعلته الدقيقة، وعدم انطباقها على الحالات المتشابهة، أو أن الامتداد في تطبيقها بشكل آلي وصارم قد يؤدي إلى فـــوات مصلحـــة شرعيـــة وحصول مفســدة محققــة، بما أُطلق عليه مصطلح: (الاستحسان)، وكيف أن الأحكــام في الكتـــاب والسنـــة تتعــدد بتعـــدد الحـــالات والاستطاعـــات، ولا تجمد على حال واحدة، فكيف يكون ذلك، والواقع خاضع لسنة التغيير، سقوطًا ونهوضًا، ولكل حالة حكمها؟
وقد كنتُ أشرتُ -فيما كتبتُ سابقًا- إلى أن القرآن الكريم مصدر التشريع والمعرفة، لم يأت ترتيبه في ضوء أزمنة النزول -على أهمية معرفة أزمنة النزول وأسبابه، لإدراك أبعاد النص الزمانية والمكانية والتطبيقية- حتى لا يتجمد الاجتهاد على حال ووتيرة واحدة، وإنما جاء ترتيبه توقيفيًا، ليمنح مرونة اجتهادية، فيكون لكل حالة حكمها، ولو كان ذلك من أواخر أو أوائل ما نزل من القرآن، فالقرآن كله خالد، ولكل حالة حكمها الملائم، ولا يخرج البيان النبوي عن هذا الإطار القرآني، وإنما هو تنزيل له، وبيان ميداني بتحويل الفكر إلى فعل.
وقولنا: بأن الاجتهادات الكثيرة التاريخية، والتي يمكن تصنيفها في إطار الموروث أو التراث هي اجتهادات لزمانها ومشكلاته وأنها غير ملزمة، لا يعني إلغاءها أو القفز من فوقها، أو عدم معاودة الإفادة منها عند تشابه الحال، وإنما يعني استصحابها والاستئناس بها، والفقه بنظرها الدقيق وآليتها الاجتهادية، لتكون معوانًا لنا على النظر الذي يقتضيه تبدل العصر وتغير مشكلاته. ومن هنا نرى: أن الكثير مما ورد من الفقه الاجتماعي والدولي والاقتصادي والمالي والإداري والدستوري، ليس ملزمًا إذا تبيّن أن الزمن قد تجاوزه -وهذا بطبيعة الحال لا يرد على الاجتهاد في أحكام العبادات بنفس القدر- وأننا مدعوون لإعادة النظر والاجتهاد الفقهي والفكري بشكل عام، في ضوء تبدل الواقع الذي نعيشه، أو تبدل المجتمعات من حولنا، الأمر الذي يقتضي إعادة النظر في أحكام الفقه في ضوء معطيات النص الخالد.
لذلك فالموضوع الذي نعرض له -فقه الأقليات- يقع في بؤرة العمل الاجتهادي، لأنه يشكل محلاً لتنزيل الأحكام، مختلفًا كثيرًا عما كان عليه الحال مسبقًا.
والقضية الأخرى التي نريد أن نتوقف عندها بما يتسع له المجال، ونحاول أن نلقي عليها بعض الأضواء التي نراها ضرورية لاستجلاء الحقيقة أو شيء من أبعادها هي: مصطلح الأقلية، أو مفهوم الأقلية والأكثرية.
ذلك أن هذه القضية هي في حقيقتها قضية نسبية، تختلف فيها معايير النظر والحكم والتقويم والنتائج..
وابتداءً نرى أن الأمر لا يمكن أن يحكمه عدد الرؤوس، الكم المهمل، أو ما يمكن أن يُسمَّى (الكَلّ المعطل) الذي لا يأتي بخير أينما توجهه، بمقدار ما يحكمه الكيف والنوعية والفاعلية، أو ما أطلق عليه القرآن الكريم (الإنسان العدل)..
ولذا نرى على مستوى القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، والعطاء الحضاري الإسلامي التاريخي، أن معيـــار التفاضـــل والكرامــة والإنجــاز، لم يكن أبدًا منوطًا بالكم من حيث الكثرة والقلة، وإنما يتحقق بمقدار العطاء ونوعية العطاء، فالأكرم هو الأتقـــى، وليس الأكـــرم الأقــل ولا الأكرم الأكثر.. والتقوى المقصودة في الآية كمعيار للتفاضل، هي جماع الأمر كله، ذلك أن التقوى بأبعادها المتعددة، تعني امتلاك الميزان الحق، والتحلي بالقيم الصحيحة، لاستيعاب الحياة بكل مجالاتها، وكيفيات التعامل معها..
فقد تكون المحصلة فردًا يعدل أمة كاملة، ويكون أمة فعلاً بما يمثل وما يحقق. قال تعالى: (إن إبراهيم كان أمة) (النحل : 120)، والرســول صلى الله عليه و سلم يقــــول : (تجــدون الناسَ كإبلٍ مائـــة، لا يجدُ الرَّجُلُ فيها راحلة) (رواه مسلم عن ابن عمر).
ويحذر القرآن الكريم من الانخداع بالغثاء والكثرة القائمة على غير الحق والعدل، التي يمكن أن تشكل عبئًا يسوده مناخ القطيع، الذي يحرك الإنسان دون دراية وإرادة، فيقول: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام: 116).
والضلال يعني الضياع، وعدمية الحياة، وغياب المقاصد، والانسلاك في القطيع دون فحص واختبار ومعرفة للوجهة..
والرسول صلى الله عليه و سلم حذّر من الوَهْن الذي يصيب الأمة المسلمة، بسبب من الحالة الغثائية، المؤدية بها إلى مرحلة القصعة، التي تسود مراحل النكوص والتخلف، فيتحول الناس إلى مستهلكين بدل أن يكونوا منتجين، فيقول: (يُوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تَدَاعَى الأَكَلةُ إلى قَصْعَتِها)، فقال قائل: ومن قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللهُ من صدورِ عدوكم المهابةَ لكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهْن) فقال قائل: يا رسول الله! وما الوَهْن؟ قال: (حُبُّ الدنيا وكراهية الموت) (رواه أبو داود عن ثوبان).
والشاعر العربي حاول معالجة الانخداع بالكثرة التي لا عطاء لها ولا فاعلية، كما حاول تصويب المعيار عندما قال: تعيّــرنا أنّا قليـلٌ عديدُنــــا فقلت لها: إن الـكــرام قليل وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارنـا عـزيز وجار الأكثرين ذليل
فالمعيار يبقى دائمًا هو الكرامة، المتولدة عن التقوى، والعطاء والفاعلية، وليس عدد الرؤوس، أو مساحة القطيع المتحرك بلا رؤوس، أو ذي الرأس الواحد.
ولعلي ألمح من قوله تعالى: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) (البقرة : 249)، عدم الاقتصار في الغلبة على المعركة العسكرية، ذلك أن ميدان الغلبة والظهور والصراع والحوار الحضاري، الحياة بكل أصعدتها، العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتنموية، وإن كان سبب نزول النص معركة طالوت مع جالوت التي قصّها الله علينا، لتحقيق العبرة من تاريخ النبوة، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقرر علماؤنا في أصول الفقه والنظر والاجتهاد. حيث لا عبرة إذا لم نستطع تجريد النص من ظرف الزمان والمكان والمناسبة، وتوليده في المجالات المشابهة.
وكذلك نرى الحقيقة تستمر تاريخيًا، فالذي يدرس واقع المسلمين قبيل بدر، وواقع المشركين، من زواياه المتعددة، يدرك أن كل مؤهلات الغلبة العسكرية والحضارية كانت إلى جانب المسلمين، الفئة القليلة، بمؤهلاتهم وطبيعتهم النوعية وعقيدتهم المميزة.
لذلك نستطيع أن نقول: إن الغلبة الحضارية والظهور الثقافي، أو إظهار الإسلام على الدين كلــه، لا يمكن أن تحدده القلة والكثرة، وإنما تحدده المؤهلات والخصائص والنوعية.
وقد يكون من المفيد أن نذكّر بهذه المناسبة، بالنص القرآني الحاسم لهذه القضية في سورة التوبة -وهي من أواخر ما نزل- الذي نزل بمناسبة التحضير لغزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، التي سميت بغزوة العسرة، وسمي جيشها بجيش العسرة، وكان في أشد الظروف الطبيعية قسوة، عندما تخاذل الكم الهائل عن الذهاب، وبدأت صناعة فلسفات الهزيمة تستميل النفوس الضعيفة، وتحركت الفئة القليلة لممارسة الإنجاز الكبير، عندها قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مجال التبرع والعطاء: (سبق درهمٌ مائةَ ألف درهم)، قالوا: يا رسول الله! وكيف؟ قال: (رجل له درهمان فأخذ أحدَهما فتصدّق به، ورجل له مالٌ كثيرٌ فأخذ من عُرْضِ ماله مائة ألف فتصدّقَ به) (رواه النسائي، عن أبي هريرة)، فالأمر لا يُعَايَر بالقلة والكثرة.
نعود للنص القرآني المجرد عن حدود الزمان والمكان، لننظر له من زاوية أخرى.. هذا النص الذي يتلوه المسلم، ويتعبد به صباح مساء، والذي نزل لمعالجة حالة التخاذل وتصويب المعيار، وتقرير الحقيقة التاريخية التي ما تزال تعيش في عقول المسلمين ووجدانهم، قال تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (التوبة: 40).
لقد تحقق النصر الكبير في طريق الهجرة، كما هو معلوم ومعروف للجميع، بواحد أولاً وبثاني اثنين، وكان ما نعلم جميعًا من إقامة الدولة المسلمة النواة، قبل أن تكون هذه الجموع المتخاذلة عن الذهاب إلى تبوك، فلم تكن القلة تعني الهزيمة، ولا الكثرة تعني النصر..
وهذه الوقائع التاريخية من تجارب النبوة، ما تزال ماثلة للعيون، فإذا أضفنا إلى ذلك اليوم أن الإبداعات التكنولوجية، التي جاءت ثمرة للعقول القليلة، قد ألغت قيمة الكثرة في المجالات الحياتية المتعددة، الاقتصادية والعسكرية والسياسيـــة والتنمويـــة والاجتماعيـــة، نتأكـــد أن القضايـــا الحضـــاريـــة لا تحكمها موازين القلة والكثرة.
وحسبنا في هذا الموضوع دليلاً من واقع عدونا، بعد أن نسينا تاريخنا، ودخلنا مرحلة (القَصْعَة)، وحالة (الغُثَاء)، و(الوَهْن) الحضاري، التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم، كما ذكرنا آنفًا.
فاليهود في العالم لا يتجاوزون الثلاثين مليونًا، حتى في الحسابات المبالغ فيها، ومع ذلك هم يحكمون أو يتحكمون بالعالم، بكل ملياراته وأعداده الضخمة، وليس في ذلك مبالغة، ولا الانطلاق من مركب نقص، لأنه حقيقة ماثلة أمام الجميع، سواء في ذلك من قَبِلَها أو رفضها، ومَن تجاهلها أو جهلها.
فالقضية وما فيها كما يقولون، تحكمها القدرة على استيعاب سنن التدافع الحضاري، والقدرة على التفكير الاستراتيجي، وإمكانية الاستنبات في كل الظروف، وحسن التقدير والتسخير للمواقع المتاحة..
هي في حقيقة الأمر، في التحقق بالتقوى بمعناها الأعم، وانبعاث الفاعلية، واكتشاف المواقع والمنابر المؤثرة، وتوفر عنصري الإخلاص والصواب معًا، ليجيء العمل حسنًا، كما فهم الفضيل بن عياض رحمه الله قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) (هود: 7)، بأن العمل لا يبلغ مرتبـة الحسـن ما لم يتوفر له الإخلاص في النية، والصواب، أو ما يمكن أن نطلق عليه الإرادة والقوة، الحماس والاختصاص، أو بمعنى آخر العمل للوصول إلى بناء الإنسان العدل، والتخلص من الإنسان الكَلّ.
وهنا نقول: كم من الحالات والشدائد، التي نصبح أحوج ما نكون فيها إلى النماذج المتكررة لنعيم بن مسعود رضي الله عنه، الذي قام بالدور العظيم في معركة الأحزاب، وهو كما قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا ما استطعت).
من هنا أقول: إن الكلام عن قضية الأقلية والأكثرية، أو عن فقه الأقلية والأكثرية، يحتاج إلى الكثير من الدقة، فكم من أكثرية لا قيمة لها ولا نفوذ ولا قرار، وكم من أقلية تمتلك إدارة الأمور والتشريع لها.
فالقضية قضية واقع، أو حالة حضارية أو ثقافية، يمكن أن تلحق بالأكثرية أو بالأقلية، تحتاج إلى فقه ونظر واجتهاد، وليست قضية محصورة بفقه الأقلية بالشكل المطلق.
والأمر الذي نرى أنه من المفيد لفت النظر إليه في هذا المجال، أن الوجود الإسلامي العالمي هو من طبيعة هذا الدين، الذي ابتعث رسوله رحمة للعالمين، ومن مقتضيات رسالته.
قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء: 107)، (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا) (سبأ: 28)..
وخطابه بدأ عالميًا منذ اللحظات أو الخطوات الأولى في مكة، فمعظم الآيات بدأت خطابها بقوله تعالى: (يا أيها الناس)، لتستبين السبيل، وتتضح الرؤية، وتدرك أبعاد المهمة من أول الطريق.
وأكثر من ذلك، فقد اعتبرت جذور هذا الدين ممتدة حتى النبوة الأولى، قال تعالى: (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) (الأعلى: 18 - 19).
وقال: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى: 13).
كما اعتبر الأنبياء وأتباعهم على مدار التاريخ أمة واحدة، حتى لو اختلفت المواقع الجغرافية والأزمنة التاريخية، قال تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء: 92).
وإن صورة الكمال والاكتمال التاريخي لرحلة النبوة تحققت في الرسالة الخاتمة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإســـلام دينًا) (المائدة: 4).
وكانت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام، القيام بمهمة البلاغ المبين، وإظهار الدين، واستيعاب رحلة النبوة وإكمالها، قال صلى الله عليه وسلم: (مَثَلِي ومَثَلُ الأنبيـــاء مـــن قبلي كَمَثَل رجـــلٍ بنى بنيانًا فأحسنـــه وأَجْمَلَــهُ إلا موضع لبنةٍ، من زاويةٍ من زواياه، فجعل الناسُ يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلاَّ وُضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة).
ولقد تعهد الله سبحانه وتعالى بإظهار هذا الدين على الدين كله، فقال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (التوبة: 33).
والإظهار يعني فيما يعني الامتداد والبلوغ لسائر المواقع الجغرافية، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلـغ الليل والنهـــار، ولا يتـــرك اللهُ بيتَ مَــدَر ولا وَبَر، إلا أدخله اللهُ هذا الدين، بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ به الكفر) (رواه الإمام أحمد عن تميم الداري).
حيث سيعم البلاغ الحواضر والبوادي، وهذا يعني تحقيق الوجود الإسلامي في كل المواقع الجغرافية.. ووجود المسلمين يعني إقامة أحكام الشرع الإسلامي، والانضباط بالقيم الإسلامية على الأصعدة المتعددة المتاحة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وإداريًا، وتربويًا، في ضوء الاستطاعات المتاحة.
لذلك كان فهم الصحابة لأبعاد المهمة واستجابتهم، منسجمًا مع التكليف الشرعي، فحملوا الإسلام صوب العالم كله، لإخراجه من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، واستطاعوا العيش والتكيف مع كل الظروف، شأنهم في ذلك شأن الإسلام بمبادئه العالمية والإنسانية، واستوطنوا البلاد، وعاشوا إسلامهم بمقدار استطاعاتهم، استجابة لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعت) (التغابن: 16).
ولم يحسوا بعقدة الاغتراب، أو أن يميزوا في مجال الدعوة بين أرض وأرض، فالأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده، أو بين شعب وشعب، وجنس وجنس، فالأكرم الأتقى، أو بين أقلية وأكثرية، وإنما هي قدرات واستطاعات قد تتوفـــر في إطـــــار الأقليـــة العددية، فيكـــون الواحـــد بمائـة أو بألف: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) (الأنفـال: 65).
والغلبــة هنــا لا تقتصر على الغلبة العسكرية، وإنما تتجاوز إلى أبعاد أخرى، حتى تستوعب الغلبة والظهور الحضاري والثقافي، كما أسلفنا، وتغيب في مجال الأكثرية العددية، وقد يكون العكس هو الصحيح، ولكل حالة فقهها ومتطلباتها.
ولعل مما ساعد الإسلام على الظهور والانتشار، وجعل للإسلام وجودًا في كل المواقع، أنه اعتبر اعتناقه أو الإيمان به خيارًا إنسانيًا، وجاء هذا الخيار ليكون عنوانًا لكرامة وإرادة وحرية الإنسان، قال تعالى: (لست عليهم بمصيطر) (الغاشية: 22).
وقال: (وما أنت عليهم بجبار) (ق: 45)، وقال: (لا إكراه في الدين) (البقرة: 256) بدون سيطرة أو جبروت أو إكراه، وجعل الأمة المسلمة أو المجتمع الإسلامي مجتمعًا مفتوحًا لكل الأجناس والأعراق والألوان، وبذلك نفى عن هذا الدين العنصرية والتعصب والانغـــلاق على لون أو جنس أو جغرافيـــا، كما هو حال كل الحضارات التاريخية، فليس أحــد بأحق به مــن أحـــد، فـ (سلمان منّا آل البيت)، و(أبو جهل فرعون هذه الأمة)..
وأي إنسان يعتنق الإسلام، يتمتع بالأخوة الإسلامية وحقوقها، ويكون له من الحقوق وعليه من الواجبات ما على كل مسلم.
لذلك يمكن القول: بأن هذا مكّن من الانتشار والوجود في كل المواقع، وكسر كل أسوار التعصب والانغلاق، وأدى إلى الاندماج والانفتاح والتعاون وإنتاج المسلم -حيثما وجد الإنسان- الذي لا يعاني من عقدة اللون أو الجنس أو العرق أو الاغتراب، وأنه يمكن له أن يكون مسلمًا يمارس التكاليف الشرعية، في حــــدود ما يمتلك من استطاعـــة، قال تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) (البقرة: 286)، وهذا يعني أن يطبق الإسلام في كل أحواله طالما استفرغ استطاعته.
ومن القضايا ذات الصلة المباشرة بموضوع الوجود الإسلامي في البلاد التي توصف بأنها غير إسلامية، قضية الهجرة، التي تعتبر من الجهاد ومن لوازم مهمة البلاغ المبين ومراغمة أعداء الله، وقد سبق أن أشرنا إلى عالمية الرسالة الإسلامية، ومهمة البلاغ المبين.
إن إظهار دين الحق، الإسلام، على الدين كله، يقتضي حمل الدعوة والتبشير بها إلى كل المواقع والأماكن، حتى يخرج المسلم من عهدة التكليف..
وسبق أن أشرنا إلى البشائر النبوية بأن هذا الدين سوف يبلغ ما بلغ الليل والنهار، وينتشر في الحواضر والبوادي على حدٍّ سواء، وهذا يعني الوجود والانتشار الإسلامي بشكل أو بآخر في كل المواقع، سواءً كانت البلاد إسلامية بأغلبية سكانها، أو كانت غير إسلامية من حيث أغلبية السكان.
لذلك يمكن القول: بأن الهجرة دعوة وحركة، والهجرة جهاد، والهجرة محاولة لتجاوز الواقع الراكد المستنقع، وتحول إلى موقع أجدى، وتحرف لمدافعة أكثر عطاءً، ولا أعتقد أن للهجرة أحكامًا شرعية واحدة ثابتة لكل الحالات، بل لكل حالة أحكامها بحسب الظروف والملابسات والتغييرات السكانية والإدارية والدستورية، شريطة أن تبقى الهجرة مرتبطة بمقاصدها ومنطلقاتها الشرعية، ولا تتحول إلى مهارب سلبية تسودها فلسفات ومسوغات الانسحاب والهزيمة، شأنها في ذلك شأن الجهاد، حيث لا يجوز التولي عن الزحف والفرار من الموقع، إلا في حالة التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة، يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) (الأنفال: 15-16).
والمقصد الشرعي الأساس في الهجرة، أن تكون فرارًا إلى الله، سواءً كان ذلك على مستوى النفس أو على مستوى المكان. فالرسول صلى الله عليه و سلم يعرّف المهاجر بقوله: (إنَّ المهاجر مَن هَجَرَ ما نهى الله عنه) (رواه أحمد عن ابن عمرو)، حتى ولو لم يغير موقعه، لأنه مارس هجرة نفسية وذلك بالانخلاع من الواقع الثقافي الجاهلي والوثني الذي تسوده العبودية لغير الله، مصداقًا لقوله تعالى: (والرجز فاهجر) (المدثر: 5).
ولحكمة يريدها الله، ولبيان دور الهجرة في إظهار الدين، وعدم ركون المسلم إلى الدعة والاسترخاء والسقوط في الرفه، أو السقوط أمام الظالمين، ولأن الهجرة حالة مستمرة استمرار الحياة، جعلها الرسول صلى الله عليه و سلم المثال والأنموذج لإخلاص النية، فقال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه) (رواه الجماعة عن عمر، واللفظ لأبي داود).
والمقصد المتبادر للهجرة والمشروع: هو الانتقال من بلد الكفر والشرك إلى بلد الإسلام، أو الفرار بالدين من الفتن إلى محل يأمن فيه المسلم من الإثم، أو من بلد يفتن فيه المسلم عن دينه ويؤذى بسبب اعتقاده... إلخ.
يقول تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) (العنكبوت: 56)، يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: (هذا أمرٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين) (تفسير ابن كثير، 3- 419).
حتى إن الإسلام جعل الهجرة القاصدة سبب الولاء وآصرته، قال تعالى: (الذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا ) (الأنفال: 72).
والهجرة، حركة دعوة وجهاد، كما أسلفنا، وليست حركة سلبية هروبية انسحابية من الموقع، وإنما يتحدد حكمها بحسب الظروف، فقد تقتضي الظروف الثبات في الموقع وتحمل الأذى، والصبر على الافتتان، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين، ومن ذلك أن يكون أمر الإسلام قد توجه بالانتشار والانتصار، ولا يعيقه فتنة فلان أو إيذاء فلان، أو عندما تكون فتنة فلان إيقاظًا لأمة وإشهارًا للاستبداد، عند ذلك يصبح التشبث بالأرض وعدم إخلائها لصالح أعداء الله في الداخل والخارج واجبًا شرعيًا، فتكون الهجرة الداخلية بهجر ما نهى الله عنه، والثبات، وتقديم أنموذج الاقتداء، ويحكم هذه الحالة من بعض الوجوه، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) (رواه مسلم من حديث عائشة).
وتصبح الهجرة واجبة عند المحاصرة الكاملة، وانسداد قنوات الحركة، واستحالة الاستجابة والدعوة، عندها لابد من التفكير بمواقع أخرى، حتى ولو كانت في الخروج إلى بلاد الكفر، إذا كانت فيها أقدار من الحرية تمكّن من إظهار الدين.
ولقد أدرك ابن تيمية رحمه الله هذا البعد للهجرة، فقال: (المقيم بها -أي في غير بلاد الإسلام- إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه) (الفتاوى، 28- 240).
وعند الماوردي أنه إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر، فالإقامة فيها أفضل، لما يترجى من دخول غيره في الإسلام.
والهجرة اليوم أصبحت خاضعة إلى نوع من تحكم الأقوياء، الذين ضيّقوا أرض الله الواسعة، بما شرّعوا من قوانين الهجرة والإقامة، جعلت لهم إمكانية السيطرة، والقدرة على امتصاص الأدمغة وإغرائها بالهجرة، ليقيموا حضارتهم على إنتاجها، ويمارسون في الوقت نفسه إقامة أنظمة الاستبداد السياسي، التي تساهم بالطرد لكل خبرة وإمكانية واختصاص، إلى مواقع الجذب للإفادة من ذلك كله..
وليس ذلك فقط، وإنما إيجاد هوامش من الحرية المنضبطة في محاولة للاستلاب الحضاري، وتبقى الصورة غير الحقيقة..
ذلك أن الذين يمنحون الحرية هناك في بلادهم للمهاجر والمقيم، هم نفسهم الذين يمنعونها في بعض بلاد العالم الإسلامي، ويشيعون أنظمة الاستبداد السياسي بكل أشكالها ويساندونها، ويقفون وراءها، وهذا من الفتن، حيث افتتن الكثير من أبناء المسلمين بذلك، وذابوا فيه دون أن يدركوا أن الذي يمنحهم هذه الحرية هو الذي يمنعهم، ويساند الاستبداد، ويطارد الحرية في بلادهم، لينتهوا إليه.
لذلك نقول: إن الذي يحاول أن يضع بعض الأحكام والفتاوى الشرعية لقضية الهجرة، لابد أن يكون على دراية بالمسألة من جميع وجوهها، وحسن تقدير لمعرفة تداعياتها المستقبلية على أكثر من مستوى، وأن ما يصلح من الأحكام لعصر أو مكان، قد لا يصلح لعصر أو مكان آخر..
وإطلاق الأحكام بعيدًا عن أرض الميدان وعدم استيعاب الصورة، يحمل الكثير من المضاعفات.
فقد تقتضي الظروف التشبث بالأرض، وعدم الهجرة وإخلاء البلاد لامتداد أعداء الله وتمكينهم من مقادير الأمور، حتى في حالات الاستضعاف، لأن ذلك قد يشكل فراغًا أو تفريغًا لصالح (الآخر)..
وقد تصبح الهجرة واجبة ومفروضة في حالات الانسداد الاجتماعي والثقافي، وقد يجد المسلم في البلاد غير الإسلامية فسحة لممارسة عقيدته ودعوته، وتقديم نماذج حضارية وإنسانية تثير الاقتداء.
وكم يتأكد دور الهجرة وفاعليتها في إطار الدعوة، إذا علمنا أن انتشار الإسلام في العالم والإقبال عليه، كان بسبب إثارة الاقتداء، أو الدعوة بالقدوة من قِبَل التجار والمهاجرين.
وعلى العموم يمكن القول: إن لكل حالة حكمها، ولكل هجرة دواعيها وأسبابها، ولا يمكن أن يكون حكمًا واحدًا لكل الحالات ولكل الظروف والملابسات، فالأرض كلها لله.. وواجب الدعوة وإيصال الإسلام وإظهاره، مهمة كل مسلم، بحسب استطاعته.. والوجود الإسلامي وإظهار الدين، أصبح -جغرافيًا وثقافيًا وإعلاميًا، على المستوى العالمي- أمرًا قائمًا ومستقرًّا ومستمرًّا، وقد تتمتع الأقلية السكانية المسلمة في البلاد غير الإسلامية، في ممارسة عبادتها وحريتها، أكثر بكثير مما تتمتع به في بعض البلاد الإسلامية، وهذا من الفتن، كما أسلفنا.
وأعتقد أن هذا الأمر يقتضي شيئًا من التوقف عند مصطلح دار الحرب ودار الإسلام، وبعض الأحكام الفقهية الجاهزة للتطبيق في المواقع المتعددة والحالات المختلفة، دون القدرة على النظر والاجتهاد في محل التطبيق، ومدى ملاءمته، وتوفر استطاعته لهذا التطبيق أو التنزيل، مع الأخذ بعين الاعتبار تجدد الأعراف والتشريعات، والتغيير الذي طرأ على طبيعة المجتمعات، ومواصفات المواطنة والقوانين الناظمة لحقوقها وواجباتها، والقوانين الناظمة للهجرة والإقامة.
والقضية فيما أرى تقتضي قدرًا من المراجعة وإعادة النظر في مدلول هذه المصطلحات أو مفهوم هذه المصطلحات، ولعل من الأمور البدهية والمسلمة أيضًا، أن رسالة الإسلام رسالة عالمية، كما أسلفنا، يمكن أن نصفها بأنها خطاب الإنسان حيثما كان، وأن جغرافية الرسالة هي أرض الله الواسعة وأزمنته الممتدة إلى يوم القيامة، ومحل خطابها الإنسان المخلوق، وأنها من حق كل إنسان وليست وقفًا على أحد، وأن الإنسان بمجرد اعتناق الإسلام يتمتع بحقوق المسلم العضو في أمة الإسلام، ويكتسب صفة الأخوة، وتترتب عليه حقوقها.
هذا في مجال الدعوة أو الفكرة والعقيدة، وهو المجال المستمر في كل حالات الاستضعاف والتمكين على سواء، ولعل انتشار الإسلام اليوم، أو اعتناق الإسلام المستمر في أرقى المجتمعات المادية، وفي أكثرها تخلفًا، على الرغم من واقع المسلمين الذي لا يحسدون عليه، دليل على أن خطاب الدعوة مستمر، ومجاله مفتوح، وعطاءه متجدد، وهذا من الخلود.
ولكن الإسلام كما هو متيقن وواقع تاريخي، ليس دعوة مجردة فقط، وليس أمة منتشرة متفرقة في أرجاء الأرض، في الحواضر والبوادي فقط، وإنما هو دعوة ودولة، بحيث تكون الدولة دولة الدعوة والفكرة، وتشكل إحدى وسائل نشر الدعوة وحمايتها..
والإسلام أمة وحكومة تبسط سلطتها، وتشرف على إنفاذ القوانين وتطبيق الأحكام في الأمة، وليس مجرد وصايا أخلاقية تعيش في ضمير الفرد دون أن تحكم واقعه وتضبط تصرفاته بضوابط الشرع، وتعالج انحرافاته بعقوبات رادعة.
وهذا الواقع سوف يتولد عنه بطبيعة الحال جغرافيا سياسية، وموقع على الخارطة الدولية، ومواصفات ثقافية، ونمط اجتماعي، وتميز تربوي وقانوني، وسوف يترتب عليه علاقات ومعاهدات ومواجهات ومدافعات، شأن الواقع الدستوري للدول جميعًا، ومن هنا كان لابد أن ينشأ مصطلح يُطلق على هذه المنطقة الجغرافية، سواء أطلق عليه دار الإسلام أو غير ذلك من المصطلحات ذات الدلالة الكافية..
فنشأ مصطلح دار الإسلام، وترتب على نشوئه مصطلح دار الحرب، والدار المعاهدة، بحسب طبيعة الدول وعلاقاتها الدولية ومواقفها من الدولة المسلمة أو من دار الإسلام.
والقضية الأهم هنا: أن دار الحرب والدار المعاهدة، إنما تتحدد في ضوء وجود دار الإسلام، بكل مواصفاتها ومقوماتها، ولعل من أهم المقومات قيام دولة الفكرة، أو دولة الرسالة الإسلامية التي تقيم شرع الله على الأرض، وقد وضع الفقهاء خصائص ومواصفات لدولة الإسلام أو للمجتمع الإسلامي، وبذلك يوصف المجتمع بأنه مجتمع إسلامي، وتوصف الأرض التي بسطت عليها الدولة الإسلامية سلطانها وشرعها بأنها دار إسلام، بالمصطلح الدستوري الذي كان شائعًا، أو بمصطلح القانون الدولي، وعلى مستوى الدولة وليس على مستوى الأمة المسلمة الممتدة في سائر أنحاء الأرض، فإذا لم يتوفر الكيان الإسلامي أو الدولة التي تقيم الإسلام وتطبق شرعه، وتنطلق من قيمه في التشريع والتربية والسياسة والاقتصاد...إلخ، أو المجتمع الإسلامي بتعبير آخر، فإن المجتمع حينئـذ يسمى مجتمع مسلمين، يمارس الأفراد فيه من الإسلام ما استطاعوا، ويعملون على إقامة الدولة المسلمة.
وعلى ذلك -أي عند غياب المجتمع الإسلامي بمواصفاته المعروفة- لا يمكن عندها تحديد دار الحرب أو الدار المعاهدة، التي تُحَدَّد وتُميَّز في ضوء وجود دار الإسلام.
أما على مستوى الأمة فيصعب الانضبــاط بهــذا المصطلح، والالتــزام بما يترتب عليه، فقد يكون المسلمون الذين يعيشون في مجتمعات غير إسلامية لهم من الحرية السياسية والممارسة والحقوق ما هو مفقود في كثير من مجتمعات مسلمين آخرين، ولو كانوا أكثرية، لكنها أكثرية مغلوبة على أمرها ومضطهدة.
والجانب الآخر الذي نرى أنه بحاجة إلى إيضاح، أن تسمية المصطلحات التي تخص الجغرافيا السياسية، إن صح التعبير، هي اجتهادات بشرية، اقتضتها ظروف الحال والواقع الدولي في ذلك الوقت، غير ملزمة، فقد يقتضي تطور العصر، وتغير طبيعة المجتمعات، وتقدم القوانين الدولية، وقيام المعاهدات والمؤسسات الدولية المشتركة، توليد مصطلحات أخرى ذات دلالة أكثر دقة ومعاصرة.
وهنا قضية قد تكون غابت عن بعض الباحثين، حتى من الذين يدّعون التخصص والاجتهاد، ويقيمون مؤسسات ومعاهد الاجتهاد والنظر والتجديد، ويطلقون دعاوى ومشاريع التجديد، وهي أن مصطلح دار الحرب ودار الإسلام هو مصطلح اجتهادي، وهذا صحيح أيضًا، وأن الأفضل أن يستبدل بدار الإسلام أمة الإجابة، لمن آمنوا واستجابوا، وبدار الحرب أمة الدعوة، لمن لايزالون على الكفر، ومحلاً للدعوة، كما نقل ذلك الرازي في تفسيره، وهذا وإن كان صحيحًا ودقيقًا ومقبولاً من حيث المضمون العام، وعلى مستوى الأمة، إلا أنه غير دقيق ولا صحيح ولا معبر على مستوى الدولة أو القانون الدولي والجغرافيا السياسية ،كما أسلفنا، لوجود أقليات مسلمة في مجتمعات غير مسلمة من أمة الدعوة هي من أمة الإجابة، فكيف يمتد إليهم سلطان الدولة المسلمة جغرافيًا؟!
وأعتقد أن الخطاب التكليفي والأحكام الفقهية المنوط إنفاذها بالأمة كأفراد، غير الخطاب والأحكام الفقهية المنوط إنفاذها بالدولة، كمؤسسة ذات سلطات.
لذلك فالأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين، تعتبر من الأمة المسلمة، بما يمكن أن نطلق عليه الجغرافيا الثقافية، وليس من الدولة المسلمة، أو من دار الإسلام، حال وجود الدولة المسلمة فيما يمكن أن نسميه الجغرافيا السياسية.
وأعتقد أن الكثير من أحكام الهجرة الشرعية، أو الأحكـــام الفقهيــة لما يطلق عليه: الإقامة في بلاد الكفر، بحاجة إلى إعادة النظر في ضوء المتغيرات الاجتماعية والإعلامية والثقافية، حيث أصبح العالم دولة إعلامية واحدة تقريبًا، وأصبح بإمكان الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية، أن تعايش ثقافة وقضايا ومشكلات العالـــم الإسلامـــي، كما يمكنها أن تتعلم الأحكام الشرعية والثقافة الإسلامية بأكثر من وسيلة، بل قد يكون وجودها في تلك البلاد ضروريًا لقضية الدعوة ونشر الإسلام وإعطاء الأنموذج الذي يثير الاقتداء، وقد يراغم الأعداء، وقد تتاح لهم فرص غير متوفرة في بلاد المسلمين.
والهجرات الإسلامية القاصدة تاريخيًا، كلها كانت ذات عطاء، سواءً في نشر الدين، أو إقامة الدولة المسلمة، وقد لا نحتاج لإيراد الأمثلة من أكثر من موقع، ولكن حسبنا أن نقول: إن الهجرة الأنموذج من مكة إلى المدينة، هي التي شكلت المنعطف التاريخي البشري وإقامة دولة الإسلام..
ولأمر يريده الله، أن دولة الإسلام الأنموذج كتب لها أن تقوم في معقل يهود في المدينة المنورة، ولم تقم بمكة حول البيت الذي بُني على التوحيد، ليكون ذلك دليلاً وهاديًا وحافزًا لكل الهجرات القادمة على الطريق حتى يرث الله الأرض ومن عليها..
وأن الضعف بتقدير الله، سوف يتحول إلى قوة.. وأن أوهن البيوت، وهو بيت العنكبوت، كان بحسب الظاهــــــر سببًا في حمايـــة الرســــول صلى الله عليه و سلم في هجرتـــه لإقامــــة دولة الإسلام.
فما على المسلم إلا أن يعرف إسلامه، ويعرف كيف يدعو إليه، وسوف يكون مؤثرًا وفاعلاً أينما كان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اتق الله حيثما كنت) (رواه الترمذي، من حديث أبي ذر)، والأرض لله يورثها من يشاء، ومسؤولية المسلم مسؤولية عالمية لاستنقاذ الناس وإلحاق الرحمة بهم، والفرد قد يكون أمة، كما أسلفنا، فلا تقاس الأمور بالأكثرية والأقلية، فكم من أكثرية لا قيمة لها، وكم من أقلية تمتلك القيمة الكبرى، إذا أحسنت التعامل مع سنن التدافع الحضاري.
وبعــد: فالكتاب الذي نقدمه اليوم هو في أصله دراسة علمية أكاديمية لموضوع فقه الأقليات المسلمة، عرض المؤلف من خلالها للأحكام الفقهية الشرعية، والاجتهادات المتعددة، بقدر غير قليل من الاستقصاء، وحاول الترجيح ما أمكن لبعض الاجتهادات، سواء في مجال العبادات أو المعاملات، والعلاقات الاجتماعية، وقضية الولاء والبراء، بحسب ما أمكن من استقراء الظروف والأحوال للواقع الدولي اليوم.
وقد لا يكون المطلوب الاقتصار على النظر والاجتهاد في مجال الفقه التشريعي -على ضرورته وأهميته- وإنما لابد من التفكير في المناهج التربوية، وبناء الأنظمة المعرفية وموارد التشكيل والتحصين الثقافي، وبيان موقع الثقافة الإسلامية من الثقافات القائمة، والقدرة على استيعاب الحالات المتعددة، فما يصلح لأقلية في مجتمع ما من الأحكام والمناهج، قد لا يصلح لأقلية في مجتمع ذي طبيعة أخرى، وما يصلح للمسلم في بلاد العالم الإسلامي، قد لا يصلح للمسلم في مجتمعات غير إسلامية.
ولعل من الأهمية بمكان التفكير بتوطين الدعوة، ليأتي الفقه التربوي والتشريعي والثقافي ثمرة للواقع الميداني، فيتحقق بذلك مدلول قوله تعالى: (رسولاً منهم)، بعيدًا عن مخاطبتهم من وراء الحدود ومن خارج المعاناة.
ويبقى ملف الأقلية المسلمة في البلاد غير الإسلامية، مفتوحًا لمزيد من البحث والدرس والاجتهاد والمتابعة، على المستوى الفكري والفقهي والثقافي، في ضوء التطورات الاجتماعية والمعاهدات والمؤسسات الدولية، ومواثيق حقوق الإنسان، والمعطيات الحضارية في مجال الإعلام، وشبكة المعلومات، والقنوات الفضائية التي احتلت الأثير، واخترقت الحدود السياسية للدول، فجعلت من الأقلية أكثرية في القدرة والتأثير، وجعلت من الأكثرية أقلية حيث العجز والتخاذل وصور التحكم، وأتاحت إمكانات علمية وتعليمية تصل إلى كل المواقع.
لذلك فالقضية محتاجة إلى الكثير من التأمل والنظر والاجتهاد والتخطيط.